التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

الخبير أخبره بذلك. وورود الحوض كناية عن انقضاء عمر الدنيا ، فلو خلا زمان من أحدهما لم يصدق أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض (١).

ثالثا : أنّهم الراسخون في العلم والمصداق الأوفى لوصف أهل الذكر ، الذين يعلمون تفسير القرآن وتأويله ، فهم وحدهم مراجع الأمّة ، في فهم معاني الكتاب ودرس آياته عبر العصور ، إنهم أبواب الهدى ومصابيح الدّجى وسفن النجاة.

قال الهيثمي ـ في مقارنة لطيفة بين «الكتاب» و «العترة» ـ : سمّى رسول الله ـ ص ـ القرآن وعترته ثقلين ؛ لأن الثقل كل نفيس خطير مصون. وهذان كذلك ؛ إذ كل منهما معدن للعلوم اللّدنيّة والأسرار والحكم العليّة والأحكام الشرعية ؛ ولذا حثّ رسول الله ـ ص ـ على الاقتداء والتمسّك بهم والتعلم منهم ، وقال : «الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت». وقيل : سمّيا ثقلين ؛ لثقل وجوب رعاية حقوقهما.

ثم الذين وقع الحثّ عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله ؛ إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض ، ويؤيده الخبر السابق «ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم». وتميّزوا بذلك عن بقية العلماء ؛ لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة.

وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة ، كما أن الكتاب العزيز كذلك ؛ ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض ـ حسبما يأتي ـ.

ويشهد لذلك قوله ـ ص ـ : «في كل خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي

__________________

(١) أعيان الشيعة ، ج ١ ، ص ٣٧٠ في السابع من دلائل فضل عليّ عليه‌السلام على سائر الصحابة ، ونقله الغدير ، ج ٣ ، ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

٤٦١

ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ألا إنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزوجل فانظروا من توفدون».

ثم أحق من يتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ لمزيد علمه ودقائق مستنبطاته ، ومن ثمّ قال أبو بكر : عليّ عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وقال في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(٢) : أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وجود هذا المعنى في أهل بيته وأنهم أمان لأهل الأرض كما كان هو أمانا لهم. وفي ذلك أحاديث كثيرة ، منها ما رواه الحاكم وصحّحه على شرط الشيخين : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس».

وقال : وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضا : «إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا». وفي رواية مسلم : «ومن تخلف عنها غرق». وفي رواية : «هلك» ، «وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل ، من دخله غفر له» (٣).

روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجّته في أرضه. وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا ، لا نفارقه ولا يفارقنا».

وروى ـ أيضا ـ عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال ـ في قل الله عزّ

__________________

(١) الصواعق المحرقة ، ص ٩٠ و ٩١.

(٢) الأنفال / ٣٣.

(٣) الصواعق المحرقة ، ص ٩٠ و ٩١.

٤٦٢

وجلّ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)(١) ـ : نزلت في أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة. في كل قرن منهم إمام منّا شاهد عليهم ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد علينا» (٢).

وفي كلامه عليه‌السلام إشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ، ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين ، كما ينفي الكير خبث الحديد» (٣).

وسأل عبيدة السلماني وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد النخعي ، الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من ذا يسألونه عما إذا أشكل عليهم فهم معاني القرآن؟ فأجابهم الإمام عليه‌السلام : «سلوا عن ذلك آل محمد» (٤).

وقال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام لعمرو بن عبيد (٥) : «فإنما على الناس أن يقرءوا القرآن كما أنزل ، فإذا احتاجوا إلى تفسيره ، فالاهتداء بنا وإلينا يا عمرو» (٦).

وقال عليه‌السلام : «إن العلم الذي نزل مع آدم ـ كناية عن العلم الذي كان يحمله

__________________

(١) النساء / ٤١.

(٢) الكافي الشريف ، ج ١ ، ص ١٩٠ و ١٩١ رقم ١ و ٥.

(٣) اختيار معرفة الرجال لأبي عمرو الكشّي ، ص ٤ رقم ٥. والكير : زقّ أو جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد لإلانة الحديد.

(٤) بصائر الدرجات للصفار ، ص ١٩٦ رقم ٩.

(٥) عمرو بن عبيد هذا كان من زعماء المعتزلة ومن العلماء الزهاد ، وكان منقطعا إلى آل أبواب البيت مواليا لهم ، وله معهم مواقف مشرفة. قال حفص بن غياث : ما وصف لي أحد إلّا وجدته دون الصفة ، إلّا عمرو بن عبيد فوجدته فوق ما وصف لي. قال : وما لقيت أحدا أزهد منه. توفّي سنة ١٤٢. (تهذيب التهذيب ، ج ٨ ، ص ٧٠)

(٦) تفسير فرات الكوفي ، ص ٢٥٨ رقم ٣٥١.

