التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

على أنه تفسير أبي العالية (١).

٣٠ ـ جابر الجعفي

هو جابر بن يزيد بن الحارث بن عبد يغوث الجعفي أبو عبد الله ، ويقال أبو يزيد الكوفي عربي صميم ، روى عن عكرمة وعطاء وطاوس وخيثمة والمغيرة ابن شبيل وجماعة. وعنه شعبة والثوري ومسعر وغيرهم. توفّي سنة (١٢٨).

ذكر ابن حجر عن أبي نعيم عن الثوري : إذا قال جابر حدّثنا وأخبرنا فذاك. وقال ابن مهدي عن سفيان : ما رأيت أورع في الحديث منه. وقال ابن عليّة عن شعبة : جابر صدوق في الحديث. وقال يحيى بن أبي بكير عن شعبة : كان جابر إذا قال : حدّثنا وسمعت ، فهو من أوثق الناس. وعن زهير بن معاوية : كان إذا قال : سمعت أو سألت ، فهو من أصدق الناس. وقال وكيع : مهما شككتم في شيء فلا تشكّوا في جابر ثقة (٢).

قال عادل نويهض : تابعي ، فقيه إمامي ، من أهل الكوفة. كان واسع الرواية غزير العلم بالدين. أثنى عليه بعض رجال الحديث ، واتّهمه آخرون بالقول بالرجعة. مات بالكوفة ، له «تفسير القرآن» (٣). وهكذا قال الزركلي في الأعلام (٤).

وعدّه الطوسي في رجال الإمامين محمد بن عليّ الباقر ، وجعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام (٥).

__________________

(١) معجم مصنفات القرآن الكريم ، ج ٢ ، ص ١٦٦ رقم ١٠٠٤.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٤٧.

(٣) معجم المفسرين ، ج ١ ، ص ١٢٣.

(٤) الأعلام للزركلي ، ج ٢ ، ص ٩٢.

(٥) رجال الطوسي ، ص ١١١ و ١٦٣.

٤٢١

وقال السيد الصدر بشأنه : جابر بن يزيد الجعفي إمام في الحديث والتفسير ، أخذهما عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام (١).

وقال النجاشي : جابر بن يزيد ، أبو عبد الله ، وقيل : أبو محمد الجعفي ، عربي قديم ، لقي أبا جعفر وأبا عبد الله. ومات في أيّامه سنة (١٢٨) ، له كتب منها : التفسير ، ثم ذكر سنده إليه.

وعدّه المفيد في رسالته «العدديّة» ممن لا مطعن فيهم ولا طريق للذّم واحد منهم. وعدّه ابن شهرآشوب من خواصّ أصحاب الصادق عليه‌السلام. وروى العلامة بإسناده إلى الحسين بن أبي العلاء : أنّ الصادق عليه‌السلام ترحّم عليه ، وقال : إنه كان يصدق علينا.

وروى الكشّي بإسناده إلى المفضل بن عمر الجعفي ، قال : سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن تفسير جابر. فقال : لا تحدّث به السفلة فيذيعونه. (٢) وهذا يدل على أنّ تفسيره كان فيه شيء من الارتفاع. وهناك روايات تدل على أنه كان يحمل أسرارا من آل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ثم رفضه القوم بالغلوّ والرفض ، ولكن مع صدق الحديث والورع في الإيمان. وكفى به مدحا وإخلاصا في الدين.

قال النجاشي : وكان في نفسه مختلطا. وهذا يعني الاعتلاء في عقيدته بشأن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام فحسبوه غلوّا. روى أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي بإسناده إلى ابن أبي عمير عن عبد الحميد بن أبي العلاء ، قال : دخلت المسجد حين قتل الوليد ، فإذا الناس مجتمعون ، فأتيتهم فإذا جابر الجعفي عليه

__________________

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ، ص ٣٢٦.

(٢) راجع : معجم رجال الحديث لسيّدنا الخوئي ، ج ٤ ، ص ١٧ ـ ٢١.

٤٢٢

عمامة خزّ حمراء ، وإذا هو يقول : حدّثني وصيّ الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن عليّ عليه‌السلام ... قال : فقال الناس : جنّ جابر ، جنّ جابر (١).

ومن ثم ، قال جرير : لا استحلّ أن أروي عن جابر ، كان يؤمن بالرجعة. وقال أبو الأحوص : كنت إذا مررت بجابر الجعفي سألت ربّي العافية. إلى أمثال ذلك ممّا لم يتحمله عقول العامّة (٢).

ومن ثمّ كان أبو جعفر الباقر عليه‌السلام يوصيه بأن لا يذيع من أسرارهم شيئا ولا يحدّث الناس بما لا تطيقه عقولهم. قال له : يا جابر ، حديثنا صعب مستصعب ، لا يتحمله إلّا مؤمن ممتحن (٣).

وإلّا فلا غمز في الرجل ، كما قال شعبة : جابر صدوق في الحديث (٤).

