التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

ينكره أشدّ الإنكار ، ويقول : «سبق الكتاب المسح على الخفّين» (١) ، يعني : أن القرآن نزل بالمسح على الأرجل ، أمّا المسح على الخفّين ـ على ما وردت به بعض الروايات ـ فأمر متأخّر عن نزول الآية ، ولا دليل على نسخ الآية ، رواية لم تثبت (٢).

وهذا الذي ذكره عكرمة هو الذي نقلته الأئمّة عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام. فقد روى أبو جعفر الطوسي بإسناده إلى أبي الورد ، قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه‌السلام : إن أبا ظبيان حدّثني أنه رأى عليا عليه‌السلام أراق الماء ثم مسح على الخفّين! فقال : كذب أبو ظبيان (٣) أما بلغك قول عليّ عليه‌السلام فيكم : «سبق الكتاب الخفّين»؟ فقلت : فهل فيهما رخصة؟ فقال : لا ، إلّا من عدوّ تتّقيه ، أو ثلج تخاف على رجليك (٤).

ولا شكّ أن ابن عباس كان يرى رأي الإمام الذي هو شاخص أهل البيت عليهم‌السلام فلا وقع لتكذيب عكرمة بأنه خالف شيخه ، فقد افتري عليه كما افتري على الإمام عليه‌السلام.

وعقد أبو نعيم الأصبهاني فصلا من حليته (٥) ، أورد فيه من تفاسير مأثورة عن عكرمة ، دررا وغررا هي من جلائل الآثار وكرائم الأفكار ، ويتبيّن منها مدى سعة

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٦٨.

(٢) ذكر ابو يوسف أن سنّة المسح على الخفّين نسخت آية المسح على الأرجل. أحكام القرآن للجصّاص ، ج ٢ ، ص ٣٤٨.

(٣) هو حصين بن جندب الكوفي. مات سنة ٩٠. وقد أنكروا سماعه من علي عليه‌السلام فيما يرويه عنه. تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٣٨٠. ولم يذكره الشيخ في أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٤) الوسائل ، ج ١ ، ص ٣٢٢ ، رقم ٥.

(٥) حلية الأولياء ، ج ٣ ، ص ٣٢٩ ـ ٣٤٧.

٣٦١

علم الرجل وشموخ فكره الصائب ، ينبغي مراجعتها فإنها ممتعة جدّا.

٦ ـ عطاء بن أبي رباح

أبو محمّد عطاء بن أبي رباح أسلم ـ وقيل : سالم ـ بن صفوان ، من أصل نوبي (١٧ ـ ١١٥) كان من أجلّة فقهاء مكة وزهّادها ، ومن خواصّ ابن عباس والمتربّين في مدرسته. (١) وهو الذي حضر وصيته بالطائف في جماعة من الشيوخ ، وروي عنه حديث الإمامة والولاية ـ على ما سبق في ترجمة ابن عباس (٢) ـ مما يدلّ على مبلغ ولائه لأهل البيت وتمسّكه بأذيالهم الطاهرة ، شأن سائر المتربّين بتربية ابن عباس الصحابي الملهم الجليل.

وذكره أبو نعيم في التابعين ممن رووا عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام. (٣) كما ذكر ثناء الإمام عليه ، فيما أخرجه بإسناده عن أسلم المنقري ، قال : كنت جالسا مع أبي جعفر فمرّ عليه عطاء ، فقال : ما بقي على ظهر الأرض أحد أعلم بمناسك الحجّ من عطاء بن أبي رباح. وعن أحمد بن محمد الشافعي ، قال : كانت الحلقة في الفتيا بمكة في المسجد الحرام لابن عباس ، وبعد ابن عباس لعطاء بن أبي

__________________

(١) صرّح الكشّي (ص ١٨٨ رقم ٩٢ و ٩٣) بأن عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس. وكان ولده : عبد الملك وعبد الله وعريف ، نجباء من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام. وقد تقدّم في ترجمة طاوس.

(٢) نقلا عن كفاية الأثر للخزّاز الرازي ، ص ٢٩٠. والبحار ، ج ٣٦ ، ص ٢٨٧ ، رقم ١٠٩.

(٣) وهم أربعة : عمرو بن دينار ، وعطاء بن أبي رباح ، وجابر الجعفي ، وأبان بن تغلب. ومن الأئمّة والأعلام : ليث وابن جريج وابن أرطأة في آخرين ، راجع : حلية الأولياء ، ج ٣ ، ص ١٨٨ ، في ترجمة الإمام ، برقم ٢٣٥. وعنه كشف الغمة للأربلي ، ج ٢ ، ص ١٣٤. والوحيد في التعليقة على هامش الاسترآبادي ، ص ٢٢١.

٣٦٢

رباح. (١)

قال ابن سعد : وقد انتهت فتوى أهل مكة إليه وإلى مجاهد ، في زمانهما ، وأكثر ذلك إلى عطاء. قال : كان يعلّم الكتاب ، وكان ثقة فقيها كثير الحديث. وعن قتادة : كان عطاء من أعلم الناس بالمناسك (٢).