٤٦٣

الأنبياء منذ البداية ـ لم يرفع ، والعلم يتوارث ، وكان عليّ عليه‌السلام عالم هذه الأمّة. قال : وإنه لم يمت منّا عالم قطّ إلّا خلّفه من أهله من علم مثل علمه ، أو ما شاء الله ...» (١).

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّا أهل بيت لم يزل الله يبعث منا من يعلم كتابه من أوّله إلى آخره» (٢).

نعم كان ذلك هو مقتضى تلازم الكتاب والعترة ، فلا يمكن الاهتداء بأحدهما بعيدا عن الآخر ؛ إذ كما أنّ للكتاب موضع التشريع والتأسيس ، كان للعترة موضع التفصيل والتّبيين ، كما كان ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هكذا عرفت الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان ، هذا الموضع الرفيع لآل البيت ، ولا سيّما رأسهم ورئيسهم الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. فكانوا يراجعونهم فيما أشكل عليهم من مسائل الشريعة ومفاهيم القرآن ، مذعنين لهم هذا المقام السامي.

هذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ، ومن أكابر الصحابة قدرا وأجلّائهم شأنا ، تراه يذعن برفعة مقام شاخص هذا البيت الإمام أمير المؤمنين. وأنه قد تتلمذ على يده حتى في حياة صادق الرسالة الأمين ـ صلوات الله عليه ـ.

أخرج أبو جعفر الطوسي ـ في أماليه ـ بإسناده إلى ابن مسعود ، قال : قرأت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبعين سورة من القرآن أخذتها من فيه ، وقرأت سائر القرآن على خير هذه الأمّة وأقضاهم بعد نبيّهم ، عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه (٣).

__________________

(١) الكافي الشريف ، ج ١ ، ص ٢٢٢ رقم ٢.

(٢) بصائر الدرجات ، ص ١٩٤ رقم ٦.

(٣) الأمالي ـ للطوسي ، ج ٢ ، ص ٢١٩. وإذ كنّا نعرف أن السور المكية (٨٦) سورة. نعرف أن ابن

٤٦٤

أخرج ابن عساكر في ترجمة الإمام بإسناده إلى عبيدة السلماني قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : لو أعلم أحدا أعرف بكتاب الله منّي تبلغه المطايا ... فقال له رجل : فأين أنت من عليّ؟ قال : به بدأت ، إنّي قرأت عليه (١).

وأخرج عن زاذان عنه ، قال : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسعين سورة ، وختمت القرآن على خير الناس بعده. قيل له : من هو؟ قال : علي بن أبي طالب (٢).

وهو القائل : القرآن أنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلّا له ظهر وبطن. وأن عليّ بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن (٣).

وأخرج الحاكم الحسكاني بإسناده عن علقمة ، قال : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسئل عن عليّ ، فقال : «قسّمت الحكمة عشرة أجزاء ، فأعطي عليّ تسعة أجزاء ، وأعطي الناس جزء واحدا (٤).

ولابن عباس الصحابي العظيم أيضا شهادات راقية بشأن الإمام. وكذا غيره من أجلّاء الأصحاب ، قد مرّت الإشارة إليها في ترجمة الإمام ، وهكذا تصريحات من أعلام التابعين لا نعيد ذكرها.

الأمر الذي دعا بنبهاء الأمة في جميع الأدوار ، أن يجعلوا من أئمة أهل البيت ، قدوتهم في كل أبعاد الشريعة ، ولا سيّما طريقة فهم القرآن واستنباط معانيه والوقوف على دقائق تعابيره وظرائف نكاته. وكان قولهم هو فصل الخطاب والقول الفصل في جميع الأبواب.

__________________

مسعود قد تعلم القرآن من عليّ عليه‌السلام في وقت مبكّر ، أيام كونهم في مكة قبل الهجرة إلى المدينة.

(١) تاريخ دمشق ـ ترجمة الإمام ـ ، ج ٣ ، ص ٢٥ ـ ٢٦ رقم ١٠٤٩.

(٢) المصدر رقم ١٠٥١ وراجع : سعد السعود لابن طاوس ، ص ٢٨٥ والبحار ، ج ٨٩ ، ص ١٠٥.

(٣) ابن عساكر رقم ١٠٤٨.

(٤) شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ١٠٥ رقم ١٤٦.

٤٦٥

هذا أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني صاحب الملل والنحل (٤٦٧ ـ ٥٤٨) يحاول ـ عند دراسته لتفسير القرآن ـ أن يجعل رائده علما من أعلام هذا البيت الرفيع ، معتقدا أن الصحيح من القول ، لا يوجد إلّا عندهم لا عند غيرهم.