ولسيدنا الأستاذ الخوئي ـ دام ظلّه ـ كلام يشيد به من شأن جابر ، لشهادة الأجلّاء بجلالة قدره وعلوّ مرتبته ، (٥) وكفى.

قيمة تفسير التابعي

لقد اهتم أرباب التفسير بالمأثور من تفاسير الأوائل ، ولا سيّما الصحابة والتابعين لهم بإحسان. ولم يكن ذلك منهم إلّا عناية بالغة بشأنهم وبمواضعهم الرفيعة من التفسير.

إنّ ذلك الحجم المتضخّم من التفسير المنقول عن السلف الصالح ، وأكثرها

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال (ط المصطفوي) ، ص ١٩٢ رقم ٣٣٧.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٤٩.

(٣) اختيار معرفة الرجال ، ص ١٩٣ برقم ٣٤١.

(٤) تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٤٧.

(٥) معجم رجال الحديث ، ج ٤ ، ص ٢٥.

٤٢٣

الساحق من التابعين. بعد أن كان المأثور عن ابن عباس منقولا عن طريق متخرّجي مدرسته التابعين أيضا. إنّ ذلك إن دلّ فإنما يدلّ على مبلغ الاهتمام بتفاسيرهم ، والإجلال بمقامهم الرفيع. وليس إلّا لأنّهم أقرب عهدا بنزول الوحي ، وأطول باعا في الإحاطة بأسباب النزول ، وأسهل تناولا لفهم معاني القرآن الكريم. فإن كان القرآن قد نزل بلغة العرب وعلى أساليب كلامهم ، فإنّ الأوائل أصفى ذهنا وأقرب تناوشا لتصاريف اللغة ومجاري ألفاظها وتعابيرها. إنّهم أعرف بمواضع اللغة في عهد خلوصها ، وأطول يدا في البلوغ إلى مجانيها من ثمرات وأعواد.

كما أنّهم أمسّ جانبا بأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعلماء من صحابته الأخيار. فهم أقرب فهما لأبعاد الشريعة في أصولها والفروع ، والإحاطة بجوانب الكتاب والسنّة والسيرة الكريمة.

فكان الاهتمام بشأنهم ، والرجوع إلى آرائهم ونظراتهم ، ومعرفة أقوالهم في التفسير ، إنما هو لمكان تقدمهم وسبقهم في الحيازة على قصب السبق في هذا المضمار ، شأن كل متأخّر في التفسير يرجع إلى آراء سلفه. لا ليتقلدها أو يتعبّد بها ، بل ليستعين بها ويستفيد في سبيل الوصول إلى أقصاها ، والصعود على أعلاها. فكان تمحيصا وتحقيقا في الاختيار ، لا تقليدا ، أو تعبّدا برأي.

ولا شكّ أنّ الإحاطة بآراء العلماء سلفا وخلفا ، لهي من أكبر وسائل التوسعة في الفكر والإجالة في النظر ، وبالتالي أكثر توسعا في العلوم والمعارف والصعود على مدارج الفضيلة والكمال. هكذا تقدّم العلم وازدهرت معارف الإنسان.

فلآراء السلف قيمتها ووزنها في سبيل الرقي على مدارج الكمال. ولولاه لتوقّف العلم على نقطته الأولى ، ولم يخط خطواته تلك الواسعة ، في مسيرته هذه الحثيثة ، نحو التكامل والازدهار.

٤٢٤

قال الإمام بدر الدين الزركشي : وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد. واختار ابن عقيل (١) المنع. وحكوه عن شعبة (٢).

لكن عمل المفسرين على خلافه ، وقد حكوا في كتبهم أقوالهم ، كالضحّاك ابن مزاحم (١٠٥) وسعيد بن جبير (٩٥) ومجاهد بن جبر (١٠٣) وقتادة بن دعامة (١١٧) وأبي العالية الرياحي (٩٠) والحسن البصري (١١٠) والربيع بن أنس (١٣٩) ومقاتل بن سليمان (١٥٠) وعطاء بن أبي سلمة الخراساني (١٣٥) ومرّة بن شراحيل الهمداني (٧٦) وعلي بن أبي طلحة الوالبي (١٤٣) ومحمد بن كعب القرظي (١١٩) وأبي بكر الأصمّ عبد الرحمن بن كيسان ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدّي الكبير (١٢٧) وعكرمة مولى ابن عباس (١٠٥) وعطيّة بن سعد بن جنادة العوفي (١١١) وعطاء بن أبي رباح (١١٤) وعبد الله بن زيد بن أسلم (١٦٤).

ومن المبرّزين في التابعين ، الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير. ثم يتلوهم عكرمة والضحّاك.

قال : وهذه تفاسير القدماء المشهورين ، وغالب أقوالهم تلقّوها من الصحابة. ولعل اختلاف الرواية عن أحمد إنّما هو فيما كان من أقوالهم وآرائهم (٣).

