التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

يقول الإمام الرازي بشأنه ـ وهو أشعري يخالفه في المذهب ـ : «وهذا القول عندي حسن معقول. وأبو مسلم حسن الكلام في التفسير ، كثير الغوص على الدقائق واللطائف» (١).

هذه شهادة راقية من أكبر علم من أعلام التحقيق في الفلسفة والكلام ، بشأن ألمع شخصية بارزة ، مارس عقله وشاور لبّه عند تفهّم القرآن ، ممّن نبذ التقليد وأخذ في التدقيق.

وأنت إذا قارنت هذا التفسير لهذا الموضع بالذات ، مع سائر التفاسير التي عرضها القوم ، تجد الفرق بائنا والبون شاسعا.

ذكر أبو جعفر الطبري : أنّ عدم التكلم هنا كان عن عجز ، سلبه الله القدرة على الكلام ، فيما سوى التسبيح والتحميد ؛ وذلك تمحيصا له من هفوته وخطأ قيله في سؤاله الآية. قيل : إنه لما سمع نداء الملائكة يبشرونه بيحيى ، جاءه الشيطان من فوره ، وقال له : يا زكريا ، إنّ الصوت الذي سمعت ليس من عند الله ، إنما هو الشيطان يسخر بك. قالوا : فشكّ زكريا في مكانه ، وقال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ)(٢). ومن ثم طلب من الله أن يجعل له آية ، يرتفع بها شكه ، فعاتبه الله على مسألته تلك وأنه لا ينبغي لنبيّ أن يشكّ.

قال الطبري ـ فيما رواه ـ : إنما عوقب بذلك ، لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك ، فبشّرته بيحيى ، فلما سأل الآية بعد كلام الملائكة مشافهة ، أخذ الله عليه

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٨ ، ص ٤٠ ـ ٤١.

(٢) آل عمران / ٤٠.

٤٤١

بلسانه ، فكان لا يقدر على الكلام إلّا إيماء (١).

وقال القرطبي : لما بشّر بالولد. ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله ، طلب آية يعرف بها صحة هذا الأمر ، وكونه من عند الله ، فعاقبه الله بأن أصابه السكوت عن كلام الناس ؛ لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إيّاه. (٢) وهكذا أكثر المفسرين من أصحاب النقل في التفسير كابن كثير وأضرابه (٣).

غير أن أرباب التحقيق رفضوا تلك النقول المنافية لأصول العقيدة الإسلامية ، ولا سيّما فيما يمسّ جانب عصمة الأنبياء وصيانتهم عن إمكان غلبة الشيطان على مشاعرهم.

قال الشيخ محمد عبده : ومن سخافات بعض المفسرين ، والتي لا تليق بمقام الأنبياء عليهم‌السلام زعمهم أن زكريّا عليه‌السلام اشتبه عليه وحي الملائكة ونداؤهم ، بوحي الشياطين ؛ ولذلك سأل سؤال التعجّب ، ثم طلب آية للتثبّت. روى ابن جرير فيما روى : أنّ الشيطان هو الذي شكّكه في نداء الملائكة ، وقال له : إنه من الشيطان.

قال : ولو لا الجنون (٤) بالروايات مهما هزلت وسمجت ، لما كان لمؤمن أن يكتب مثل هذا الهزء والسخف الذي ينبذه العقل ، وليس في الكتاب ما يشير إليه. ولو لم يكن لمن يروي مثل هذا إلّا هذا ، لكفى في جرحه ، وأن يضرب بروايته على وجهه. فعفا الله عن ابن جرير ، إذ جعل هذه الرواية ممّا ينشر.

ثم فسّر الآية وفق ما فسّرها أبو مسلم : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) ، أي علامة

__________________

(١) جامع البيان للطبري ، ج ٣ ، ص ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ، ج ٤ ، ص ٨٠.

(٣) راجع : تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٣٦٢.

(٤) أي الشغف بجمع الأخبار مهما كان نمطها.