وإليك بعض كلامه بهذا الشأن :

«وخصّ الكتاب بحملة من عترته الطاهرة ونقلة من أصحابه الزاكية الزاهرة ، يتلونه حق تلاوته ، ويدرسونه حق دراسته ، فالقرآن تركته ، وهم ورثته ، وهم أحد الثقلين ، وبهم مجمع البحرين ، ولهم قاب قوسين ، وعندهم علم الكونين ، والعالمون.

«وكما كانت الملائكة عليهم‌السلام معقبات له من بين يديه ومن خلفه تنزيلا ، كذلك كانت الأئمّة الهادية ، والعلماء الصادقة معقبات له من بين يديه ومن خلفه تنزيلا ، كذلك كانت الأئمّة الهادية ، والعلماء الصادقة معقبات له من بين يديه ومن خلفه تفسيرا وتأويلا (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١). فتنزيل الذكر بالملائكة المعقبات ، وحفظ الذكر بالعلماء الذين يعرفون تنزيله وتأويله ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعامّه وخاصّه ، ومجمله ومفصّله ، ومطلقه ومقيّده ، ونصّه وظاهره ، وظاهره وباطنه. ويحكمون فيه بحكم الله ، من مفروغه ومستأنفه ، وتقديره وتكليفه ، وأوامره وزواجره ، وواجباته ومحظوراته ، وحلاله وحرامه ، وحدوده وأحكامه ، بالحق واليقين ، لا بالظنّ والتخمين ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

«ولقد كانت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ متّفقين على أن علم القرآن مخصوص بأهل البيت عليهم‌السلام ؛ إذ كانوا يسألون علي بن أبي طالب رضى الله عنه هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟ وكان يقول : لا والذي فلق الحبّة و

__________________

(١) الحجر / ٩.

٤٦٦

برأ النسمة إلّا بما في قراب سيفي هذا. فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأنّ القرآن وعلمه تنزيله وتأويله مخصوص بهم.

«ولقد كان حبر الأمّة عبد الله بن عباس رضى الله عنه مصدر تفسير جميع المفسّرين ، وقد دعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن قال : «اللهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل. تتلمذ لعليّ رضى الله عنه حتى فقّهه في الدين وعلّمه التأويل.

قال : «ولقد كنت على حداثة سنّي أسمع تفسير القرآن من مشايخي سماعا مجرّدا ، حتى وفقت فعلّقته على أستاذي ناصر السنّة أبي القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري رضى الله عنه تلقّفا. ثمّ أطلعني مطالعات كلمات شريفة عن أهل البيت وأوليائهم ـ رضي الله عنهم ـ على أسرار دفينة وأصول متينة في علم القرآن ، وناداني من هو في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة الطيّبة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(١) فطلبت الصادقين طلب العاشقين ، فوجدت عبدا من عباد الله الصالحين ، كما طلب موسى عليه‌السلام مع فتاه ، (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(٢). فتعلّمت منه مناهج الخلق والأمر ، ومدارج التضادّ والترتيب ، ووجهي العموم والخصوص ، وحكمي المفروغ والمستأنف. فشبعت من هذا المعاء الواحد دون الأمعاء التي هي مآكل الضلّال ومداخل الجهّال ، وارتويت من شرب التسليم بكأس كان مزاجه من تسنيم ، فاهتديت إلى لسان القرآن : نظمه وترتيبه وبلاغته وجزالته وفصاحته وبراعته» (٣).

__________________

(١) التوبة / ١١٩.

(٢) الكهف / ٦٥.

(٣) عن مقدمة تفسيره الذي أسماه «مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار» مخطوط.

٤٦٧

ومن طريف ما يذكر هنا ، ما شهد به مثل الحجاج بن يوسف الثقفي بشأن هذا البيت الرفيع ، حسبما رواه علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره : أن أباه حدّثه عن سليمان بن داود المنقري عن أبي حمزة الثمالي عن شهر بن حوشب ، قال : قال لي الحجاج بن يوسف : بأنّ آية في كتاب الله قد أعيتني! فقلت : أيّها الأمير ، أيّة آية هي؟ فقال : قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)(١) ، والله لآمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ، ثم أرمقه بعيني ، فما أراه يحرّك شفتيه حتى يحمد! فقلت : أصلح الله الأمير ، ليس على ما تأوّلت! قال : كيف هو؟ قلت : إن عيسى بن مريم ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا ، فلا يبقى أهل ملّة يهودي ولا نصراني إلّا آمن به قبل موته ، ويصلّي خلف المهدي. قال : ويحك ، أنّى لك هذا ، ومن أين جئت به؟! فقلت : حدّثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، فقال : جئت بها ، والله من عين صافية (٢).