قلت : إن أريد التعبّد بأقوالهم ، فلا. ولعل المانعين يريدون ذلك ، ولكنّا ذكرنا أنّ اعتبار آرائهم ونظراتهم إنّما كان لأجل تقدّمهم ، وكونهم أقرب عهدا إلى نزول

__________________

(١) هو عبد الله بن محمد بن عقيل الهاشمي : ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة. كان كثير العلم توفّي سنة (١٤٥)

(٢) هو شعبة بن الحجاج أبو بسطام الواسطي ثم البصري أجمع الناس حديثا وأوثقهم رواية. توفّي سنة (١٦٠)

(٣) البرهان للزركشي ، ج ٢ ، ص ١٥٨.

٤٢٥

الوحي ، وأصفى ذهنا لفهم معانيه. وكان الرجوع إليهم لأجل التمحيص والنقد ، لا التعبّد المحض.

ومن ثمّ اهتم القدماء بضبط تفاسيرهم وجمعها وتهذيبها ، وسار على منهاجهم المتأخّرون ولا يزال.

قال الحافظ أبو أحمد ابن عديّ : للكلبي (١) أحاديث صالحة ، وخاصّة عن أبي صالح (٢) ، وهو معروف بالتفسير ، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشيع فيه. وبعده مقاتل بن سليمان (١٥٠) إلّا أنّ الكلبي يفضّل عليه.

ثم بعد هذه الطبقة ألّفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين ، كتفسير سفيان بن عيينة (١٩٨) ووكيع بن الجراح (١٩٦) وشعبة بن الحجاج (١٦٠) ويزيد بن هارون (٢٠٦) والمفضل بن صالح (١٨١) وعبد الرزاق بن همّام الصنعاني (٢١١) وإسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه (٢٣٨) وروح بن عبادة (٢٠٥) ويحيى بن قريش ، ومالك بن سليمان الهروي ، وعبد بن حميد بن نصر الكشّي (٢٤٩) وعبد الله بن الجراح (٢٣٧) وهشيم بن بشير (٢٨٣) وصالح ابن محمد اليزيدي ، وعلي بن حجر بن أياس السعدي (٢٤٤) ويحيى بن محمد ابن عبد الله الهروي ، وعلي بن أبي طلحة (١٤٣) وابن مردويه أحمد بن موسى الأصبهاني (٤٠١) وسنيد بن داود (٢٢٠) والنسائي ، وغيرهم. ووقع في مسند

__________________

(١) هو أبو المنذر هشام بن أبي النضر محمد بن السائب الكلبي الكوفي. كان أعلم الناس بعلم الأنساب. كان من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام. وكان إلى جنب علمه بالأنساب عالما بالتفسير كبيرا. توفّي سنة (١٤٦)

(٢) هو باذام مولى أمّ هانئ بنت أبي طالب. وهو صاحب التفسير الذي رواه عن ابن عباس.

٤٢٦

أحمد بن حنبل والبزار ومعجم الطبراني وغيرهم ، كثير من ذلك. ثم إنّ محمد بن جرير الطبري (١) جمع على الناس أشتات التفاسير ، وقرّب البعيد ، وكذلك عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، وأضرابهم (٢).

قال جلال الدين السيوطي : وكتاب ابن جرير الطبري أجلّ التفاسير وأعظمها ، ثم ابن أبي حاتم ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن مردويه ، وأبو الشيخ بن حيّان ، وابن المنذر ، في آخرين. وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم ، وليس فيها غير ذلك. إلّا ابن جرير ، فإنّه يتعرّض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض ، والإعراب والاستنباط ، فهو يفوقها بذلك.

ثم قال : فإن قلت : فأيّ التفاسير ترشد إليه ، وتأمر الناظر أن يعوّل عليه؟

قلت : تفسير الإمام أبي جعفر ابن جرير الطبري ، الذي أجمع العلماء المعتبرون على أنه لم يؤلّف في التفسير مثله. قال النوري ـ في تهذيبه ـ : كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنّف أحد مثله.

قال : وقد شرعت في تفسير جامع لجميع ما يحتاج إليه ، من التفاسير المنقولة ، والأقوال المقولة ، والاستنباطات ، والإشارات ، والأعاريب ، واللغات ، ونكت البلاغة ، ومحاسن البدائع وغيره ، ذلك بحيث لا يحتاج معه إلى غيره أصلا ، وسمّيته بمجمع البحرين ومطلع البدرين. وهو الذي جعلت هذا الكتاب (الإتقان) مقدمة له. والله أسأل أن يعين على إكماله ، بمحمد وآله (٣).

__________________

(١) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري قال الذهبي : الإمام الجليل المفسر ، ثقة صادق ، فيه تشيّع يسير ، وموالاة لا تضرّ. (ميزان الاعتدال ، ج ٣ ، ص ٤٩٨ ـ ٤٩٩ ، رقم ٧٣٠٦)

(٢) البرهان للزركشي ، ج ٢ ، ص ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٣) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢١٢ ـ ٢١٤.

٤٢٧

وهكذا ذكر في مقدمة الإتقان : أنه جعله مقدّمة للتفسير الكبير الذي شرع فيه ، وسمّاه بمجمع البحرين ومطلع البدرين ، الجامع لتحرير الرواية وتقرير الدراية (١).

