التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

أعلام التابعين المفسرين :

١ ـ سعيد بن جبير

٢ ـ سعيد بن المسيّب

٣ ـ مجاهد بن جبر

٤ ـ طاوس بن كيسان

٥ ـ عكرمة مولى ابن عباس

٦ ـ عطاء بن أبي رباح

٧ ـ عطاء بن السائب

٨ ـ أبان بن تغلب

٩ ـ الحسن البصري

١٠ ـ علقمة بن قيس

١١ ـ محمد بن كعب القرظي

١٢ ـ أبو عبد الرحمن السّلمي

١٣ ـ مسروق بن الأجدع

١٤ ـ الأسود بن يزيد النخعي

١٥ ـ مرّة الهمداني

١٦ ـ عامر الشعبي

١٧ ـ عمرو بن شرحبيل

١٨ ـ زيد بن وهب

١٩ ـ أبو الشعثاء الكوفي

٢٠ ـ أبو الشعثاء الأزدي

٢١ ـ الأصبغ بن نباتة

٢٢ ـ زرّ بن حبيش

٢٣ ـ ابن أبي ليلى

٢٤ ـ عبيدة بن قيس

٢٥ ـ الربيع بن أنس

٢٦ ـ الحارث بن قيس

٢٧ ـ قتادة بن دعامة

٢٨ ـ زيد بن أسلم

٢٩ ـ أبو العالية

٣٠ ـ جابر الجعفي

٣٢١
٣٢٢

أعلام التابعين

قلنا : إن كثيرا من روّاد العلم ، كانوا قد نهضوا نهضتهم الكبرى ، في سبيل كسب المعرفة والحصول على معالم الدين الحنيف. وحيث كان قد أعوزتهم الاستضاءة المباشرة من أنوار عهد الرسالة ، استعاضوا عنها باللجوء إلى أعتاب الصحابة الأعلام ، فأخذوا منهم العلوم ونشروها بين العباد. فكانوا هم الواسطة والحلقة الواصلة بين منابع العلم الأوّلية وبين الأمّة على الإطلاق ، ليس لذلك الدور فحسب ، بل لجميع الأدوار والأعصار. فأصبحوا هم حاملي لواء هداية الإسلام إلى كافة الأنام.

وهم جماعات ، لا يحصون عددا ، كنجوم السماء المتألّقة في دياجي الظلام ، ومبثوثون في الأرض منتشرون في الأقطار والأكناف.

غير أنا نقتصر على الأعلام ، والمعروفين بتعليم القرآن ، ونشر علومه وبيان معارفه بين الناس. وهم المتخرجون من المدارس التفسيرية المعهودة ، ولا سيّما مدرسة ابن عباس بمكة المكرمة ، حسبما عرفت ، وإليك منهم :

١. سعيد بن جبير

أبو عبد الله ، أو أبو محمد الأسدي بالولاء ، الكوفي ، من أصل حبشي ، أسود اللون أبيض الخصال. كان من كبار التابعين ومتقدميهم في الفقه والحديث

٣٢٣

والتفسير. أخذ القراءة من ابن عباس ، وسمع منه التفسير ، وأكثر روايته عنه. كان قد تفرّغ للعلم والقرآن حتى صار علما وإماما للناس. قال أبو القاسم الطبري : هو ثقة ، حجة ، إمام على المسلمين ، وكان مجمعا عليه بين أرباب الحديث والتفسير.

له مناظرة مع الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي ، حينما أراد قتله ، تدلّ على قوّة إيمانه وصلابته في الولاء لآل البيت عليهم‌السلام ، قتله صبرا سنة (٩٥) وهو ابن (٤٩)

روى أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي بإسناده إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : إنّ سعيد بن جبير كان يأتمّ بعليّ بن الحسين عليهما‌السلام ، وكان عليّ عليه‌السلام يثني عليه. وما كان سبب قتل الحجاج له إلا على هذا الأمر ، وكان مستقيما (١).

وفي مصنفات أصحابنا الإمامية عنه وصف جميل (٢) ، وكذا في سائر المصنفات الرجالية وغيرها (٣).