كان الحجّاج قد حسب أنّ الضمير في قوله تعالى (قَبْلَ مَوْتِهِ) يعود إلى (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) فجاء تفسير الإمام بإرجاع الضمير إلى المسيح ؛ وبذلك زالت علّته.

وأورد الإمام الرازي الحديث بلفظ آخر ، ناسبا له إلى محمد ابن الحنفيّة ، قال : فأخذ ينكث في الأرض بقضيب ، ثم قال : لقد أخذتها من عين صافية (٣).

دور أهل البيت في التفسير

كان الدور الذي قام به أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير القرآن الكريم ، هو دور تربية وتعليم ، وإرشاد إلى معالم التفسير ، وأنه كيف ينبغي أن يفهم معاني كلامه

__________________

(١) النساء / ١٥٩.

(٢) تفسير القمّي ، ج ١ ، ص ١٥٨. ونقله الطبرسي في المجمع ، ج ٣ ، ص ١٣٧.

(٣) التفسير الكبير ، ج ١١ ، ص ١٠٤.

٤٦٨

تعالى ، وكيف الوقوف على دقائق ورموز هذا الوحي الإلهي الخالد. فقد كانت تفاسيرهم للقرآن ، المأثورة عنهم عليهم‌السلام تفاسير نموذجيّة ، كانوا قد عرضوها على الأمة وعلى العلماء ، لكي يتعرّفوا إلى أساليب التفسير ، تلك الأساليب المعتمدة على أصول متينة وقواعد رصينة. وأن في الجم الغفير من التفسير الوارد عنهم عليهم‌السلام ما ينبؤك عن حرصهم الشديد على تعليم هذه الأمة كيف يفسرون القرآن الكريم ، وايقافهم على نكت وظرف من هذا الكلام البارع. نعم كانوا عليهم‌السلام ورثة القرآن العظيم ، وحملته إلى الناس ، في أمانة صادقة وأداء وإيفاء كريم.

وسوف نذكر نماذج من تفاسير مأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، هي شواهد على كونها مناهج تعليمية لكيفيّة التفسير ، وطريقة استنباط معانيه الحكيمة.

الخلط في التفاسير المأثورة

هناك في التفسير المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بعض الخلط بين تفسير الظاهر وتفسير الباطن ، كما حصل خلط بين بعض التطبيقات والتفسير ؛ حيث كان المنصوص عليه مصداقا أو من أبرز مصاديق الآية ، فحسبها البعض تفاسير. فكان من الضروري التمييز بين الأمرين ، وفصل أحدهما عن الآخر ، ليعرف وجه الصواب.

من ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) بأنّهم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقد وردت هذه الآية في سورة النحل : (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ)(١).

__________________

(١). ١٦ / ٤٣.

٤٦٩

وفي سورة الأنبياء (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١).

وظاهر الآيتين يقضي بكون الخطاب موجّها إلى المشركين ، الذين استغربوا نزول الوحي على بشر أو على رجل منهم ؛ حيث قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)(٢) ، وقال تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ)(٣).

فرفعا لاستغرابهم أفسح لهم المجال كي يتساءلوا بذلك أهل الكتاب ممن يلونهم وكانوا يعتمدونهم. ومن ثمّ جاءت في الآية الأولى : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) ، أي لا تعلمون الكتاب ولا تاريخ الأنبياء والأمم السالفة ، فعليكم بمراجعة من يعلم ذلك من أهل الكتاب.

كما جاء تعقيب الآية الثانية بقوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) حيث استغرابهم أن يكون النبيّ إنسانا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.

هذا هو ظاهر معنى الآيتين : تفسير «أهل الذكر» ب «أهل الكتاب».

لكن ورد في تأويلهما ما يقضي بالعموم ، بأن تشمل الآية كل ذوي العلم من أهل الثقافة والمعرفة ، وعلى رأسهم أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

وذلك بإلقاء الخصوصيات المكتنفة بالكلام ، والأخذ بعموم اللفظ وعموم الملاك (أي عموم مناط الحكم) وهو ما يقتضيه العقل من رجوع الجاهل إلى العالم إطلاقا ، وفي جميع مجالات العلم والمعرفة ، بما يعم جميع الثقافات.

__________________

(١). ٢١ / ٧.

(٢) الأنعام / ٩١.

(٣) يونس / ٢.

٤٧٠

فهذا من التأويل الذي هو مفاد باطن الآية ، وليس من التفسير الذي هو مفاد ظاهرها.