قال ابن حجر : قال ابن معين : كان عطاء معلّم كتّاب (٣). وأخرج عن أبي نوف عن عطاء ، قال : أدركت مائتين من الصحابة. وعن ابن عباس أنه كان يقول : تجتمعون إليّ يا أهل مكّة وعندكم عطاء! وعن ربيعة قال : فاق عطاء أهل مكة في الفتوى. وقال قتادة : قال لي سليمان بن هشام : هل بمكة أحد؟ قلت : نعم ، أقدم رجل في جزيرة العرب علما! قال : من؟ قلت : عطاء بن أبي رباح ، إلى غيرها من شهادات ضافية بشأنه. وأنه من سادات التابعين فقها وعلما وورعا وفضلا (٤).

ولابن خلكان بشأنه حكاية طريفة ، قال : حكي عن وكيع ، قال : قال لي أبو حنيفة النعمان بن الثابت : أخطأت في خمسة أبواب من المناسك بمكّة ، فعلّمنيها حجّام! وذلك أني أردت أن أحلق رأسي ، فقال لي : أعربيّ أنت؟ قلت : نعم ، وكنت قد قلت له : بكم تحلق رأسي؟ فقال : لا يشارط فيه ، اجلس ، فجلست منحرفا عن القبلة ، فأومأ إليّ باستقبال القبلة. وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الأيسر ، فقال : أدر شقّك الأيمن من رأسك ، فأدرته. وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت ، فقال لي : كبّر ، فجعلت أكبر ، حتى قمت لأذهب ، فقال : أين تريد؟ قلت :

__________________

(١) حلية الأولياء ، ج ٣ ، ص ٣١١ ، رقم ٢٤٤. وطبقات ابن سعد ، ج ٥ ، ص ٣٤٤.

(٢) الطبقات لابن سعد ، ج ٥ ، ص ٣٤٤ ـ ٣٤٦. وتهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٠١.

(٣) بضمّ الكاف ، جمعه كتاتيب : موضع التربية والتعليم.

(٤) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ١٩٩ ـ ٢٠٣.

٣٦٣

رحلي. فقال : صلّ ركعتين ثم امض. فقلت : ما ينبغي أن يكون هذا من مثل هذا الحجّام إلّا ومعه علم. فقلت : من أين لك ما رأيتك أمرتني به؟ فقال : رأيت عطاء ابن أبي رباح يفعل هذا (١).

قال : وكان أسود ، أعور ، أفطس ، أشلّ ، أعرج ، ثم عمي بعد ذلك. وكان مفلفل الشعر. قال سليمان بن رفيع : دخلت المسجد الحرام والناس مجتمعون على رجل ، فأطلعت ، فإذا عطاء بن أبي رباح جالس كأنه غراب أسود (٢).

قال محمد بن عبد الله (٣) : ما رأيت مفتيا خيرا من عطاء بن أبي رباح ، إنما كان في مجلسه ذكر الله لا يفتر وهم يخوضون. فإن تكلم أو سئل عن شيء أحسن الجواب وكان يطيل الصمت ، فإذا تكلم يخيّل إلى الناس أنّه يتأيّد! وعن ابن جريج : كان عطاء إذا حدّث بشيء ، قلت : علم أو رأي؟ فإن كان أثرا قال : علم ، وإن كان رأيا قال : رأي وعن سلمة بن كهيل : ما رأيت أحدا يريد بهذا العلم وجه الله إلّا ثلاثة : عطاء ، ومجاهد ، وطاوس. قال الأوزاعي : مات عطاء يوم مات ، وهو أرضى أهل الأرض عند الناس (٤).

وقد وقع في إسناد القمي في تفسير قوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها)(٥).

وللمولى المامقاني بشأنه تخليط ، قال : عدّه الشيخ من أصحاب أمير

__________________

(١) وفيات الأعيان ، ج ٣ ، ص ٢٦١ ، رقم ٤١٩.

(٢) الوفيات ، ج ٣ ، ص ٢٦٢. وراجع : الطبقات ، ج ٥ ، ص ٣٤٦. وتهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٠٠.

(٣) الملقّب بالديباج وأمّه فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام. قتله المنصور سنة ١٤٥.

(٤) الطبقات ، ج ٥ ، ص ٣٤٥. وتهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٠١.

(٥) محمد / ١٨.

٣٦٤

المؤمنين عليه‌السلام ، وقال : مخلّط. ونقل المولى الوحيد عن أبي نعيم أنه ممّن روى عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، قال : الظاهر أنه اشتباه منه أو من أبي نعيم ، فإنّ الراوي عن الباقر هو عطاء بن السائب ، وهو من رؤساء العامّة. أمّا ابن أبي رباح فهو مولى عبد الله ابن عباس ، ولقاؤه للباقر غير معلوم. نعم لقاؤه لعلي مما لا ريب فيه. وهو مخلّط ويروي عن الشيخين كثيرا ، ويروي لهما أكثر (١).

قلت : كانت ولادة عطاء بن أبي رباح في السنّة الرابعة أو الخامسة من خلافة ابن الخطاب ، فكيف يروي عن الشيخين؟! ثم إنه عند وفاة أمير المؤمنين كان لم يتجاوز الثالثة عشرة. وقد توفّي بعد وفاة الإمام الباقر (٥٧ ـ ١١٤) بسنة (١١٥) ولم يذكر أحد أنه مولى لابن عباس ، بل مولى بني فهر ، حسبما ذكروه (٢) كما ذكروا أنّ الذي اختلط في أخريات حياته هو ابن السائل (٣). وسنذكر أنه أيضا من الخواص.

