التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(١) ، وقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)(٢) ، أي هل ينتظرون ما ذا يؤول إليه أمر الشريعة والقرآن ، لكن لا يطول بهم الانتظار (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ)(٣) ، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ)(٤) ، (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ). (٥)

٤ ـ والمعنى الرابع ـ للتأويل ـ جاء استعماله في كلام السلف : مفهوم عام ، منتزع من فحوى الآية الواردة بشأن خاص ؛ حيث العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد.

وقد عبّر عنه بالبطن المنطوي عليه دلالة الآية في واقع المراد ، في مقابلة الظهر المدلول عليه بالوضع والاستعمال ، حسب ظاهر الكلام. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن».

سئل الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام عن هذا الحديث المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن ، يجري كما تجري الشمس والقمر» (٦).

وقال عليه‌السلام : «ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ، ماتت الآية ولما بقي من القرآن شيء. ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ، ما دامت

__________________

(١) النساء / ٨٣.

(٢) الأعراف / ٥٣.

(٣) الفرقان / ٢٢.

(٤) الاحقاف / ٣٥.

(٥) ص / ٣.

(٦) بصائر الدرجات ، الصفار ، ص ١٩٥.

٢١

السماوات والأرض ، ولكل قوم آية يتلونها ، هم منها من خير أو شر» (١).

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله ، وهو عليّ بن أبي طالب» (٢).

فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتل على تنزيل القرآن ؛ حيث كان ينزل بشأن قريش ومشركي العرب ممن عاند الحق وعارض ظهور الإسلام. أمّا عليّ عليه‌السلام فقد قاتل أشباه القوم ممّن عارضوا بقاء الإسلام ، على نمط معارضة أسلافهم في البدء.

ولهذا المعنى عرض عريض ، ولعلّه هو الكافل لشمول القرآن وعمومه لكل الأزمان والأحيان. فلولا تلك المفاهيم العامة ، المنتزعة من موارد خاصة ـ وردت الآية بشأنها بالذات ـ لما بقيت لأكثر الآيات كثير فائدة ، سوى تلاوتها وترتيلها ليل نهار.

وإليك بعض الأمثلة على ذلك :

مفاهيم عامة منتزعة من الآيات

قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى)(٣).

نزلت بشأن غنائم بدر ، وغاية ما هناك أن عمّت غنائم جميع الحروب ، على شرائطها.

لكنّ الإمام أبا جعفر محمد بن عليّ الباقر عليه‌السلام نراه يأخذ بعموم الموصول ، ويفسّر «الغنيمة» بمطلق الفائدة ، وأرباح المكاسب والتجارات ، يربحها أرباب

__________________

(١) تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ١٠ ، رقم ٧.

(٢) المصدر نفسه ، ص ١٥ ، رقم ٦.

(٣) الأنفال / ٤١.

٢٢

الصناعات والتجارات وغيرهم طول عامهم ، في كل سنة بشكل عام.

قال عليه‌السلام : «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام ، قال الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى).

وهكذا عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام : «الخمس في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير» (١).

وقال تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٢).

نزلت بشأن الإعداد للجهاد ، دفاعا عن حريم الإسلام ، فكان مفروضا على أصحاب الثروات القيام بنفقات الجهاد ، دون سيطرة العدوّ الذي لا يبقي ولا يذر.

لكن «السبيل» لا يعني القتال فحسب ، فهو يعمّ سبيل إعلاء كلمة الدين وتحكيم كلمة الله في الأرض ، ويتلخص في تثبيت أركان الحكم الإسلامي في البلاد ، في جميع أبعاده : الإداري والاجتماعي والتربوي والسياسي والعسكري ، وما شابه. وهذا إنما يقوم بالمال ؛ حيث المال طاقة يمكن تبديلها إلى أيّ طاقة شئت ، ومن ثمّ قالوا : قوام الملك بالمال .. فالدولة القائمة بذاتها إنما تكون قائمة إذا كانت تملك الثروة اللازمة لإدارة البلاد في جميع مناحيها.

وهذا المال يجب توفّره على أيدي العائشين تحت لواء الدولة الحاكمة ، ويكون مفروضا عليهم دفع الضرائب والجبايات ، كل حسب مكنته وثروته ، الأمر الذي يكون شيئا وراء الأخماس والزكوات التي لها مصارف خاصة ، لا تعني شئون الدولة فحسب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، الحرّ العاملي ، ج ٦ ، ص ٣٥٠ ، كتاب الخمس ، باب ٨ ، رقم ٥ و ٦.