لكنه لم يذكر أنه أتمّه وأخرجه للنشر أم لا. (٢) والظاهر أنه لم يتمّه ؛ إذ لا أثر له إطلاقا. نعم أخرج كتابه «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» حافلا بأقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم ، مستوعبا ومستقصيا كل ما ورد بذلك من نقول وروايات ؛ وبذلك كان أجمع كتاب في هذا الباب (التفسير النقلي) وليس فيه شيء من تقرير الدراية أصلا ، وقد أصبح بذلك مخزنا كبيرا يجمع في طيّه من كل رطب ويابس ، والاعتبار فيها إنما هو بذكر السند ، وهو المعيار لتمييز الصحيح عن السقيم عند العلماء.

وقال أحمد بن عبد الحليم : إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنّة ، ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمّة في ذلك إلى أقوال التابعين :

كمجاهد بن جبر ، فإنه كان آية في التفسير ، كما قال محمد بن إسحاق : حدّثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. وقال : ما في القرآن آية إلّا وقد سمعت فيها شيئا. وعن ابن أبي مليكة قال : رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه ، فيقول له ابن عباس : اكتب ، حتى سأله عن التفسير كلّه ؛ ولهذا كان سفيان الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد

__________________

(١) الإتقان ، ج ١ ، ص ١٤.

(٢) كشف الظنون لحاجي خليفة ، ج ٢ ، ص ١٥٩٩.

٤٢٨

فحسبك به.

وكسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري ، ومسروق بن الأجدع ، وسعيد بن المسيّب ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس (١٣٩) البصري الخراساني ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، وغيرهم ، من التابعين وتابعيهم ، ومن بعدهم (١).

وقال : أعلم الناس بالتفسير أهل مكة ؛ لأنهم أصحاب ابن عباس ، كمجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاوس ، وأبي الشعثاء ، وسعيد بن جبير وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود ؛ ومن ذلك ما تميّزوا به على غيرهم. وعلماء أهل المدينة في التفسير ، مثل زيد بن أسلم (١٣٦) الذي أخذ عنه التفسير مالك ، وكذا ابنه عبد الرحمن (٢).

وعدّ السيوطي من مبرّزي التابعين مجاهدا ، قال خصيف : كان أعلمهم بالتفسير ، ولهذا علّى تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم ـ كما قال ابن تيميّة ـ وكان غالب ما أورده الفريابي في تفسيره عنه.

ومنهم سعيد بن جبير. قال الثوري : خذوا التفسير من أربعة : عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك. وقال قتادة : كان أعلم التابعين أربعة : كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان عكرمة أعلمهم بالسير ، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام ، وكان أعلمهم بالتفسير سعيد بن جبير.

ومنهم عكرمة مولى ابن عباس. قال الشعبي : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من

__________________

(١) مقدمته في أصول التفسير ، ص ٤٩ ـ ٥٠.

(٢) مقدمته في أصول التفسير ، ص ٢٣ ـ ٢٤.

٤٢٩

عكرمة. وكان ابن عباس يجعل في رجليه الكبل ، يعلّمه القرآن والسّنن.

ومنهم الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطاء بن أبي سلمة الخراساني ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبو العالية ، والضحّاك ، وعطيّة ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، ومرّة الهمداني ، وأبو مالك.

ويليهم الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، (١) في آخرين. فهؤلاء قدماء المفسّرين ، وغالب أقوالهم تلقّوها عن الصحابة.

ثم بعد هذه الطبقة ألّفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين ، كتفسير سفيان بن عيينة ، ووكيع بن الجرّاح ، وشعبة بن الحجاج ، ويزيد بن هارون ، وعبد الرزاق ، وآدم بن أبي أياس ، وإسحاق بن راهويه ، وروح بن عبادة ، وعبد بن حميد ، وسنيد ، وأبي بكر ابن أبي شيبة وآخرين (٢).

هذا ، وقد تعلّل بعضهم في اعتبار ما ورد من تفاسير التابعين ؛ إذ ليس لهم سماع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي من آرائهم ، ويجوز عليهم الخطاء ، كما لم ينصّ على عدالتهم كما نصّ على عدالة الصحابة. فقد نقل عن أبي حنيفة أنّه قال : ما جاء عن رسول الله فعلى الرأس والعين ، وما جاء عن الصحابة تخيّرنا ، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.

وقال شعبة بن الحجاج : أقوال التابعين ليست حجة ، فكيف تكون حجة في التفسير؟!

__________________

(١) توفّي سنة (١٨٢) قال ابن خزيمة كان من أهل العبادة والتقشّف ، ولم يكن من أجلاس الحديث. (تهذيب التهذيب ، ج ٦ ، ص ١٧٧ ـ ١٧٩)

(٢) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢١٠ ـ ٢١٢.

٤٣٠

وقد عرفت عن أحمد روايتين ، احداهما بالقبول ، والأخرى بالرفض.

