التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

الشام سمع كعب الأحبار يسأل عن المرجان (الرحمن / ٢٢) فقال : هو البسّذ (١).

لكن من أين علم جولد تسيهر أن الذي سأل كعبا هو شيخ مكة وزعيمها ابن عباس؟!

وكذا روي عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن شيبان ، أنّ ابن عباس سأل كعبا عن أمّ الكتاب (الرعد / ٣٩) فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون ، فقال لعلمه : كن كتابا ، فكان كتابا (٢).

غير أنّ شيبان هذا ـ هو ابن عبد الرحمن التميمي مولاهم ، النحوي أبو معاوية البصري المؤدّب ، سكن الكوفة ثم انتقل إلى بغداد ـ مات في خلافة المهدي سنة (١٦٤) وكان من الطبقة السابعة (٣) ، وعليه فلم يدرك ابن عباس المتوفّى سنة (٦٨) ولا كعب الأحبار الذي هلك في خلافة عثمان سنة (٣٢) فالرواية مرسلة لم يعرف الواسطة ، فكانت ساقطة عن الاعتبار.

وأيضا روي عن إسحاق بن عبد الله بن الحرث عن أبيه ، أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) و (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)(٤) فقال : هل يئودك طرفك؟ هل يئودك نفسك؟ قال : لا ، قال : فإنهم ألهموا التسبيح ، كما ألهمتم الطرف والنفس (٥).

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٧ ، ص ٧٦.

(٢) المصدر نفسه ، ج ٣ ، ص ١١٥.

(٣) تهذيب التهذيب ، ج ٤ ، ص ٣٧٣ ـ ٣٧٤. وتقريب التهذيب أيضا له ، ج ١ ، ص ٣٥٦ ، رقم ١١٥.

(٤) الأنبياء / ٢٠ ، فصّلت / ٣٨.

(٥) تفسير الطبري ، ج ١٧ ، ص ١٠.

٢٦١

وعبد الله هذا هو ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، ولد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة وأصبح من فقهائها ، وتحوّل إلى البصرة ورضيته العامة ، واصطلحوا عليه حين هلك يزيد بن معاوية. توفّي سنة (٨٤) بالأبواء ودفن بها ، وكان خرج إليها هاربا من الحجاج (١).

غير أنّ الطبري روى بإسناده إلى حسّان بن مخارق عن عبد الله بن الحرث ، أنه هو الذي سأل كعبا عن ذلك ، قال : قلت لكعب الأحبار : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ...) أما يشغلهم رسالة أو عمل؟ قال : يا ابن أخي ، إنهم جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس ، ألست تأكل وتشرب وتقوم وتقعد وتجيء وتذهب وأنت تتنفّس؟ قلت : بلى! قال : فكذلك جعل لهم التسبيح (٢).

قلت : يا ترى ، هل كان هو الذي سأل كعبا أو أنه سمع ابن عباس يسأل كعبا؟

في حين أنه لا يقول : سمعت ابن عباس يسأله ، بل مجرد أنّ ابن عباس سأله ، الأمر الذي لا يوثق بكون الرواية منتهية إلى سماع ، والظاهر أنه إرسال.

على أنه من المحتمل القريب أن السائل هو بالذات ، لكنّ ابنه إسحاق كره نسبة السؤال من مثل كعب إلى أبيه ، فذكر الحديث عن أبيه مع إقحام واسطة إرسالا من غير إسناد. ويؤيد ذلك أنّه لم تأت رواية غير هذه تنسب إلى ابن عباس أنه سأل مثل كعب ، فالأرجح في النظر أنه مفتعل عليه لا محالة.

واستند جولد تسيهر ـ في مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب ـ أيضا إلى ما رواه الطبري بإسناده إلى أبي جهضم موسى بن سالم مولى ابن عباس ، قال : كتب ابن

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٥ ، ص ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) تفسير الطبري ، ج ١٧ ، ص ١٠.

٢٦٢

عباس إلى أبي جلد (غيلان بن فروة الأزدي ، كان قرأ الكتب ، وكان يختم القرآن كل سبعة أيام ويختم التوراة كل ثمانية أيام) (١) يسأله عن «البرق» في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) فقال : البرق : الماء (٢).

لكن في طبقات ابن سعد (٣) أن أبا الجلد الجوني ـ حيّ من الأزد ـ اسمه جيلان بن فروة ، كان يقرأ الكتب. وزعمت ابنته ميمونة : أنّ أباها كان يقرأ القرآن في كل سبعة أيّام ، ويختم التوراة في ستّة ، يقرأها نظرا ، فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناس.

لا شك أنها مغالاة من ابنته. يقول جولد تسيهر : ولا يتّضح حقّا من هذا الخبر الغامض ، الذي زادته مغالاة ابنته غموضا ، أيّ نسخة من التوراة كان يستخدمها في دراسته. (٤)

لأن التوراة المعهودة اليوم وهي تشتمل على (٣٩) كتابا تكون في حجم كبير ، ثم هي قصة حياة إسرائيل طول عشرين قرنا ، وفيها تاريخ حياة أنبياء بني إسرائيل وملوكهم ورحلاتهم وحروبهم طول التاريخ ، وهي بكتب التاريخ أشبه منها بكتب الوحي. فهل كان يقرأ ذلك كله في ستة أيّام؟ وما هي الفائدة في ذلك التكرار؟!

