التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً)(١) : أنّ حوّاء برأها الله من أسفل أضلاع آدم ... تجد ذلك في مواضع من هذا التفسير (٢).

في حين أنّ المراد هنا : الجنس ، أي من جنسه ، كما في قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً)(٣).

وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(٤).

وقصة خلقة حواء من ضلع آدم ، ذات منشأ إسرائيلي تسرّب في التفسير.

وهكذا قصة الملكين ببابل هاروت وماروت ، كفرا ـ والعياذ بالله ـ وزنيا وعبدا للصنم ، ومسخت المرأة نجمة في السماء (٥) ، وغير ذلك ممّا ينافي عصمة الملائكة المنصوص عليها في القرآن الكريم (٦).

وقصّة الجنّ والنسناس ، خلقوا قبل الإنسان ، فكانوا موضع عبرة الملائكة (٧).

وكذا تسمية آدم وحوّاء وليدهما بعبد الحارث ، فجعلا لله شريكا (٨).

وقصّة : أنّ الأرض على الحوت ، والحوت على الماء ، والماء على الصخرة ،

__________________

(١) النساء / ١.

(٢) تفسير القمّي (ط نجف) ، ج ١ ، ص ٤٥ وص ١٣٠ وج ٢ ، ص ١١٥.

(٣) النحل / ٧٢.

(٤) الروم / ٢١.

(٥) تفسير القمّي ، ج ١ ، ص ٥٦.

(٦) المصدر نفسه ، ج ٢ ، ص ٥١.

(٧) المصدر ، ج ١ ، ص ٣٦.

(٨) المصدر ، ص ٢٥١.

٤٨١

والصخرة على قرن ثور أملس ، والثور على الثرى ... ثم لا يعلم بعدها شيء (١).

كلها أساطير بائدة ، جاءت في هذا التفسير عفوا ، ومن غير ما سبب معقول.

وجاء فيه ما ينافي عصمة الأنبياء كما ينافي مقام قداستهم بين الناس.

فتلك قصة داود وأوريا ـ على ما جاءت في الأساطير الإسرائيلية ـ جاءت في هذا التفسير مع الأسف (٢).

وهكذا قصة زينب بنت جحش على ما ذكرته القصص العاميّة (٣).

وقصة شكّ زكريا وعقوبته بصوم ثلاثة أيام وغلق لسانه (٤).

وقصة حجر موسى (٥) وابتلاء أيّوب ونتن جسده (٦) ، وفوات سليمان صلاة العصر (٧) ، وهمّ يوسف بارتكاب الفاحشة (٨) ، وأنه الذي نسي ذكر ربّه (٩) ، وأن موسى دفن بلا غسل ولا كفن (١٠) ، وقوله للرّب : إن لم تغضب لي فلست لك

__________________

(١) تفسير القمّي ، ج ٢ ، ص ٥٨ ـ ٥٩.

(٢) المصدر ، ص ٢٣٠ ـ ٢٣٢.

(٣) المصدر ، ص ١٧٢ ـ ١٧٣.

(٤) تفسير القمّي ، ج ١ ، ص ١٠١ ـ ١٠٢.

(٥) المصدر ، ج ٢ ، ص ١٩٧.

(٦) المصدر ، ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٧) المصدر ، ج ٢ ، ص ٢٣٤.

(٨) المصدر ، ج ١ ، ص ٣٤٢.

(٩) المصدر ، ص ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

(١٠) المصدر ، ج ٢ ، ص ١٤٦.

٤٨٢

بنبيّ (١).

وما إلى ذلك من أساطير ألصقت بأنبياء الله العظام ، وحاش الأئمّة عليهم‌السلام أن يتكلموا بمثلها.

وجاء فيه ما ينافي العلم ، فقد ورد بشأن الخسوف والكسوف غرائب وعجائب :

جاء في تفسير قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً)(٢).

أن من الأوقات التي قدّرها الله ، البحر الذي بين السماء والأرض ، وأن الله قدّر فيها مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب. ثم قدّر ذلك كلّه على الفلك ، ثم وكلّ بالفلك ملكا معه سبعون ألف ملك ، يديرون الفلك ، فإذا دارت الشمس والقمر والنجوم والكواكب معه ، نزلت في منازلها.

