التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

وقوله تعالى : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١) معناه ، لا ينيلهم رحمته.

قال رحمه‌الله : وليس النظر بمعنى الرؤية أصلا ، بدلالة أنهم يقولون : نظرت إلى الهلال فلم أره. فلو كان بمعنى الرؤية لتناقض ؛ ولأنّهم يجعلون الرؤية غاية للنظر ، يقولون : ما زلت أنظر إليه حتى رأيته ، ولا يجعل الشيء غاية لنفسه ، فلا يقال : ما زلت أراه حتى رأيته. قال : والنظر ـ في الأصل ـ تقليب حدقة العين نحو المرئي طلبا للرؤية ، فاستعمل في مطلق التأميل والتوقّع والانتظار.

قال : وليس لأحد أن يقول : إنّ ذا يخالف إجماع المفسرين القدامى ؛ لأنا لا نسلم ذلك ، بل قد قال مجاهد وأبو صالح (والحسن (٢)) وسعيد بن جبير والضحّاك : إن المراد نظر الثواب.

وروى مثله عن عليّ عليه‌السلام ثم أخذ في التعمّق والاستدلال ، جزاه الله عن الإسلام خيرا (٣).

تفسير مجاهد برواية ابن أبي نجيح

هناك تفسير متقطع ومرتّب على السور ، يبتدئ من سورة البقرة حتى نهاية القرآن ، منسوب إلى مجاهد ، يرويه عنه أبو يسار عبد الله بن أبي نجيح يسار ، الثقفي الكوفي (توفّي سنة ١٣١) ، بطريق عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد الهمذاني ، عن إبراهيم الحسين الهمذاني ، عن آدم بن أياس ، عن ورقاء بن عمر اليشكري عن ابن أبي نجيح. وقد صحّحه الأئمّة واعتمده أرباب الحديث.

__________________

(١) آل عمران / ٧٧.

(٢) ضم الحسن إلى هؤلاء الأعلام يخالف ما نقلناه عن الطبري ، روى بإسناده عن الحسن ، قال : تنظر إلى خالقها ، وحقّ لها أن تنظر وهي تنظر إلى الخالق. (تفسير الطبري ، ج ٢٩ ، ص ١١٩ ـ ١٢٠)

(٣) أورد هذا البحث في موضعين من تفسيره القيم «التبيان» ، ج ١ ، ص ٢٢٧ ـ ٢٢٩ ، وج ١٠ ، ص ١٩٧ ـ ١٩٩.

٣٤١

قال وكيع بن الجراح (١) : كان سفيان يصحّح تفسير ابن أبي نجيح. قال أحمد ابن حنبل : ابن أبي نجيح ثقة ، وكان أبوه من خيار عباد الله (٢). قال الذهبي : هو من الأئمّة الثقات (٣). وقد اعتمده البخاري فيما يرويه في التفسير عن مجاهد (٤). قال ابن تيميّة : تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصحّ التفاسير ، بل ليس بأيدي أهل التفسير كتاب في التفسير أصحّ من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد (٥).

وقد طبع هذا التفسير باهتمام مجمع البحوث الإسلامية في باكستان سنة (١٣٦٧ ه‍. ق) وهذا التفسير ينقص كثيرا عما جاء في الطبري من تفسير مجاهد ، لكنه عن غير طريق ابن أبي نجيح.

قال شواخ : وقد نقل الطبري من هذا التفسير حوالي (٧٠٠) مرة في مواضع مختلفة. وقد دخلت بعض أجزاء هذا التفسير في تفسير الطبري عن طريق تفاسير أخرى ، مثل تفسير ابن جريج والثوري وغيرهما (٦).

__________________

(١) من أكابر الحفّاظ ومن الأئمّة الأعلام (٢٧ ـ ٩٦) من أصحاب سفيان الثوري. قال القعنبي كنّا عند حماد بن زيد فجاء وكيع ، فقالوا : هذا راوية سفيان. فقال حماد : لو شئت قلت هذا أرجح من سفيان. وقال : أحمد : وكيع شيخ ، مطبوع الحديث. (تهذيب التهذيب ، ج ١١ ، ص ١٢٥)

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٦ ، ص ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) ميزان الاعتدال ، ج ٢ ، ص ٥١٥ رقم ٤٦٥١.

(٤) انظر : فتح الباري بشرح البخاري ـ كتاب التفسير ـ ، ج ٨ ، ص ١٢٢ و ١٢٥.

(٥) تفسيره لسورة الإخلاص ، ص ٩٤. راجع : المقدمة بقلم عبد الرحمن الطاهر مندوب المجمع ص ٦٠.

(٦) معجم مصنفات القرآن الكريم ، ج ٢ ، ص ١٦٠ رقم ٩٩٤.

٣٤٢

٤ ـ طاوس بن كيسان

أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان الخولاني الهمدانى اليماني ، من أبناء الفرس ، أحد الأعلام التابعين. كان فقيها جليل القدر ، نبيه الذكر. قال ابن عيينة : قلت لعبيد الله بن أبي يزيد : مع من تدخل على ابن عباس؟ قال : مع عطاء وأصحابه. قلت : وطاوس؟ قال : أيهات ، كان ذلك يدخل مع الخواصّ. وقال عمرو بن دينار : ما رأيت أحدا قطّ مثل طاوس (١).