__________________

(١) ذكر الكشّي في رجاله (ط رجائي) ، ج ١ ، ص ٣٣٥ ، رقم ١٩٠ ـ : لما دخل سعيد على الحجاج ، قال له : أنت شقي بن كسير. قال : كانت أمّي أعرف باسمي. قال : ما تقول في فلان وفلان ، هما في الجنة أو في النار؟ قال : لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها ، وإن دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها. قال : فما قولك في الخلفاء؟ قال : لست عليهم بوكيل. قال : أيّهم أحبّ إليك؟ قال : أرضاهم لخالقي. قال : وأيّهم أرضى للخالق؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال : أبيت أن تصدّقني! قال : بلى ، لم أحبّ أن أكذّبك!

(٢) راجع : أعيان الشيعة للأمين العاملي ، ج ٧ ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٦. وسفينة البحار للقمي ، ج ١ ، ص ٦٢١ ـ ٦٢٢. ومناقب ابن شهرآشوب ، ج ٤ ، ص ١٧٦.

(٣) راجع : حلية الأولياء لأبي نعيم ، ج ٤ ، ص ٢٧٢ ـ ٣١٠. وابن خلكان ، ج ٢ ، ص ٣٧١ ـ ٣٧٤ ، رقم ٢٦١. والمعارف لابن قتيبة ، ص ١٩٧. وتهذيب التهذيب لابن حجر ، ج ٤ ، ص ١١ ـ ١٤.

٣٢٤

روى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى خلف بن خليفة عن أبيه قال : شهدت مقتل سعيد بن جبير ، فلمّا بان رأسه ، قال : لا إله إلّا الله ، ثم قالها الثالثة فلم يتمّها (١).

وذكر ابن قتيبة : أنه أمر الحجاج فضربت عنقه ، فسقط رأسه إلى الأرض يتدحرج ، وهو يقول : لا إله إلّا الله ، فلم يزل كذلك ، حتى أمر الحجاج من يضع رجله على فيه ، فسكت.

ولم يدم الحجاج بعده غير سنة ، ولم يستطع إراقة دم بعد دمه الطاهر. وكان الحجاج عند ما حضره الموت يقول : ما لي ولسعيد بن جبير ، كان يقول ذلك وهو يغوص ثم يفيق. وكان يراه في المنام ، وقد أخذ بمجامع ثوبه يقول له : يا عدو الله ، فيم قتلتني؟ فيستيقظ مذعورا ، ويقول : ما لي ولسعيد. ذكر ذلك ابن خلكان في الوفيات.

مكانته العلمية : أخذ العلم عن عبد الله بن عباس ، وكان قد لازمه في طلب العلم ، فأجازه ابن عباس في التحديث. قال له : حدّث ، فقال ـ متحاشيا ـ : أحدّث وأنت هاهنا؟! ـ وفي رواية ـ وأنت موجود! فقال ابن عباس : أليس من نعم الله عليك أن تحدّث وأنا شاهد؟! فإن أصبت فذاك ، وإن أخطأت علّمتك.

قال أحمد بن حنبل : قتل الحجّاج سعيد بن جبير ، وما على وجه الأرض أحد إلّا وهو مفتقر إلى علمه! (٢). ورواه أبو نعيم عن عمرو بن ميمون عن أبيه.

وكان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول : أليس فيكم ابن أمّ

__________________

(١) حلية الأولياء ، ج ٤ ، ص ٢٩١.

(٢) ابن خلكان ، ج ٢ ، ص ٣٧١ ـ ٣٧٤. رقم ٢٦١. وراجع : الحلية ، ج ٤ ، ص ٢٧٣.

٣٢٥

الدهماء ، يعني سعيد بن جبير.

قال يحيى بن سعيد : مرسلات ابن جبير أحبّ إليّ من مرسلات عطاء ومجاهد. وكان سفيان يقدّم سعيدا على إبراهيم النخعي في العلم ، وكان أعلم من مجاهد وطاوس (١).

وكان سعيد يعظّم من شيخه تعظيما بالغا ، قال : كنت أسمع الحديث من ابن عباس ، فلو أذن لي لقبّلت رأسه (٢).

وقد جمع أبو نعيم من التفسير المأثور عن سعيد بن جبير نخبا ، وعقد له فصلا ، وعنونه بآثاره في التفسير (٣). فقد روى عنه في قوله تعالى ـ حكاية عن نبي الله موسى عليه‌السلام ـ : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(٤). قال : إنه يومئذ لفقير إلى شقّ تمرة. وفي قوله تعالى : (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً)(٥) قال : أوفاهم عقلا (٦).