وإذا كثرت ذنوب العباد وأراد الله أن يستعتبهم بآية ، أمر الملك الموكّل بالفلك أن يزيل الفلك الذي عليه مجرى الشمس والقمر والنجوم والكواكب. فيأمر الملك أولئك السبعين ألف ملك أن يزيلوا الفلك عن مجاريه. فيزيلونه فتصير الشمس في البحر فيطمس حرّها ويغيّر لونها ، وكذلك يفعل بالقمر. فإذا أراد الله أن يخرجهما ويردّهما أمر الملك أن يردّ الفلك إلى مجاريه ، فتخرج الشمس من الماء وهي كدرة ، والقمر مثل ذلك.

وجاء في مساحة الأرض والشمس والقمر : أن الأرض مسيرة خمسمائة عام ،

__________________

(١) تفسير القمّي ، ج ٢ ، ص ١٤٥.

(٢) الإسراء / ١٢.

٤٨٣

مسيرة أربعمائة عام خراب ، ومسيرة مائة عام عمران. والشمس ستون فرسخا في ستين ، والقمر أربعون فرسخا في أربعين.

وعلّل أحرّية الشمس من القمر بما يلي :

أن الله خلق الشمس من نور النار وصفو الماء ، طبقا من هذا وطبقا من هذا ، حتى إذا صارت سبعة أطباق ، ألبسها الله لباسا من نار ، فمن هنالك صارت الشمس أحرّ من القمر.

قلت : فالقمر؟ قال : إن الله خلق القمر من ضوء النار وصفو الماء طبقا من هذا وطبقا من هذا ، حتى إذا صارت سبعة إطباق ، ألبسها الله لباسا من ماء ، فمن هناك صار القمر أبرد من الشمس (١).

وجاء فيه من قصص أساطيرية ما ينافي العقل والعادة.

كقصة الرجل الذي عقلت رجله بالهند أو من وراء الهند ، وقد عاش ما عاشت الدنيا (٢).

وقصة ملك الروم وحضور الإمام الحسن ويزيد لديه ، ومحاكمته لهما في أسئلة غريبة ، طرحها عليهما (٣).

وقصة عناق كانت لها عشرون إصبعا في كل إصبع ظفران كالمنجلين (٤).

وقصة إسرافيل كان يخطو كل سماء خطوة ، وأنه حاجب الرب تعالى (٥).

__________________

(١) راجع : تفسير القمّي ، ج ٢ ، ص ١٤ ـ ١٧.

(٢) المصدر نفسه ، ج ١ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٣) المصدر ، ج ٢ ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢.

(٤) المصدر ، ص ١٣٤.

(٥) المصدر ، ص ٢٨.

٤٨٤

وكان الوزغ ينفخ في نار إبراهيم والضفدع يطفئها (١).

وأن يأجوج ومأجوج يأكلون الناس (٢).

كما فسّرت كلمات بأشياء أو بأشخاص لا مناسبة بينهما.

فقد فسّرت البعوضة بأمير المؤمنين عليه‌السلام (٣). وكذا دابة الأرض به (٤) ، وهكذا الساعة في قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي بعلي عليه‌السلام (٥). والورقة بالسقط ، والحبّة بالولد (٦). والمشرقين برسول الله وعليّ عليهما‌السلام. والمغربين بالحسن والحسين عليهما‌السلام ، وكذا البحرين بعليّ وفاطمة عليهما‌السلام. والبرزخ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٧) ، وكذا الثقلان في قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) بالعترة والكتاب (٨). وفسّر الفاحشة بالخروج بالسيف (٩).

__________________

(١) تفسير القمّي ، ج ٢ ، ص ٧٣.

(٢) المصدر ، ص ٧٦.

(٣) المصدر ، ج ١ ، ص ٣٥.

(٤) المصدر ، ج ٢ ، ص ١٣٠ ـ ١٣١.

(٥) المصدر ، ص ١١٢ ، الفرقان / ١١.

(٦) المصدر ، ج ١ ، ص ٢٠٣.

(٧) المصدر ، ج ٢ ، ص ٣٤٤.

(٨) المصدر ، ج ٢ ، ص ٣٤٥ ، الرحمن / ٣١.

(٩) المصدر ، ج ٢ ، ص ١٩٣.

٤٨٥

نماذج مختارة من صحاح التفاسير المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام

وبعد ، فإليكم نماذج من تفاسير مأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، هي مناهج تعليمية لكيفية دراسة القرآن الكريم وطريقة استنباط معانيه الحكيمة. أخذنا الأهم منها مأخوذة من كتب ذوات اعتبار ، وفي أسانيد صحيحة لا غبار عليها.