وقد شهد بشأنه الكثير من العلماء ، فعن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، قال : إني لأظن طاوسا من أهل الجنّة. وقال ابن حبّان : كان من عبّاد أهل اليمن ، ومن سادات التابعين ، وكان قد حجّ أربعين حجّة ، وكان مستجاب الدعوة. وقال ابن عيينة : متجنّبو السلطان ثلاثة : أبو ذر في زمانه ، وطاوس في زمانه ، والثوري في زمانه. وكان ابن معين يعدله بسعيد بن جبير (٢).

قال أبو نعيم : هو أوّل الطبقة من أهل اليمن ، الذين قال فيهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإيمان يمان. وقد أدرك خمسين رجلا من الصحابة وعلماءهم وأعلامهم ، وأكثر روايته عن ابن عباس. وروى عنه الصفوة من الأئمّة التابعين (٣).

وعدّه ابن شهرآشوب من أصحاب الإمام زين العابدين عليه‌السلام ووصفه بالفقيه (٤). وله مع الإمام مواقف مشهودة ، منها :

عند ما خرّ الإمام ساجدا عند بيت الله الحرام ، فدنا منه وشال برأسه ووضعه

__________________

(١) ابن خلكان : وفيات الأعيان ، ج ٢ ، ص ٥٠٩ رقم ٣٠٦. والحلية ، ج ٤ ، ص ٩.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٥ ، ص ٨ ـ ١٠.

(٣) حلية الاولياء ، ج ٤ ، ص ٣ ـ ٢٣.

(٤) المناقب ، ج ٤ ، ص ١٧٧. وكذا الشيخ في رجاله. معجم رجال الحديث ، ج ٩ ، ص ١٥٥ رقم ٥٩٨٤.

٣٤٣

على ركبته ، وبكى حتى جرت دموعه على خدّ الإمام ، وعند ذلك استوى الإمام جالسا ، وقال : من الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟! فقال : أنا طاوس يا ابن رسول الله ، ما هذا الجزع والفزع؟! (١). وأيضا موقفه الآخر مع الإمام في الحجر (٢) ، مما يدلّ على اختصاصه به وشدّة قربه منه عليه‌السلام. واليمانيّون ـ ولا سيّما همدان ـ معروفون بالولاء ، وإن كانت النسبة بالولاء.

وهكذا كان يوم موته سنة (١٠٦) أيضا يوما مشهودا ، وقد وضع عبد الله بن الحسن المثنّى سريره على كاهله ، وقد سقطت قلنسوته ومزّق رداؤه ، من كثرة الزحام (٣).

كما أن له مع طواغيت زمانه مواقف حاسمة ، إنما تدل على صلابته في جنب الله :

قال ابن خلكان : قدم هشام بن عبد الملك حاجّا إلى بيت الله الحرام ، فلما دخل الحرم قال : آتوني برجل من الصحابة ، فقيل له : قد تفانوا. قال : فمن التابعين ، فأتي بطاوس اليماني. فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ، ولم يسلّم بإمرة المؤمنين ، ولم يكنّه ، وجلس إلى جانبه بغير إذنه ، وقال : كيف أنت يا هشام؟

فغضب هشام من ذلك غضبا شديدا وهمّ بقتله ، فقيل له : أنت في الحرم ، لا يمكن ذلك.

فقال : يا طاوس ، ما حملك على ما صنعت؟ قال : وما صنعت؟ فاشتدّ غضبه

__________________

(١) المناقب ، ج ٤ ، ص ١٥١. والبحار ، ج ٤٦ ، ص ٨٢.

(٢) الإرشاد للمفيد ، ص ٢٧٣. والبحار ، ج ٤٦ ، ص ٧٦.

(٣) ابن خلكان ، ج ٢ ، ص ٥٠٩ رقم ٣٠٦.

٣٤٤

وغيظه ، وقال : خلعت نعليك بحاشية بساطي ، ولم تسلّم بإمرة المؤمنين ، ولم تكنّني ، وجلست بإزائي بغير إذني ، وقلت : يا هشام ، كيف انت؟!

قال : أمّا خلع نعليّ بحاشية بساطك ، فإني أخلعهما بين يديّ ربّ العزّة كل يوم خمس مرّات ، فلا يعاتبني ولا يغضب عليّ. وأما ما قلت : لم تسلّم عليّ بإمرة المؤمنين ، فليس كل المؤمنين راضين بإمرتك ، فخفت أن أكون كاذبا. وأما ما قلت : لم تكنّني ، فإن الله عزوجل سمّى أنبياءه ، قال : يا داود ، يا يحيى ، يا عيسى. وكنّى أعداءه فقال : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ). وأما قولك : جلست بإزائي ، فإني سمعت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : «إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار ، فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام».

فقال له هشام : عظني! قال : إني سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «إن في جهنّم حيّات كالقلال ، وعقارب كالبغال ، تلدغ كلّ أمير لا يعدل في رعيّته» ، ثم قام وخرج (١).

انظر كيف يكرّر لفظ «أمير المؤمنين» يعني به عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في حين امتناعه من التسليم عليه بذلك ، بحجة أنّ في المؤمنين ـ ويعني أمثال نفسه ـ من لا يرضى بإمرته! إن هذا إلّا تربية أهل الولاء لآل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيرهم إطلاقا.

وروى ابن خلكان بشأن ابنه عبد الله ما يشبه صلابة أبيه في الدين ، قال : وروي أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور ، استدعى عبد الله بن طاوس ومالك ابن أنس ، فأحضرهما. فلمّا دخلا عليه أطرق المنصور ساعة ، ثم التفت إلى ابن

__________________

(١) ابن خلكان ، ج ٢ ، ص ٥١٠.