هذا المولى محسن الفيض الكاشاني ، حسب من هذه الروايات الواردة بتفسير الآية بأهل البيت ، تفسيرا حقيقيا حسب ظاهر اللّفظ. قال : في الكافي والقمّي والعياشي عنهم عليهم‌السلام في أخبار كثيرة : رسول الله «الذكر» وأهل بيته المسئولون وهم «أهل الذكر» وأضاف : أن المستفاد من هذه الأخبار أن المخاطبين بالسؤال هم المؤمنون دون المشركين ، وأن المسئول عنه هو كل ما أشكل عليهم دون كون الرسل رجالا. قال : وهذا إنما يستقيم إذا لم يكن (وَما أَرْسَلْنا) ردّا للمشركين ، أو كان (فَسْئَلُوا ...) كلاما مستأنفا ، أو كانت الآية ممّا غيّر نظمه ، ولا سيّما إذا علّق قوله (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) بقوله (أَرْسَلْنا) ، فإن هذا الكلام ، بينهما. وأما أمر المشركين بسؤال أهل البيت عن كون الرسل رجالا لا ملائكة ، مع عدم إيمانهم بالله ورسوله ، فممّا لا وجه له (١).

انظر إلى هذا التكلّف الذي وقع فيه لتوجيه ما حسبه تفسيرا للآية ، فلو أنه أخذه تأويلا لها مستخلصا عموم المراد من ظاهر اللفظ ؛ وذلك لعموم مناط الحكم في المراجعة والسؤال ؛ لكان قد استراح بنفسه.

نعم ، وردت الآية بشأن المشركين ، وهم جهال ، ليسألوا أهل الكتاب ؛ لأنهم علماء. وهذا الدستور العقلاني عام في ملاكه ومناطه ، فليكن عاما في خطابه وشموله. هكذا يستفاد العموم من اللفظ ويستخلص الشمول من الملاك ، ويسمّى ذلك تأويلا ، أي مآل الكلام في نهاية المراد.

وهكذا قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ

__________________

(١) راجع : تفسير الصافي ، ج ١ ، ص ٩٢٥.

٤٧١

مَعِينٍ)(١) فقد فسّرها قوم حسبما ورد من روايات في تأويلها ، فحسبوها مفسرات. قال علي بن إبراهيم ـ بصدد تفسير الآية ـ : أرأيتم أن أصبح إمامكم غائبا فمن يأتيكم بإمام مثله ، واكتفى بذلك. واستشهد بحديث الرضا عليه‌السلام سئل عن هذه الآية ، فقال : ماؤكم : أبوابكم ، أي الأئمّة عليهم‌السلام. والأئمّة أبواب الله بينه وبين خلقه ، (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) ، يعني بعلم الإمام (٢).

وكناية «الماء المعين» عن العلم الصافي عن أكدار الشبهات ، أمر معروف ، قال تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(٣). وهكذا جاء في تفسير الصافي للمولى محسن الفيض (٤).

غير أن ذلك تأويل للآية وليس تفسيرا لها ؛ حيث أخذ «الماء» في مفهومه الأعم من الحقيقي والكنائي ، أي فيما يورث الحياة ويوجب تداومها وبقاءها ، إن مادّيا أو معنويا ، ليشمل الماء الزلال والعلم الصافي جميعا ، وبهذا المعنى العام يشمل كلا الأمرين. فاستخلاص مثل هذا العموم من لفظ الآية ، يعتبر تأويلا لها.

وفي رواية الصدوق ـ في الإكمال ـ تصريح بذلك ؛ حيث سئل الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام عن تأويل هذه الآية بالذات ، فقال : إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فما ذا تصنعون؟! ليمتاز التأويل عن التفسير.

وقوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما

__________________

(١) الملك / ٣٠.

(٢) تفسير القمي ، ج ٢ ، ص ٣٧٩.

(٣) الجن / ١٦.

(٤) تفسير الصافي ، ج ٢ ، ص ٧٢٧.

٤٧٢

مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(١).

فالآية ـ حسب ظاهرها ـ وردت بشأن قوم موسى واستضعاف فرعون لهم ، فأراد الله أن يرفع بهم ويستذلّ فرعون وقومه.

لكن الآية في مفادها العام وعد بنصر المستضعفين في الأرض ورفعهم على المستكبرين ، في أيّ عصر وفي أيّ دور ، سنّة الله التي جرت في الخلق. لكن على شرائط يجب توفّرها كما توفّرت حينذاك على عهد موسى وفرعون ، فإن عادت الشرائط وتهيّأت الظروف ، فإن السنّة تجري كما جرت أول الأمر.