فمنها : ما ورد في تفسير آية الوضوء ، وآية التقصير في الصلاة ، وآية خمس الغنائم ، وقطع يد السارق ، وتحريم الخمر ، وجزاء قتل المؤمن ، والطلاق الثلاث ، ومتعة النساء والحج ، والرجعة قبل الحشر الأكبر ، ومسأله البداء في التكوين.

وإليك : ـ

الأوّل ـ آية الوضوء

قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(١).

أ ـ مسح الرأس :

روى ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني بإسناده عن طريق علي بن إبراهيم إلى زرارة ، سأل أبا جعفر الباقر عليه‌السلام قال : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إن المسح ببعض الرأس؟

فضحك الإمام عليه‌السلام ثم قال : يا زرارة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل به الكتاب.

ثمّ فصّل الكلام فيه وقال : لأن الله عزوجل يقول : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فعرفنا أن الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ، ثم قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ). ثم فصل بين الكلامين فقال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال : (بِرُؤُسِكُمْ) أن المسح

__________________

(١) المائدة / ٦.

٤٨٦

ببعض الرأس ، لمكان الباء ... (١).

يعني أنه غيّر الأسلوب وزاد حرف الربط «الباء» بين الفعل ومتعلقه ، مع عدم حاجة إليه في ظاهر الكلام ؛ حيث كلا الفعلين (الغسل والمسح) متعدّيان بأنفسهما ، يقال : مسحه مسحا ، كما يقال : غسله غسلا (٢). فلا بدّ هناك من نكتة معنوية في هذه الزيادة غير اللازمة حسب الظاهر ؛ إذ زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.

وقد أشار عليه‌السلام إلى هذا السرّ الخفيّ بإفادة معنى التبعيض في المحل الممسوح ، استنباطا من موضع الباء هنا. ذلك أنه لو قال : وامسحوا رءوسكم ، لاقتضى الاستيعاب ، كما في غسل الوجه.

فقوله : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) يستدعي التكليف بالمسح مرتبطا بالرأس ، أي أن التكليف هو حصول ربط المسح بالرأس ، الذي يتحقق بأوّل إمرار اليد المبتلّة بأوّل جزء من أجزاء الرأس ؛ إذ حين وضع اليد على مقدّم الرأس ـ مثلا ـ وإمرارها ، يحصل ربط المسح بالرأس ، وعنده يسقط التكليف ؛ لأنّ المكلّف به قد حصل بذلك. ولا تعدّد في الامتثال ، كما قرر في الأصول.

فكانت زيادة «الباء» هي التي دلّتنا على هذه الدقيقة في شريعة المسح ، بعد ورود القول به من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فيا له من استنباط رائع مستند إلى دقائق الكلام.

هذا ، وغير خفي أن هذه الاستفادة الكلاميّة لا تعني استعمال الباء في معنى

__________________

(١) الكافي الشريف ، ج ٣ ، ص ٣٠ رقم ٤. والآية من سورة المائدة.

(٢) قال ابن مالك :

علامة الفعل المعدّى أن تصل

ها غير مصدر به نحو عمل.

٤٨٧

التبعيض ـ كما وهمه البعض ـ بل إن بنية الكلام وتركيبه الخاص (بزيادة ما لا لزوم فيه ظاهرا) هو الذي أفاد هذا المعني ، أي كفاية مسح بعض الرأس. فالتبعيض في الممسوح مستفاد من جملة الكلام لا من خصوص الباء ؛ إذ ليس التبعيض من معاني الباء البتة ، فلا موضع لما نازع بعضهم في كون الباء تفيد التبعيض.

قال الشيخ محمد عبده : ونازع بعضهم في كون الباء تفيد التبعيض ، قيل :

مطلقا ، وقيل : استقلالا. وإنما تفيده مع معنى الإلصاق ، ولا يظهر معنى كونها زائدة ..

قال : والتحقيق أنّ معنى الباء : الإلصاق لا التبعيض أو الآلة ، وإنّما العبرة بما يفهمه العربي من : مسح بكذا أو مسح كذا ، فهو يفهم من : مسح رأس اليتيم أو على رأسه ، ومسح بعنق الفرس أو ساقه أو بالركن أو الحجر ، أنه أمرّ يده عليه. لا يتقيّد ذلك بمجموع الكف الماسح ، ولا بكل أجزاء الرأس أو العنق أو الساق أو الركن أو الحجر الممسوح. فهذا ما يفهمه كلّ من له حظّ من هذه اللّغة ، ممّا ذكر ، ومن قوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ)(١) ـ على القول الراجح المختار أنّ المسح باليد لا بالسيف ـ ومن مثل قول الشاعر :

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح

وأخيرا ينتهي إلى القول بأنّ ظاهر الآية الكريمة أن مسح بعض الرأس يكفي في الامتثال ، وهو ما يسمّى مسحا في اللّغة ، ولا يتحقق إلّا بحركة العضو الماسح ملصقا بالممسوح ، فلفظ الآية ليس من المجمل (٢).