٣٤٥

طاوس ، وقال له : حدّثني عن أبيك. فقال : حدّثني أبي أن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى في سلطانه ، فأدخل عليه الجور في حكمه. فأمسك أبو جعفر ساعة ، قال مالك : فضممت ثيابي خوفا أن يصيبني دمه. ثم قال له المنصور : ناولني تلك الدواة ـ ثلاث مرّات ـ فلم يفعل ، فقال له : لم لا تناولني؟ فقال : أخاف أن تكتب بها معصية ، فأكون قد شاركتك فيها! فلما سمع ذلك ، قال : قوما عني. قال عبد الله : ذلك ما كنّا نبغي. قال مالك : فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم (١).

قلت : وهذا يتنافى مع تاريخ وفاته بسنة (١٣٢) حسبما ذكره ابن حجر (٢) ؛ لأن أبا جعفر إنّما تصدّى للخلافة بعد موت السفّاح سنة (١٣٦) (٣). وقد ذكر ابن خلكان تلك الحكاية عن المنصور بعنوان أنه أمير المؤمنين.

كما يتنافى هذا الموقف من ابن طاوس مع ما ذكروا عنه أنه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك ، وكان كثير الحمل على أهل البيت (٤).

ولعل عبد الله هذا هو ابن عطاء ، الذي صحب الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، وكان من خلّص شيعتهما كأبيه عطاء بن أبي رباح (٥). قال الكشّي : ولد عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس : عبد الملك ، وعبد الله ، وعريف ، نجباء ، من أصحاب

__________________

(١) ابن خلكان ، ج ٢ ، ص ٥١١.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٥ ، ص ٢٦٧.

(٣) تتمة المنتهى للقمي ، ص ١٦٧.

(٤) تهذيب الأحكام للشيخ أبي جعفر الطوسي ، ج ٩ ، ص ٢٦٢. وتهذيب التهذيب لابن حجر ، ج ٥ ص ٢٦٨.

(٥) راجع : الإرشاد للمفيد ، ص ٢٦٣. وبصائر الدرجات للصفّار ، ص ٢٥٢ ـ ٢٥٣ وص ٢٥٧ ـ ٢٥٨ وروضة الكافي ، ج ٨ ، ص ٢٧٦ رقم ٤١٧. والمناقب لابن شهرآشوب ، ج ٤ ، ص ١٨٨ وص ٢٠٤.

٣٤٦

أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. ثم روى حديثا يدل على اختصاص عبد الله بالصادق ، وقربه منه حسبما يأتي (١).

ولطاوس مواقف وآراء تخصّه لا تخلو من طرافة وظرافة ، منها : أنه كان يكره أن يقول : حجّة الوداع ، ويقول : حجة الإسلام! أخرج ذلك ابن سعد عن إبراهيم بن ميسرة عنه (٢).

وكان ابنه يقول : إن العالم لا يخرف ، يريد أباه. فقد أخرج أبو نعيم بإسناده إلى وكيع ، قال : حدثنا أبو عبد الله الشامي ، قال : أتيت طاوسا فخرج إليّ ابنه شيخ كبير ، فقلت : أنت طاوس؟ فقال : أنا ابنه. قلت : فإن كنت ابنه فإن الشيخ قد خرف ، يعني أباه طاوسا. فقال : إنّ العالم لا يخرف (٣).

وأخرج أبو نعيم بإسناده عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن بريدة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من كنت مولاه فعليّ مولاه». قال أبو نعيم : غريب من حديث طاوس ، لم نكتبه إلّا من هذا الوجه (٤).

وله ذيل قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) حديث طريف جرى بين رسول الله وعلي عليهما‌السلام. وقد تفرّد بنقله عنه وهب بن منبّه الذي وصفه أبو نعيم بالحكيم الحليم (٥).

وجاء ابن سليمان بن عبد الملك فجلس إلى جنب طاوس ، فلم يلتفت إليه ،

__________________

(١) رجال الكشّي (ط نجف) ، ص ١٨٨.

(٢) الطبقات (ط ليدن) ، ج ٢ ، ص ١٣٥ س ١٨.

(٣) حلية الأولياء ، ج ٤ ، ص ١١.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٢٣.

(٥) المصدر نفسه ، ص ٢٢ ـ ٢٣ ، والآية من سورة الزخرف / ٦٧.

٣٤٧

فقيل له : جلس إليك ابن أمير المؤمنين ، فلم تلتفت إليه؟! قال : أردت أن يعلم أن لله عبادا يزهدون فيما في يديه ، يعني يدي ابن الخليفة (١).

كما أنّ له مع سليمان بن عبد الملك موقفا حكيما يدلّ على صلابته في الدين وصدقه في جنب الله (٢).

وفسر قوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) قال : في أمور النساء ، ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمور النساء (٣).

وفسر قوله تعالى : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال : بعيد من قلوبهم (٤).

وكان يقول : لم يجهد البلاء من لم يتولّ اليتامى أو يكون قاضيا بين الناس في أموالهم ، أو أميرا على رقابهم (٥).

٥ ـ عكرمة مولى ابن عباس

أبو عبد الله عكرمة بن عبد الله. أصله من البربر من أهل المغرب ، كان لحصين بن الحرّ العنبري ، فوهبه لابن عباس ، حين ولّي البصرة لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، واجتهد ابن عباس في تعليمه القرآن والسّنن ، وسماه بأسماء العرب (٦).

__________________

(١) حلية الأولياء ، ج ٤ ، ص ١٦.

(٢) المصدر نفسه ، ص ١٥.