قال الأستاذ الذهبي : والذي تميل إليه النفس ، هو أنّ قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به ، إلّا إذا كان ممّا لا مجال للرأي فيه ، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة. فإن ارتبنا فيه ، بأن كان يأخذ من أهل الكتاب ، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه. أمّا إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعدّاه إلى غيره (١).

قلت : إن كان أريد التعبّد بأقوال التابعين والتسليم لآرائهم ، فهذا لا وجه له ، ولا مبرّر لذلك ، فإنهم ـ كما قال أبو حنيفة ـ رجال ونحن رجال.

لكن مقصود البحث غير ذلك ، وإنما هو الاعتبار العقلاني ، بالنظر إلى أسبقيّتهم وأقربيّتهم إلى منابع الوحي ومهبط التنزيل ، وأمسّ بجوانب الشريعة ، وأقرب تناولا إلى أعتاب أعلام الصحابة والأئمّة الهداة ، كما نبّهنا ، فضلا عن أنهم أعرف بمواضع اللغة وأساليب العرب الفصحى ، ممّن نزل القرآن بلغتهم وعلى أساليب كلامهم المعروف.

فكانت آراؤهم ونظراتهم المستنبطة من أصول متينة ، المستقاة من مناهل صافية وضافية ، من خير الوسائل السليمة لفهم معاني القرآن الكريم ؛ فهي بالاستعانة بها والاستفادة منها أقرب منها إلى التعبّد والتقليد.

وقد عرفت أن جلّ التابعين من متخرّجي مدارس الصحابة الأوّلين كعبد الله ابن مسعود ، وابن عباس ، الذي كان هذا بدوره متخرّجا من مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام. فجملة علومهم وأصول معارفهم مستندة إلى منابع أصيلة منتهية

__________________

(١) التفسير والمفسّرون ، ج ١ ، ص ١٢٨ ـ ١٢٩.

٤٣١

إلى مصدر الوحي الأمين ، الأمر الذي يجعل الفرق واضحا بين من كان شأنهم هذا ، وبين من كان مستقى علمه بعيد المنال ، ينتهي إليه بوسائط كثيرة ، وفي جهد بليغ. كما هي حالتنا الحاضرة بالنسبة إلى حالة التابعين ، وهم على مشارف المنابع الأولى يستقون منها بالمباشرة ، وعن متناول قريب.

وعلى أيّ حال ، فإن اجتهاد من كانت المنابع في متناوله القريب ، أصوب وأسدّ وأبين طريقا ، ممن كان على مراحل من منابع الاجتهاد. ولا أقل من كون اجتهاد السابقين دلائل تنير الدرب لاجتهاد اللاحقين ، الأمر الذي لا ينبغي إنكاره.

ميزات تفسير التّابعي

يمتاز التفسير في عهد التابعين بمميّزات ، تفصلها عن تفاسير الصحابة من وجوه :

أولا : التوسّع فيه. فقد تعرّض التابعون لمختلف أبعاد التفسير ، وخاضوا معاني القرآن ، من مختلف الجهات والمناحي. بينما كان تفسير الصحابة مقتصرا على جوانب محدودة من اللغة ، وشأن النزول ، وبعض المفاهيم الشرعية ؛ لرفع ما أبهم على الناس من هذه الجهات فحسب. فقد خطا تفسير التابعي خطوات أوسع ، وفي جوانب أكثر.

ومن ثم فإن التفسير في هذا العهد يشمل جوانب الأدب واللغة في أبعاد مترامية ، وهكذا التاريخ لأمم سالفة ، وأمم معاصرة مجاورة لجزيرة العرب ، تاريخ حياتهم وبلادهم ، على ما وصلت إليهم من أخبارهم ، وحتى بعض لغاتهم وثقافاتهم ، ممّا يمسّ جانب القرآن. وهكذا دخل في التفسير بحوث كلاميّة نشأت ذلك العهد ، وارتبطت مع كثير من آي القرآن بعض الربط ، كآيات الصفات والمبدأ والمعاد ، وما شابه.

٤٣٢

وقد أخذ هذا التوسع بازدياد مطّرد ، وفي أبعاد مستجدّة كلّما توسّعت العلوم والمعارف ، وازداد التعرّف إلى آداب وثقافات كان يملكها أمم يدخلون في دين الله أفواجا ، ومعهم علومهم ومعارفهم ، يحملونها ويجعلونها في خدمة الإسلام والمسلمين ، وكانت لم تزل تتّسع مع اتساع رقعة الإسلام.

ولا يزال حجم التفسير يتضخّم ؛ حيث وفرة العلوم والمعارف المساعدة لحلّ قسط وافر من مشاكل غامضة ، ممّا تحتضنه كثير من آيات كونية أو لافتة إلى خبايا أسرار الوجود. وللعلم والفلسفة في جميع مناحيهما حظهما الأوفر في هذا المجال.

ثانيا : تشكّله وثبته ، ثم تدوينه.