(٢) البقرة / ١٩٥.

٢٣

وهذه هي (الماليّة) التي يكون تقديرها وتوزيعها على الأموال والممتلكات ، حسب حاجة الدولة وتقديرها ، ومن ثمّ لم يتعين جانب تقديرها في الشريعة ، على خلاف الزكوات والأخماس ؛ حيث تعيّن المقدار والمصرف والمورد فيها بالنص.

فقد فرض الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام على الخيل العتاق في كل فرس في كل عام دينارين ، وعلى البراذين دينارا. (١)

ضابطة التأويل

ومما يجدر التنبّه له أن للأخذ بدلائل الكلام ـ سواء أكانت جليّة أم خفيّة ـ شرائط ومعايير ، لا بدّ من مراعاتها للحصول على الفهم الدقيق. فكما أن لتفسير الكلام ـ وهو الكشف عن المعاني الظاهرية للقرآن ـ قواعد وأصول مقرّرة في علم الأصول والمنطق ، كذلك كانت لتأويل الكلام ـ وهو الحصول على المعاني الباطنيّة للقرآن ـ شرائط ومعايير ، لا ينبغي إعفاؤها وإلّا كان تأويلا بغير مقياس ، بل كان من التفسير بالرأي الممقوت.

وليعلم أن التأويل ـ وهو من الدلالات الباطنية للكلام ـ داخل في قسم الدلالات الالتزامية غير البيّنة ، فهو من دلالة الألفاظ لكنها غير البيّنة ، ودلالة الألفاظ جميعا مبتنية على معايير يشرحها علم الميزان ؛ فكان التأويل ـ وهو دلالة باطنة ـ بحاجة إلى معيار معروف كي يخرجه عن كونه تفسيرا بالرأي.

فمن شرائط التأويل الصحيح ـ أي التأويل المقبول في مقابلة التأويل المرفوض ـ أوّلا : رعاية المناسبة القريبة بين ظهر الكلام وبطنه ، أي بين الدلالة

__________________

(١) الوسائل ، ج ٦ ، ص ٥١.

٢٤

الظاهرية وهذه الدلالة الباطنية للكلام ، فلا تكون أجنبيّة ، لا مناسبة بينها وبين اللفظ أبدا. فإذا كان التأويل ـ كما عرفناه ـ هو المفهوم العام المنتزع من فحوى الكلام ، كان لا بدّ أنّ هناك مناسبة لفظية أو معنوية استدعت هذا الانتزاع.

مثلا : لفظة «الميزان» وضعت لآلة الوزن المعروفة ذات الكفّتين ، وقد جاء الأمر بإقامتها وعدم البخس فيها ، في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ)(١).

لكنا إذا جرّدنا اللفظ من قرائن الوضع وغيره وأخلصناه من ملابسات الأنس الذهني ، فقد أخذنا بمفهومه العام : كل ما يوزن به الشيء ، أيّ شيء كان ماديّا أم معنويّا ، فإنه يشمل كل مقياس أو معيار كان يقاس به أو يوزن به في جميع شئون الحياة ، ولا يختص بهذه الآلة المادية فحسب.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : فالميزان آلة التعديل في النقصان والرجحان ، والوزن يعدل في ذلك. ولو لا الميزان لتعذّر الوصول إلى كثير من الحقوق ؛ فلذلك نبّه تعالى على النعمة فيه والهداية إليه. وقيل : المراد بالميزان : العدل ؛ لأنّ المعادلة موازنة الأسباب (٢).

وروى محمد بن العباس المعروف بماهيار (ت ح ٣٣٠) ـ في كتابه الذي وضعه لبيان تأويل الآيات ـ بإسناده إلى الإمام الصادق عليه‌السلام قال : الميزان الذي وضعه الله للأنام ، هو الإمام العادل الذي يحكم بالعدل ، وبالعدل تقوم السماوات والأرض ، وقد أمر الناس أن لا يطغوا عليه ويطيعوه بالقسط والعدل ، ولا يبخسوا من حقه ،

__________________

(١) الرحمن / ٩.