٤٤٢

تتقدم هذه العناية وتؤذن بها (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ...) ، أي تترك ذلك مختارا لتفرغ لعبادة الله (١).

وهكذا في قصة إبراهيم الخليل والطيور الأربعة : (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً)(٢).

قال الرّازي : أجمع أهل التفسير على أنّ المراد : قطّعهن ، غير أبي مسلم فإنّه أنكر ذلك ، وقال : إن إبراهيم عليه‌السلام لما طلب إحياء الميّت من الله تعالى أراه الله مثالا قرّب إليه الأمر ، والمراد ب (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) : الإمالة والتمرين على الإجابة ، أي فعوّد الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها إجابتك وأتتك ، فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته ثم ادعهنّ يأتينك سعيا. والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة. وأنكر القول بأن المراد منه : فقطّعهن.

قال : واحتجّ على مذهبه بوجوه :

الأوّل : أن المشهور في اللغة في قوله (فَصُرْهُنَّ) : أملهنّ. أمّا التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه. فكان إدراجه في الآية إلحاقا لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها ، وأنه لا يجوز.

الثاني : أنه لو كان المراد ب «صرهنّ» : قطّعهن ، لم يقل : «إليك» ، فإن ذلك لا

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩. ولسيدنا العلامة الطباطبائي هنا كلام غريب رجّح رأي سائر المفسرين وجوّز اشتباه الأمر على الأنبياء لو لا عنايته تعالى برفعه منهم هو عجيب منه. راجع : الميزان ج ٣ ، ص ١٩٤.

(٢) البقرة / ٢٦٠.

٤٤٣

يتعدّى بإلى ، وإنما يتعدّى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : فخذ إليك أربعة من الطير فصرهنّ؟ قلنا : التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجئ إلى التزامه خلاف الظاهر.

وأيضا الضمير في «يأتينك» عائد إليها لا إلى أجزائها ، وعلى قولكم : إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في «ياتينك» عائدا إلى أجزائها لا إلى الطيور أنفسها (١).

ثم إنّ الإمام الرازي يذكر حجج المشهور رادّا على أبي مسلم. وقد نقلها صاحب تفسير المنار وضعّفها ، وأيّد مذهب أبي مسلم في تفسير الآية في شرح وتفصيل ، ثم قال :

وجملة القول : أن تفسير أبي مسلم لهذه الآية هو المتبادر الذي يدلّ عليه النظم ، وهو الذي يجلّي الحقيقة في المسألة ، وأخذ في تقريب ذلك. وأخيرا قال : ولله درّ أبي مسلم ، ما أدقّ فهمه وأشدّ استقلاله فيه (٢).

وهذه أيضا شهادة بشأن أبي مسلم ، من أكبر علماء التفسير في العصر الأخير.

هذا ، ولأمثال أبي مسلم مواقف مشرفة تجاه سائر المفسرين الظاهريين ، كانت نوافذ قلوب أمثاله متفتّحة ، يسيرون في ضوء العقل ، وعلى مناهج التفكير المتين (٣).

وهذا إن دلّ فإنما يدلّ على مدى قوّة الاجتهاد ودوره المجيد في تفسير

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٧ ، ص ٤١ ـ ٤٢.

(٢) راجع : تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٥٦ ـ ٥٨.

(٣) وسنعرض نماذج من تفاسيرهم التي جاء نسجها على نفس المنوال ، في فصول قادمة إن شاء الله.

٤٤٤

القرآن الكريم ، والذي فتح بابه بمصراعين ، نبهاء السلف الصالح أيّام الصحابة والتابعين ، واستمرت طريقتهم الحميدة سنّة حسنة متّبعة حتى اليوم.

قال الرازي في تفسير قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها. فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ، فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١).