٢ ـ سعيد بن المسيّب

قال أبو نعيم الأصبهاني : فأما أبو محمّد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي ، فكان من الممتحنين ، أمتحن فلم تأخذه في الله لومة لائم. صاحب عبادة وجماعة وعفّة وقناعة. وكان كاسمه بالطاعات سعيدا ، ومن المعاصي

__________________

(١) تهذيب التهذيب لابن حجر ، ج ٤ ، ص ١١ ـ ١٤. والحلية ، ج ٤ ، ص ٢٧٣.

(٢) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني ، ج ٤ ، ص ٢٨٣.

(٣) في الجزء الرابع من الحلية من الصفحة ٢٨٣ فما بعد.

(٤) القصص / ٢٤.

(٥) طه / ١٠٤.

(٦) الحلية ، ج ٤ ، ص ٢٨٨.

٣٢٦

والجهالات بعيدا (١).

قال ابن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علما من سعيد بن المسيب. قال :

وإذا قال سعيد : مضت السنّة ، فحسبك به. قال : هو عندي أجلّ التابعين.

وقال أبو حاتم : ليس في التابعين أنبل منه.

وقال سليمان بن موسى : كان أفقه التابعين.

وقال أبو زرعة : مدني قرشي ثقة إمام.

وقال قتادة : ما رأيت أحدا قطّ أعلم بالحلال والحرام منه.

وقال ابن شهاب : قال لي عبد الله بن ثعلبة : إن كنت تريد هذا ـ يعني ـ الفقه ـ فعليك بهذا الشيخ ، سعيد بن المسيّب.

وعن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه ، قال : قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهلها ، فدفعت إلى سعيد بن المسيّب.

قال مكحول : طفت الأرض كلها في طلب العلم فما لقيت أعلم منه.

قال أحمد بن حنبل : مرسلات سعيد صحاح ، لا نرى أصحّ من مرسلاته.

وقال الشافعي : إرسال ابن المسيّب عندنا حسن (٢).

قال ابن خلّكان : كان سعيد بن المسيّب سيّد التابعين من الطراز الأوّل ، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع ، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة (٣). ولد سنة (١٥) وتوفّي سنة (٩٥) و

أسند ابن سعد ـ كاتب الواقدي ـ إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال :

__________________

(١) الحلية ، ج ٢ ، ص ١٦١ رقم ١٧٠.

(٢) تهذيب التهذيب لابن حجر ، ج ٤ ، ص ٨٤ ـ ٨٨.

(٣) وفيات الأعيان ، ج ٢ ، ص ٣٧٥ رقم ٢٦٢.

٣٢٧

سمعت أبي ، عليّ بن الحسين عليهما‌السلام يقول : «سعيد بن المسيّب أعلم الناس بما تقدّمه من الآثار ، وأفقههم في رأيه».

وله ترجمة مسهبة في الطبقات ، وفيها من أحواله وقضاياه العجيبة الشيء الكثير (١).

أضف إلى ذلك ما ورد بشأنه من الثناء عليه عند أصحابنا الإماميّة :

وأول شيء ، أنه تربية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ربّاه في حجره بوصية من جدّه «حزن». فقد نشأ وترعرع في أهل بيت العلم والورع والطهارة ، كما وأصبح من خلّص أصحاب الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين ، وأحد الأوتاد الخمسة الذين ثبتوا على الاستقامة في الدين على ما وصفهم الفضل بن شاذان. قال : ولم يكن في زمان عليّ بن الحسين في أوّل أمره إلّا خمسة أنفس : سعيد بن جبير ، سعيد بن المسيّب ، محمد بن جبير بن مطعم ، يحيى بن أمّ الطويل ، أبو خالد الكابلي.

وكان يرى من الإمام السجاد عليه‌السلام النفس الزكية ، لم يعرف له نظيرا ولا رأى مثله. كما كان يرى في مثاله القدّوسي مثال داود القدّيس عليه‌السلام تسبح معه الجبال بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أوّاب.

روى الكشّي بإسناده إلى الزهري عن ابن المسيّب ، قال : كان القوم لا يخرجون من مكّة حتى يخرج عليّ بن الحسين سيّد العابدين. فخرج وخرجت معه ، فنزل في بعض المنازل ، فصلّى ركعتين فسبّح في سجوده ، فلم يبق شجر ولا مدر إلّا سبّحوا معه ، ففزعنا! فرفع رأسه فقال : يا سعيد! أفزعت؟ فقلت : نعم ، يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هذا التسبيح الأعظم ، حدّثني أبي عن جدّي رسول

__________________

(١) طبقات ابن سعد ، ج ٥ ، ص ٨٨ ـ ١٠٦.