قال الدكتور شوّاخ : وتفسير عطاء بن أبي رباح كان من التفاسير التي رويت شفاها ، واستخدمها الطبري بالرواية التالية : «القاسم بن الحسن الهمذاني (ت ٢٧٢) الحسين المصيصي (ت ٢٢٦) حجاج بن محمد المصيصي (ت ٢٠٦) ابن جريج (ت ١٥٠) عن عطاء بن أبي رباح» واستخدمه الثعلبي أيضا في كتابه (الكشف والبيان) (٤).

__________________

(١) تنقيح المقال ، ج ٢ ، ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣ ، رقم ٧٩١٩.

(٢) راجع : قاموس الرجال للتستري ، ج ٦ ، ص ٣٠٦ (ط أولى)

(٣) راجع : تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٠٧.

(٤) معجم مصنفات القرآن الكريم ، ج ٢ ، ص ١٦٣ ، رقم ٩٩٨.

٣٦٥

٧ ـ عطاء بن السائب

أبو محمد الثقفي الكوفي أحد الأئمّة (١). روى عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأبي عبد الرحمن السلمي وجماعة. وروى عنه الأعمش وابن جريج. كان أبو إسحاق يقول : عطاء بن السائب من البقايا.

قال أحمد بن حنبل : ثقة ثقة رجل صالح. ولكن جماعة رموه بالتخليط في أخريات حياته ، ومن ثم وثّقوه في حديثه القديم. قال يحيى بن سعيد : ما سمعت أحدا من الناس يقول في حديثه القديم شيئا. أمّا ولما ذا هذا التحوّل بشأنه؟

قال أبو قطن عن شعبة : ثلاثة في القلب منهم هاجس : عطاء بن السائب ، ويزيد بن أبي زياد ، ورجل آخر. (٢) ما سبب هذا الهاجس؟

قال سيدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ أدام الله ظلّه وألبسه ثوب العافية ـ بعد أن ذكر روايته عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام بشأن مسألة القضاء ـ : هذه الرواية تدلّ على تشيّعه ، فما يذكر عنه من التوثيق في حديثه القديم ثم اختلط وتغيّر ، فلعله كان منخرطا في العامّة ثم استبصر (٣).

قلت : بل الظاهر كونه من الشيعة من أول أمره ؛ لأنه كوفي وتتلمذ على أمثال ابن جبير ومجاهد وعكرمة والسلمي وأضرابهم. أمّا سبب اختلاطه في نظر القوم فلعله بدى منه شيء من الارتفاع لم يكن يتحمّله القوم ، وكم له من نظير.

أمّا الرواية المشار إليها فهي ما رواه أبو جعفر الصدوق بإسناده إلى عطاء بن السائب عن الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، قال : «إذا كنتم في أئمة جور فاقضوا في

__________________

(١) الخلاصة ، ص ٢٦٦.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٠٤.

(٣) معجم رجال الحديث ، ج ١١ (ط بيروت) ، ص ١٤٥ ، رقم ٧٦٨٨.

٣٦٦

أحكامهم ، ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا. وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيرا لكم» (١). وقد عدّه الصدوق في المشيخة (٢).

وقد كانت وفاة الإمام السجاد عام (٩٥) سنة الفقهاء. وقد عاش ابن السائب بعد ذلك ما يقرب (٤٠) سنة ؛ حيث عام وفاته (١٣٦) والرواية إن دلت على تشيّعه ـ كما هو كذلك ـ فقد كان ذلك في أوّليّات حياته.

وله رواية أخرى عن زاذان أبي عمرة الفارسي الكوفي الضرير ، مات سنة (٨٢) في قضية قضاها الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أيّام عمر بن الخطاب ، بشأن الوديعة التي استودعها رجلان عند امرأة ... رواها حريز بن عبد الله السجستاني عن عطاء بن السائب من زاذان. (٣)

٨ ـ أبان بن تغلب بن رباح

أبو سعيد البكري الكوفي. قال الشيخ : ثقة جليل القدر ، عظيم المنزلة ، لقي أبا محمد السجاد ، وأبا جعفر الباقر ، وأبا عبد الله الصادق عليهم‌السلام وروى عنهم. وكانت له عندهم خطوة وقدم (٤).

وكان إذا قدم المدينة تقوضت له الحلق وأخليت له سارية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٥) وكان ذلك بأمر من الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قال له : «اجلس في مسجد المدينة

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ، ج ٣ ، ص ٣ ، رقم ٣. وتهذيب الأحكام للشيخ ، ج ٦ ، ص ٢٢٤ ، رقم ، ٥٣٦ / ٢٨. وص ٢٢٥ ، رقم ٥٤٠ / ٣٢.

(٢) شرح مشيخة الصدوق ، ص ١٢٥ ، الملحق بالفقيه ، ج ٤.

(٣) الكافي الشريف ، ج ٧ ، ص ٤٢٨ ، رقم ١٢. وتهذيب الأحكام ، ج ٦ ، ص ٢٩٠ ، رقم ٨٠٤ / ١١.

(٤) فهرست الشيخ ، ص ٥ ـ ٦ (ط مشهد)

(٥) رجال النجاشي ، ص ٨ ـ ٩ (ط حجرية)

٣٦٧

وأفت للناس ، فإني أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك» (١). وهكذا روى الكشّي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام كان يقول له : «جالس أهل المدينة ، فإني أحبّ أن يروا في شيعتنا مثلك». وقد استجاز الإمام أن يفتيهم حسبما يرون ، قال : إني أقعد في المسجد ، فيجيئني الناس فيسألوني ، فإن لم أجبهم لم يقبلوا مني ، وأكره أن أجيبهم بقولكم وما جاء منكم. فأجازه الإمام أن يفتي للناس حسبما علم أنه من قولهم. قال : «انظر ما علمت أنه من قولهم فأخبرهم بذلك» (٢).