(٢) التبيان ، ج ٩ ، ص ٤٦٣.

٢٥

أو يتوانوا في امتثال أوامره. (١)

وهكذا قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)(٢) كانت دلالة الآية في ظاهر تعبيرها واضحة ؛ إنّ نعمة الوجود ووسائل العيش والتداوم في الحياة ، كلها مرهونة بإرادته تعالى وفق تدبيره الشامل لكافة أنحاء الوجود.

والله تعالى هو الذي مهّد هذه البسيطة لإمكان الحياة عليها ، ولو لا فضل الله ورحمته لعباده لضاقت عليهم الأرض بما رحبت.

هذا هو ظاهر الآية الكريمة ، حسب دلالة الوضع والمتفاهم العام.

وللإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام بيان يمسّ جانب باطن الآية ودلالة فحواها العام ، قال : «إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فما ذا تصنعون».

وقال الإمام عليّ الرضا عليه‌السلام : «ماؤكم : أبوابكم الأئمّة ، والأئمّة : أبواب الله. فمن يأتيكم بماء معين ، أي يأتيكم بعلم الإمام» (٣).

لا شكّ أنّ استعارة «الماء المعين» للعلم النافع ، ولا سيّما المستند إلى وحي السماء ـ من نبيّ أو وصيّ نبيّ ـ أمر معروف ومتناسب لا غبار عليه.

فكما أن الماء أصل الحياة المادّيّة والمنشأ الأوّل لإمكان المعيشة على الأرض ، كذلك العلم النافع. وعلم الشريعة بالذات ، هو الأساس لإمكان الحياة

__________________

(١) نقلا بالمعنى ، راجع : تأويل الآيات الظاهرة للسيد شرف الدين الاسترابادي ، ج ٢ ، ص ٦٣٢ ـ ٦٣٣.

(٢) الملك / ٣٠.

(٣) تفسير الصافي ، الفيض الكاشاني ، ج ٢ ، ص ٧٢٧ ، وراجع : تأويل الآيات الظاهرة ، ج ٢ ، ص ٧٠٨.

٢٦

المعنويّة التي هي سعادة الوجود والبقاء مع الخلود.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)(١).

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٢).

فهنا قد لوحظ الماء ـ وهو أصل الحياة ـ في مفهومه العام المنتزع منه الشامل للعلم ، فيعم الحياة المادية والمعنوية.

وأيضا قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ...)(٣) ، أي فليمعن النظر في طعامه ، كيف عملت الطبيعة في تهيئته وتمهيد إمكان الحصول عليه ، ولم يأته عفوا ، ومن غير سابقة مقدمات وتمهيدات. لو أمعن النظر فيها ؛ لعرف مقدار فضله تعالى عليه ، ولطفه ورحمته ؛ وبذلك يكون تناول الطعام له سائغا ، ومستدعيا للقيام بالشكر الواجب.

هذا ، وقد روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده إلى زيد الشحّام ، قال : سألت الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام قلت : ما طعامه؟ قال : «علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه». (٤).

والمناسبة هنا ـ أيضا ـ ظاهرة ؛ لأن العلم غذاء الرّوح ، ولا بدّ من الاحتياط في الأخذ من منابعه الأصيلة ، ولا سيّما علم الشريعة وأحكام الدين الحنيف.

__________________

(١) الأنفال / ٢٤.

(٢) آل عمران / ١٦٤.

(٣) عبس / ٢٤.

(٤) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٢٩.

٢٧

وثانيا : مراعاة النظم والدقة في إلغاء الخصوصيات المكتنفة بالكلام ؛ ليخلص صفوه ويجلو لبابه في مفهومه العام ، الأمر الذي يكفله قانون «السبر والتقسيم» من قوانين علم الميزان (علم المنطق) والمعبّر عنه في علم الأصول : بتنقيح المناط ، الذي يستعمله الفقهاء للوقوف على الملاك القطعي لحكم شرعي ؛ ليدور التكليف أو الوضع معه نفيا وإثباتا ، ولتكون العبرة بعموم الفحوى المستفاد ، لا بخصوص العنوان الوارد في لسان الدليل. وهذا أمر معروف في الفقه ، وله شرائط معروفة.

ومثال تطبيقه على معنى قرآني ، قوله تعالى ـ حكاية عن موسى عليه‌السلام ـ : (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)(١).