وبذلك جاء تأويل الآية بشأن مهديّ هذه الأمّة ، واستخلاص المستضعفين في الأرض على يده من نير المستكبرين.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ : «لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها ، ثم تلا هذه الآية» (٢).

وفي كتاب الغيبة قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ : «هم آل محمد ـ صلوات الله عليه ـ يبعث الله مهديّهم بعد جهدهم ، فيعزّهم ويذلّ أعدائهم». والروايات بهذا المعنى كثيرة جدا (٣).

فقد جاء ذكر موسى وقومه وفرعون وقومه ، والمقصود ـ في باطن الآية ـ كل مستضعف في الأرض ومستكبر فيها.

قال الإمام السجاد : والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا ، إنّ الأبرار منا

__________________

(١) القصص / ٥.

(٢) يقال : شمس الفرس شموسا وشماسا ، إذا استعصى على راكبه. والضروس : الناقة السيئة الخلق تعضّ حالبها.

(٣) راجع : تفسير الصافي ، ج ٢ ، ص ٢٥٣.

٤٧٣

أهل البيت ، وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته ، وإن عدوّنا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه (١).

وعبثا حاول بعضهم جعل ذلك تفسيرا مباشرا للآية ، وأخذ فرعون وهامان لفظا كنائيا بحتا عن مطلق العتاة في الأرض (٢).

ونظير هذه الآية في شمولها العام ، وتأويلها بشأن المهديّ المنتظر ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)(٣).

فإنّ مصداقها الحقيقي المنطبق على بسيط الأرض كلّه ، إنّما يتحقّق بظهور المهديّ وإظلال الإسلام على كافّة وجه الأرض ، عند ذلك تكون العبادة لله في الأرض خالصة من الشرك ، لا يشرك به أحد من خلقه.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : نزلت في القائم وأصحابه (٤) ، أي بشأنهم في تأويل الآية.

وهكذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(٥).

قال الإمام الباقر عليه‌السلام : هم أصحاب المهدي في آخر الزمان.

__________________

(١) تفسير الصافي ، ج ٢ ، ص ٢٥٤.

(٢) راجع في ذلك : محاولة القمّي في تفسيره ، ج ٢ ، ص ١٣٣.

(٣) النور / ٥٥.

(٤) الغيبة للنعماني ، ص ٢٣٠ رقم ٣٥.

(٥) الأنبياء / ١٠٥.

٤٧٤

وقد فصّل الكلام في ذلك الطبرسي في مجمع البيان ، فراجع (١).

وقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) ـ إلى قوله ـ (مَتاعاً لَكُمْ)(٢).

قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : إلى علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه (٣).

لا شكّ أن العلم غذاء الروح كما أن الطعام غذاء الجسد. فكما يجب على الإنسان أن يعرف أنّ الطعام الصالح والغذاء النافع الكافل لسلامة الجسد وصحّة البدن ، هو الذي يأتيه من جانب الله ، وأنه تعالى هو الذي هيّأه له ترفيها لمعيشته ، كذلك يجب عليه أن يعلم أن العلم النافع والغذاء الصالح لتنمية روحه وتزكية نفسه هو الذي يأتيه من جانب الله ، وعلى يد أوليائه المخلصين الذين هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، فلا يستطرق أبواب البعداء الأجانب عن مهابط وحي الله ، ومجاري فيضه المستدام.

قال الحكيم الربّاني الفيض الكاشاني : لأن الطعام يشمل طعام البدن وطعام الروح جميعا كما أنّ الإنسان يشمل البدن والروح. فكما أنه مأمور بأن ينظر إلى غذائه الجسماني ليعلم أنه نزل من عند الله ، فكذلك غذاؤه الروحاني الذي هو العلم ، ليعلم أنه نزل من عنده تعالى بأن صبّ أمطار الوحي إلى أرض النبوّة وشجرة الرسالة ، وينبوع الحكمة ، فأخرج منها حبوب الحقائق وفواكه المعارف ، ليغتذي بها أرواح القابلين للتربية. فقوله عليه‌السلام : «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه» أي ينبغي له أن يأخذ علمه من مهابط الوحي ومنابع الحكمة ، أهل بيت رسول

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) عبس / ٢٤ ـ ٣٢.

(٣) رجال الكشّي ، ص ١٠ ـ ١١ (ط نجف)

٤٧٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين أخذوا علومهم من مصدر الوحي الأمين ، خالصة صافية ضافية. قال : وهذا تأويل الآية ، الذي هو باطن الآية ، مرادا إلى جنب ظاهرها حسبما عرفت (١).