٣٢٨

الله ؛ إنه لا يبقي الذنوب مع هذا التسبيح. فقلت : علّمنا ...

وروى عن محمد بن قولويه بإسناده إلى أسباط بن سالم عن الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام في حديث حوارييّ (١) النبي والأئمّة عليهم‌السلام ، وعدّ من حواريي الإمام زين العابدين : جبير بن مطعم ، ويحيى بن أم الطويل ، وأبا خالد ، وسعيد بن المسيب.

كما روى عنه بإسناده إلى أبي مروان عن أبي جعفر قال : سمعت عليّ بن الحسين يقول : «سعيد بن المسيّب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار وأفهمهم ـ أو أفقههم ـ في زمانه» (٢). وقد تقدم الحديث ، برواية ابن خلكان عن أبي مروان أيضا ، مع اختلاف في العبارة الأخيرة : «أفقههم في رأيه».

وروى الشيخ المفيد بإسناده إلى أبي يونس محمد بن أحمد قال : حدثني أبي وغير واحد من أصحابنا ، أنّ فتى من قريش جلس إلى سعيد بن المسيّب ، فطلع عليّ بن الحسين ، فقال القرشي لابن المسيّب : من هذا يا أبا محمد؟ قال : هذا سيّد العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام (٣).

وروى الحميري بإسناده إلى البزنطي قال : وذكر عند الرضا عليه‌السلام القاسم بن محمد بن أبي بكر خال أبيه ، وسعيد بن المسيّب ، فقال : «كانا على هذا الأمر» (٤).

وروى ثقة الإسلام الكليني ـ في باب مولد الصادق عليه‌السلام ـ بإسناده إلى إسحاق ابن جرير ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كان سعيد بن المسيّب ، والقاسم بن محمد

__________________

(١) الحواري : من الحوار ، أي صاحب السرّ.

(٢) اختيار معرفة الرجال ، ج ١ ، ص ٤٣ وص ٣٣٢ ـ ٣٣٥.

(٣) الإرشاد للمفيد ، ص ٢٥٧ (ط نجف)

(٤) قرب الإسناد (ط حجرية) ، ص ١٥٧ الجزء الثالث.

٣٢٩

ابن أبي بكر ، وأبو خالد الكابلي ، من ثقات عليّ بن الحسين عليهما‌السلام (١).

وفي مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب بشأن كرامات الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، روايات عن سعيد بن المسيّب ، تدلّ على مبلغ ولائه لآل البيت ومدى صلته بسيّد الساجدين ، فراجع (٢).

وللمحقق البحراني ـ في حاشية البلغة ـ استظهار تشيّعه من كلام الشيخ في أوائل التبيان (٣).

وهو الذي روى قضيّة بجدل الجمّال وقطعه لإصبع السبط الشهيد ، وتعلّقه بأستار الكعبة ، آيسا من رحمة الله (٤).

وقد عدّه الشيخ من أصحاب الإمام زين العابدين ومن السابقين الأوّلين. قال : سعيد بن المسيّب بن حزن أبو محمد المخزومي سمع من الإمام عليّ بن الحسين ، وروى عنه عليه‌السلام. وهو من الصدر الأوّل (٥).

وقد استوفى السيد الأمين الكلام بشأنه وشأن ولائه لآل البيت ، وذكر أنه صحب عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يفارقه حتى في حروبه. ونقل عن ابن أبي الحديد وغيره بعض الطعن عليه ، وفنّده على أسلوب حكيم (٦).

نموذج من تفسيره

أخرج أبو نعيم ـ في الحلية ـ بإسناده إلى يحيى بن سعيد عن سعيد بن

__________________

(١) الكافي الشريف ، ج ١ ، ص ٤٧٢ كتاب الحجة.

(٢) المناقب ، ج ٤ ، ص ١٣٣ و ١٣٤ وص ١٤٣.

(٣) تنقيح المقال للمامقاني ، ج ٢ ، ص ٣١ رقم ٤٨٧٠.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٤٥ (ط بيروت) ، ص ٣١٦.

(٥) رجال الطوسي ، ص ٩٠.

