التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها)(١).

وبعد ، فإذ كانت تلك حالة العلماء من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصدرون الناس إلّا عن مصدر الوحي الأمين ، ولا ينطقون إلّا عن لسانه الناطق بالحق المبين ، فكيف يا ترى مبلغ اعتبار ما يصدر عن ثلّة ، هم حملة علم الرسول ، والحفظة على شريعته الأمناء؟!

نعم كان الشرط في الحجية والاعتبار أوّلا : صحة الإسناد إليهم ، وثانيا : كونهم من الطراز الأعلى. وإذ قد ثبت الشرطان ، فلا محيص عن جواز الأخذ وصحة الاعتماد ، وهذا لا شك فيه بعد الذي نوّهنا.

إنما الكلام في اعتبار ذلك حديثا مسندا ومرفوعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالنظر إلى كونه الأصل في تربيتهم وتعليمهم ، أو أنه استنباط منهم ، لمكان علمهم وسعة اطّلاعهم فربما أخطئوا في الاجتهاد ، وإن كانت إصابتهم في الرأي أرجح في النظر الصحيح.

الأمر الذي فصّل القوم فيه ، بين ما إذا كان للرأي والنظر مدخل فيه ، فهذا موقوف على الصحابي ، لا يصحّ إسناده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وما إذا لم يكن كذلك ، مما لا سبيل إلى العلم به إلّا عن طريق الوحي ، فهو حديث مرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا محالة ؛ وذلك لموضع عدالة الصحابي ووثاقته في الدين. فلا يخبر عما لا طريق للحسّ إليه ، إلّا إذا كان قد أخبره ذو علم عليم صادق أمين.

وإليك بعض ما ذكره القوم بهذا الشأن :

قال العلامة الطباطبائي ـ عند تفسير قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ

__________________

(١) الرعد / ١٧.

٣٠١

لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ...)(١) ـ :

وفي الآية دلالة على حجية قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان الآيات القرآنية ، ويلحق به بيان أهل بيته ؛ لحديث الثقلين المتواتر وغيره. وأما سائر الأمّة من الصحابة أو التابعين أو العلماء ، فلا حجّية لبيانهم ، لعدم شمول الآية وعدم نصّ معتمد عليه ، يعطي حجّية بيانهم على الإطلاق.

قال : هذا كلّه في نفس بيانهم المتلقّى بالمشافهة. وأما الخبر الحاكي له ، فما كان منه بيانا متواترا أو محفوفا بقرينة قطعيّة وما يلحق به ، فهو حجة لكونه بيانهم. وأما ما لم يكن متواترا ولا محفوفا بالقرينة ، فلا حجية فيه ؛ لعدم إحراز كونه بيانا لهم.

قال : وأما قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ...)(٢) فإنه إرشاد إلى حكم العقلاء برجوع الجاهل إلى العالم ، من غير اختصاص بطائفة دون أخرى (٣).

هل المأثور من الصحابي حديث مسند؟

قال الحاكم النيسابوري : ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ، عند الشيخين ، حديث مسند ، أي إذا انتهت سلسلة الرواية إلى صحابي جليل ، فإنّ ذلك يكفي في إسناد الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان الصحابي لم يسنده إليه.

__________________

(١) النحل / ٤٤.

(٢) النحل / ٤٣.

(٣) الميزان ، ج ١٢ (ط اسلامية) ، ص ٢٧٨.

٣٠٢

ذكر ذلك في موضعين من مستدركه (١) ، وهو عام سواء أكان ذلك مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي أم لم يكن كذلك ، وكان مما يمكن أن يراه الصحابي أو شاهده بنفسه. ومن ثم كان هذا الكلام على عمومه وإطلاقه محل إشكال ؛ لذلك رجع عنه في كتابه الذي وصفه لمعرفة علوم الحديث.