وهكذا استدل الإمام عليه‌السلام لعدم وجوب استيعاب الوجه واليدين في

__________________

(١) سورة ص / ٣٣.

(٢) تفسير المنار ، ج ٦ ، ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٤٨٨

مسحات التيمم بدخول «الباء» ، في قوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)(١) ، إذ لم يقل : امسحوا وجوهكم وأيديكم ، لئلا يفيد الاستيعاب فيهما.

ولم يحتمل محمد بن إدريس الشافعي في آية الوضوء «وامسحوا برءوسكم» غير هذا المعنى ، أي المسح لبعض الرأس. قال : «وكان معقولا في الآية أنّ من مسح من رأسه شيئا فقد مسح برأسه ، ولم تحتمل الآية إلّا هذا ، وهو أظهر معانيها ، أو مسح الرأس كلّه. قال : ودلّت السنّة على أنّ ليس على المرء مسح رأسه كله. وإذا دلّت السنّة على ذلك ، فمعنى الآية : أنّ من مسح شيئا من رأسه أجزأه» (٢).

وزاد ـ في الأمّ ـ «إذا مسح الرجل بأي رأسه شاء إن كان لا شعر عليه ، وبأي شعر رأسه ، بإصبع واحدة أو بعض إصبع أو بطن كفّه ، أو أمر من يمسح به أجزأه ذلك. فكذلك إن مسح نزعتيه أو إحداهما أو بعضهما أجزأه ؛ لأنه من رأسه» (٣).

وقد بيّن وجه المعقولية في الآية بقوله : «لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني ، فمتى أمكننا استعمالها على فوائد منضمّة بها وجب استعمالها على ذلك ، وإن كان قد يجوز وقوعها صلة للكلام وتكون ملغاة. لكن متى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة ، لم يجز لنا إلغاؤها ، ومن أجل ذلك قلنا : إن الباء في «الآية» للتبعيض. ويدل على ذلك أنّك إذا قلت : مسحت يدي بالحائط كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه ، ولو قلت : مسحت الحائط كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه. فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها ، في

__________________

(١) المائدة / ٦.

(٢) أحكام القرآن للشافعي ، ... جمع وترتيب أبي بكر البيهقي صاحب السنن ، ج ١ ، ص ٤٤.

(٣) الأمّ للشافعي ، ج ١ ، ص ٤١.

٤٨٩

العرف واللغة. ثمّ أيّد ذلك بما رواه عن إبراهيم (١) ، قال : إذا مسح ببعض الرأس أجزأه ، قال : ولو كانت «امسحوا رءوسكم» كان مسح الرأس كله. قال : فأخبر إبراهيم أن «الباء» للتبعيض ، وقد كان عند أهل اللغة مقبول القول فيها (٢).

قال الرازي : حجّة الشافعي أنه لو قال : مسحت المنديل ، فهذا لا يصدق إلّا عند مسحه بالكليّة ، أما لو قال : مسحت يدي بالمنديل ، فهذا يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل (٣).

وهذا الذي ذكره الشافعي ، وإن كان يتوافق ـ في ظاهره ـ مع نظرة الإمام الصادق عليه‌السلام ، ولعلّه ناظر إليه ، لكنه يتخالف معه في مواضع :

أحدها : زعمه أن «الباء» استعملت ـ هنا ـ بمعنى التبعيض نظير «من» التبعيضيّة ، في حين أنه لم تأت «الباء» في اللغة للتبعيض ، ولا شاهد عليه البتة. واستناده إلى كلام إبراهيم النخعي غير وجيه ؛ لأنه لم يصرح بذلك ، بل إنّ كلامه ككلام الإمام الصادق يهدف إلى أن موضع «الباء» هنا أفاد إجزاء مسح بعض الرأس ـ بالبيان الذي تقدم ـ وهذا يعني أنّ «الباء» ـ في موضعها الخاص هنا ـ تفيد التبعيض في مسح الرأس وهذا غير كونها مستعملة في معنى التبعيض ، كما عرفت.