كان التفسير على عهد الصحابة كحاله في عهد الرسالة ، منتثرا على أفواه الرجال ، ومبثوثا بين أظهرهم ، محفوظا في الصدور ، لقصر خطاه وقرب مداه. ومقتصرا على بضع كلمات لبضع آيات ، كانت خافية المفاد ، أو مبهمة المراد حينذاك.

أما وكونه منتظما رتبيا ، ومثبتا ذا تشكيل وتدوين ، فهذا قد حصل أو أخذ في الحصول على عهد التابعين وتابعي التابعين. كان أحدهم يعرض القرآن من بدئه إلى الختم ، على شيخه يقرؤه عليه ، يقف لدى كل آية آية يسأله عنها ويستفهمه معانيها ، أو يستعلم منه مقاصدها ومراميها ، ولا يجوزها حتى يدوّنها في سجلّ ، أو يثبتها في دفتر أو لوح ، كان يحمله معه. وهكذا أخذ التفسير يتشكل ويتدوّن ذلك العهد.

قال مجاهد : عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاث مرّات ، أقف عند كل آية ، أسأله فيم أنزلت ، وكيف نزلت. قال ابن أبي مليكة : رأيت مجاهدا يسأل ابن

٤٣٣

عباس عن تفسير القرآن ، ومعه ألواحه ، فيقول له ابن عباس : اكتب ، حتى سأله عن التفسير كله. ومن ثم قيل : أعلمهم بالتفسير مجاهد (١).

وكان ابن عباس يجتهد في تربية عكرمة مولاه ، فربّاه فأحسن تربيته ، وعلّمه فأحسن تعليمه ، حتى أصبح فقيها ، وأعلم الناس بالتفسير ومعاني القرآن (٢).

ولقتادة كتاب في التفسير ، وربما كان كبير الحجم ضخما. فقد استخدمه الخطيب البغدادي ، كما استخدمه الطبري في أكثر من ثلاثة آلاف موضع من تفسيره (٣).

وهكذا لجابر بن يزيد الجعفي (٤) ، والحسن البصري (٥) ، وأبان بن تغلب (٦) ، وزيد بن أسلم (٧) ، وغيرهم كتب معروفة في التفسير وعلوم القرآن.

قال عادل نويهض : أبان بن تغلب مقرئ جليل ، مفسّر ، نحويّ ، لغوي ، محدّث ، من أهل الكوفة. وثّقه أحمد وابن معين وأبو حاتم. خرّج له مسلم والأربعة. من آثاره «معاني القرآن» و «غريب القرآن». ولعلّه أول من صنّف في هذا الموضوع. توفّي سنة (١٤١) (٨).

وسنذكر في فصل قادم بدء التدوين في التفسير ، الأمر الذي تحقق منذ عهد

__________________

(١) وقد سبق ذلك في ترجمته.

(٢) راجع : ترجمته هنا.

(٣) الشواخ في معجم مصنفات القرآن الكريم ، ج ٢ ، ص ١٦٣ ، رقم ٩٩٩.

(٤) فهرست مصنّفي الشيعة ، ص ٩٣.

(٥) الشواخ ، ج ٢ ، ص ١٦١.

(٦) طبقات المفسرين ، ج ١ ، ص ١.

(٧) الطبقات للداودي ، ج ١ ، ص ١٧٦.

(٨) معجم المفسرين ، ج ١ ، ص ٧ ـ ٨.

٤٣٤

التابعين.

وثالثا : النظر والاجتهاد. كانت هي ميزة كبرى حظي بها عهد التابعين ، أن قام عديد من كبار العلماء ذاك العهد ، فاعملوا النظر في كثير من مسائل الدين ، ومنها مسائل قرآنية كانت تعود إلى : معاني الصفات ، وأسرار الخليقة ، وأحوال الأنبياء والرسل ، وما شاكل. فكانوا يعرضونها على شريعة العقل ، ويحاكونها وفق حكمه الرشيد ، وربما يؤوّلونها إلى ما يتوافق مع الفطرة السليمة.

وأوّل مدرسة أخذت في الاجتهاد وإعمال النظر لاستنباط معاني القرآن ، مدرسة مكة ، التي أشادها الصحابي الجليل تلميذ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام الموفّق ، عبد الله بن عباس. وكان متخرّجو هذه المدرسة هم الذين أسّسوا بنيان الاجتهاد في التفسير ، وعلى يدهم شاعت وذاعت طريقة الاجتهاد في مناحي الشريعة المقدسة ، على الإطلاق.

ثم مدرسة الكوفة ، تأسّست على يد عبد الله بن مسعود ، وتخرّجت منها علماء أفذاذ ، أصحاب نظر واجتهاد. وأصبحت مدرسة الكوفة بعدئذ معهد الدراسات الإسلامية ، يقصدها روّاد العلم من جميع أطراف البلاد ؛ حيث محطّ جلّ الصحابة ، ولا سيّما بعد مهجر الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام. فقد ارتحل إليها العلم برمّته ، وأخذت مجامع الكوفة تحتضن الكبار من علماء الإسلام يومذاك ، وعليهم دارت رحى العلم وفاضت ينابيع المعارف إلى أرجاء البلاد.