قال ـ بعد إيراد إشكال واعتراضات على ظاهر الآية ـ : إذا عرفت هذا فنقول : في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد :

الأول : فما ذكره القفّال (٢) ؛ أنه تعالى ذكر هذه القصّة على تمثيل ضرب المثل ، وبيان أنّ هذه الحالة هي صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك.

قال : وتقرير هذا الكلام ، كأنّه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية. فلما تغشّى الزوج زوجته وظهر الحمل ، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويّا لنكوننّ من الشاكرين. فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويّا ، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ؛ لأنّهما تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين ، وتارة إلى الكواكب كما هو دأب المنجّمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام.

__________________

(١) الأعراف / ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٢) توفّي سنة (٣٦٥ ق)

٤٤٥

ثم قال الرازي : وهذا جواب في غاية الصحّة والسّداد ، ثم ذكر بقية الوجوه ، فراجع (١).

وقد حمل العلّامة جار الله الزمخشري آية عرض الأمانة على السماوات والأرض (الأحزاب : ٧٢) على ضرب من التمثيل ، ثم قال : ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن إلّا على طرقهم وأساليبهم ؛ من ذلك قولهم : لو قيل للشحم : أين تذهب؟ لقال : أسوي العوج. وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات (٢).

ويروي ابن كثير ـ في تفسير قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ ...)(٣) بإسناده إلى ابن جريج عن عطاء ـ قال : هذا مثل ، يعني أنها ضرب مثل لا قصّة وقعت (٤).

رابعا : رواج الإسرائيليات في هذا العهد.

ففي هذا الدور دخل كثير من الإسرائيليات في التفسير ؛ وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب ، في الإسلام في هذا العهد بالذات ، وكان لا يزال عالقا بأذهانهم من الأقاصيص وأساطير أسلافهم ، ما يعود إلى بدء الخليقة وأسرار

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ١٥ ، ص ٨٦ ـ ٨٧.

(٢) الكشّاف ، ج ٣ ، ص ٥٦٥.

(٣) البقرة / ٢٤٣.

(٤) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٢٩٨.

٤٤٦

الوجود وبدء الكائنات وأخبار الأمم الخالية وأحاديث الأنبياء ، وكثير من القصص الأسطورية التي جاءت في التوراة ، وسائر الكتب السالفة.

وكانت النفوس ميّالة لسماع تفاصيل ما جاء إجمالها في القرآن الكريم ، ولا سيّما فيما يعود إلى أحداث يهودية أو نصرانية ، ممّا جاء في العهدين. فكان المسلمون يستمعون إلى أقاصيص هؤلاء ، ويصغون مسامعهم إلى تلكم الأساطير.

وقد تساهل التابعون ـ رغم مناهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الكرام ـ فزجّوا في التفسير بكثير من هذه الإسرائيليات ، بدون تحرّ وتمحيص. وأكثر من روى عنه ذلك من مسلمي أهل الكتاب : عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، وعبد الملك بن جريج ، وأضرابهم.

الأمر الذي يؤخذ على التابعين مساهلتهم هذه ، كما هو مأخوذ على من جاء بعدهم ، وسار على نفس المنوال من غير رويّة وتحقيق (١).

وسوف نستعرض هذه الناحية عرضا موسّعا ، عند الكلام عن أسباب الوهن في التفسير بالمأثور ، وأنّ الروايات التفسيرية غير نقية ، هي بحاجة إلى تنقيح.

منابع التفسير في عهد التابعين

كان التلقّي في التفسير هو العنصر الأولى ، والأداة المفضّلة لفهم كتاب الله تعالى ، ذلك العهد ؛ إذ كان التابعون يسيرون في أثر الصحابة وكانوا تربيتهم بالذّات ، فانتهجوا منهجهم بطبيعة الحال. غير أنهم أخذوا بالتوسع والتفتّح إلى آفاق واسعة الأرجاء ، حسب توسع رقعة الإسلام ودخول الأقوام في دين الله

__________________

(١) راجع : أحمد أمين فجر الإسلام ، ص ٢٠٥ والتفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٣٠.