قال هناك : إن من الحديث ما يكون موقوفا على الصحابي ، غير مرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما إذا قال الصحابي : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل كذا أو يأمر بكذا ، أو إن أصحابه كانوا يصنعون كذا ، مثل ما روي عن المغيرة بن شعبة ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرعون بابه بالأظافير. قال الحاكم : هذا حديث يتوهمه من ليس من أهل الصنعة مسندا ؛ لذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس بمسند فإنه موقوف على صحابي ، حكى عن أقرانه من الصحابة فعلا. وهكذا إذا قال الصحابي : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول كذا ، وكان يفعل كذا ، وكان يأمر بكذا وكذا.

قال : ومن الموقوف ما رويناه عن أبي هريرة ، في قول الله ـ عزوجل ـ (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ)(٢) قال : تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة ، فلا تترك لحما على عظم إلّا وضعت على العراقيب.

قال : وأشباه هذا من الموقوفات ، تعدّ في تفسير الصحابة (٣).

قال : فأما ما نقول في تفسير الصحابي ، مسند ، فإنما نقوله في غير هذا النوع ، كما في حديث جابر ، قال : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قبلها

__________________

(١) المستدرك ، ج ٢ ، ص ٢٥٨ ، وفي ص ٢٦٣ أيضا.

(٢) المدثّر / ٢٩.

(٣) بناء على أن هذا التفسير من أبي هريرة كان من عنده ، ولعلّه استظهارا من لفظ الآية! ولكن سيأتي عن السيوطي أنه مما لا سبيل إلى معرفته سوى الوحي ، فهو من المسند المرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٠٣

جاء الولد أحول ، فأنزل الله عزوجل (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ...)(١). قال : هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها ، وليست بموقوفة ، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا ، فإنه حديث مسند (٢).

وهكذا قيّد ابن الصلاح والنووي وغيرهما ذاك الإطلاق بما لا يرجع إلى معرفة أسباب النزول المشاهدة ، ونحو ذلك مما يمكن معرفته للصحابة بالمشاهدة والعيان. نعم إذا كان مما لا مجال للرأي فيه ، مما يعود إلى ما وراء الحسّ من قبيل أمر الآخرة ونحو ذلك ، فإن مثل ذلك حديث مسند ، مرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظرا لموضع عدالة الصحابة ، وتنزيهه عن القول على الله بغير علم ، ولا مستند إلى ركن وثيق.

قال النووي ـ في التقريب ـ : وأما قول من قال : تفسير الصحابي مرفوع ، فذاك في تفسير يتعلّق بسبب نزول آية أو نحوه ، وغير موقوف.

قال السيوطي ـ في شرحه ـ : كقول جابر : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قبلها ، جاء الولد أحول ، فأنزل الله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ...) رواه مسلم ، أو نحوه مما لا يمكن أن يؤخذ إلّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا مدخل للرأي فيه.

قال : وكذا يقال في التابعي ، إلّا أن المرفوع من جهته مرسل.

قال : ما خصّص به المصنف كابن الصلاح ومن تبعهما قول الحاكم ، قد صرح به الحاكم في «علوم الحديث» ، ثم ذكر حديث أبي هريرة في قوله تعالى : (لَوَّاحَةٌ

__________________

(١) البقرة / ٢٢٣.

(٢) معرفة علوم الحديث ص ١٩ ـ ٢٠.

٣٠٤

لِلْبَشَرِ) فالحاكم أطلق في المستدرك وخصّص في علوم الحديث ، فاعتمد الناس تخصيصه. وأظن أن ما حمله في المستدرك على التعميم الحرص على جمع الصحيح ، حتى أورد ما ليس من شروط المرفوع ، وإلّا ففيه من الضرب الأول الجمّ الغفير. على أني أقول : ليس ما ذكره عن أبي هريرة من الموقوف ؛ لما تقدّم من أنّ ما يتعلّق بذكر الآخرة وما لا مدخل للرأي فيه ، من قبيل المرفوع (١).