(٣) المصدر نفسه ، ص ١٢ ، والآية من سورة النساء / ٢٨.

(٤) المصدر نفسه ، ص ١١ ، والآية من سورة فصلت / ٤٤.

(٥) المصدر نفسه ، ص ١٣.

(٦) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان ـ ، ج ٣ ، ص ٢٦٥ رقم ٤٢١. وفي الطبقات : كان ابن عباس يسمّي

٣٤٨

قال ابن سعد : كان يقيّده فيعلّمه القرآن ويعلّمه السّنن (١). فربّاه فأحسن تربيته ، وعلّمه فأحسن تعليمه ، وأصبح فقيها وأعلم الناس بالتفسير ومعاني القرآن. قال ابن خلكان : أصبح عكرمة أحد فقهاء مكة وتابعيها ، وكان ينتقل من بلد إلى بلد. قال : وروي أن ابن عباس قال له : انطلق فأفت للناس. وقيل لسعيد بن جبير : هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال : عكرمة.

وأخرج الذهبي عن عكرمة قال : طلبت العلم أربعين سنة ، وكنت أفتي بالباب وابن عباس في الدار (٢).

وأخرج ابن سعد عن سلّام بن مسكين ، قال : كان عكرمة من أعلم الناس بالتفسير. وعن عمرو بن دينار ، قال : دفع إليّ جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة ، وجعل يقول : هذا عكرمة مولى ابن عباس ، هذا البحر فسلوه. وأخرج عنه أبو نعيم ، قال : هذا عكرمة مولى ابن عباس ، هذا أعلم الناس.

وكان ابن عباس لا يدع فرصة لتعليمه ، قال عكرمة : قال لي ابن عباس ونحن ذاهبون من منى إلى عرفات : هذا يوم من أيامك (أي هذه فرصة لك فاغتنمها) فجعلت أرجن به ويفتح عليّ ابن عباس (٣).

وأخرج ابن سعد أيضا عن خالد بن القاسم البياضي قال : مات عكرمة وكثير

__________________

عبيده أسماء العرب ، عكرمة وسميع وكريب. وكان يأمرهم بالتزويج وترك العزوبة. (ابن سعد ، ج ٥ ، ص ٢١٢).

(١) الطبقات ، ج ٥ (ط ليدن) ، ص ٢١٢. قال : كان يضع في رجله الكبل لذلك. وراجع : أيضا ، ج ٢ ، ص ١٣٣. وراجع : حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني ، ج ٣ ، ص ٣٢٦ رقم (٢٤٥) وفي الميزان ، ج ٣ ، ص ٩٥ رقم ٥٧١٦ : كان يضع في رجلي الكبل على تعليم القرآن والفقه.

(٢) ميزان الاعتدال ، ج ٣ ، ص ٩٥ ، رقم ٥٧١٦.

(٣) أرجن به ، أي أوقفه فأسأله. (الطبقات ، ج ٥ ، ص ٢١٢).

٣٤٩

عزّة الشاعر في يوم واحد سنة (١٠٥) فرأيتهما جميعا صلّي عليهما في موضع واحد بعد الظهر في موضع الجنائز ، فقال الناس : مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس (١).

وأخرج أبو نعيم عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : سمعت الشعبي يقول : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله تعالى من عكرمة. وعن سلّام بن مسكين ، قال : سمعت قتادة يقول : أعلمهم بالتفسير عكرمة.

وأخرج عن يزيد النحوي عن عكرمة ، قال ابن عباس لي : انطلق فأفت للناس ، فمن سألك عمّا يعنيه فأفته ، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته ، فإنك تطرح عنّي ثلثي مئونة الناس.

وعن عمرو بن دينار ، قال : كنت إذا سمعت من عكرمة يحدّث عن المغازي ، كأنّه مشرف عليهم ينظر كيف كانوا يصنعون ويقتتلون. وكان سفيان الثوري يقول بالكوفة : خذوا التفسير عن أربعة : سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة. وفي رواية : تبديل عطاء بالضحاك (٢).

وأخرج ابن حجر عن يزيد النحوي عن عكرمة ، قال : قال لي ابن عباس : انطلق فأفت بالناس وأنا لك عون. قال : فقلت له : لو أن هذا الناس مثلهم مرّتين لأفتيتهم. قال : فانطلق فأفتهم ، فمن جاءك يسألك عمّا يعنيه فأفته ، ومن سألك عمّا لا يعنيه فلا تفته ، فإنك تطرح عنك ثلثي مئونة الناس.

وقال ابن جوّاس : كنّا مع شهر بن حوشب بجرجان ، فقدم علينا عكرمة ، فقلنا لشهر : ألا نأتيه؟ فقال : ائتوه ، فإنه لم يكن أمّة إلّا كان لها حبر ، وأن مولى ابن عباس

__________________

(١) الطبقات ، ج ٥ ، ص ٢١٦.

(٢) حلية الأولياء ، ج ٣ ، ص ٣٢٦ ـ ٣٢٩.

٣٥٠

حبر هذه الأمّة (١). فقد حمل هذا اللقب الرفيع من مؤدّبه ابن عباس وورثه منه.

وقال المروزي : كان عكرمة أعلم شاكردي ابن عباس بالتفسير ، وكان يدور البلدان يتعرّض (٢).

وقال قتادة : كان أعلم التابعين عطاء وسعيد بن جبير وعكرمة ، قال : وأعلمهم بالتفسير عكرمة.