٤٤٧

أفواجا ، ومعهم علومهم وآدابهم وثقافاتهم ، كما نبّهنا. فازداد التبصّر والتفتّح إلى آفاق أوسع ، والتطلّع إلى أرجاء أبعد.

ولا شك أنه كلّما ازداد علم الرجل وتنوّعت ثقافاته وترامت معارفه ، فإنه يزداد تبصّره ويتوسّع تفكيره وتفهّمه للأمور ، مهما كان نمطها ، وأيّا كان نسجها.

وبعد ، فيمكننا تنويع المصادر التي كان التابعون يعتمدونها لفهم معاني كلام الله تعالى ، وتبيين مقاصده ومرامينه ، إلى الأمور التالية :

أوّلا : مراجعة الكتاب نفسه ؛ حيث القرائن والدلائل في كلام أيّ متكلّم ، خير شهود على كشف مراده والوقوف على مرامه. وهكذا القرآن ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ثانيا : ملاحظة ما تلقّوه من أقوال الصحابة وأحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن تبيين معاني الكتاب.

حيث الأسئلة حول لفيف من معاني القرآن كانت كثيرة على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان عليه البيان ، كما كان عليه البلاغ. ومن تلك الأسئلة وأجوبتها كانت وفرة وفيرة مدّخرة على أيدي الصحابة ، يؤدّونها إلى الذين اتّبعوهم بإحسان.

وقد تقدم حديث مسروق بن الأجدع ، ووصفه لعلوم الأصحاب المتلقّاة من النبيّ الكريم.

ثالثا : مراعاة أسباب النزول والمناسبات المستدعية لنزول آية أو آيات أو سورة ونحوها ؛ حيث كانت في متناولهم القريب ، وهم الذين نقلوها إلينا فيما نقلوه من الآثار والأخبار.

وحيث كانت الآيات النازلة بشأنها ناظرة إلى جوانب وخصوصيات تحتضنها تلك الحوادث والمناسبات ، فإنها بدورها تصبح خير دلائل على رفع كثير من الإبهام الوارد في ألفاظ تلكم الآيات بالذات. وكان أصحاب ذلك العهد

٤٤٨

(عهد التابعين) إمّا حضروا تلك المشاهد بأنفسهم ، أو بإمكانهم الملاقاة مع شهود القضايا ، والأخذ منهم مشافهة.

وهذا من أكبر المصادر لرفع الإبهام عن وجه كثير من الآيات ، وكان في متناولهم القريب.

رابعا : مراجعة اللغة في صميمها ، ولا سيّما أشعار العرب ، وهي ديوانها ودائرة معارفها ، للوقوف على مزايا اللغة وأساليب كلام العرب. والقرآن نزل على نمطها وعلى نفس نسجها في التعبير والبيان ، وإن كان في أسلوب أرقى وعلى نسج أقوى.

وكان ابن عباس يوصي أصحابه بل يحضّهم على مراجعة أشعار العرب للتعرّف على غريب القرآن. ولقد عدّ زعيم هذه الناحية من التفسير بالخصوص ، حتى لقد قيل بشأنه : إنه هو الذي أبدع الطريقة اللغويّة لتفسير القرآن (١).

كان يقول : الشعر ديوان العرب ، فإذا خفى علينا حرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب ، رجعنا إلى ديوانها ، فالتمسنا ذلك منه.

وأيضا قوله : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر ، فإن الشعر ديوان العرب (٢).

خامسا : أنحاء العلوم والمعارف التي تعرّف إليها المسلمون ، بفضل التوسع في رقعة الإسلام. وازدحام وفود الآداب والثقافات المستوردة عليهم ، يحملها أمم ذووا حضارات عريقة ، كانوا يدخلون في دين الله أفواجا.

وقد أسلفنا أنّ التوسّع في الاطلاع على العلوم والمعارف ، مهما كان نمطها ،

__________________

(١) المذاهب الإسلامية لتفسير القرآن ، ص ٦٩. التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٧٥.