هذه قوله نبيّ الله موسى عليه‌السلام قالها تعهّدا منه لله تعالى ، تجاه ما أنعم عليه من البسطة في العلم والجسم : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٢) قضى على عدوّ له بوكزة وكزه بها ، فحسب أنه قد فرط منه ما لا ينبغي له ، فاستغفر ربّه فغفر له. فقال ذلك تعهدا منه لله ، أن لا يستخدم قواه وقدره الذاتيّة ، والتي منحه الله بها ، في سبيل الفساد في الأرض ، ولا يجعل ما آتاه الله من إمكانات معنوية وماديّة في خدمة أهل الإجرام.

هذا ما يخصّ الآية في ظاهر تعبيرها بالذات.

وهل هذا أمر يخصّ موسى عليه‌السلام لكونه نبيّا ومن الصالحين ، أم هو حكم عقلي بات يشمل عامة أصحاب القدرات ، من علماء وأدباء وحكماء وأرباب صنائع وفنون ، وكل من آتاه الله العلم والحكمة وفصل الخطاب؟ لا ينبغي في

__________________

(١) القصص / ١٧.

(٢) القصص / ١٤.

٢٨

شريعة العقل أن يجعل ذلك ذريعة سهلة في متناول أهل العبث والاستكبار في الأرض ، بل يجعلها وسيلة ناجحة في سبيل إسعاد العباد وإحياء البلاد (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها)(١).

وهذا الفحوى العام للآية الكريمة إنما يعرف وفق قانون «السبر والتقسيم» وإلغاء الخصوصيات المكتنفة بالموضوع ، فيتنقّح ملاك الحكم العام.

وفي القرآن كثير من هذا القبيل ، إنما الشأن في إمعان النظر والتّدبّر في الذكر الحكيم ؛ وبذلك يبدو وجه استفادة فرض الأخماس من آية الغنيمة ، ودفع الضرائب من آية الإنفاق في سبيل الله.

مزاعم في التأويل

هناك من حسب من تأويل القرآن شيئا وراء المفاهيم الذهنيّة أو التعابير الكلاميّة ، وكان من نمط الأعيان الخارجية ، وكان ما ورد في القرآن من حكم وآداب وتكاليف وأحكام كلها تعود إليه ؛ إذ تنتزع منه وتنتهي إليه في نهاية المطاف ، فكان ذلك تأويلا للقرآن في جميع آياته الكريمة.

وقد اختلفوا في تبيين تلك الحقيقة التي تعود إليها جميع الحقائق القرآنية في أصول معارفه والأحكام :

ذكر ابن تيميّة ـ في رسالة وضعها بشأن المتشابه والتأويل ـ : أن التأويل في عرف المتأخّرين صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى مرجوح ؛ لدليل يقترن به. فالتأويل ـ على هذا ـ يحتاج إلى دليل ، والمتأوّل عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي يدّعيه ، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر.

__________________

(١) هود / ٦١.

٢٩

قال : وأما التأويل ـ في عرف السلف ـ فله معينان : أحدهما : ما يرادف التفسير والبيان ، وهو الذي عناه مجاهد بقوله : إن العلماء يعلمون تأويل القرآن ، أي تفسيره وتبيينه.

والثاني : نفس المراد بالكلام ، إن كان طلبا فتأويله نفس العمل المطلوب ، وإن كان خبرا فتأويله نفس الشيء المخبر به.

قال : وبين هذا المعنى ـ الأخير ـ والذي قبله ـ الذي جاء أوّلا في عرف السلف ، والذي جاء في عرف المتأخرين ـ بون ؛ فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي.

وأما هذا ـ المعنى الثاني في عرف السلف ـ فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة. فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها.

قال : وهذا الوضع والعرف الثالث ـ الذي جاء ثانيا في عرف السلف ـ هو لغة القرآن التي نزل بها (١).

وقال في تفسير سورة الإخلاص ـ بعد كلام تفصيلي له عن تأويل المتشابه من الآيات ، وأن الراسخين في العلم يعلمون تأويله ، واستعظام أن يكون جبرائيل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين لا يعرفون تأويل متشابه القرآن ، ويكون الله تعالى قد استأثر بعلم معاني هذه الآيات كما استأثر بعلم الساعة ، وأنهم جميعا كانوا يقرءون ألفاظا لا يفهمون لها معنى ، كما

__________________

(١) رسالة الإكليل ، مطبوعة ضمن المجموعة الثانية من رسائله ص ١٠ و ١٧ ـ ١٨.