الثاني : أن التمثيل بالمنديل غير صحيح ؛ لأن المنديل ممّا يمسح به وليس ممسوحا ؛ إذ لا يقال ـ في العرف واللغة ـ : مسحت المنديل ، فقولنا : مسحت يدي

__________________

(١) هو إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه ، كان مفتي أهل الكوفة ، قال ابن حجر : كان رجلا صالحا فقيها متوقّيا قليل التكلف ، مات سنة (٩٦) وهو مختف من الحجاج (تهذيب التهذيب ، ج ١ ، ص ١٧٧)

(٢) أحكام القرآن لأبي بكر الجصّاص ، ج ٢ ، ص ٣٤١.

(٣) التفسير الكبير ، ج ١١ ، ص ١٦٠.

٤٩٠

بالمنديل ، يفيد كون اليد هي الممسوحة لا المنديل.

الثالث : أن الشافعي لم يشترط أن يكون المسح باليد ، قال : فإذا رشّ الماء على جزء من رأسه أجزأه (١). ولا ندري كيف يكون الرشّ مسحا؟! ولعله أخذ بالملاك قياسا (٢) ، خروجا عن مدلول لفظ الشرع.

والحنفيّة قالوا بكفاية مسح ربع الرأس من أيّ الأطراف ، ويشترط أن يكون بثلاث أصابع. أما المالكية والحنابلة فقد أوجبوا مسح الرأس كله ، وأغفلوا موضع «الباء» (٣).

كما أن المذاهب الأربعة جميعا أغفلوا جانب «الباء» في آية التيمّم ، فأوجبوا مسح الوجه كله ، وكذا مسح اليدين مع المرفقين (٤).

يقول القرطبي ـ وهو مالكي المذهب ـ : وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي منها الوجه ، فلمّا عيّن الله الوجه للغسل بقي باقيه للمسح ، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه ، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم. قال : وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه ، فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء ، فقال : أرأيت أن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه؟ قال : ووضح بهذا الذي ذكرناه أنّ الأذنين من الرأس ، وأنّ حكمهما حكم الرأس.

__________________

(١) راجع : الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري ، ج ١ ، ص ٦٠ ـ ٦١.

(٢) زعما بأن المطلوب هو بلّ بعض الرأس بالماء بأيّ سبب كان ، حتى وإن لم يصدق عليه المسح! وهو من القياس المستنبط ، وهو غير حجّة عندنا بعد إن كان خروجا عن لفظ النصّ الوارد في الشريعة.

(٣) راجع : الفقه على المذاهب ، ج ١ ، ص ٥٦ و ٥٨ و ٦١.

(٤) المصدر ، ص ١٦١.

٤٩١

وأما «الباء» فجعلها مؤكّدة زائدة ليست لإفادة معنى في الكلام. قال : والمعنى : وامسحوا رءوسكم (١).

ب ـ مسح الرجلين

من المسائل المستعصية التي أشغلت فراغا كبيرا في التفسير والأدب الرفيع ، هي مسألة مسح الأرجل في الوضوء مستفادا من كتاب الله تعالى.

فقد زعم بعضهم أنّ القراءة بالخفض تتوافق مع مذهب الشيعة الإماميّة في وجوب المسح ، والقراءة بالنصب تتوافق مع سائر المذاهب. ولكل من الفريقين دلائل وشواهد من السنّة أو الأدب ولغة العرب ، يجدها الطالب في مظانّها.

غير أن الوارد عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير الآية الكريمة ، هو التصريح بأن القرآن نزل بالمسح على الأرجل ، وهكذا نزل به جبرائيل ، وعمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمير المؤمنين وأولاده الأطهار ، وهكذا خيار الصحابة وجلّ التابعين لهم بإحسان.

فقد روى الشيخ بإسناده الصحيح إلى سالم وغالب ابني هذيل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام سألاه عن المسح على الرجلين؟ فقال : هو الذي نزل به جبرئيل عليه‌السلام (٢).

يعني : أن الذي يبدو من ظاهر الكتاب هو وجوب مسح الرجلين ، عطفا على الرءوس. ولا يجوز كونه عطفا على الوجوه والأيدي ، لاستلزامه الفصل بالأجنبي ، وهو لا يجوز في مثل القرآن. وهذا سواء قرئ بخفض الأرجل أم بنصبها.

أمّا على قراءة الخفض فظاهر ، وقد قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو وحمزة من السبعة ، وشعبة أحد راويي عاصم. لكن مقتضاها المسح لبعض الأرجل ، كما في

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٨٧.

(٢) الاستبصار ، ج ١ ، ص ٦٤ رقم ١٨٩ / ١.

٤٩٢

الرأس.