(٢) الإتقان ، ج ١ ، ص ١١٩.

٤٤٩

فإنه يزيد في قوّة الفهم وإمكان لمس حقائق الأمور ، ويرتفع مستوى قدرة الاستنباط بدرجات ، لا يبلغها من أعوزه النيل منها بنسبة إعوازه.

وهكذا استفاد التابعون ـ ومن بعدهم ـ بالعلوم والمعارف المستجدّة ، والمستزادة مع تقادم الأيام ، استفادوا بها في فهم معاني كلام الله تعالى ، وقد (أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١).

سادسا : اعتمادهم على ما فتح الله عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى ، وقد روت لنا كتب التفسير كثيرا من أقوال هؤلاء التابعين في التفسير ، قالوها بطريق الرأي والنظر والاجتهاد ، ممّا لم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أحد الصحابة. فكانوا يعملون النظر فيها ، بإمعان النظر في دلائل وقرائن كانت تساعدهم على فهم الآية ، ممّا مرّت الإشارة إلى بعضها ، وغير ذلك من أدوات الفهم ، ووسائل البحث والتنقيب.

الأمر الذي ساعد على فتح باب الاجتهاد بشأن التفسير ، وفي سائر شئون الشريعة ، واستمرّت الطريقة المرضيّة عبر التاريخ ، وقد نوّهنا عنها.

سابعا : استنادهم إلى نصوص من كتب العهدين ، ممّا جاء إجماله في القرآن ، وتعرّضت لتفاصيلها كتب السالفين ، ممّا لم يحتمل فيه التحريف. كجوانب من تاريخ أنبياء بني إسرائيل وسيرة ملوكهم ، وما شابه من قصصهم وأخبارهم.

وذلك ككثير من قصص إبراهيم الخليل ولوط ويوسف. ففي التوراة ما في القرآن من تفاصيل أخبارهم ، سوى أنّ القرآن جاء بالصحيح المعقول منها ، مختزلا ، بينما في التوراة صور محرّفة ومرفوضة لدى العقل السليم ، سوى بعض لقطات وخطفات جاءت سليمة ، يمكن الاستفادة منها أحيانا. الأمر الذي كان

__________________

(١) الفرقان / ٦.

٤٥٠

نبهاء الصحابة والتابعين يعنونه بالذات (١) ، دون الاستناد المطلق من غير تحرّ أو تحقيق (فَبَشِّرْ عِبادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢).

أما الأخذ من أهل الكتاب ، والانصياع لهم في كل ما يسطّرون ، فهذا كان ممّا يتحاشاه الصحابة والتابعون ، نعم سوى شراذم من غوغاء العوام ، أو أهل الدغل من الساسة الحاكمة على البلاد ، على ما نسرد قصّتهم في فصله القادم إن شاء الله.

فالذي ذكر الذهبي ، من اعتماد التابعين ، في فهم معاني كتاب الله تعالى ، على ما أخذوه من أهل الكتاب ممّا جاء في كتبهم ، (٣) فإنه ـ على إطلاقه ـ مرفوض. وقد فنّدنا مزاعم الرجوع إلى أهل الكتاب ، فيما حسبوه بشأن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس.

__________________

(١) وهذا نظير ما وقف عليه المولى أبو الكلام آزاد ، بشأن «ذي القرنين» من الدلائل في التوراة ، أنه كورش ، الملك الفارسي الذي قام بإعادة بناء البيت وتحريره وإيراد أبناء إسرائيل ، الذين كان قد اضطهدهم الطاغية بخت نصر ملك بابل يومذاك.

(٢) الزمر / ١٧.

(٣) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٩٩.