ولم تدم مدرسة مكة طويلا ، وأخذت بالأفول بعد وفاة صاحبها ومؤسسها عام (٦٨) ، وتفرّق متخرجيها وانتشارهم في أكناف الأرض. فقد ارتحلوا إلى خراسان ومصر والشام وسائر الديار.

غير أن مدرسة الكوفة أخذت تزدهر وتزداد صيتا ونشاطا مع تقادم الأيام.

وهاتان المدرستان هما الأساس لنشر العلم وبثّ المعارف بين العباد ، وإن

٤٣٥

كانت إحداهما أخذت في الاندثار ، بينما الأخرى استمرت في الازدهار والتوسّع والانتشار.

وأكثر العلماء التابعين بل الغالبية الساحقة ، هم المتخرجون من هاتين المدرستين.

فكان لهما الفضل الكبير على الأمة ، في تثقيفهم والتنشيط في السعي وراء العلم والمعرفة. ويعود الفضل في ذلك إلى الصحابيين الجليلين : ابن عباس وابن مسعود ، وعلى رأسهما الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

هذا مجاهد بن جبر ، متخرّج مدرسة ابن عباس ، وقد أجمعت الأمة على إمامته والاحتجاج بكلامه (١).

رمي بحرّية الرأي في التفسير ، وإن شئت فقل : حظي بقوة الفهم وحدّة النظر ووفور العقل والذكاء.

نعم ، حيث كانت عقليّة الجمود هي الساطية على غوغاء الناس حينذاك ، كان توجيه هكذا تهم إلى أمثال هؤلاء الأفذاذ ، يبدو طبيعيا في ظاهر الحال.

قيل له : أنت الذي تفسّر القرآن برأيك؟! فبكى ، وقال : إنّي إذن لجريء. لقد حملت التفسير (أي أصول مبانيه وطرائق استنباط معانيه) عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

نعم كان مجاهد يحمل ذهنيّة متحرّرة عن قيود الأوهام ، وعقليّة واعية تمكّنه من إدراك الحقائق ولمسها في واقع أمرها ، دون الاقتصار على الظاهر والاقتناع

__________________

(١) هكذا ذكر الذهبي. وعن سفيان : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وعن الأعمش : إذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ. راجع : ترجمته فيما قدّمنا.

٤٣٦

بالقشور.

إنه كان يعرض الآي القرآنية ـ لغرض فهم معانيها ـ على المتفاهم العام من الألفاظ والكلمات ، ثم على مباني الشريعة وشواهد التاريخ ونحوها ، ممّا كان متعارفا لفهم المعاني لدى العرف العام. لكن من غير أن يقتنع بذلك ، حتى يعرضها على فهم العقل وتوافق الفطرة ، من غير أن يختفي عنه شيء من الشواهد ودقائق الكلام.

قال ـ في تفسير قوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) ـ : (١) لم يمسّخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله ، كما قال : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٢) ، قال : إنه مسخت قلوبهم ، فجعلت كقلوب القردة ، لا تقبل وعظا ولا تتّقي زجرا (٣).

وقد تكلمنا عن تفسيره هذا لهذه الآية ، في ترجمته السالفة ، وذكر أوجه ترجيحه ، وكلام السلف وعلماء المفسرين بشأنه.

وقال ـ في تفسير قوله تعالى : (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ) ـ (٤) قال : مثل ضرب لم ينزل عليهم شيء ، قال أبو جعفر الطبري : قال قوم : لم ينزل على بني إسرائيل مائدة ، فقال بعضهم : إنما هذا مثل ضربه الله تعالى لخلقه ، نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الآيات. ثم أسند ذلك إلى مجاهد (٥).

__________________

(١) البقرة / ٦٥.

(٢) الجمعة / ٥.

(٣) راجع : مجمع البيان ـ الطبرسي ـ ، ج ١ ، ص ١٢٩. والطبري ، ج ١ ، ص ٢٦٣. وتفسير مجاهد ، ص ٧٥ ـ ٧٦.

(٤) المائدة / ١١٤.

(٥) جامع البيان للطبري ، ج ٧ ، ص ٨٧.

٤٣٧

وعند تفسير قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(١) ، قال : تنتظر الثواب من ربها. قيل له : إن أناسا يقولون : إنه تعالى يرى ، فيرون ربهم : فقال : لا يراه من خلقه شيء (٢).

قال الأستاذ الذهبي : إن مثل هذا التفسير عن مجاهد ، أصبح متّكئا قويّا للمعتزلة فيما بعد ، فيما ذهبوا إليه من مذاهب عقليّة.

قلت : ليس مجاهد وحده ممن فتح باب الاجتهاد والنظر في مفاهيم القرآن ، بل كان يرافقه ـ ذلك العهد ـ كثير من أرباب العقول الراجحة ، ممّن سمّاهم الله تعالى (أُولِي الْأَلْبابِ) ، وهم وفرة في أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتابعين لهم بإحسان. وفي هذا التأليف تنويه بجلّة من أعلامهم.