أم قرئ بالنصب عطفا على المحل ؛ لأن محل «برءوسكم» نصب مفعولا به لامسحوا ، وهو فعل متعد يقتضي النصب. وقد أقحمت «الباء» إقحاما لحكمة إفادة التبعيض ، حسبما عرفت.

وقد قرأ النصب أيضا ثلاثة من السبعة : نافع وابن عامر والكسائي. وحفص الراوي الآخر لعاصم ، وهي القراءة المسندة إلى أبي عبد الرحمن السّلمي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام. وقد مضى شرحها في فصل القراءات من التمهيد (١).

غير أن القراءة بالنصب تستدعي الاستيعاب ، (٢) لتعلّق الفعل «امسحوا» بالممسوح بلا واسطة ، وحيث حدّدت الأرجل بالكعبين كالأيدي بالمرفقين ، كان ظاهره إرادة استيعاب ما بين الحدّين (من رءوس الأصابع إلى الكعبين) ، الأمر الذي يؤكد صحّة قراءة النصب ، وهي القراءة التي جرى عليها المسلمون ، وهي المختارة حسب الضوابط التي قدّمناها. وعلى أيّ تقدير ، سواء أقرئ بالخفض أم بالنصب ، فهو عطف على الرءوس ، وليس عطفا على الأيدي ، فلا موجب لإرادة الغسل في الأرجل.

ومن ثمّ فظاهر الكتاب هو «المسح» كما نصّ عليه أئمة أهل البيت. وعن

__________________

(١) التمهيد ، ج ٢ ، ص ١٥٩ و ٢٣٢.

(٢) أي الاستيعاب طولا من رءوس الأصابع إلى الكعبين.

فقد روى الكليني بإسناده الصحيح إلى أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم ، فقلت : لو أن رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا؟ قال : لا إلّا بكفّه.(الكافي الشريف ، ج ٣ ، ص ٣٠ رقم ٦)

أما ما ورد من الاجتزاء بثلاثة أصابع (أنّ المسح على بعضها ـ المصدر رقم ٤) فهو ناظر إلى جانب العرض.

٤٩٣

مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما نزل القرآن إلّا بالمسح (١). وعن ابن عباس : أنّ في كتاب الله المسح ، ويأبى الناس إلّا الغسل (٢).

وهذا استنكار على العامّة في مخالفتهم لظاهر القرآن ، المتوافق مع قواعد الفنّ في الأدب والأصول.

قال الشيخ محمد عبده : والظاهر أنه عطف على الرأس ، أي وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين.

قال : اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما ، فالجماهير على أن الواجب هو الغسل ، والشيعة الإماميّة أنه المسح. وذكر الرازي عن القفّال أن هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر ، قال : وعمدة الجمهور في هذا الباب عمل الصدر الأول ، وما يؤيّده من الأحاديث القولية. وقد أسهب المقال ونقل عن الطبري اختياره الجمع بين الأمرين ، ثم أردفه بكلام الآلوسي وتحامله على الشيعة بما يوجد مثله في كتب أهل السنّة ، في كلام يطول ، وإن شئت فراجع (٣).

الثاني ـ آية قصر الصلاة

من الآيات التي وقعت موضع بحث وجدل من حيث دلالتها على المراد ، هل المقصود بيان صلاة الخوف فقط أم يعم صلاة المسافر أيضا ، فما وجه دلالتها؟

ذهب المفسرون إلى تعميم دلالتها استنادا إلى فعل النبيّ عليه‌السلام والأئمّة وسائر المسلمين ، منذ العهد الأول كانوا يقصرون من الصلاة استنادا إلى هذه الآية

__________________

(١) راجع : الوسائل للحر العاملي ، ج ١ ، ص ٢٩٥ رقم ١٠٩٥ / ٨.

(٢) المصدر ، رقم ٧.

(٣) تفسير المنار ، ج ٦ ، ص ٢٢٧ ـ ٢٣٥.

٤٩٤

الكريمة ، الواردة ـ بظاهرها ـ في صلاة الخوف فقط.

قال تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ، إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ، فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ، وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ...)(١).

ظاهر العبارة ، أنّ جملة الشرط (إِنْ خِفْتُمْ) قيد في الموضوع ، يعني القصر في الصلاة ـ عند الضرب في الأرض ـ مشروط بوجود الخوف ، ومن ثمّ جاء شرح صلاة الخوف في الآية التالية لها.

والفتنة ـ هنا ـ : الشدّة والمحنة والبلاء ، أي خوف أن يفجعوكم بالقتل والنهب والأسر ، كما في قوله تعالى : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) ، وقوله : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) ، و (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ)(٢) أي يفجعوك ببلية وشدة ومصيبة.