٣٠

يقرأ أحدنا كلاما ليس من لغته فلا يعرف معناه ، من قال ذلك فقد كذب على القوم ، والمأثور عنهم متواترا يناقض هذا الزعم ، وأنهم يفهمون معنى المتشابه كما يفهمون معنى المحكم ـ قال بعد ذلك :

فإن قيل : هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التأويل الذي يراد به التفسير ، وبين التأويل الذي في كتاب الله.

قيل : لا يقدح في ذلك ، فإن معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصوّره في القلب ، غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج ، المرادة بذلك الكلام.

فإن الشيء له وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في اللّسان ، ووجود في البيان. فالكلام لفظ له معنى في القلب ، ويكتب ذلك اللفظ بالخطّ. فإذا عرف الكلام وتصوّر معناه في القلب وعبّر عنه باللّسان ، فهذا غير الحقيقة الموجودة في الخارج ، وليس كل من عرف الأول عرف عين الثاني.

مثال ذلك : أن أهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبره ونعته ، وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره ، وتأويل ذلك هو نفس محمّد المبعوث ؛ فالمعرفة بعينه معرفة تأويل ذلك الكلام.

وكذلك الإنسان قد يعرف الحجّ والمشاعر ، كالبيت والمساجد ومنى وعرفة ومزدلفة ، ويفهم معنى ذلك ولا يعرف الأمكنة حتى يشاهدها ، فيعرف أن الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وكذلك أرض عرفات وغيرها.

وكذلك الرؤيا يراها الرجل ، ويذكر له العابر تأويلها فيفهمه ويتصوره ، ثم إذا كان ذلك فهو تأويل الرؤيا ، ليس تأويلها نفس علمه وتصوره وكلامه ؛ ولهذا قال يوسف الصدّيق : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) وقال : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) فقد أنبأهما بالتأويل قبل أن يأتي التأويل ،

٣١

فنحن نعلم تأويل ما ذكر الله في القرآن من الوعد والوعيد ، وإن كنّا لا نعرف متى يقع هذا التأويل المذكور في قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)(١).

وقد أشاد السيد محمد رشيد رضا (منشئ مجلة المنار المصرية) من هذه النظرة التيميّة بشأن تأويل القرآن ، وأعجبته غاية الإعجاب. قال ـ بعد أن نقل عن شيخه الأستاذ محمد عبده ، أن التأويل بمعنى ما يؤول إليه الشيء وينطبق عليه ، لا بمعنى ما يفسّر به (٢) ـ : ليس في كتب التفسير المتداولة ما يروي الغليل في هذه المسألة ، وما ذكرناه آنفا هو صفوة ما قالوه ، وخيرة كلام الأستاذ الإمام. وقد رأينا أن نرجع بعد كتابته إلى كلام في المتشابه والتأويل ، لشيخ الإسلام أحمد بن تيميّة ، فرجعنا إليه وقرأناه بإمعان ، فإذا هو منتهى التحقيق والعرفان ، والبيان الذي ليس وراءه بيان ، أثبت فيه أنه ليس في القرآن كلام لا يفهم معناه ، وأن المتشابه إضافي إذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ ، وأن التأويل الذي لا يعلمه إلّا الله تعالى هو ما تؤول إليه تلك الآيات في الواقع ، ككيفية صفاته تعالى ، وكيفية عالم الغيب ، وكيفية قدرته تعالى وتعلقها بالإيجاد والإعدام ، وكيفية استوائه على

__________________

(١) راجع : رسالته في تفسير سورة الإخلاص ، ص ١٠٢ ـ ١٠٣. ونقله محمد رشيد رضا في تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٢) يرى الأستاذ عبده من متشابهات القرآن ، الأمور الأخروية التي ورد ذكرها في القرآن ، لأنها من ضرورة الدين ومن مقاصد الوحي ؛ حيث العقيدة بأحوال الآخرة من أركان الدين ، فيجب الإيمان بها ، الأمر الذي لا يمكن الوقوف على حقيقتها إلّا بعد مشاهدتها في الآخرة ، فهي تأويلها ذلك اليوم ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) الأعراف / ٥٣ (المنار ، ج ٣ ، ص ١٦٧)

٣٢

العرش. ولا كيفية عذاب أهل النار ، ولا نعيم أهل الجنة ، كما قال تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(١) فليست نار الآخرة كنار الدنيا ، وإنما هي شيء آخر. وليست ثمرات الجنة ولبنها وعسلها من جنس المعهود لنا في هذا العالم ، وإنما هو شيء آخر يليق بذلك العالم ويناسبه.