وقال ابن عيينة : سمعت أيّوب يقول : لو قلت لك : إن الحسن ترك كثيرا من التفسير ، حين دخل علينا عكرمة البصرة حتى خرج منها ، لصدقت (٣).

وقال ابن المديني : كان عكرمة من أهل العلم ، ولم يكن في موالي ابن عباس أغزر علما منه.

وقال ابن مندة : قال أبو حاتم : أصحاب ابن عباس عيال على عكرمة.

وقال ابن خيثمة : كان عكرمة من أثبت الناس فيما يروي (٤).

تلك شهادات ضافية ومستفيضة بشأن الرجل ، تجعله في قمّة الفضيلة والعلم ، والثقة والاعتماد عليه لدى الأئمّة ، مما يوهن ماحيك حول الرجل من أوهام وأكاذيب مفضوحة ، ليست تتناسب مع شخصيّة كانت تربية مثل ابن عباس ، وموضع عنايته الخاصة.

قال أبو جعفر الطبري : ولم يكن أحد يدفع عكرمة عن التقدّم في العلم بالفقه

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٦٥ ، وميزان الاعتدال ، ج ٣ ، ص ٩٣ ، رقم ٥٧١٦.

(٢) المصدر نفسه. وشاگرد ـ بالكاف الفارسية ـ : التلميذ. وقد ذكره ابن حجر في مقدمة شرح البخاري ص ٤٢٨ بلفظ : «كان عكرمة أعلم موالي ابن عباس وأتباعه بالتفسير».

(٣) المصدر نفسه ، ص ٢٦٦.

(٤) ابن حجر في مقدمة شرح البخاري ، ص ٤٢٨.

٣٥١

والقرآن وتأويله ، وكثرة الرواية للآثار ، وأنه كان عالما بمولاه. وفي تقريظ جلّة أصحاب ابن عباس إيّاه ووصفهم له بالتقدّم في العلم وأمرهم الناس بالأخذ عنه ، ما بشهادة بعضهم تثبت عدالة الإنسان ، ويستحقّ جواز الشهادة. ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح ، وما تسقط العدالة بالظنّ ، ويقول فلان لمولاه : لا تكذب عليّ ، وما أشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعان غير الذي وجّهه إليه أهل الغباوة ، ومن لا علم له بتصاريف كلام العرب (١).

وقال أبو نعيم : ومنهم مفسّر الآيات المحكمة ، ومنوّر الروايات المبهمة ، أبو عبد الله مولى ابن عباس عكرمة. كان في البلاد جوّالا ، ومن علمه للعباد بذّالا (٢).

وأما الذين طعنوا فيه ، فقد قصرت أنظارهم ولم يعرفوا وجه المخرج من ذلك ، مع وضوح براءة الرجل مما قيل فيه. ويتلخص في رميه بالكذب ، وميله إلى رأي الخوارج. أما الأول فلرواية رووها عن ابن عمر أنه قال لمولاه نافع : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. وأما الثاني فلوهم توهّموه من سفرته إلى المغرب عند تجواله البلاد ، وأن الخوارج هناك أخذوا عنه أحاديث.

ومن الواضح أنّ هكذا تشبّثات غريبة إنما تنمّ عن حسد كان يحمله مناوئوه تجاه منزلة الرجل وشموخه في الفقه والعلم ، بمعاني القرآن الكريم.

قال ابن حجر ـ بشأن الرواية عن ابن عمر ـ : إنها ضعيفة الإسناد ، فضلا عن اختلاف المتن وتباين النقل فيها. قال : إنها لم تثبت ؛ لأنها من رواية أبي خلف الجزّار عن يحيى البكّاء ، والبكّاء متروك الحديث.

__________________

(١) عن المقدمة لابن حجر ، ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩.

(٢) حلية الأولياء ، ج ٣ ، ص ٣٢٦ ، رقم ٢٤٥.

٣٥٢

ومن ثم قال ابن حبّان : ومن المحال أن يجرّح العدل بكلام المجروح. يقصد به البكّاء.

وأضاف ابن حجر : أن إسحاق بن عيسى سأل مالكا : أبلغك أن ابن عمر قال لنافع كذا؟ قال : لا. ولكن بلغني أن سعيد بن المسيّب قال ذلك لمولاه برد! (١)

قلت : ولقد كان رميه بالكذب شائعا على عهده ، وربما على عهد سيّده ابن عباس أيضا ؛ حيث ورد الذّبّ عن نفسه صريحا ، وإنكار ابن عباس ذلك.

قال ابن حكيم : كنت جالسا مع أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، إذ جاء عكرمة ، فقال : يا أبا أمامة ، أذكّرك الله ، هل سمعت ابن عباس يقول : «ما حدّثكم عكرمة عنّي فصدّقوه ، فإنه لم يكذب عليّ»؟ فقال أبو أمامة : نعم (٢).

وقال أيّوب : قال عكرمة : أرأيت هؤلاء الذين يكذّبوني من خلفي ، أفلا يكذّبوني في وجهي! قال ابن حجر : يعني أنهم إذا واجهوه بذلك أمكنه الجواب عنه والمخرج منه. وذلك أن عكرمة كان يسمع الحديث من شيخ ومثله من شيخ آخر ، فربما حدّث وأسنده إلى الأول ، ثم يحدّث ويسنده إلى الآخر ، فمن ذلك رموه بالكذب ، كما قال أبو الأسود : كان عكرمة ربما سمع الحديث من رجلين ، فكان إذا سئل حدّث به عن رجل ، ثم يسأل عنه بعد حين فيحدّث به عن الآخر ، فيقولون : ما أكذبه! وهو صادق (٣).