الوضع عن لسان الأئمّة

من المؤسف جدا أن نجد كثرة الوضع في التفاسير المنسوبة إلى السلف الصالح ، ولا سيّما أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ؛ حيث وجد الكذابون ـ من رفيع جاه آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الأمّة ، ومواضع قبولهم من الخاصة والعامة ـ أرضا خصبة استثمروها لترويج أباطيلهم وتنفيق بضائعهم المزجاة. فصاروا يضعون الحديث ويختلقون لها أسانيد ، يرتفعون بها إلى السلف والأئمّة المرضيّين ؛ كي تحظى بالقبول والتسليم.

وفي أكثر هذه المفتريات ما يتنافى وقدسيّة الإسلام وتتعارض مع مبانيه الحكيمة ، فضلا عن منافرتها لدى الطبع السليم والعقل الرشيد.

ولحسن الحظّ ، أن غالبية أسانيد هذه الروايات المفتعلة ، أصبحت مقطوعة أو موهونة برجال ضعاف أو مشهورين بالوضع والاختلاق.

ومن ثم فإن الجوامع الحديثية التي حوت على أمثال هكذا تفاسير مأثورة نقلا عن الأئمّة عليهم‌السلام لم تكد تصح منها إلّا القليل النادر ، على ما ننبّه عليه.

ففي مثل تفسير أبي النضر محمد بن مسعود العياشي (توفّي سنة ٣٢٠) الذي كان من أجمع التفاسير المأثورة ، قد أصبح مقطوع الإسناد ، حذف أسانيده بعض

__________________

(١) تفسير الصافي ، ج ٢ ، ص ٧٨٩ بتصرف وتلخيص.

٤٧٦

الناسخين لعذر غير وجيه ، وبذلك أسقط مثل هذا التفسير الثمين عن الحجّية والاعتبار. والذي وصل إلينا من هذا التفسير هو قسم من أوّله ، مع حذف الإسناد ، ويا للأسف.

وهكذا تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي (توفّي حدود ٣٠٠) وقد أسقطت أسانيده أيضا. ومثلهما تفسير محمد بن العباس ماهيار المعروف بابن الحجّام (توفّي حدود ٣٣٠) لم يوجد منه سوى روايات مقطوعة الإسناد.

هذه تفاسير كانت بروايات مسندة إلى أئمة أهل البيت ، وقد أصبحت مقطوعة الإسناد فاقدة الاعتبار ، لا يجوز الاستناد إليها في معرفة آراء الأئمّة عليهم‌السلام في التفسير.

وأما مثل تفسير أبي الجارود ، زياد بن المنذر الهمداني الخارفي الملقّب بسرحوب (١) (توفّي سنة ١٥٠) الذي يرويه عن الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام فضعيف كما لا اعتبار به ؛ لأنه من زعماء الزيديّة ـ المنحرفين عن طريقة الأئمّة ، وإليه تنسب الفرقة الجارودية أو السرحوبيّة. فقد ورد لعنه عن لسان الصادق عليه‌السلام ، قال : لعنه الله ، إنه أعمى القلب أعمى البصر. وقال فيه محمد ابن سنان : أبو الجارود لم يمت حتى شرب المسكر وتولّى الكافرين (٢).

وعن أبي بصير قال : ذكر أبو عبد الله الإمام الصادق عليه‌السلام ثلاثة نفر : كثير النوا ، وسالم بن أبي حفصة ، وأبا الجارود. فقال : كذّابون مكذّبون كفّار ، عليهم لعنة

__________________

(١) سرحوب : اسم ابن آوى. ويقال : إنه شيطان أعمى يسكن البحر.

(٢) فهرست ابن النديم ، ص ٢٦٧.

٤٧٧

الله (١).

والتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام فيه تفسير فاتحة الكتاب وآيات متقطّعة من سورة البقرة حتى الآية رقم (٢٨٢) إلى قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا). وهذا آخر الموجود من هذا التفسير. زعموا أنه من إملاء الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري ، أملاه على أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد ، وأبي الحسن علي بن محمد بن سيّار ، كانا من أهل استرآباد ، وحضرا سامراء في طلب العلم لدى الإمام عليه‌السلام. والراوي عنهما أبو الحسن محمد ابن القاسم الخطيب ، المعروف بالمفسّر الاسترآبادي.

غير أنّ النفرين الأوّلين مجهولان ، والراوي عنهما أيضا مجهول ، فهنا ثلاثة مجاهيل حفّوا بهذا التفسير المبتور (٢).

وهناك لأحمد بن محمد السياري (توفّي سنة ٢٦٨) تفسير متقطع مختصر اعتمد المأثور عن الأئمّة ، غير أنه ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ، مجفوّ الرواية ، كثير المراسيل ، حسبما وصفه أرباب التراجم. وكان القمّيون ـ المحتاطون في نقل الحديث ـ يحذفون من كتب الحديث ما كان برواية السيّاري (٣).