(٦) راجع : أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين العاملي طبعة دار التعارف ، ج ٧ ، ص ٢٤٩ ـ ٢٥٥.

٣٣٠

المسيّب ، في قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ، إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)(١) ، قال : «الذي يذنب الذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ، ولا يعود في شيء قصدا» (٢).

وهذا أدقّ تفسير للآية الكريمة. فإنّ الآية قد فسّرت على وجوه :

١ ـ فقيل : هم المسبّحون. عن ابن عباس وعمرو بن شرحبيل.

٢ ـ وقيل : المطيعون المحسنون. عن ابن عباس أيضا.

٣ ـ هم المطيعون وأهل الصلاة. عن قتادة.

٤ ـ الذين يصلّون بين المغرب والعشاء. عن ابن المنكدر يرفعه ، وكذلك عن الإمام الصادق عليه‌السلام.

٥ ـ يصلّون صلاة الضحى. عن عون العقيلي.

٦ ـ الراجع من ذنبه التائب إلى الله.

وهذا المعنى الأخير هو الراجح ، واختلفوا في شرائطه وكيفيته :

فمن سعيد بن جبير : الراجعون إلى الخير.

وعن مجاهد : الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها.

وعن عطاء بن يسار : يذنب العبد ثم يتوب ، فيتوب الله عليه ، ثم يذنب فيتوب الله عليه ، ثم يذنب الثالثة فإن تاب تاب الله عليه توبة لا تمحى.

وعن عبيد بن عمير : الأوّاب : الحفيظ أن يقول : اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا.

__________________

(١) الإسراء / ٢٥.

(٢) حلية الأولياء ، ج ٢ ، ص ١٦٥. وراجع : مجمع البيان للطبرسي ، ج ٦ ، ص ٤١٠. وجامع البيان للطبري ، ج ١٥ ، ص ٥١ ـ ٥٢.

٣٣١

لكن سعيد بن المسيب فسّرها بالذي يذنب ويتوب ثم يذنب ويتوب ، ولكن ليس يعود في شيء من ذنوبه قصدا ، وإنما هو شيء فرط منه. وهذه النكتة الظريفة هي بيت القصيد ، نظرا لأن «الأوّاب» مبالغة في الأوب والرجوع. والمراد : الكثرة والتكرار فيه ، لكنه هل هو مطلق ، أم الذي يصدر منه الذنب لا تمرّدا وعصيانا ، وإنما هو شيء قد يفرط منه أو تغلبه نفسه ثم يتذكّر عن قريب؟

قال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)(١).

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(٢).

وهذا هو معنى اللّمم المغفور في الآية الكريمة : (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)(٣).

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «اللّمم : الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر الله منه. قال : ما من ذنب إلّا وقد طبع عليه عبد مؤمن يهجره الزمان ثم يلمّ به. قال : اللّمام : العبد الذي يلمّ بالذنب ليس من سليقته» أي من طبيعته. وفي رواية قال : «الهنة بعد الهنة» أي الذنب بعد الذنب يلمّ به العبد. وفي أخرى : «هو الذنب يلم به الرجل ، فيمكث ما شاء الله ثم يلمّ به بعد» (٤).

__________________

(١) النساء / ١٧.

(٢) الأعراف / ٢٠١.

(٣) النجم / ٣٢.

(٤) تفسير الصافي للمولى محسن الفيض ، ج ٢ ، ص ٦٢٦.

٣٣٢

فالعبد قد تغلبه نفسه فيرتكب إثما ليس من دأبه ، ومن ثم يتذكّر فيتوب إلى الله مما اغترف ، وهكذا فلو عاد ليس من عادته ، وتاب تاب الله عليه ، إنّ الله هو التواب الرحيم.

وهذه هي النكتة الدقيقة التي جاءت الإشارة إليها في تفسير ابن المسيّب «ولا يعود في شيء قصدا» ، وهذا المعنى هو الذي يفيده صدر الآية (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ، إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ ... فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ...)(١).

وإلى هذا المعنى يشير التفسير الوارد عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، قال : «والأوّاب : النوّاح المتعبّد الراجع عن ذنبه». وهكذا روي عن مجاهد بن جبر أيضا (٢).

النوّاح : مبالغة في النوح ، وهو الذي ينوح على نفسه وندبها ندما على ما فرط منه ، منيبا مستغفرا أوّابا. وتدل أداة الإعراض «عن» على ندم بالغ ، وعزم صارم على الترك أبدا.