قال الطبرسي : ظاهر الآية يقتضى أن القصر لا يجوز إلّا عند الخوف. لكنّا قد علمنا جواز القصر عند الأمن ببيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويحتمل أن يكون ذكر الخوف في الآية قد خرج مخرج الأعم الأغلب عليهم في أسفارهم ، فإنهم كانوا يخافون الأعداء في عامتها ، ومثلها في القرآن كثير (٣).

__________________

(١) النساء / ١٠١ ـ ١٠٢.

(٢) يونس / ٨٣ ، المائدة / ٤٩ ، الإسراء / ٧٣.

(٣) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٠١.

٤٩٥

قال المحقق الفيض : قيل : كأنهم ألفوا الإتمام وكان مظنّة لأن يخطر ببالهم أنّ عليهم نقصانا في التقصير ، فرفع عنهم الجناح ؛ لتطيب نفوسهم بالقصر ويطمئنوا إليه (١).

وروى أبو جعفر الصدوق بإسناده الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم ، إنهما قالا : قلنا للإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : ما تقول في الصلاة في السفر ، كيف هي ، وكم هي؟

فقال : إن الله عزوجل يقول : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)(٢) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر.

قالا : قلنا : إنما قال الله ـ عزوجل ـ : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟

فقال عليه‌السلام : أو ليس قد قال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)(٣) ، ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه عليه‌السلام ، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكره الله تعالى ذكره في كتابه.

قالا : قلنا له : فمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟

قال : إن كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له ، فصلّى أربعا أعاد وإن لم

__________________

(١) تفسير الصافي ، ج ١ ، ص ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

(٢) النساء / ١٠١.

(٣) البقرة / ١٥٨.

٤٩٦

يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه. والصلاة كلها في السفر ، الفريضة ركعتان ، كل صلاة ، إلّا صلاة المغرب ، فإنها ثلاث ليس فيها تقصير ، تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السفر والحضر ثلاث ركعات. وقد سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذي خشب (١) ـ وهي مسيرة يوم من المدينة ، يكون إليها بريدان : أربعة وعشرون ميلا ـ فقصّر وأفطر ؛ فصارت سنّة ، وقد سمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوما صاموا حين أفطر العصاة.

قال : فهم العصاة إلى يوم القيامة ، وإنا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا (٢).

وهذا الحديث ـ على طوله ـ مشتمل على فوائد جمّة :

أوّلا : عدم منافاة بين وجوب التقصير في السفر ، وبين قوله تعالى في الآية الكريمة : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ، نظير نفي الجناح الوارد في السعي بين الصفا والمروة ، فإنه واجب بلا شك.

وإنّما جاء هذا التعبير لدفع توهّم الحظر ؛ حيث شعر المسلمون بأنّ التكليف هو التمام ، كما في سائر العبادات ، لا تختلف سفرا وحضرا ، سوى الصوم والصلاة ؛ فدفعا لهذا الوهم نزلت الآية الكريمة.

ثانيا : إن الآية دلّت على مشروعيّة القصر في السفر ، وقد فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعله المسلمون ، وكذلك الأئمّة بعده ، ولم يتمّ أحد منهم الصلاة في

__________________

(١) قال ياقوت الحموي : بضم أوله وثانيه ، واد على مسيرة ليلة من المدينة. معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ٣٧٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، ص ٢٧٨ ـ ٢٧٩ رقم ١٢٦٦.

٤٩٧

السفر. فمقتضى قواعد علم الأصول ، عدم جواز الإتمام ؛ لأن الصلاة عبادة ، وهي توقيفيّة ، ولم يعلم مشروعية التمام في السفر ، لا من الآية ولا من فعل الرسول وصحابته الأخيار ، فمقتضى القاعدة عدم الجواز.

لأن الشكّ دائر بين التعيين والتخيير ، والشكّ في التكليف في مقام الامتثال ، يقتضي الأخذ بالاحتياط ، الذي هو القصر في الصلاة ؛ إذ يشكّ في مشروعية ما زاد على الركعتين ، ولا تصح عبادة مع الشكّ في مشروعيتها.

ثالثا : إن الإمام عليه‌السلام لم يتعرض للخوف الذي جاء شرطا في الآية ، فكأنه عليه‌السلام فهم أنه موضوع آخر مستقل موضوع السفر ، وليس قيدا فيه. فالخوف بذاته سبب مجوّز للتقصير ، كما أن السفر أيضا سبب ، ولا ربط لأحدهما بالآخر.