كما أن المعتزلة ليسوا هم وحدهم ـ ممن تبعوا طريقة العقل الرشيد ، ونبذوا الجمود في الرأي وراء الظهور. ففيما عدا السلفيين الحفاة الجفاة وأذنابهم الأشاعرة العراة ، خلق كثير وزرافات من الأمّة المرحومة ، واكبوا أهل الاعتزال أو سبقوهم في هذا المضمار ، ولا يزال.

ومن الموصوفين بحرّية الرأي والاجتهاد في التفسير ، عكرمة مولى ابن عباس ، الذي ربّاه فأحسن تربيته وعلّمه فأحسن تعليمه ، حتى أصبح من الفقهاء وأعلم الناس بالتفسير ومعاني القرآن (٣).

كان يرى مسح الأرجل في الوضوء مستفادا من الكتاب ، كما فهمه شيخه ابن

__________________

(١) القيامة / ٢٣.

(٢) تفسير الطبري ، ج ٢٩ ، ص ١٢٠. وقد أسبقنا الحديث عن ذلك أيضا في ترجمته.

(٣) ابن خلكان ، ج ٣ ، ص ٢٦٥ رقم ٤٢١.

٤٣٨

عباس ، ويرفض ما استظهره سائر الفقهاء ، ويخطّئهم في استظهار الخلاف (١).

وهكذا في المسح على الخفّين كان ينكره أشدّ الإنكار. كان يقول : «سبق الكتاب المسح على الخفّين» (٢) ، يعني : أن الكتاب جاء بالمسح على الأرجل. أمّا المسح على الخفّين فأمر حادث ، لا يجوز ترك القرآن بذلك.

أمّا القوم فكانوا يرون المسح على الخفّين ناسخا للمسح على الأرجل. ذكر الجصّاص أن أبا يوسف كان يرى أنّ سنّة المسح على الخفّين نسخت آية المسح على الأرجل (٣).

وزيد بن أسلم مولى عمر ، الفقيه المفسّر ، برع حتى أصبح من كبار التابعين المرموقين. كانت له حلقة في مسجد المدينة يحضرها جلّ الفقهاء وربّما بلغوا أربعين فقيها. له تفسير يرويه عنه ولده عبد الرحمن. قال ابن حجر : أخذ العلم من جماعة ، منهم علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، وعدّه أبو جعفر الطوسي من أصحاب الإمام السجاد. قال : كان يجالسه كثيرا. له رواية عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام.

وقد أخذ عليه حرّيته في الرأي والاجتهاد ، على خلاف مذهب الاحتياط والوقوف لدى المأثور. قال حمّاد : قدمت المدينة وهم يتكلّمون في زيد بن أسلم. فقال لي عبيد الله بن عمر : ما نعلم به بأسا إلّا أنه يفسّر القرآن برأيه.

__________________

(١) راجع : الطبري ، ج ٦ ، ص ٨٢ ـ ٨٣ والطبرسي ، ج ٣ ، ص ١٦٥.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٦٨.

(٣) أحكام القرآن للجصّاص ، ج ٢ ، ص ٣٤٨.

٤٣٩

والمعروف عن أهل المدينة أنّهم أصحاب وقف واحتياط (١).

هذا ، وقد راج التفسير العقلي فيما بعد ، ولا سيّما عند المعتزلة ومن حذا حذوهم في تقديم العقل على ظاهر النقل.

هذا أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني (٢٥٥ ـ ٣٤٤) قد وضع تفسيره على أساس من التفكير الصحيح ، وفق ما يرتضيه الدين الإسلامي الحنيف ، من نبذ التقليد والتمسّك بعرى التحقيق (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) ، (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ..)(٢).

هو عند ما يفسّر قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً. قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً. وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٣) بأنّ زكريّا لما طلب من الله تعالى آية تدلّه على حصول العلوق (انعقاد النطفة في رحم زوجته) قال : آيتك أن لا تكلم ، أي تصير مأمورا بأن لا تتكلّم ثلاثة أيّام بلياليها مع الخلق (أي إذا جاءك الأمر بذلك ، فاعلم أن الحمل بيحيى قد تحقق عند ذلك) أي تكون مشتغلا بالذكر والتسبيح والتهليل ، معرضا عن الخلق والدنيا ، شاكرا لله تعالى على إعطاء مثل هذه الموهبة. فإن كانت لك حاجة ، دلّ عليها بالرمز. فإذا أمرت بهذه الطاعة فاعلم أنه قد حصل المطلوب.

__________________

(١) طبقات المفسرين للداودي ، ج ١ ، ص ١٧٦. وميزان الاعتدال للذهبي ، ج ٢ ، ص ٩٨ ، وراجع : ترجمته هنا.

(٢) محمد / ٢٤ ، النحل / ٤٤.

(٣) آل عمران / ٤١.

٤٤٠