قال الشيخ : وكان أبان بن تغلب قارئا فقيها لغويّا نبيلا ، وسمع العرب وحكى عنهم وصنّف كتاب «الغريب في القرآن» ، وذكر شواهده من الشعر. قال : فجاء فيما بعد عبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي ، فجمع من كتاب أبان ، ومحمد ابن السائب الكلبي ، وأبي روق ابن عطيّة بن الحرث ، فجعله كتابا واحدا ، فيما اختلفوا فيه وما اتفقوا عليه. فتارة يجيء كتاب أبان مفردا ، وتارة يجيء مشتركا ، على ما عمله عبد الرحمن.

قال : ولأبان ـ رحمة الله عليه ـ قراءة مفردة. ورفع إسناده إلى محمد بن موسى بن أبي مريم صاحب اللؤلؤ ، قال : سمعت أبان بن تغلب ، وما أحد أقرأ منه ، يقرأ القرآن من أوّله إلى آخره ، وذكر القراءة ...

قال : ولأبان كتاب الفضائل ـ ثم ذكر طريقه إليه ـ كما أن له أصلا. قال : ومات أبان سنة (١٤١) في حياة الإمام الصادق عليه‌السلام. ولمّا بلغه نعيه ، قال : «أما والله ، لقد أوجع قلبي موت أبان» (٣).

__________________

(١) رجال النجاشي ، ص ٧.

(٢) رجال الكشّي ، ص ٢٨٠ (ط نجف)

(٣) الفهرست ، ص ٦ ـ ٧.

٣٦٨

وأخرج النجاشي بإسناده إلى الحسين بن سعيد بن أبي الجهم ، قال : حدّثني أبي عن أبان بن تغلب ، في قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). وذكر التفسير إلى آخره. قال : ولأبان قراءة مفردة مشهورة عند القراء. وعن محمد بن موسى بن أبي مريم ، قال : سمعت أبان بن تغلب ، وما رأيت أحدا أقرأ منه قطّ ، يقول : «إنما الهمز رياضة» (١) وذكر قراءته إلى آخرها. قال : وله كتاب الفضائل ، وكتاب صفّين ، وكتاب تفسير غريب القرآن.

قال إبراهيم النخعي : كان أبان رحمه‌الله مقدّما في كل فنّ من العلم ، في القرآن ، والفقه ، والحديث ، والأدب ، واللغة ، والنحو.

وعن أبان بن محمد بن أبان بن تغلب ، قال : سمعت أبي يقول : دخلت مع أبي إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فلما بصر به أمر بوسادة فألقيت له ، وصافحه واعتنقه وسأله ورحّب به. قال : وكان أبان إذا قدم المدينة تقوّضت إليه الحلق وأخليت له سارية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وعن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : كنّا في مجلس أبان بن تغلب ، فجاءه شابّ فقال : يا أبا سعيد ، أخبرني كم شهد مع عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال له أبان : كأنّك تريد أن تعرف فضل عليّ بمن تبعه من أصحاب رسول الله؟ فقال الرجل : هو ذاك. فقال : والله ما عرفنا فضلهم إلّا باتّباعهم إيّاه.

وقال أبان لأبي البلاد : تدري من الشيعة؟ الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن

__________________

(١) أي في إظهار الهمز مشقة وصعوبة وتكلّف بلا ثمر ، فلا بد من ترك الإظهار ، الذي هو لغة قريش ، كانوا لا ينبرون بالهمز ، وقد نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه أيضا.

(٢) أي كانت الحلق والصفوف المتراصّة من الناس تتقوض وتتفرّق لتجتمع إلى حلقة أبان. والسارية : هو الأسطوانة ، التي كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجلس عندها.

٣٦٩

رسول الله ، أخذوا بقول عليّ. وإذا اختلف الناس عن عليّ ، أخذوا بقول جعفر بن محمد.

قال النجاشي : وجمع محمد بن عبد الرحمن بين كتاب التفسير لأبان وبين كتاب أبي روق عطيّة بن الحرث ومحمد بن السائب ، وجعلها كتابا واحدا.

وعن عبد الله بن خفقة ، قال : قال لي أبان بن تغلب : مررت بقوم يعيبون عليّ روايتي عن جعفر! فقلت : كيف تلوموني في روايتي عن رجل ما سألته عن شيء إلّا قال : قال رسول الله! (١)

وعن سليم بن أبي حيّة ، قال : كنت عند أبي عبد الله ، فلما أردت أن أفارقه ودّعته ، وقلت : أحبّ أن تزوّدني. فقال : ائت أبان بن تغلب ، فإنه قد سمع منّي حديثا كثيرا ، فما روى لك فاروه عنّي (٢).

وقال ابن حجر : قال أحمد ، ويحيى ، وأبو حاتم ، والنسائي : ثقة. وقال ابن عديّ : له نسخ عامّتها مستقيمة ، إذا روي عنه ثقة ، وهو من أهل الصدق في الروايات. وإن كان مذهبه مذهب الشيعة ، وهو في الرواية صالح لا بأس به. قال ابن حجر : هذا قول منصف ، وقد تقدم ذكره.