قال ابن حجر : احتجّ بحديث عكرمة البخاري وأصحاب السّنن. وتركه مسلم ـ إلّا حديثا واحدا ـ وإنما تركه لكلام مالك فيه (كان مالك لا يراه ثقة ويأمر

__________________

(١) مقدمة شرح البخاري ، ص ٤٢٥.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٦٥ والمقدمة ، ص ٤٢٧.

(٣) مقدمة فتح الباري ، ص ٤٢٧.

٣٥٣

أن لا يؤخذ عنه) (١). قال : وقد تعقّب جماعة من الأئمّة ذلك ، وصنّفوا في الذّبّ عن عكرمة ، منهم : أبو جعفر ابن جرير الطبري ، ومحمّد بن نصر المروزي ، وأبو عبد الله ابن مندة ، وأبو حاتم ابن حبّان ، وأبو عمرو ابن عبد البرّ ، وغيرهم.

وقد لخّص ابن حجر ما قيل فيه ، ثم عقّبه بالإجابة عليه ، قائلا : فأما أقوال من أوهاه ، فمدارها على ثلاثة أشياء : على رميه بالكذب ، وعلى الطّعن فيه بأنه كان يرى رأي الخوارج ، وعلى القدح فيه بأنه كان يقبل جوائز الأمراء. قال : أما قبول الجوائز فجمهور أهل العلم على الجواز ، وقد صنّف في ذلك ابن عبد البرّ (٢) قال : على أن ذلك ليس بمانع من قبول روايته ، وهذا الزهري قد كان في ذلك أشهر من عكرمة ، ومع ذلك فلم يترك أحد الرواية عنه بسبب ذلك (٣).

وأما تهمة البدعة فإنّها لم تثبت ، وقد نفاها عنه جماعة من الأئمّة النقّاد. قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن عكرمة ، فقال : ثقة. قلت : يحتجّ بحديثه؟ قال : نعم ، إذا روى عنه الثقات. والذي أنكر عليه مالك ، إنما هو بسبب رأي ، على أنه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنه كان يرى ذلك ، وإنما كان يوافق في بعض المسائل (٤)

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٦٨. وفي الميزان ، ج ٣ ، ص ٩٥ : قال مطرف : سمعت مالكا يكره أن يذكر عكرمة ، ولا رأى أن يروي عنه.

(٢) لم نجد فقيها من فقهاء ذلك العهد ، كان قد سلم من ذلك ، لا سيّما إذا كان الأمير صالحا ، وكان الفقيه بحاجة ، كما هو الشأن في مثل عكرمة. فقد قيل له : ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ قال : الحاجة. (طبقات ابن سعد ، ج ٥ ، ص ٢١٤) وفي رواية : أسعى على عيالي (مقدمة الفتح ، ص ٤٢٦)

(٣) مقدمة فتح الباري ، ص ٤٢٤ ـ ٤٢٧.

(٤) ما من مذهب وطريقة إلّا ويتوافق بعض مسائله مع مسائل مذاهب آخرين ، وهذا لا يعني التوافق في الأصول وفي كل الاتجاهات. نعم ، الذين في قلوبهم زيغ ، يتبعون ما تشابه ، ابتغاء الفتنة وسعيا وراء الفساد في الأرض.

٣٥٤

فنسبوه إليهم. وقد برّأه أحمد والعجلي من ذلك ، فقال ـ في كتاب الثقات له ـ : عكرمة مولى ابن عباس ، مكّيّ تابعي ثقة ، بريء مما يرميه الناس به من الحروريّة.

وقال ابن جرير : لو كان كل من أدّعي عليه مذهب من المذاهب الرّديئة ، ثبت عليه ما أدّعي به ، وسقطت عدالته ، وبطلت شهادته بذلك ؛ للزم ترك أكثر محدّثي الأمصار ؛ لأنه ما منهم إلّا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه (١).

قال الذهبي : عكرمة مولى ابن عباس ، أحد أوعية العلم. تكلّم فيه ، لرأيه لا لحفظه ، فاتّهم برأي الخوارج. وقد وثّقه جماعة ، واعتمده البخاري (٢).

وأما الكذب فلا منشأ لرميه به سوى حديث ابن عمر الآنف ، وفي طريقه ضعف الأمر الذي لا يصطدم مع وفرة توثيقه : أخرج ابن حجر عن البخاري قال : ليس أحد من أصحابنا إلّا احتج بعكرمة. وقال ابن معين : إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة فاتّهمه على الإسلام. وقال المروزي : قلت لأحمد بن حنبل : يحتج بحديث عكرمة؟ قال : نعم. قال المروزي : أجمع عامّة أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة ، واتّفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا ، منهم : أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور ، ويحيى بن معين. قال : ولقد سألت إسحاق عن الاحتجاج بحديثه ، فقال : عكرمة عندنا إمام أهل الدنيا ، وتعجّب من سؤالي إيّاه. قال : وحدّثنا غير واحد أنهم شهدوا يحيى بن معين ، وسأله بعض الناس عن الاحتجاج بعكرمة ، فأظهر التعجّب. وقال البزّار : روى عن عكرمة مائة وثلاثون رجلا من وجوه البلدان ، كلهم رضوا به ، إلى غيرها من

__________________

(١) فتح الباري ـ المقدمة ـ ص ٤٢٧.

(٢) ميزان الاعتدال ، ج ٣ ، ص ٩٣ ، رقم ٥٧١٦.