٤٥١
٤٥٢

المرحلة الرابعة

دور أهل البيت في التفسير

* العترة إلى جنب القرآن

* دورهم في التفسير دور تربية وتعليم

* خلط التفسير بالتأويل عن بعض

* الوضع عن لسان الأئمة

* نماذج من تفاسير أهل البيت

٤٥٣
٤٥٤

دور أهل البيت في التفسير

العترة إلى جنب القرآن

(هم ورثة الكتاب وحملته وخزنة علومه ومعارفه)

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)(١)

أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن العترة الطاهرة ، إلى جنب كتاب الله العزيز الحميد ، وجعلهما خلفه الباقي في أمته. وعبّر عنهما بالثقلين ـ محرّكة : كل شيء نفيس مصون (٢) ولن يفترقا حتى يردا عليه الحوض. كناية عن تواصل مسيرهما حتى انقضاء العالم. يتداومان علمين للأمّة ما أن تمسكوا بهما لن يضلّوا أبدا.

حديث مستفيض ، بلفظ «كتاب الله وعترتي» أو «كتاب الله وأهل بيتي» أو

__________________

(١) فاطر / ٣٢.

(٢) قال السيد محمد مرتضى الزبيدي : الثقل ـ محركة ـ : متاع المسافر وحشمه. وكلّ شيء خطير نفيس مصون ، له قدر ووزن ، ثقل عند العرب. قال الفيروزآبادي : ومنه حديث «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي». قال الزبيدي : جعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما وتفخيما لهما. قال ثعلب : سماهما ثقلين ؛ لأنّ الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل. (تاج العروس بشرح القاموس ، ج ٧ ، ص ٢٤٥)

٤٥٥

بالجمع بين التعبيرين «عترتي أهل بيتي» ليكون أحدهما تبيينا للآخر وتوضيحا له. وعلى التعابير ، فهو متفق على صحته وإحكام طرقه وأسانيده.

قال العلامة الأميني : هذا الحديث ممّا اتفقت الأمّة والحفّاظ على صحته (١).

وقال الحافظ ابن حجر الهيثمي : ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابيّا (٢).

__________________

(١) الغدير ، ج ٦ ، ص ٣٣٠ (ط بيروت) بالهامش رقم ٤.

(٢) الصواعق المحرقة باب وصية النبيّ بشأن أهل البيت ، ص ١٣٦.

وإليك الأهمّ من مصادر هذا الحديث في الصحاح المعروفة :

أ ـ روى مسلم في صحيحه (ج ٧ ، ص ١٢٣) في باب فضائل علي من كتاب فضائل الصحابة ، بعدة أسانيد عن زيد بن أرقم ، قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغدير خم ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ، ثم قال :

«أمّا بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين ، أوّلهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ... ثم قال : وأهل بيتي. أذكّركم الله في أهل بيتي ، قالها ثلاثا.

فسئل زيد عمّن يكون أهل بيته؟ قال : من حرمت عليه الصدقة ، هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس ، ونفى أن تكون نساؤه منهم. رواه مسلم هنا بأربعة طرق كلها صحاح.

ب ـ وروى الترمذي في سننه (ج ٧ ، ص ٦٦٥) باب مناقب أهل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإسناده عن جابر بن عبد الله ، قال : رأيت رسول الله ـ ص ـ في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، يقول : «يا أيها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

وبإسناده أيضا عن زيد بن أرقم عنه ـ ص ـ : «إني تارك فيكم ما أن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن

٤٥٦

__________________

يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما. الحديث رقم ٣٧٨٦ و ٣٧٨٨.

ج ـ ورواه الدارمي في سننه (ج ٢ ، ص ٤٣٣) بإسناده إلى زيد بن أرقم ، كما في صحيح مسلم.

د ـ وروى أحمد في مسنده (ج ٣ ، ص ١٤) بإسناده إلى أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله ـ ص ـ : «إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض. وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ... وفي ص ١٧ : فانظروني بم تخلفوني فيهما. وراجع : ص ٢٦ وص ٥٩.