وقال ابن عجلان : حدثنا أبان بن تغلب ، رجل من أهل العراق ، من النسّاك ، ثقة. ومدحه ابن عيينة بالفصاحة والبيان. قال أبو نعيم : وكان غاية من الغايات. وقال العقيلي : سمعت أبا عبد الله يذكر عنه عقلا وأدبا وصحة حديث. وقال ابن

__________________

(١) ولعلّ عيبهم كان لأجل كبر سنه بالنسبة إلى الإمام ، وتقدّمه بحسب الزمان.

(٢) رجال النجاشي ، ص ٧ ـ ١٠.

٣٧٠

سعد : كان ثقة. وذكره ابن حبّان في الثقات (١).

وقال الحافظ شمس الدين الداودي : صنّف كتاب «معاني القرآن» لطيف ، «القراءات». روى له مسلم والأربعة (٢).

٩ ـ الحسن البصري

أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري. كان أبوه مولى لزيد بن ثابت الأنصاري ، من سبي ميسان (بليدة بأسفل البصرة) ، وأمّه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتربّى في بيتها. ويقال : ربما كانت تغذّيه بلبنها ـ بإذن الله ـ عند ما تغيب أمّه. ويقال : إنه ولد على الرّق ، ولد بالمدينة سنة (٢٢) لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، ونشأ بوادي القرى (واد من أعمال المدينة على طريق الشام ، واقع بين تيماء وخيبر) وتوفّي بالبصرة مستهلّ رجب سنة (١١٠) (٣).

كان الحسن جسيما وسيما (٤) نابها فصيحا ، وكان يشبّه في الفصاحة والبيان برؤبة العجّاج (٥). وكان عالما جامعا ، وفقيها مأمونا (٦) وعابدا ناسكا ، حسب تعبير

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ١ ، ص ٩٣ ـ ٩٤. وميزان الاعتدال ، ج ١ ، ص ٥.

(٢) طبقات المفسرين ، ج ١ ، ص ١.

(٣) تتمة المنتهى للقمي ، ص ٧. وطبقات ابن سعد ، ج ٧ ، ق ١ (ط ليدن) ، ص ١١٥. وتهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٦٦.

(٤) عن عاصم الأحول ، قلت للشعبي : لك حاجة؟ قال : نعم ، إذا أتيت البصرة فاقرأ الحسن منّي السلام. قلت : ما أعرفه؟ قال : إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينك ، وأهيبه في صدرك فاقرأه منّي السلام! (تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٦٥).

(٥) طبقات ابن سعد ، ج ٧ ، ق ١ ، ص ١٢١.

(٦) قال قتادة : ما جالست فقيها قطّ إلّا رأيت فضل الحسن عليه. وقال أيّوب : ما رأت عيناي رجلا

٣٧١

ابن سعد وغيره (١).

كان أكثر ما يقوله عن علي عليه‌السلام من غير أن يصرّح باسمه الشريف تقيّة ، أو يكنّى عنه بأبي زينب (٢).

وقد اعتمد الأئمّة مراسيله ؛ لأنه لا يرسل إلّا عن ثقة. قال عليّ بن المديني : مرسلات الحسن إذا روى عنه الثقات ، صحاح. وقال أبو زرعة : كل شيء يقول الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجدت له أصلا ثابتا.

قال يونس بن عبيد : سألت الحسن ، قلت : يا أبا سعيد ، إنك تقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنك لم تدركه؟! قال : يا ابن أخي ، لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، ولو لا منزلتك منّي ما أخبرتك. إني في زمان كما ترى! ـ وكان في عمل الحجاج (٣) ـ كل شيء سمعتني أقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا عليه‌السلام (٤).

__________________

قطّ كان أفقه من الحسن!

وقال الأعمش : ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها. وكان إذا ذكر عند أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء».(تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٦٥)

وقال بلال بن أبي بردة : ما رأيت رجلا قط لم يصحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشبه بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا الشيخ ، يعني الحسن!. وقال الشعبي : أدركت سبعين من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم أر أحدا قطّ أشبه بهم منه! (طبقات ابن سعد ، ج ٧ ، ق ١ ، ص ١١٨)

(١) قال مطر الوراق : كان جابر بن زيد (توفّي سنة ١٠٣) رجل أهل البصرة ، فلما ظهر الحسن ، جاء رجل كأنما كان في الآخرة ، فهو يخبر عما رأى وعاين. (تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٦٤)

(٢) أمالي الشريف المرتضى ، ج ١ ، ص ١٦٢.

(٣) كان ذلك أيام ولاية الحجاج على البصرة.

(٤) تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٦٦ بالمتن والهامش.

٣٧٢

قال الشريف المرتضى : وكان الحسن بارع الفصاحة ، بليغ المواعظ ، كثير العلم. وجميع كلامه في المواعظ وذمّ الدنيا ، أو جلّه مأخوذ ـ لفظا ومعنى ، أو معنى دون لفظ (١) ـ من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فهو القدوة والغاية ، فنقل عنه حكما ومواعظ جليلة.

ثم قال : وكان الحسن إذا أراد أن يحدّث في زمن بني أميّة عن أمير المؤمنين ، قال : قال أبو زينب (٢).

وقال الشيخ فريد الدين العطار النيسابوري : «كان الحسن إنّما يوالي عليّا أمير المؤمنين ، ومنه أخذ العلم ، وكان مرجعه في طريقة العرفان» (٣).