وأما ما روي من التفسير ب «الصلاة» بين المغرب والعشاء ، فهذا من الوسيلة التي يجب ابتغاؤها إلى الله عزّ شأنه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)(٣). ومن ثم سمّيت صلاة الأوّابين.

روى هشام بن سالم عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، قال : صلاة أربع ركعات ، يقرأ في كل ركعة خمسين مرّة «قل هو الله أحد ...» هي صلاة الأوّابين (٤).

__________________

(١) الإسراء / ٢٥.

(٢) راجع : مجمع البيان للطبرسي ، ج ٦ ، ص ٤١٠.

(٣) المائدة / ٣٥.

(٤) مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٤١٠.

٣٣٣

وقد ورد الترغيب في التنفّل بأربع ركعات بعد المغرب ، لا يدعهنّ العبد في حضر ولا سفر (١).

من نوادر حكمته :

ولما أن جرّد ليضرب على امتناعه من البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك ، قالت امرأة : إن هذا لمقام الخزي. فقال سعيد : «من مقام الخزي فررنا» (٢).

وقال : «يد الله فوق عباده ، فمن رفع نفسه وضعه الله ، ومن وضعها رفعه الله. الناس تحت كنفه يعملون أعمالهم ، فإذا أراد الله فضيحة عبد ، أخرجه من تحت كنفه ، فبدت للناس عورته» (٣).

وقال : «لا خير فيمن لا يحب هذا المال ، يصل به رحمه ، ويؤدّي به أمانته ، ويستغني به عن خلق ربه» (٤).

وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه سأل فاطمة عليها‌السلام : ما خير للنساء؟ قالت : أن لا يرين الرجال ولا يرونهنّ. فذكره للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إنما فاطمة بضعة مني».

وأيضا عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام «من اتّقى الله عاش قويا وسار في بلاده آمنا» (٥).

وقال : «لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلّا بإنكار من قلوبكم ، لكي لا تحبط

__________________

(١) راجع : وسائل الشيعة للحر العاملي ، ج ٣ ، ص ٦٣ باب ٢٤ أعداد الفرائض والنوافل. وج ٥ ، ص ٢٤٧ و ٢٤٩.

(٢) الحلية ، ج ٢ ، ص ١٧٢.

(٣) المصدر نفسه ، ص ١٦٦.

(٤) المصدر نفسه ، ص ١٧٣.

(٥) المصدر نفسه ، ص ١٧٥.

٣٣٤

أعمالكم الصالحة» (١).

وكان معبّرا للرؤيا ، معروفا بذلك. فوجّه إليه عبد الملك بن مروان من يسأله عن منامه ، كان قد رأى كأنّه قد بال في المحراب أربع مرّات! فقال سعيد بن المسيّب : يملك من ولده لصلبه أربعة. فكان كما قال ، فإنه ولّي الوليد وسليمان ويزيد وهشام ، وهم أولاد عبد الملك لصلبه (٢).

٣ ـ مجاهد بن جبر

هو أبو الحجاج المخزومي المكي ، المقرئ المفسّر. ولد سنة (٢١) ، وتوفّي بمكة ساجدا سنة (١٠٤) كان أوثق أصحاب ابن عباس ، ومن ثم اعتمده الأئمّة وأصحاب الحديث والتفسير.

وروي عنه أنه قال : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات ، أقف عند كل آية ، أسأله فيم نزلت ، وكيف نزلت.

قال ابن أبي مليكة (٣) : رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه ، فيقول له ابن عباس : اكتب ، حتى سأله عن التفسير كله. ومن ثم قيل : أعلمهم بالتفسير مجاهد.

وقال سفيان الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.

قال الذهبي : أجمعت الأمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به. كان ثقة مأمونا ،

__________________

(١) الحلية ، ج ٢ ، ص ١٧٠ ، وابن خلكان ، ج ٢ ، ص ٣٧٨.

(٢) ابن خلّكان ، ج ٢ ، ص ٣٧٨.

(٣) هو عبد الله بن عبيد الله التميمي المدني أدرك ثلاثين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثقة فقيه مات سنة (١١٧) ولّاه ابن الزّبير قضاء الطائف. (تهذيب التهذيب ، ج ٥ ، ص ٣٠٧)

٣٣٥

وفقيها ورعا ، وعالما كثير الحديث ، جيّد الحفظ متقنا.