وعلى أيّة حال ، فإن التفسير المأثور عن صحابي جليل ـ إذا صحّ الطريق إليه ـ فإنّ له اعتباره الخاص. فإمّا أن يكون قد أخذه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الأكثر فيما لا يرجع إلى مشاهدات حاضرة أو فهم الأوضاع اللغوية الأولى أو ما يرجع إلى آداب ورسوم جاهلية بائدة ، كان الصحابة يعرفونها ، وأشباه ذلك. فإن كان لا يرجع إلى شيء من ذلك ، فإنّ من المعلوم بالضرورة أنه مستند إلى علم تعلّمه من ذي علم. هذا ما يقتضيه مقام إيمانه الذي يحجزه عن القول الجزاف.

وإلّا فهو موقوف عليه ومستند إلى فهمه الخاص ، ولا ريب أنه أقرب فهما إلى معاني القرآن ، من الذي ابتعد عن لمس أعتاب الوحي والرسالة ، وحتى عن إمكان معرفة لغة الأوائل ، وعادات كانت جارية حينذاك.

وهكذا صرّح العلامة الناقد السيد رضي الدين بن طاوس المتوفى سنة (٦٦٤) بشأن العلماء من صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنهم أقرب علما بنزول القرآن» (٢).

__________________

(١) تدريب الراوي ، ج ١ ص ١٩٣ (ط ٢ ـ ١٣٩٩ ه‍)

(٢) في كتابه القيّم (سعد السعود) الذي عالج فيه نقد أكثر من سبعين كتابا في تفسير القرآن ، كانت في متناوله ذلك العهد. (ط نجف) ص ١٧٤.

٣٠٥

قال الإمام بدر الدين الزركشي : لطالب التفسير مآخذ كثيرة ، أمهاتها أربعة :

الأوّل : النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا هو الطراز الأول ، لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع ، فإنه كثير.

الثاني : الأخذ بقول الصحابي ، فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قاله الحاكم في تفسيره. وقال أبو الخطاب ـ من الحنابلة ـ :

يحتمل أن لا يرجع إليه إذا قلنا : إنّ قوله ليس بحجة! والصواب الأول ؛ لأنه من باب الرواية لا الرأي.

وقد أخرج ابن جرير عن مسروق بن الأجدع قال : قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله الا هو ، ما نزلت آية في كتاب الله إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منّي تناله المطايا لأتيته. وقال أيضا : كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يتجاوزهنّ حتى يعلم معانيهنّ ، والعمل بهنّ.

قال : وصدور المفسّرين من الصحابة ، عليّ ثم ابن عباس ـ وهو تجرّد لهذا الشأن ـ والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن عليّ ، إلّا أن ابن عباس كان أخذ عن عليّ عليه‌السلام ، ويتلوه عبد الله بن عمرو بن العاص. وكل ما ورد عن غيرهم من الصحابة فحسن مقدم (١).

وأخيرا قال : واعلم أنّ القرآن قسمان : أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمّن يعتبر تفسيره ، وقسم لم يرد. والأول ثلاثة أنواع : إما أن يرد التفسير عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن الصحابة ، أو عن رءوس التابعين. فالأول : يبحث فيه عن صحة السند. والثاني : ينظر في تفسير الصحابي ، فإن فسّره من حيث اللغة ، فهم أهل اللّسان ، فلا

__________________

(١) البرهان ، ج ٢ ، ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

٣٠٦

شك في اعتمادهم ، وإن فسّره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه. وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة ، فإن أمكن الجمع فذاك ، وإن تعذّر قدّم ابن عباس (١).

وسيأتي نقل كلامه في الرجوع إلى التابعي.