وفي ج ٤ ، ص ٣٦٧ عن زيد بن أرقم على ما رواه مسلم ، وكذا في ، ص ٣٧١ إشارة.

وفي ج ٥ ، ص ١٨٢ عن زيد بن ثابت : إني تارك فيكم خليفتين ، وص ١٨٩.

هو أخرج الحاكم في المستدرك (ج ٣ ، ص ١٠٩) عن زيد بن أرقم : «إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله تعالى وعترتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما ... وص ١١٠ و ، ص ١٤٨.

قال الحاكم بشأن الحديث بأسانيده في المواضع الثلاثة : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

و ـ والمتّقي الهندي في كنز العمّال (مؤسّسة الرسالة) ، ج ١ ، ص ٣٨١ رقم ١٦٥٧. وص ٣٨٤ رقم ١٦٦٧.

ز ـ وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء ، ج ٩ ، ص ٦٤.

ح ـ ومرتضى الحسيني الفيروزآبادي في فضائل الخمسة ، ج ٢ ، ص ٤٣ ـ ٥٣.

ط ـ وابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ، ص ١٣٦ وص ٧٥. وفيه أيضا بدل «عترتى» «سنّتي» ، لكنّه لم يسنده إلى أصل وثيق.

ى ـ قال ابن كثير ـ في تفسيره (ج ٤ ، ص ١١٣) ذيل آية المودة في القربى من سورة الشورى.

وقد ثبت في الصحيح أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ في خطبته بغدير خم ـ : «إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي. وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» ، وجعل يسرد أحاديث

٤٥٧

والمستفاد من حديث الثقلين أمور :

أوّلا : لزوم مودّتهم. قال ابن حجر الهيثمى : وفي هذه الأحاديث ، لا سيما قوله ـ ص ـ : انظروا كيف تخلفوني فيهما ، وأوصيكم بعترتي خيرا ، وأذكّركم الله في أهل بيتي» الحث الأكيد على مودّتهم ومزيد الإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم وتأدية حقوقهم الواجبة والمندوبة ، كيف وهم أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا.

قال : وفي قوله ـ ص ـ : «لا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم» دليل على أنّ من تأهّل منهم للمراتب العليّة والوظائف الدينية كان مقدّما على غيره. ويدل عليه التصريح بذلك بشأن قريش ، فأهل البيت النبوي الذين هم غرّة فضلهم ومحتد فخرهم والسبب في تميّزهم على غيرهم ، بذلك أحرى وأحق وأولى ... وأخيرا قال : وصحّ عن أبي بكر أنه قال : ارقبوا محمدا في أهل بيته ، أي احفظوا عهده وودّه في أهل بيته (١).

وعند ذكره لتأويل الآية : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)(٢) أسند إلى أبي سعيد الخدري ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «وقفوهم أنهم مسئولون عن ولاية عليّ». قال : وكأن هذا هو مراد الواحدي بقوله : روى ـ في الآية ـ أنهم مسئولون عن ولاية عليّ

__________________

وردت بنفس التعبير ، قالها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواطن كثيرة ؛ حيث كان يجد مجتمع أصحابه ، ولا سيّما في أخريات سنّي حياته الكريمة.

(١) الصواعق المحرقة ، ص ١٣٦ ـ ١٣٧. والرواية عن أبي بكر هذه أخرجها البخاري في الصحيح ، قال : «ارقبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل بيته» (جامع البخاري ، ج ٥ ، ص ٢٦) باب مناقب قرابة النبيّ ـ ص ـ وأخرجه بأسناد آخر في باب مناقب الحسنين (ج ٥ ، ص ٣٣)

(٢) الصافات / ٢٤.

٤٥٨

وأهل البيت ؛ لأن الله أمر نبيّه أن يعرّف الخلق أنه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجرا إلّا المودة في القربى. والمعنى : أنهم يسألون هل والوهم حقّ الموالاة كما أوصاهم النبيّ ـ ص ـ أم أضاعوها وأهملوها ، فتكون عليهم المطالبة والتبعة (١).