فالآية وإن كانت ظاهرة في القيد ، وأنّ أحدهما قيد للآخر ، لكن فعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وسائر الأئمّة ، دلّنا على هذا التفصيل ، وأن كلا منهما موضوع مستقل لجواز القصر. وهكذا فهم الإمام عليه‌السلام ، وفهمه حجّة علينا بالإضافة إلى عمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالث ـ آية الخمس

قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى)(١).

نزلت هذه الآية بعد واقعة بدر ؛ حيث لم يخمّس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غنائم بدر. قال عبادة بن الصامت : فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين الخمس فيما كان من كل غنيمة بعد بدر (٢) ، وهي عامّة تشمل كل الغنائم الحربية. عن ابن

__________________

(١) الأنفال / ٤١.

(٢) الدر المنثور ، ج ٣ ، ص ١٨٧. والطبري ، ج ١٠ ، ص ٣.

٤٩٨

عباس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا بعث سريّة فغنموا ، خمّس الغنمية (١).

ولكن جاء في تفسير أهل البيت : شمول الآية لكل ما يغنمه الإنسان في حياته من تجارة أو صناعة أو زراعة. فكل ما ربحه الإنسان في مكاسبه ، ممّا هو فاضل مئونته ـ مئونة نفسه وعياله ـ طول السنة ، ففيه الخمس (٢).

هكذا ورد عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام حيث أخذوا من لفظ «الغنيمة» عمومها اللّغوي الشامل لكلّ ربح وفائدة ؛ لأن «الغنم» مطلق الفوز بالشيء ، كما قاله الخليل في العين ، فقوله : «ما غنمتم» كان الموصول عاما يشمل كل ما فاز به الإنسان من غنيمة أو ربح أو فائدة.

قال الإمام أبو جعفر محمد بن علي الجواد عليه‌السلام : «فأما الغنائم والفوائد ، فهي واجبة عليهم في كل عام. قال الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ...). والغنائم والفوائد ـ يرحمك الله ـ فهي الغنيمة يغنمها المرء ، والفائدة يفيدها ، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر ، والميراث الذي لا يحتسب ...» (٣).

وعن الإمام أبي الحسن موسى عليه‌السلام سأله سماعة عن الخمس ، فقال : في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير (٤).

قال الطبرسي : قال أصحابنا : إن الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات ، وفي الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك.

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ٣ ، ص ١٨٥.

(٢) راجع : الوسائل ، ج ٦ ، ص ٣٤٩.

(٣) الوسائل ، ج ٦ ، ص ٣٤٩ رقم ٥ / ١٢٥٨٦.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٣٥٠ رقم ٦.

٤٩٩

قال : ويمكن أن يستدلّ على ذلك بهذه الآية ، فإنّ في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم «الغنم» و «الغنيمة» (١).

وأمّا مستحق هذا الخمس ، فهم آل الرسول وذرّيّته الأطيبون ، إن شاءوا أخذوه ، وإن شاءوا تركوه للمعوزين من فقراء المسلمين ، أو في وجوه البرّ وفي سبيل الله.

وقد سأل نجدة الحروري عبد الله بن عباس عن ذوي القربى الذين يستحقون الخمس ، فقال : إنا كنّا نرى أنّا هم ، فأبى ذلك علينا قومنا ، فقال : لمن تراه؟ فقال ابن عباس ، هو القربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّمه لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقّنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله. وكان عرض عليهم أن يعين ناكحهم ، وأن يقضي عن غارمهم ، وأن يعطي فقيرهم ، وأبى أن يزيدهم على ذلك.

وأخرج ابن المنذر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : سألت عليا عليه‌السلام عن الخمس ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أخبرني كيف كان صنع أبي بكر وعمر في الخمس نصيبكم؟ فقال : أما أبو بكر فلم تكن في ولايته أخماس. وأما عمر ، فلم يزل يدفعه إليّ في كل خمس. حتى كان خمس السوس وجنديسابور ، فقال ـ وأنا عنده ـ : هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس ، وقد أحلّ ببعض المسلمين واشتدّت حاجتهم. فقلت : نعم. فوثب العبّاس بن عبد المطلب ، فقال : لا تعرض في الذي لنا ... ثم قال : فو الله ما قبضناه ولا قدرت عليه في ولاية عثمان.

وعن زيد بن أرقم ، قال : آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين أعطوا الخمس ، آل علي وآل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٥٤٤.

٥٠٠