هذا ما يقتضيه ظاهر البحث في هذا المجال. وأمّا الذي جرى عليه مذهب علمائنا الأعلام ، فهو : إنّ التفسير المأثور من الصحابي ـ مهما كان على جلالة من القدر والمنزلة ـ فإنّه موقوف عليه ، لا يصحّ إسناده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يسنده هو بالذات. وهذا منهم مطلق ، سواء أكان للرأي فيه مدخل أم لا ؛ لأنه إنّما نطق عن علمه ، حتى ولو كان مصدره التعليم من النبي ، ما لم يصرّح به ؛ إذ من الجائز أنه من استنباطه الخاص ، استخرجه من مبان وأصول تلقّاها من حضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أمّا التنصيص على هذا الفرع المستنبط بالذّات فلم يكن من النبي ، وإنما هو من اجتهاد الصحابي الجليل ، ومرتبط مع مبلغ فطنته وسعة دائرة علمه ، والمجتهد قد يخطأ ، وليس الصواب حليفه دائما ، ما لم يكن معصوما.

ومن ثم فإنّ الذي يصدر من أئمتنا المعصومين عليهم‌السلام نسنده إليهم ، وإن كنا على علم ويقين أنه تعلّم من ذي علم عليم ، ذلك أنّه حجة لدينا ؛ لأنّه صادر من منبع معصوم.

ميزان تفسير الصحابي

يمتاز تفسير الصحابي بأمور خمسة لم تتوفّر جميعا في سائر التفاسير

__________________

(١) البرهان ، ج ٢ ، ص ١٧٢.

٣٠٧

المتأخّرة :

أوّلا : بساطته ، بما لم يتجاوز بضع كلمات في حلّ معضل أو رفع إبهام ، في بيان واف شاف ومع كمال الإيجاز والإيفاء. فإذ قد سئل أحدهم عن معنى (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ)(١) ، أجاب على الفور : «غير متعرّض لمعصية» ، من غير أن يتعرض لاشتقاق الكلمة ، أو يحتاج إلى بيان شاهد ودليل ، وما شاكل ذلك ، مما اعتاده المفسرون. وإذا سئل عن سبب نزول آية ، أو عن فحواها العام ، أجاب بشكل قاطع من غير ترديد ، وعلى بساطة من غير تعقيد ، كان قد ألفه المتأخرون.

ثانيا : سلامته عن جدل الاختلاف ، بعد وحدة المبنى والاتجاه والاستناد ، ذلك العهد ؛ إذ لم يكن بين الصحابة في العهد الأول اختلاف في مباني الاختيار ، ولا تباين في الاتجاه ، ولا تضارب في الاستناد ، وإنّما هي وحدة في النظر والاتجاه والهدف ، جمعت طوائف الصحابة على خطّ مستو مستقيم. فلم تكن ثمّة داعية لنشوء الاختلاف والتضارب في الآراء ، ولا سيما والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدّبهم على التزام سبيل الرشاد.

على أن التفسير ذلك العهد لم يكن ليتعدّ ـ في شكله وهندامه ـ حدود الحديث وشكله ، بل كان جزء منه وفرعا من فروعه ، كما دأب عليه جامعو الأحاديث.

ثالثا : صيانته عن التفسير بالرأي ، بمعنى الاستبداد بالرأي غير المستند إلى ركن وثيق ، ذلك تعصّب أعمى أو تلبيس في الأمر ، كان يتحاشاه الأجلاء من الصحابة الأخيار. وسنشرح من معنى التفسير بالرأي الممنوع شرعا ، والمذموم عقلا ، بما يرفع الإبهام عن المراد به إن شاء الله.

__________________

(١) المائدة / ٣.

٣٠٨

رابعا : خلوصه عن أساطير بائدة ، ومنها الأقاصيص الإسرائيلية ، لم تكن لتجد مجالا للتسرب في الأوساط الإسلامية العريقة ، ذلك العهد المناوئ لدسائس إسرائيل ، الأمر الذي انقلب ظهرا لبطن بعد حين ، وجعلت الدسائس السياسية تلعب دورها في ترويج أساطير بني إسرائيل.