٣٥٥

توثيقات قيّمة (١).

ويبدو من روايات أصحابنا الإمامية كونه من المنقطعين إلى أبواب آل بيت العصمة ، وفقا لتعاليم تلقّاها من مولاه ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ. فقد روى محمد بن يعقوب الكليني بإسناده إلى أبي بصير ، قال : كنا عند الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وعنده حمران ؛ إذ دخل عليه مولى له ، فقال : جعلت فداك ، هذا عكرمة في الموت ، وكان يرى رأي الخوارج ، وكان منقطعا إلى أبي جعفر عليه‌السلام.

فقال لنا أبو جعفر : أنظروني حتى أرجع إليكم ، فقلنا : نعم. فما لبث أن رجع ، فقال : أما إني لو أدركت عكرمة ، قبل أن تقع النفس موقعها لعلّمته كلمات ينتفع بها ، ولكنّي أدركته وقد وقعت النفس موقعها. قلت : جعلت فداك ، وما ذاك الكلام؟ قال : هو ـ والله ـ ما أنتم عليه ، فلقّنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلّا الله والإقرار بالولاية (٢).

في هذه الرواية مواضع للنظر والإمعان : أولا دخول مولى أبي جعفر بذلك الخبر المفاجئ ، لدليل على أنّ لعكرمة كانت منزلة عند الإمام عليه‌السلام ، وكان الإمام يهتمّ بشأنه. ثانيا قوله : وكان منقطعا إلى أبي جعفر ، يؤيّد كون الرجل من خاصّة أصحابه ، ولم يكن يدخل على غيره دخوله على الإمام عليه‌السلام.

وأما قوله : وكان يرى رأي الخوارج ، فهو من كلام الراوي ، حدسا بشأنه ،

__________________

(١) راجع : مقدمة فتح الباري ، ص ٤٢٨.

(٢) الكافي الشريف ، ج ٣ ، ص ١٢٣ ، رقم ٥. باب تلقين الميّت من كتاب الجنائز. والمرآة ، ج ١٣ ، ص ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

٣٥٦

حسبما أملت عليه الحياكات الشائعة عنه (١) ، وإلّا فهو متناقض مع انقطاعه إلى الإمام. كيف يختص بالحضور لدى إمام معصوم من أهل بيت النبوّة ، من كان يرى رأي خارجيّ مبغض لآل أبي طالب بالخصوص؟! إن هذا إلّا تناقض ، يرفضه العقل السليم ، فهذا قول ساقط لا وزن له مع سائر تعابير الحديث المتقنة.

وأخيرا فإن قوله عليه‌السلام : لقّنوا موتاكم الخ مع اهتمامه البالغ بشأن إدراكه قبل الموت ليلقّنه ؛ لدليل واضح على كونه ممن يرى رأيهم لا رأي غيرهم ، وإلّا فلا يتناسب قوله أخيرا مع فعله أولا ، فتدبّر.

وهذه الرواية رويت مع اختلاف في بعض ألفاظها ، رواها البرقي في كتاب «الصفوة» بإسناده إلى أبي بكر الحضرمي ، (٢) والكشّي عن طريق محمد بن مسعود العياشي بإسناده إلى زرارة بن أعين عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام (٣).

غير أن الكشّي استنتج من قول الإمام : «لو أدركته لنفعته» أنه مثل ما يروى «لو اتّخذت خليلا لاتّخذت فلانا خليلا» لا يوجب لعكرمة مدحا بل أوجب ضده (٤).

لكنه استنتاج غريب ناشئ عن ذهنيّته الخاصّة بشأن الرجل. قال المحقق التستري ـ ردّا عليه ـ : إن الرواية المقيس عليها غير ثابتة ، وعلى فرض الثبوت فهو

__________________

(١) فقد كان طلبه الوالى على المدينة ، فتغيّب عند داود بن الحصين ، حتى مات عنده ، غير أنّ الإمام أبا جعفر وصحابته الخواصّ كانوا يعرفون موضعه. وفي ذلك أيضا دلالة على كونه من الخاصّة. (طبقات ابن سعد ، ج ٥ ، ط ليدن ، ص ٣١٦)

(٢) المحاسن (ط نجف) ص ١١٢ ـ ١١٣ ، باب ١٩ المعرفة ، رقم ٦٣. والبحار ، ج ٦٨ (ط طهران) ، ص ١١٩ ـ ١٢٠ ، رقم ٤٨.

(٣) رجال الكشّي (ط نجف) ، ص ١٨٨ رقم ٩٤.

(٤) اختيار معرفة الرجال (ط مشهد) ، ص ٢١٦ ، رقم ٣٨٧. و (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢ ، ص ٤٧٧ ـ ٤٧٨.

٣٥٧

مدح لا قدح (١). قلت : معنى «لو أدركته لنفعته» (٢) : إنه لم يدركه فلم ينتفع بما كان من شأنه أن ينتفع به. وكذا معنى «إن أدركته علّمته كلاما لم تطعمه النار» (٣) : إن كنت لقّنته لم تذقه النار أصلا. فلازم ذلك أنه بسبب عدم هذا الانتفاع يكون بمعرض لإذاقة النار ـ على بعض ذنوبه أحيانا ـ أو فوته بعض المنافع لذلك.

وعلى جميع هذه الفروض ، لا تدل الرواية على أنه كان من المخالفين أو الفاسقين ، حاشاه من عبد صالح كان تربية مثل ابن عباس من خاصة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا كما يقال : لو عمل كذا لنفعه أو لم يكن ليتضرر شيئا ، ولازمه أنه لم ينتفع بذلك ، أو تضرر شيئا.