قال الهيثمي : وأشار الواحدي بقوله : «كما أوصاهم» إلى الأحاديث الواردة في ذلك ، وهي كثيرة ، ثم ذكر طرفا منها ، ومن جملتها حديث الثقلين. وذكر متنوّع متونه ، وفي رواية «كتاب الله وسنّتي». وقال : وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب ؛ لأن السنّة مبيّنة له فأغنى ذكره عن ذكرها. قال : والحاصل أنّ الحث وقع على التمسّك بالكتاب وبالسّنة ، وبالعلماء بهما من أهل البيت. وأخيرا قال : ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة.

ملحوظة : قال الهيثمي : إن للحديث طرقا كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيا. وفي بعض تلك الطرق أنه ـ ص ـ قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة ، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الهجرة بأصحابه ، وفي ثالثة أنه قال ذلك غدير خم ، وفي رابعة أنه قال لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف.

قال : ولا تنافي ؛ إذ لا مانع من أنه ـ ص ـ كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها ، اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة (٢).

ثانيا : تداوم إمامتهم ما تداومت أيّام هذه الأمة عبر الأزمان ، وكونهم مراجع الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فهم الشريعة ومعاني القرآن ، مرجعيّة عاصمة ،

__________________

(١) أخرجه الحافظ الكبير الحاكم الحسكاني بعدة طرق. راجع : شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ١٠٦ ـ ١٠٨.

(٢) الصواعق المحرقة ، ص ٨٩ ـ ٩٠.

٤٥٩

نظير عصمة القرآن ، ومرجعيّته عبر الخلود.

قال السيد الأمين العاملي ـ بعد ذكر أحاديث الثقلين التي رواها أجلّاء علماء السنّة وأكابر محدّثيهم ، في صحاحهم بأسانيدهم المتعدّدة ، واتفق على روايتها الفريقان :

«دلت هذه الأحاديث على عصمة أهل البيت من الذنوب والخطأ ، لمساواتهم فيها بالقرآن الثابت عصمته ، في أنهم أحد الثقلين المخلّفين في الناس ، وفي الأمر بالتمسّك بهم كالتمسّك بالقرآن. ولو كان الخطاء يقع منهم لما صحّ الأمر بالتمسّك بهم الذي هو عبارة عن : جعل أقوالهم وأفعالهم حجّة. وفي أن المتمسّك بهم لا يضلّ كما لا يضلّ المتمسّك بالقرآن. ولو وقع منهم الذنب أو الخطأ لكان المتمسّك بهم يضلّ. وأن في اتّباعهم الهدى والنور كما في القرآن ، ولو لم يكونوا معصومين لكان في اتّباعهم الضلال. وفي أنهم حبل ممدود من السماء إلى الأرض كالقرآن ، وهو كناية عن أنهم واسطة بين الله تعالى وبين خلقه ، وأنّ أقوالهم عن الله تعالى ، ولو لم يكونوا معصومين لم يكونوا كذلك.

وفي أنهم لن يفارقوا القرآن ولا يفارقهم مدة عمر الدنيا. ولو أنهم أخطئوا أو أذنبوا لفارقوا القرآن وفارقهم.

وفي عدم جواز مفارقتهم بتقدّم عليهم بجعل نفسه إماما لهم ، أو تقصير عنهم وائتمام بغيرهم ، كما لا يجوز التقدّم على القرآن بالإفتاء بغير ما فيه ، أو التقصير عنه باتّباع أقوال مخالفيه.

وفي عدم جواز تعليمهم وردّ أقوالهم ، ولو كانوا يجهلون شيئا لوجب تعليمهم ، ولم ينه عن ردّ قولهم.

قال : ودلّت هذه الأحاديث أيضا على أن منهم من هذه صفته في كل عصر وزمان بدليل قوله ـ ص ـ : إنّهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض ، وأن اللطيف

٤٦٠