خامسا : قاطعيته عن احتمال الشكّ وتحمّل الظّنون ، بعد وضوح المستند وصراحته ، ووفرة وسائل الإيضاح ودلائل التفسير المعروضة ذلك العهد ؛ لسذاجتها وسلامتها عن التعقيد الذي طرأ عليها في عهد متأخر.

لا سيّما والدلائل العلمية والفلسفية التي استند إليها المتأخرون في تفسير معاني القرآن ، لم تكن معهودة حينذاك ، أو لم تكن مشروعة ، ولا صالحة للاستناد في العهد الأول. وإنما كان استنادهم إلى العرف واللغة ، والعلم بأسباب النزول ، إلى جنب النصوص الشرعية الصادرة في مختلف شئون الدين والقرآن ، هذا لا غير.

٣٠٩
٣١٠

المرحلة الثالثة

التفسير في دور التابعين

* مدارس التفسير

* أعلام التابعين

* قيمة تفسير التابعي

* ميزات تفسير التابعي

* منابع التفسير في هذا العهد

٣١١
٣١٢

مدارس التفسير :

* مدرسة مكة أقامها ابن عباس

* مدرسة المدينة أقامها أبيّ بن كعب

* مدرسة الكوفة أقامها ابن مسعود

* مدرسة البصرة أقامها أبو موسى

* مدرسة الشام أقامها أبو الدرداء

٣١٣
٣١٤

مدارس التفسير

نعم الخلف لخير سلف

لم يكد ينصرم عهد الصحابة إلّا وقد نبغ رجال أكفاء ، ليخلفوهم في حمل أمانة الله وأداء رسالته في الأرض ، وهم التابعون الذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وذلك هو الفوز العظيم.

إنهم رجال لم تمكّنهم الاستضاءة من أنوار ذلك العهد (عهد الرسالة) الفائض بالخير والبركات ، فاستعاضوا عنها بالمثول بين يدي أكابر الصحابة الأعلام ، والعكوف على أعتابهم المقدسة ؛ يستفيدون من علومهم ويهتدون بهداهم.

وقد كان أعيان الصحابة كثرة منتشرين في البلاد كنجوم السماء ، مصابيح الدجى وأعلام الهدى ، أينما حلّوا أو ارتحلوا من بقاع الأرض ؛ وبذلك انتشرت تعاليم الإسلام ، وشاع وذاع مفاهيم الكتاب والسنّة النبوية بين العباد ، في مختلف البلاد.

مدارس التفسير

وحيثما ارتحل صحابي جليل وحلّ به من بلد إسلامي كبير ، كان قد شيّد فيه مدرسة واسعة الرحب ، بعيدة الأرجاء ، يبثّ بها معالم الكتاب والسنّة ، ويقصدها

٣١٥

الروّاد من كل صوب. وكان أشهر هذه المدارس ـ حسب شهرة مؤسّسيها ـ خمسة :

١ ـ مدرسة مكّة : أقامها عبد الله بن عباس ، يوم ارتحل إليها عام الأربعين من الهجرة ؛ حيث غادر البصرة وقدم الحجاز ، بعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان واليا من قبل الإمام ، فلم يتصدّ ولاية بعده ، عاكفا على أعتاب حرم الله ، يؤدّي رسالته هناك في بثّ العلوم ونشر المعارف التي تعلّمها وأخذها عن الإمام عليه‌السلام. وقد دامت المدرسة مدّة حياته حتى عام ثمانية وستين ؛ حيث وفاته بالطائف ، رضوان الله عليه.

وقد تخرّج من هذه المدرسة أكبر رجالات العلم في العالم الإسلامي حينذاك ، وكان لهذه المدرسة ولمن تخرّج منها صدى محمود في أرجاء البلاد ، وبقيت آثارها الحسنة سنّة متبعة بين العباد ، ولا تزال. ولعلّ أعلم التابعين بمعاني القرآن هم المتخرّجون من مدرسة ابن عباس والمتعلمون على يديه.