قال : وإننا نبيّن ذلك بالإطناب الذي يحتمله المقام ، مستمدّين من كلام هذا الحبر العظيم ، ناقلين بعض ما كتبه (٢). وجعل ينقل ما سرده ابن تيميّة بإسهاب.

وهذا الذي ذكره ابن تيميّة وأشاد به رشيد رضا ، لا يعدو ما يعود إليه أمر الشيء ، أخذا بالمفهوم اللغوي لمادة التأويل. أما العين الخارجية بالذات فلعلّه من اشتباه المصداق بالمفهوم ، فإن الوجود العيني للأشياء هي عين تشخّصاتها المعبّر عنها بالمصاديق الخارجية ، ولم يعهد إطلاق لفظ «التأويل» على المصداق في متعارف الاستعمال إلّا أن يكون من عرفهما الخاص ، ولا مشاحّة في الاصطلاح.

وعلى أيّ تقدير ، فإنهما لم يأتيا بشيء جديد ، فإن مسألة الوجودات الأربعة للأشياء (الذهني واللفظي والكتبي والعيني) أمر تعارف عليه أرباب المنطق منذ عهد قديم ، إلّا أن الشيء الذي لم يتعارف عليه هو إطلاق اسم «التأويل» على العين الخارجية ، باعتبارها مصداقا للوجودات الثلاثة المنتزعة عنها ، سوى كونه مصطلحا جديدا غير معروف.

ولسيدنا العلامة الطباطبائي كلام تحقيقي لطيف حول مسألة التأويل ، يراه

__________________

(١) السجدة / ١٧.

(٢) تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ١٧٢ ـ ١٩٦.

٣٣

متغايرا مع المفاهيم ، بعيدا عن جنس الألفاظ والمعاني والتعابير ، وإنما هي حقائق راهنة ، موطنها خارج الأذهان والعبارات.

إنّه رحمه‌الله تعرّض لكلام ابن تيميّة ، فصحّحه من جهة ، وخطّأه من جهة أخرى ؛ صحّحه من جهة قوله : بشمول التأويل لجميع آي القرآن ، محكمه ومتشابهه ، وقوله : بأنه خارج الأذهان والعبارات. لكن خطّأه في حصره للتأويل في العين الخارجية البحت ، فإنه مصداق وليس بتأويل. إنما التأويل حقائق راهنة ، هي مصالح واقعية وأهداف وغايات مقصودة من وراء التكاليف والأحكام ، وكذا الحكم والمواعظ والآداب ، وحتى القصص والأخبار والآثار التي جاءت في القرآن.

قال ـ مناقشا لرأي ابن تيميّة ـ :

«إنه وإن أصاب في بعض كلامه ، لكنه أخطأ في بعضه الآخر. إنّه أصاب في القول بأنّ التأويل لا يختص بالمتشابه ، بل هو عام لجميع القرآن ، وكذا القول : بأنّ التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي ، بل هو أمر خارجي يبتنى عليه الكلام. لكنه أخطأ في عدّ كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام ـ حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة ـ تأويلا للكلام» (١).

ثم قال : «الحقّ في تفسير التأويل أنّه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية ، من حكم أو موعظة أو حكمة ، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها ، وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ ، بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ. وإنما قيّدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب ، فهي كالأمثال تضرب

__________________

(١) الميزان ، ج ٣ ، ص ٤٨.

٣٤

ليقرّب بها المقاصد وتوضّح ، بحسب ما يناسب فهم السامع ، كما قال تعالى : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(١).