قال الأعمش : إذا رأيت مجاهدا كأنه جمّال أو خربندج (١) ، فإذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ (٢).

مكانته في التفسير : استفاضت شهادة العلماء بعلوّ مكانته في التفسير وثقته وأمانته وسعة علمه. وقد احتجّ بتفسيره الأئمّة النقاد والعلماء وأصحاب الحديث.

اتّهم بالأخذ من أهل الكتاب ، ولكن شدة نكير شيخه ابن عباس على الآخذين من أهل الكتاب ، يتنافى وهذه التهمة. والأرجح أنّ رجوعه إليهم كان في أمور لا تدخل في دائرة النهي الوارد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وربما كان لغرض التحقيق لا التقليد.

وكذلك اتّهم بأنه يفسّر القرآن برأيه ـ كان قد أعطى نفسه حرّية واسعة في التفسير العقلي ـ فقد روى ابنه عبد الوهاب أنّ رجلا قال لأبيه : أنت الذي تفسّر القرآن برأيك؟ فبكى أبي ثم قال : إنّي إذن لجريء ، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

قلت : وهذه التهمة يرجع سببها إلى الجوّ الحاكم آنذاك من التحاشي عن الخوض في معاني القرآن ، ولا سيّما المتشابهات ، غير أن شريعة العقل ترفض كل

__________________

(١) ضلّ حماره فهو مهتمّ.

(٢) راجع : ترجمته في الطبقات لابن سعد ، ج ٥ ، ص ٣٤٣ ـ ٣٤٤ وتهذيب التهذيب لابن حجر ، ج ١٠ ص ٤٣ ـ ٤٤. وميزان الاعتدال للذهبي ، ج ٣ ، ص ٤٣٩. ومقدمة ابن تيميّة في أصول التفسير ، ص ٤٨. والجرح والتعديل للرازي ، ج ٨ ، ص ٣١٩.

(٣) التفسير والمفسّرون ، ج ١ ، ص ١٠٧.

٣٣٦

مناشئ الجمود. وسنبحث عن مسألة التفسير بالرأي الممنوع.

حرّيته في التفسير العقلي : كان مجاهد حرّ الرأي ، يفسّر القرآن حسبما يبدو له من ظاهر اللفظ ، ويرشده إليه عقله الرشيد وفطرته السليمة ، بعد إحاطته بمفاهيم الكلمات والأوضاع اللغوية والعرفية (حسب متفاهم العرف العام آنذاك) وما كان قد عهده من مباني الشريعة وأسس الدين القويمة. وبعد مراجعة كلمات أعلام الأمّة وخيار الصحابة الأوّلين ، الأمر الذي يجب توفّره في كل مفسر حرّ الرأي ومضطلع خبير.

قال ـ في تفسير قوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(١) ـ : لم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله ، كما قال : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٢). قال : إنه مسخت قلوبهم فجعلت كقلوب القردة لا تقبل وعظا ولا تتّقي زجرا. قال الطبرسي : وهذا يخالف الظاهر الذي عليه أكثر المفسرين من غير ضرورة تدعو إليه (٣).

وللزمخشري هنا كلام يشبه تفسير مجاهد ، في دقّة أدبية لطيفة. قال : قوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) خبران ، أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء ، وهو الصغار والطرد (٤).

ومن ثمّ قال المولى جمال الدين أبو الفتوح الرازي ـ من أعلام القرن

__________________

(١) البقرة / ٦٥.

(٢) الجمعة / ٥.

(٣) مجمع البيان للطبرسي ، ج ١ ، ص ١٢٩. وراجع : الطبري التفسير ، ج ١ ، ص ٢٦٣. وتفسير مجاهد ، ص ٧٥ ـ ٧٦.

(٤) الكشاف ، ج ١ ، ص ١٤٧.

٣٣٧

السادس ـ : مجاهد گفت : معنى آن است «اذلّاء صاغرين» ذليل ومهين. ودر اين عظمتى وعبرتى است آنان را .. (١).

قال الإمام الرازي (٥٤٤ ـ ٦٠٦) : إنّ ما ذكره مجاهد ـ رحمه‌الله ـ غير مستبعد جدّا ، لأن الإنسان إذا أصرّ على جهالته بعد ظهور الآيات وجلاء البينات ، فقد يقال ـ في العرف الظاهر ـ : إنه حمار وقرد. وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظاهرة المشهورة ، لم يكن في المصير إليه محذور البتة (٢).