__________________

(١) معجم رجال الحديث للإمام الخوئي ، ج ٧ ، ص ٣٢٣.

(٢) راجع : الذريعة للطهراني ، ج ٤ ، ص ٢٨٥ ، ومعجم رجال الحديث ، ج ١٢ ، ص ١٤٧ وج ١٧ ، ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٣) راجع : الذريعة ، ج ١٧ ، ص ٥٢. والمعجم ، ج ٢ ، ص ٢٨٢ ـ ٢٨٤.

٤٧٨

وتفسير النعماني المنسوب إلى أبي عبد الله محمد بن إبراهيم النعماني من أعلام القرن الرابع (توفّي سنة ٣٦٠) تفسير مجهول ، لم يعرف واضعه ، وإنما نسب إلى النعماني عفوا ولم يثبت. فقد عزي هذا التفسير المشتمل على توجيه الآيات المتعارضة ـ فيما زعمه واضعه ـ إلى ثلاثة من شخصيات لامعة في تاريخ الإسلام ، هم : السيد المرتضى علم الهدى ، وسعد بن عبد الله الأشعري القمّي ، والنعماني هذا. والجميع مكذوب عليهم ، يتحاشاه قلم علم من أعلام الدين القويم (١).

وأما التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمّي (توفّي سنة ٣٢٩) فهو من صنع أحد تلاميذه المجهولين ، هو : أبو الفضل العباس بن محمد العلوي ، أخذ شيئا من التفسير بإملاء شيخه علي بن إبراهيم ، ومزجه بتفسير أبي الجارود ، الآنف ، وأضافه إليه شيئا ممّا رواه هو عن غير طريق شيخه بسائر الطرق ، فهو تفسير مزيج ثلاثي الأسانيد. ولم يعرف لحدّ الآن من هذا العباس العلويّ ، واضع هذا التفسير.

كما أن الراوي عن أبي الفضل هذا أيضا مجهول ، فلم يصح الطريق إلى هذا التفسير. كما لم يعتمده أرباب الجوامع الحديثية ، فلم يرووا عن الكتاب ، وإنما كانت رواياتهم عن علي بن إبراهيم بإسنادهم إليه لا إلى كتابه ، فهو تفسير مجهول الانتساب (٢).

__________________

(١) راجع ما كتبناه بشأن هذه الرسالة المجهولة الانتساب في كتابنا «صيانة القرآن من التحريف». ص ٢٢٢ ـ ٢٢٥.

(٢) راجع : الذريعة ، ج ٤ ، ص ٣٠٢ ـ ٣٠٣. والصيانة ، ص ٢٢٩ ـ ٢٣١.

٤٧٩

وفي القرن الحادي عشر قام مؤلّفان كبيران ، هما : السيد هاشم بن سليمان البحراني المتوفّى سنة (١١٠٧ أو ١١٠٩) وعبد علي بن جمعة الحويزي المتوفّى (١٠٩١) ، فجمعا المأثور من أحاديث أهل البيت الواردة في التفسير ، من الكتب الآنفة ، وما جاء عرضا في سائر الكتب الحديثيّة ، أمثال الكافي وكتب الصدوق وكتب الشيخ ، ونحوها.

فجاء ما جمعه السيد البحراني باسم «البرهان» ، والشيخ الحويزي باسم «نور الثقلين». وقد اشتملا على تفسير كثير من الآيات القرآنية ، بصورة متقطّعة ، ولكن حسب ترتيب السور ، من كل سورة آيات ، ومن غير وفاء بتفسير كامل الآية ، سوى الموضع الذي تعرض له الحديث المأثور.

غير أنّ غالبيّة هذه الروايات ممّا لا يوزن بالاعتبار ؛ حيث ضعف إسنادها ، أو إرسالها ، أو مخالفة مضامينها مع أصول العقيدة أو مباني الشريعة ، فضلا عن مخالفة العلم أو العقل الرشيد ، الأمر الذي يوهن صدور مثلها عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ؛ إذ يجب تنزيه ساحتهم عن صدور مثل هذه الأخبار الضعاف.

ولنأخذ لذلك مثلا التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمّي ، فإنّه من أحسن التفاسير المعتمدة على النقل المأثور ، سوى اشتماله على بعض المعايب ـ ومن حسن الحظ إنها قليلة إلى جنب محاسنه الكثيرة ـ ومن ثم فإنها معدودة في جنب محاسنه غير المعدودة «كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه» ولنشر إلى بعضها كنماذج :

فقد جاء فيه ، تفسيرا لقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها

٤٨٠