ولأبان بن أبي عياش كلام بشأن الحسن ، يدل على مغالاته في ولائه للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام. قال : لما أودعه سليم بن قيس الهلالي كتابه وأوصاه أن لا يريح غير الخواصّ من الشيعة ـ : فكان أول من لقيت بعد قدومي البصرة الحسن بن أبي الحسن البصري ، وهو يومئذ متوار من الحجّاج. والحسن يومئذ من شيعة عليّ بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ ومن مفرطيهم ، نادم متلهّف على ما فاته من نصرة عليّ والقتال معه. فخلوت به في شرقيّ دار أبي خليفة الحجّاج بن أبي عتاب الديلمي ، فعرضته عليه ، فبكى ثم قال : ما في حديثه شيء إلّا حقّ ، قد سمعته

__________________

(١) قال ابن عون : كان الحسن يحدّث بالحديث وبالمعاني. وقال جرير بن حازم : كان الحسن يحدثنا الحديث يختلف فيزيد في الحديث وينقص منه ، ولكنّ المعنى واحد. (طبقات ابن سعد ، ج ٧ ، ق ١ ، ص ١١٥ ، ط ليدن)

(٢) أمالي المرتضى ، ج ١ ، ص ١٥٣ و ١٦٢. وله كلام يأتي فيه وصف علي عليه‌السلام نقله المرتضى (المصدر ، ج ١ ، ص ١٦٢)

(٣) تذكرة الأولياء ، ص ٣٤.

٣٧٣

من الثقات من شيعة علي ـ صلوات الله عليه ـ وغيرهم (١).

قلت : كان أخذه عن علي عليه‌السلام بواسطة الثقات من أصحابه ، وليس مباشرة وبغير واسطة ؛ لأنه لم يدرك عليّا في المدينة بما يمكنه الأخذ عنه ؛ لحداثة سنّه حينذاك ، ولم يلق عليا بعد أن خرج الإمام إلى العراق ، كما سنوضّح.

والذي انتقصوا به الحسن أمران : أنه كان يدلّس ، وكان منحرفا عن علي عليه‌السلام في بدء أمره وإن كان قد تندّم بعد ذلك. وشيء ثالث : أنه كان قدريّا ، ويقول : «من كذّب بالقدر فقد كفر». ولننظر في كل هذه التهم ومبلغ اعتبار كل واحدة منها :

أمّا التدليس ، فقال ابن حجر : وكان يرسل كثيرا ويدلّس. قال البزّار : كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم ، فيتجوّز ويقول : حدّثنا وخطبنا ، يعني قومه الذين حدّثوا وخطبوا بالبصرة (٢).

وسئل أبو زرعة : هل سمع الحسن أحدا من البدريّين؟ قال : رآهم رؤية ، رأى عثمان وعليّا. قيل : هل سمع منهما حديثا؟ قال : لا ، رأى عليّا بالمدينة ، وخرج عليّ إلى الكوفة والبصرة ، ولم يلقه الحسن بعد ذلك. وقال عليّ بن المديني : لم ير عليّا إلّا أن كان بالمدينة وهو غلام ، ولم يسمع من جابر بن عبد الله ، ولا من أبي سعيد الخدري ، ولم يسمع من ابن عباس ، وما رآه قطّ ، كان الحسن بالمدينة أيام كان ابن عباس بالبصرة. وأما قوله : «خطبنا ابن عباس بالبصرة» ، فإنما أراد : خطب أهل البصرة. كقول ثابت : «قدم علينا فلان» أي قدم بلدنا وأهلنا. وقال ابن المديني : ولم يسمع من أبي موسى ، وقال أبو حاتم وأبو زرعة : لم يره. قال ابن

__________________

(١) مقدمة كتاب سليم بن قيس ، ص ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) التقريب لابن حجر ، ج ١ ، ص ١٦٥ رقم ٢٦٣.

٣٧٤

المديني : روي عن الحسن أن سراقة حدّثهم.! قال : وهذا إسناد ينبو عنه القلب أن يكون الحسن سمع من سراقة ، إلّا أن يكون معنى حدّثهم : حدّث الناس ، قال : فهذا أشبه. وهكذا قال الترمذي : لم يثبت له سماع من علي عليه‌السلام (١).

وقد تقدم الجواب عن ذلك ، وأنه كان لا يرسل إلّا عن ثقة ، ولذلك قال ابن المديني وأبو زرعة وغيرهما : مرسلات الحسن صحاح ، وأن لها أصلا ثابتا وجده الأعلام (٢).

وكان الرجل في محذور عن تسمية الرجال ، ولا سيّما إذا كان عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أو أحد أصحابه المعروفين.

قال الطبري : كان الحسن فقيها فاضلا ، لا يشكّ في حديثه فيما روى ، وكان كثير المراسيل وكثير الرواية عن قوم مجاهيل ، وعن صحف قد وقعت إليه لقوم أخذها منهم. وروي عن مساور ، قال : قلت للحسن : عمّن تحدّث هذه الأحاديث؟ قال : عن كتاب عندنا سمعته من رجل.

قال المحقق التستري ـ تعليقا على هذا الكلام ـ : ولعلّه إشارة إلى كتاب سليم ابن قيس الهلالي الذي وقع بيده وسمعه من أبان بن أبي عيّاش ، على ما أسلفنا.

وقال ـ أخيرا ـ : والرجل ـ كما رأيت ـ مختلف فيه ، إلّا أن الأحسن حسنه وتقواه وتقيّته (٣).

وأما تهمة الانحراف فمستندها حكايات هي أشبه بالأوهام :

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٦٦ ـ ٢٧٠.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٦٦.