قلت : ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى ـ في سورة المائدة ـ : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ، أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(٣).

بدليل عطف «وعبد الطاغوت» ، وكذا عطف «الخنازير». وهذان لم يأت ذكرهما في سائر القرآن ؛ فيكون المعنى : أن من شديد العقوبة أن يتحول الإنسان من شموخ كرامته واعتلاء شرفه ، إلى سافل مبتذل يحمل سمات القردة والخنازير ، مهانا لئيما ، يرضخ للطواغيت رضوخ الذليل الحقير.

وعند تفسير قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(٤) ، روى وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد ، قال : تنتظر الثواب من ربّها. وعن الأعمش عنه : «تنتظر رزقه وفضله». وفي حديث : «تنتظر من ربها ما أمر لها». قال

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ٢١٧.

(٢) التفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ١١١.

(٣) المائدة / ٦٠.

(٤) القيامة / ٢٣.

٣٣٨

منصور : قلت لمجاهد : إن أناسا يقولون : إنه تعالى يرى ، فيرون ربهم؟! فقال مجاهد : لا يراه من خلقه شيء. وفي حديث آخر : يرى ولا يراه شيء (١).

وأنت ترى أنّ القول بامتناع الرؤية يخالف عقيدة السلفيّين من أصحاب الظواهر ، ومن ثم رموه بالحياد عن طريقة السلف ، وأنه يفسّر برأيه ، أو أنه يرى مذهب الاعتزال ، كما رموا تلاميذه حسبما يأتي في ابن أبي نجيح راوي تفسيره.

ومن ثم قال الطبري ـ تعقيبا على ذلك ـ : وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن الحسن وعكرمة ، من أنّ معنى ذلك : تنظر إلى خالقها.

قال الأستاذ الذهبي : وهذا التفسير عن مجاهد كان فيما بعد متّكأ قويّا للمعتزلة فيما ذهبوا إليه في مسألة الرؤية (٢).

قلت : والعجيب أن الآراء المستقيمة المتوافقة مع الفطرة والعقل الرشيد ؛ حيث صدرت قديما وحديثا ، فإنها تعزى إلى فريق المعتزلة ، أو هي منشأ لمذاهبهم في العقيدة الإسلامية ، الأمر الذي يجعل من العقل والفطرة ـ في نظر أهل الجمود ـ في قبضة أهل الاعتزال ، وفي منحصر آرائهم ومذاهبهم.

قال الزمخشري : ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ، فإن المؤمنين نظّارة ذلك اليوم ؛ لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه ، محال ؛ فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص. والذي يصح منه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، تريد معنى التوقّع والرجاء ، ومنه قول القائل :

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٩ ، ص ١٢٠.

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ١٠٦.

٣٣٩

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما

وسمعت سرويّة مستجدية بمكة وقت الظهر ، حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم ، تقول : عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم.

والمعنى : أنهم لا يتوقّعون النعمة والكرامة إلّا من ربّهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجعون إلّا إيّاه (١).

وعلّق عليه ابن المنير ـ في الهامش ـ بأنّ عدم كونه تعالى منظورا إليه ، مبنيّ على مذهب المعتزلة ، وهو عدم جواز رؤيته تعالى. ومذهب أهل السنّة جوازها!!

وقال الفخر : اعلم أن جمهور أهل السنّة يتمسّكون بهذه الآية في إثبات أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة. أما المعتزلة فأنكروا دلالة الآية على ذلك أولا ، وإمكان تأويلها على الفرض ثانيا ؛ حيث الرؤية تمتنع عليه تعالى عقلا ونقلا قطعيا ، الأمر الذي لا يختلف في هذه الحياة أم في الآخرة (٢).

أمّا المفسرون من علمائنا الإمامية فإنهم مطبقون على امتناع الرؤية مطلقا ، وليس في الآية دلالة صريحة على ذلك ، مع شيوع استعمال النظر في التّوقّع والانتظار.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رضى الله عنه : معناه ، منتظرة نعمة ربّها وثوابه أن يصل إليهم. ويكون النظر بمعنى الانتظار ، كما قال تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(٣) ، أي منتظرة. وقال الشاعر :

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمن يأتي بالفلاح

__________________

(١) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٦٦٢.

(٢) التفسير الكبير ، ج ٣٠ ، ص ٢٢٦.

(٣) النمل / ٣٥.

٣٤٠