قال ابن تيميّة : وأما التفسير فإنّ أعلم الناس به أهل مكة ؛ لأنهم أصحاب ابن عباس ، كمجاهد وعطاء وعكرمة. وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاوس وأبي الشعثاء وسعيد بن جبير وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود. ومن ذلك تميّزوا به على غيرهم (١).

٢ ـ مدرسة المدينة : قيامها على الصحابة الموجودين بها ، ولا سيما أبيّ بن كعب الأنصاري سيّد القراء. كان من أصحاب العقبة الثانية ، وشهد بدرا والمشاهد كلها. قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليهنك العلم ، أبا المنذر.

__________________

(١) مقدمته في أصول التفسير ، ص ٢٣ ـ ٢٤ (المطبعة السلفية ١٣٨٥)

٣١٦

وكان أوّل من كتب لرسول الله مقدمه المدينة ، فإذا لم يحضر أبيّ كتب زيد ابن ثابت. كان أقرأ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان ممن جمع القرآن حفظا على عهد رسول الله ، وتأليفا بعد وفاته. وكان قد تفرّغ للإقراء بالمدينة ما لم يتفرّغ له سائر الصحابة الباقين فيها.

ومن ثمّ تصدّى الإملاء على لجنة توحيد المصاحف على عهد عثمان ، وكانوا يرجعون إليه عند الاختلاف. توفّي سنة (٣٠) في خلافة عثمان ، حسبما قدّمنا.

٣ ـ مدرسة الكوفة : أقام دعائمها الصحابي الكبير عبد الله بن مسعود ، كان خصيصا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخدمه ويتربّى على يديه. قال حذيفة : أقرب الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هديا ودلّا وسمتا ، ابن مسعود. ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ ابن أم عبد من أقربهم إلى الله زلفى. كان أوّل من جهر بالقرآن على ملأ من قريش ، فأوذي في الله واصطبر على البلاء. كان قد هاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها.

قدم الكوفة ـ على عهد ابن الخطاب ـ معلّما ومؤدّبا ، حتى أحضره عثمان سنة (٣١) وكانت فيها وفاته. ولما بلغ أبا الدرداء نعيه قال : ما ترك بعده مثله.

تربّى على يديه خلق كثير ، فمن التابعين : علقمة بن قيس النخعي ، وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي ، والأسود بن يزيد النخعي ، ومسروق بن الأجدع ، وعبيدة بن عمرو السلماني ، وقيس بن أبي حازم ، وغيرهم.

وقد عرفت أنّ مدرسة الكوفة كانت أهم المدارس بعد مدرسة مكة ، توسعا وشمولا لمعاني القرآن والفقه والحديث.

٤ ـ مدرسة البصرة : أقامها أبو موسى الأشعري : عبد الله بن قيس (٤٤) قدم

٣١٧

البصرة سنة (١٧) واليا عليها من قبل عمر ، بعد أن عزل المغيرة ، ثم أقرّه عثمان ، وبعد فترة عزله ، فسار إلى الكوفة. ولما أن عزل سعيدا استعمله عليها ، وعزله الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكان يراود معاوية في سرّ ، ولأخوّة قديمة كانت بينهما ، كما يبدو من وصية معاوية لابنه يزيد بشأن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري (١). كان منحرفا عن علي عليه‌السلام وافتضح أمره يوم الحكمين.

وهو الذي فقّه أهل البصرة وأقرأهم. قال ابن حجر : وتخرّج على يديه جماعة من التابعين ومن بعدهم (٢). وأخرج الحاكم عن أبي رجاء ، قال : تعلّمنا القرآن عن أبي موسى الأشعري في هذا المسجد ـ يعني مسجد البصرة ـ وكنّا حلقا حلقا ، وكأنما أنظر إليه بين ثوبين أبيضين (٣).

وكانت مدرسته ذات انحراف شديد ، ومن ثم كانت البصرة من بعده أرضا خصبة لنشوء كثير من البدع والانحرافات الفكريّة والعقائدية ، ولا سيّما في مسائل الأصول والإمامة والعدل.