وقال ـ في شرح الآية ـ :

«إن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروّا عربيّا ، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس ، وإلّا فإنه ـ وهو في أمّ الكتاب ـ عند الله عليّ لا تصعد إليه العقول ، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل. فالكتاب المبين ـ في الآية ـ هو أصل القرآن العربي المبين ، وللقرآن موقع هو في الكتاب المكنون ، وأن التنزيل حصل بعده ، وهو الذي عبّر عنه بأم الكتاب وباللوح المحفوظ. فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل ، أمر وراء هذا المنزل ، وإنما هذا بمنزلة اللباس لذاك. إنّ هذا المعنى ، أعني كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين ، ونحن نسمّيه بحقيقة الكتاب ، بمنزلة اللباس من المتلبّس ، وبمنزلة المثال من الحقيقة ، وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام ...» (٢).

وأضاف : «فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصّة من القصص القرآنية ، وإن لم تكن أمرا يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائية ، إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة ، لمّا كان كلّ منها ينشأ منها ويظهر منها ، فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والإشارة» (٣).

__________________

(١) الميزان ، ج ٣ ، ص ٤٩ ، الزخرف / ٤.

(٢) الميزان ، ج ٢ ، ص ١٤ ـ ١٦.

(٣) المصدر نفسه ، ج ٣ ، ص ٥٣.

٣٥

وأخيرا لخّص كلامه في بيان التأويل بما يلي :

«التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يتضمّنها الشيء ويؤول إليها ويبتنى عليها ، كتأويل الرؤيا ، وهو تعبيرها ، وتأويل الحكم ، وهو ملاكه ، وتأويل الفعل ، وهو مصلحته وغايته الحقيقيّة ، وتأويل الواقعة ، وهو علّتها الواقعية ، وهكذا» (١).

غير أن وقفة فاحصة عند كلام هذا المحقق العلامة ، تجعلنا نتردد في التوافق معه ، إنه رحمه‌الله لو كان اقتصر على ما لخّصه أخيرا ، من جعل ملاكات الأحكام والمصالح والغايات الملحوظة في التشريعات والتكاليف تأويلا ، أي أصلا لها ومرجعها الأساسي لكل ذلك المذكور ؛ لأمكننا مرافقته.

لكنه توسّع في ذلك ، وفرض من تأويل آي القرآن كلها أمرا بسيطا ذا إحكام رصين ، ليس فيه شيء من هذه التجزئة والتفصيل الموجود في القرآن الحاضر الذي يتداوله المسلمون منذ أول يومهم فإلى ما لا نهاية ، فإن ذاك عار عن كونه آية آية وسورة سورة ، وجودا واحدا بسيطا صرفا ، مستقرا في محل أرفع ، في كتاب مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون.

وفرض من القرآن ذا وجودين : وجودا ظاهريا يتشكل في ألفاظ وعبارات ذوات مفاهيم معروفة ، وهو الذي يتلى ويقرأ ويدرس ، ويتداوله الناس حسبما ألفوه طوال عهد الإسلام.

ووجودا آخر باطنيا ، هو وجوده الحقيقي الأصيل ، المترفع عن أن تناله العقول والأحلام ، فضلا عن الأوهام ، وذلك الوجود الحقيقي الرفيع هو تأويل

__________________

(١) الميزان ، ج ١٣ ، ص ٣٧٦.

٣٦

القرآن ، أي أصله ومرجعه الأصيل.

قال ـ بصدد بيان نزول القرآن دفعة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان ، وأنه لم يكن هذا القرآن المتلوّ الذي بأيدي الناس ، فإنه نزل تدريجا بلا ريب ـ :

«والذي يعطيه التدبّر في آيات الكتاب أمر آخر ، فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة القدر إنما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدال على الدفعة ، دون التنزيل ، واعتبار الدفعة إما بلحاظ المجموع أو البعض ، وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي ، الذي يقضي فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج ، هو المصحّح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالإنزال دون التنزيل ؛ وهذا هو اللائح من الآيات الكريمة : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)(١) فإن هذا الإحكام مقابل التفصيل ، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة ؛ فالإحكام كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء ، ولا يتميّز بعض من بعض ؛ لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء فيه ولا فصول. والآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن ، إنما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصّل ، وأوضح منه قوله تعالى : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٢) فإنه ظاهر في أن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروّا عربيّا ، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس ، وإلّا فإنه في أم الكتاب عند الله عليّ لا يصعد إليه العقول ، حكيم لا يوجد فيه فصل فصل. فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن وحكمه

__________________

(١) هود / ١.