(٣) قاموس الرجال (ط الأولى) ، ج ٣ ، ص ١٣٦ ـ ١٣٧.

٣٧٥

من ذلك ما أرسله صاحب كتاب الاحتجاج : أن عليا عليه‌السلام مرّ ـ بعد واقعة الجمل ـ بالحسن البصري وهو يتوضّأ. فقال : يا حسن أسبغ الوضوء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لقد قتلت بالأمس أناسا يشهدون الشهادتين ويصلّون الخمس ويسبغون الوضوء! فقال له أمير المؤمنين : فما منعك أن تعين علينا عدوّنا؟ فقال : لقد خرجت ، وأنا لا أشكّ أن التخلّف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر ، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة (موضع وقع قتال الجمل فيه) ناداني مناد : ارجع يا حسن ، فإنّ القاتل والمقتول في النار. فقال علي : صدقك ذاك أخوك إبليس ، إن القاتل والمقتول منهم في النار (١).

وهكذا أرسل القطب الراوندي : أن عليا عليه‌السلام قال له : أسبغ طهورك يا لفتي (٢) ، فقال : لقد قتلت بالأمس رجالا كانوا يسبغون الوضوء! قال عليه‌السلام : وإنك لحزين عليهم؟ قال : نعم. فقال : فأطال الله حزنك. قالوا : فما رأينا الحسن قطّ إلّا حزينا ، كأنّه يرجع عن دفن حميم ، أو خرّ بندج ضلّ حماره. فقيل له في ذلك ، فقال : عمل فيّ دعوة الرجل الصالح! (٣).

وذكر ابن أبي الحديد فيمن كان يبغض عليّا عليه‌السلام الحسن البصري ، قال : روى عنه حماد أنه قال : لو كان عليّ يأكل الحشف (٤) بالمدينة لكان خيرا له مما دخل فيه. ورووا عنه أنه كان من المخذّلين عن نصرته. وروي عنه أن عليّا عليه‌السلام رآه وهو يتوضّأ ـ وكان ذا وسوسة ـ فصبّ على أعضائه ماء كثيرا ، فقال له : أرقت ماء كثيرا

__________________

(١) كتاب الاحتجاج المنسوب إلى الطبرسي (؟) (ط نجف) ، ج ١ ، ص ٢٥٠.

(٢) على وزان «قبطي» قيل : معناه الشيطان بالنبطية.

(٣) الخرائج والجرائح ، ج ٢ ، ص ٥٤٧ رقم ٨ ، والبحار ، ج ٤١ ، ص ٣٠٢ رقم ٣٣ ، وج ٤٢ ، ص ١٤٣ رقم ٥.

(٤) الحشف : أردأ التمر ، أو اليابس الفاسد من التمر.

٣٧٦

يا حسن ؛ فقال : ما أراق أمير المؤمنين من دماء المسلمين أكثر! قال : أوساءك ذلك؟ قال : نعم. قال : فلا زلت مسوّأ. قالوا : فما زال الحسن عابسا قاطبا مهموما إلى أن مات (١).

هذا كل ما قيل بشأنه دليلا على انحرافه عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لكنها روايات لا إسناد لها ، فضلا عما بينها من تهافت وتضارب ، وقد أنكرها ابن أبي الحديد بشدّة على ما سنذكر.

قلت : ولحسن الحظّ أن واضع هذه الروايات قد ذهب عنه أن الحسن ـ وهو غلام يافع ـ لم يكن له شأن ذلك اليوم ، ولم يكن حاضر البصرة يوم الجمل ، ولم يخرج إلى العراق بعد ، إلّا في أيام طعن في السّنّ وكبر ، أيّام عبد الملك بن مروان وما بعده. كما يظهر من رواية الورّاق : كان جابر بن زيد رجل أهل البصرة ، فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان في الآخرة (٢). وجابر بن زيد توفّي سنة (٩٣ أو ١٠٣) كان الحسن عند مقتل عثمان لم يبلغ الحلم. قال ابن سعد :

كان للحسن يومذاك أربع عشرة سنة. قال أبو رجاء : قلت للحسن : متى عهدك بالمدينة؟ قال : ليالي صفّين. قلت : متى احتلمت؟ قال : بعد صفّين عاما (٣). وقال ابن حبّان : احتلم سنة (٣٧) ، وأدرك بعد صفين (٤).

وعليه فكان يوم الجمل غلاما حوالي البلوغ ما بين (١٤ ـ ١٥) سنة ، فضلا

__________________

(١) شرح النهج ، ج ٤ ، ص ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٦٤.

(٣) طبقات ابن سعد ، ج ٧ ، ق ١ ، ص ١١٤.

(٤) تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٧٠.

٣٧٧

عن كونه بالمدينة حينذاك ولم يخرج إلى العراق. وقد عرفت تصريح العلماء بذلك (١).