قال عبد الكريم الشهرستاني : وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري (المتوفّى سنة ٤٤) كان يقرّر عين ما يقرّر حفيده أبو الحسن الأشعري (المتوفّى سنة ٣٢٤) في مذهبه ، وذلك قد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص وبينه ، فقال عمرو : أين أجد أحدا أحاكم إليه ربّي؟ فقال أبو موسى : أنا ذلك المتحاكم إليه. فقال عمرو : أو يقدّر عليّ شيئا ثم يعذّبني عليه؟ قال أبو موسى : نعم ،

__________________

(١) طبقات ابن سعد ، ج ٤ ، ص ٨٣ ق ١.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٥ ، ص ٣٦٢.

(٣) المستدرك على الصحيحين ، ج ٢ ، ص ٢٢٠.

٣١٨

قال عمرو : ولم؟ قال : لأنه لا يظلمك! فسكت عمرو ولم يحر جوابا (١).

وذكر ابن أبي الحديد أبا بردة ابن أبي موسى الأشعري فيمن أبغض عليّا ، وكان من القالين له ، ثم قال : ورث البغضة له ، لا عن كلالة (٢) ، أي كان هذا الحقد للإمام أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ قد أتاه مستقيما من قبل والده ، فكانت البغضة منه تليدا ، ولم تأته من عرض عارض ، لا تلد الحيّة إلّا الحيّة.

٥ ـ مدرسة الشّام : قام بها أبو الدرداء عويمر بن عامر الخزرجي الأنصاري. كان من أفاضل الصحابة وفقهائهم وحكمائهم. أسلم يوم بدر ، وشهد أحدا وأبلى فيها بلاء حسنا. روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بشأنه حينذاك : نعم الفارس عويمر ، وقال : هو حكيم أمّتي.

تولّى قضاء دمشق أيّام خلافة عمر ، وتوفّي في خلافة عثمان سنة (٣٢) ولم ينزل دمشق من أكابر الصحابة سوى أبي الدرداء ، وبلال بن رباح المؤذّن الذي مات في طاعون عمواس سنة (٢٠) ودفن بحلب. وكذا واثلة بن الأسقع ، وكان آخر من مات بدمشق من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. مات سنة (٨٥) في خلافة عبد الملك بن مروان.

تخرّج على يدي أبي الدرداء جماعة من أكابر التابعين ، منهم : سعيد بن المسيّب ، وعلقمة بن قيس ، وسويد بن غفلة ، وجبير بن نفير ، وزيد بن وهب ، وأبو إدريس الخولاني ، وآخرون.

كان أبو الدرداء من الثابتين على ولاء آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تزعزعه

__________________

(١) الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٤ ط القاهرة ١٣٨٧ ه‍ ق.

(٢) شرح النهج ، ج ٤ ، ص ٩٩.

٣١٩

العواصف.

روى الصدوق ـ في أماليه ـ بإسناده إلى هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة ، قال : كنّا جلوسا في حلقة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نتذاكر أهل بدر وبيعة الرضوان ، فقال أبو الدرداء : يا قوم ، ألا أخبركم بأقل القوم مالا وأكثرهم ورعا وأشدهم اجتهادا في العبادة؟ قالوا : من؟ قال : ذاك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

قال عروة : فو الله ، ما نطق أبو الدرداء بذلك إلّا وأعرض عنه بوجهه من في المجلس. ثم انتدب له رجل من الأنصار ، فقال له : يا عويمر ، لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها. فقال أبو الدرداء : يا قوم ، إنّي قائل ما رأيت ، وليقل كل قوم منكم ما رأوا ... ثم أخذ في بيان مواضع علي عليه‌السلام من العبادة والبكاء ، عند ما كان يختلي بربّه في ظلمة الليل والناس نيام (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤١ ، ص ١١ ، عن أمالي الصدوق مج ١٨ ، ص ٦٩ ـ ٧٠ (ط نجف)

٣٢٠