وللمولى المجلسي العظيم كلام بشأن عكرمة ، عند ما نقل عنه في تفسير قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(٤) إنها نزلت بشأن أبي ذرّ وصهيب (٥) ، على خلاف سائر المفسّرين قالوا : نزلت بشأن علي عليه‌السلام ليلة المبيت. قال ـ بصدد القدح في الرواية ـ : إن راويها عكرمة ، وهو من الخوارج (٦).

ولعلّ هذا منه كان جدلا ، وإلّا فالرواية في نفسها ضعيفة لضعف الراوي لا المروي عنه. فقد أخرجها الطبري عن طريق الحجاج بن محمد المصيصي عن ابن جريج عن عكرمة. والمصيصي ضعيف واه ، قد خلط في كبره ، ومن ثمّ تركه

__________________

(١) قاموس الرجال ، ج ٦ ، (ط أولى) ، ص ٣٢٧.

(٢) كما في رواية الكشّي «لو أدركت عكرمة عند الموت لنفعته». (ط نجف) ، ص ١٨٨ رقم ٩٤.

(٣) كما في رواية البرقي ـ المحاسن باب ١٩ (المعرفة) من كتاب الصّفوة والنّور والرحمة ، رقم ٦٣.

(٤) البقرة / ٢٠٧.

(٥) الطبري ، ج ٢ ، ص ١٨٦ ، والمجمع ، ج ٢ ، ص ٣٠١.

(٦) بحار الأنوار ، ج ٣٦ (ط بيروت) ص ٤٥.

٣٥٨

يحيى بن سعيد وأوصى ابنه بتركه (١). وقد سمعت أبا حاتم قوله بشأن عكرمة : ثقة يحتجّ بقوله إذا روى عنه الثقات (٢).

وبعد ، فلم نجد مغمزا في عكرمة مولى ابن عباس الثقة الأمين ، الأمر الذي استنتجه ابن حجر في التقريب. قال : عكرمة ، ثقة ثبت ، عالم بالتفسير ، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ، ولا يثبت عنه بدعة (٣).

منهجه في التفسير

كان ينتهج منهج مولاه وشيخه ومؤدّبه ابن عباس ، في حرّية الرأي وثبات العقيدة من غير أن يهاب أحدا ، أو يثنيه عن اختياره شيء. ومن ثم عرّض نفسه للقذف والرمي ، وربّما التحمّل لما كان المناوئون يهابون موضع سيّده ابن عباس ، فوجدوا من تلميذه مندوحة ليقدحوا فيه ويجرحوه.

وإليك نموذج من تفسيره :

كان يرى من آية الوضوء (٤) نزولها بمسح الأرجل دون غسلها ، ولم يزل عمله على ذلك ، وإن استدعي مخالفة عامة الفقهاء في عصره. قال يونس : حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط ، قال : فما رأيته غسل رجليه ، إنما كان يمسح عليهما (٥). وأخرج الطبري بإسناده إلى عبد الله العتكي عن عكرمة ، قال : «ليس على الرجلين غسل ، إنما نزل فيهما المسح». وهكذا أخرج بإسناده إلى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : «الوضوء غسلتان ومسحتان». وكذا عن

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

(٢) المصدر نفسه ، ج ٧ ، ص ٢٧٠.

(٣) التقريب ، ج ٢ ، ص ٣٠ ، رقم ٢٧٧.

(٤) المائدة / ٦.

(٥) الطبرسي في مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٦٥. والطبري في جامع البيان ، ج ٦ ، ص ٨٣.

٣٥٩

جمع كثير من التابعين ، ولا سيّما المتأثّرين بمدرسة ابن عباس ، أمثال قتادة والضحاك والشعبي والأعمش وغيرهم. وجماعة من الصحابة أمثال أنس بن مالك وجابر بن عبد الله وغيرهما ، ذهبوا إلى أنّ القرآن نزل بمسح الأرجل لا غسلها (١).

قال أمين الإسلام الطبرسي : اختلف في ذلك ، فقال جمهور الفقهاء : إن فرضهما الغسل. وقالت الإماميّة : فرضهما المسح لا غير ، وبه قال عكرمة. وقد روي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين كابن عباس وأنس وأبي العالية والشعبي. وقال الحسن البصري : بالتخيير بين الغسل والمسح.

قال : وأما ما روي عن سادة أهل البيت عليهم‌السلام في ذلك فأكثر من أن تحصى (٢). وللطبرسي هنا بشأن المسألة تحقيق لطيف ، ينبغي لرواد الحقيقة مراجعته.

وأخرج البيهقي بإسناده عن رفاعة بن رافع : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله به : يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين» (٣).

وهكذا في المسح على الخفّين ـ الذي يقول به جمهور الفقهاء ـ كان عكرمة

__________________

(١) الطبري في جامع البيان ، ج ٦ ، ص ٨٢ ـ ٨٣. وأخرج البيهقي في سننه ، ج ١ ، ص ٧٢ عن ابن عباس قال : ما أجد في الكتاب إلّا غسلتين ومسحتين. كما أخرج في ص ٤٤ عن رفاعة بن رافع : المسح على الرجلين.

(٢) الطبرسي في مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٦٤.

(٣) السنن الكبرى ، ج ١ ، ص ٤٤ ، باب التسمية على الوضوء وج ٢ ، ص ٣٤٥ باب من سها فترك ركنا ، وهناك كامل الحديث. وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٢٦٢.

٣٦٠