وإليك من كلام ابن أبي الحديد في ذلك :

قال : فأمّا أصحابنا فإنهم يدفعون ذلك عنه وينكرونه ، ويقولون : إنه كان من محبّي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والمعظّمين له. وروى أبو عمرو ابن عبد البر في كتابه «الاستيعاب» أن إنسانا سأل الحسن عن علي عليه‌السلام ، فقال : كان والله سهما صائبا من مرامي الله على عدوّه ، وربّانيّ هذه الأمة وذا فضلها ، وذا سابقتها ، وذا قرابتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن بالنؤمة عن أمر الله ، ولا بالملومة في دين الله ، ولا بالسروقة لمال الله. أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة ، ذلك عليّ بن أبي طالب ، يا لكع! (٢)

وروى الواقدي ، قال : سئل الحسن عن علي عليه‌السلام ، وكان يظنّ به الانحراف عنه ، ولم يكن كما يظنّ ، فقال : ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع : ائتمانه على براءة ، وما قال له الرسول في غزاة تبوك : فلو كان غير النبوّة شيء يفوته لاستثناه ، وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الثقلان كتاب الله وعترتي» ، وأنه لم يؤمّر عليه أمير قطّ ، وقد أمّرت الأمراء على غيره.

وروى أبان بن أبي عياش ، قال : سألت الحسن البصري عن علي عليه‌السلام ، فقال : ما أقول فيه! كانت له السابقة ، والفضل ، والعلم ، والحكمة ، والفقه ، والرأي ، والصحبة ، والنجدة ، والبلاء ، والزهد ، والقضاء ، والقرابة. إنّ عليا كان في أمره عليّا. رحم الله عليّا ، وصلّى عليه.

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٦٦ ـ ٢٧٠.

(٢) اللّكع : الأحمق واللئيم.

٣٧٨

فقلت : يا أبا سعيد ، أتقول : «صلّى عليه» لغير النبيّ! فقال : ترحّم على المسلمين إذا ذكروا ، وصلّ على النبيّ وآله ، وعليّ خير آله.

فقلت : أهو خير من حمزة وجعفر؟ قال : نعم. قلت : وخير من فاطمة وابنيها؟ قال : نعم. والله إنه خير آل محمد كلّهم. ومن يشكّ أنه خير منهم ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وأبوهما خير منهما»! ولم يجر عليه اسم شرك ، ولا شرب خمر. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة عليها‌السلام : «زوّجتك خير أمّتي»! فلو كان في أمّته خير منه لاستثناه. ولقد آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أصحابه ، فآخى بين عليّ ونفسه. فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير الناس نفسا ، وخيرهم أخا.

فقلت : يا أبا سعيد ، فما هذا الذي يقال عنك ، أنك قلته في عليّ؟ فقال : يا ابن أخي ، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة ، ولو لا ذلك لشالت بي الخشب (١).

وذكر أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي (ت ٤٤٩) أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وعامر الشعبي ، أن يخبروه بقولهم في القضاء والقدر.

فكتب إليه الحسن : «ما أعرف فيه إلا ما قاله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فإنه قال : يا ابن آدم أزعمت أنّ الذي نهاك دهاك ، وإنما دهاك أسفلك وأعلاك. وربك بريء من ذاك».

وكتب إليه واصل : «ما أعرف فيه إلّا ما قاله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فإنه قال : ما تحمد الله عليه فهو منه. وما تستغفر الله عنه فهو منك».

وكتب إليه عمرو : «ما أعرف فيه إلّا ما قاله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فإنه قال : إن

__________________

(١) شرح النهج ، ج ٤ ، ص ٩٥ ـ ٩٦.

٣٧٩

كان الوزر في الأصل محتوما ، لكان الموزور في القصاص مظلوما».

وكتب إليه الشعبي : «ما أعرف فيه إلّا ما قاله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : من وسع عليك الطريق ، لم يأخذ عليك المضيق».

فلما قرأ الحجاج أجوبتهم ، قال : قاتلهم الله ، لقد أخذوها من عين صافية (١).

وقال الشريف المرتضى : وأحد من تظاهر من المتقدمين بالقول بالعدل ، الحسن بن أبي الحسن البصري. كان يقول : من زعم أنّ المعاصي من الله ـ عزوجل ـ جاء يوم القيامة مسودّا وجهه ، ثم قرأ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)(٢) ـ وذكر عنه كثيرا من أقواله في ذلك ـ ثم قال : وروى أبو بكر الهذلي (٣) أنّ رجلا قال للحسن : إن الشيعة تزعم أنك تبغض عليا عليه‌السلام! فأكبّ يبكي طويلا ، ثم رفع رأسه فقال : لقد فارقكم بالأمس رجل كان سهما من مرامي ربّنا ـ عزوجل ـ على عدوّه ، ربّانيّ هذه الأمّة ، ذو شرفها وفضلها ، وذو قرابة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريبة ، لم يكن بالنؤمة عن أمر الله ، ولا بالغافل عن حق الله ، ولا بالسّروقة من مال الله ، أعطى القرآن عزائمه فيما له وعليه ، فأشرف منها على رياض مونقة ، وأعلام بيّنة. ذلك ابن أبي طالب ، يا لكع!

__________________

(١) كنز الفوائد (ط حجرية) ، ص ١٧٠. ونقله الجزائري في زهر الربيع ، ج ٢ ، ص ٩٦ ـ ٩٧ ، باختلاف في الترتيب مع نقص.

(٢) الرمز / ٦٠.

(٣) اسمه سلمى ، وقيل : روح ، ابن عبد الله بن سلمى البصري. قال ابن حجر : هو ابن بنت حميد بن عبد الرحمن الحميري. مات سنة (١٦٧) كان من علماء الناس بأيّامهم. روى عن الحسن وابن سيرين والشعبي وعكرمة وقتادة. وروى عنه ابن جريج ووكيع وابن عيينة وآخرون. (تهذيب التهذيب ، ج ١٢ ، ص ٤٥)

٣٨٠