(٢) الزخرف / ٤.

٣٧

الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل وإنما هذا بمنزلة اللباس لذاك. (١)

ثم أحال تمام الكلام إلى بيانه الآتي حول آية المتشابهات ، قال هناك :

«الحق في تفسير التأويل أنّه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية ، وأنه موجود لجميع الآيات ، وأنّه ليس من قبيل المفاهيم بل من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ ، وإنّما قيّدها الله بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا ، قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٢) وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى (٣).

وبعد ، فلنتساءل : ما هو السبب الداعي لفرض وجودين للقرآن الكريم : وجودا لديه تعالى في كتاب مكنون ، لا يمسّه إلا المطهرون ، عاريا عن التجزئة والتفصيل ، متعاليا عن شبكات الألفاظ والعبارات ؛ ووجودا أرضيّا نزل تدريجا لهداية الناس ، وألبس لباس العربية لعلهم يعقلونه؟!

ولعله للنظر إلى قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ...)(٤) وقوله : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا)(٥) وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...)(٦).

وقد ورد في الحديث ـ من طرق الفريقين ـ : أن القرآن نزل جملة واحدة في

__________________

(١) الميزان ، ج ٢ ، ص ١٤ ـ ١٦.

(٢) الزخرف / ٤.

(٣) الميزان ، ج ٣ ، ص ٤٩.

(٤) البقرة / ١٨٥.

(٥) الدخان / ٥.

(٦) القدر / ١.

٣٨

ليلة القدر ، ثم نزل تدريجا طوال عشرين عاما» (١).

ولذلك فرض علامتنا الطباطبائي وجودين للقرآن الكريم ونزولين. وكان نزوله الدفعي بوجوده البسيط الذي كان بمنزلة الروح لهذا القرآن ، النازل تدريجا بوجوده التفصيلي.

وبذلك نراه قد جمع بين ظواهر الآيات ودلالة الروايات ، وأيّد ذلك بالفارق اللغوي بين لفظتي «الإنزال» و «التنزيل».

لكن تشريف شهر رمضان إنما كان بنزول هذا القرآن المعهود لدى المخاطبين بهذا الخطاب ، لا بأمر لا يعرفونه!

على أنّ القرآن النازل في هذا الشهر ، قد وصف بكونه (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ)(٢) ومعلوم أنّ الهداية والبيّنات ، إنما هي بهذا الكتاب الذي يتداولونه ، لا بكتاب مكنون عند الله محفوظ لديه في مكان عليّ لا تناله الأيدي والأبصار.

كما أن الذي يبتغيه أهل الزيغ لأجل الفساد في الأرض ، هو تفسير الآيات على غير وجهها ، لا وجودا آخر للقرآن ، هو في أعلى علّيين.

فقوله رحمه‌الله : «وأنه موجود لجميع الآيات محكمها ومتشابهها ، وأنه ليس من قبيل المفاهيم بل من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ ...» غير مفهوم لنا.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٩٤ ، ص ١٤ ، رقم ٢٣.

(٢) البقرة / ١٨٥.

٣٩

والفرق بين «الإنزال» و «التنزيل» أمر أبدعه الراغب الأصبهاني ، ولا شاهد له.

قال : وإنما خصّ لفظ الإنزال دون التنزيل ؛ لما روي أن القرآن نزل دفعة واحدة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل نجما فنجما. ولفظ الإنزال أعمّ من التنزيل ، قال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ)(١) ولم يقل : لو نزّلنا ، تنبيها إنا لو خوّلناه مرّة ما خوّلناك مرارا.

ويرد عليه ما حكاه الله عن قوله العرب : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً)(٢).

وكذلك قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)(٣).

وقوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)(٤).

وقوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ ...)(٥).

وقوله : (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً)(٦).

كما جمع بين التعبيرين بشأن أمر واحد في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٧).

كما جاء استعمال «الإنزال» بشأن التدريجيات أيضا :

__________________

(١) الحشر / ٢١.

(٢) الفرقان / ٣٢.

(٣) الأنعام / ٣٧.

(٤) محمد / ٢٠.

(٥) الأنعام / ٧.

(٦) الإسراء / ٩٥.

(٧) النحل / ٤٤.

٤٠