على أنّ راوي الخبر ـ وهو موسى بن سالم أبو جهضم ـ لم يلق ابن عباس ولا أدركه ؛ لأنّه مولى آل العباس ، وليس مولى لابن عباس. ففي نسخة الطبري

__________________

(١) مذاهب التفسير الإسلامي ، ص ٨٥.

(٢) تفسير الطبري ، ج ١٣ ، ص ٨٢ ، الرعد / ١٢.

(٣) ج ٧ ، ق ١ ، ص ١٦١ ، س ١٥.

(٤) مذاهب التفسير الإسلامي ، ص ٨٦.

٢٦٣

المطبوعة خطأ قطعا. قال ابن حجر : موسى بن سالم أبو جهضم مولى آل العباس ، أرسل عن ابن عباس. وهو من رواة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام (١). وفي الخلاصة : موسى بن سالم مولى العباسيين أبو جهضم عن أبي جعفر الباقر ، وعنه الحمّادان (٢). والإمام الباقر توفّي سنة (١١٤)

وأخيرا ، فإنّ الموارد التي ذكروا مراجعة ابن عباس فيها لأهل الكتاب لا تعدو معاني لغوية بحتة ، لا تمسّ قضايا سالفة عن أمم خلت كما زعموا ، ولا سيّما السؤال عن «البرق» ، وهو لفظ عربي خالص ، لا موجب للرجوع فيه إلى رجال أجانب عن اللّغة. كيف يا ترى يرجع مثل ابن عباس ـ وهو عربي صميم وعارف بمواضع لغته أكثر من غيره ـ إلى اليهود الأجانب؟! وهل يخفى على مثله ما للفظ البرق من مفهوم؟ ثم كيف اقتنع بتفسيره بالماء؟ اللهم إن هذا إلّا اختلاق!

الأمر الذي يقضي بالعجب ، كيف يحكم هذا العلّامة المستشرق حكمه الباتّ ، بأنّ كثيرا ما ذكر أنه كان يرجع ـ كتابة ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى من يدعى أبا الجلد؟! (٣) ويجعل مستنده هذه المراجعة المفتعلة قطعا ، إذ كيف يعقل أن يراجع ، مثله في مثل هذه المعاني؟!

وأسخف من الجميع تبرير ما نسب إلى ابن عباس من أقاصيص أسطورية جاءت عنه ، بأنه من جرّاء رجوعه إلى أهل الكتاب في هكذا أمور بعيدة عن صميم الدين. قال الأستاذ أمين : وهذا يعلّل ما في تفسيره من إسرائيليات. قال

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ١٠ ، ص ٣٤٤.

(٢) خلاصة التهذيب ، ص ٣٩٠.

(٣) مذاهب التفسير الإسلامي ، ص ٨٥.

٢٦٤

ذلك بعد قوله : وكان ابن عباس وأبو هريرة أكبر من نشر علم كعب الأحبار (١).

وقال الدكتور مصطفى الصاوي : وكثيرا ما ترد عن ابن عباس روايات في بدء الخليقة وقصص القرآن ، مما لا يمكن أن يكون قد رجع فيها إلّا إلى أهل الكتاب ؛ حيث يرد هذا القصص مفصلا ، مثال هذا تفسيره للآية : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)(٢) قال : لكنه حين يرجع إليهم مستفسرا ، فإنما يرجع رجوع العالم الذي يعير سمعه لما يقال ، ثم يعمل فكره وعقله فيما يسمع ، ثم ينخله مبعدا عنه الزيف (٣).

قلت : إن كانت فيما روي عنه في ذلك وأمثاله غرابة أو غضاضة ، فإنّ العتب إنما يرجع إلى الذي نسبه إلى ابن عباس ، ترويجا لأكذوبته ، ولا لوم على ابن عباس في كثرة الوضع عليه. نعم ولعل هذه الكثرة في الوضع عليه آية على تقدير له وإكبار من الوضّاع ، لكنه في نفس الوقت ، رغبة منهم في أن تنفق بضاعتهم ، موسومة بمن في اسمه الرواج العلمي. وقد اعترف بذلك الدكتور الصاوي (٤) ، فلما ذا حكم عليه ذلك الحكم القاسي؟!

فالصحيح : أن ابن عباس كان في غنى عن مراجعة أهل الكتاب ، وعنده الرصيد الأوفى بالعلوم والمعارف والتاريخ واللغة ، ولا سيّما في مثل تلكم الأساطير السخيفة التي كانت كل ما يملكه اليهود من بضاعة مزجاة كاسدة ، بل إن

__________________

(١) فجر الاسلام ، ص ١٦٠.

(٢) البقرة / ٣٠ ، راجع : الطبري ، ج ١ ، ص ١٥٨.

(٣) مناهج في التفسير ، ص ٣٨.

(٤) مناهج في التفسير ، ص ٤١.

٢٦٥

موقف ابن عباس من أهل الكتاب عموما ، ومن كعب الأحبار خصوصا ، ما يصوّره معتزّا بدينه كريما على نفسه وثقافته.

يروى أنّ رجلا أتى ابن عباس يبلغه زعم كعب الأحبار : أنه يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيقذفان في النار! فغضب ابن عباس وقال : كذب كعب الأحبار ، كذب كعب الأحبار ، كذب كعب الأحبار ، بل هذه يهوديّة يريد إدخالها في الإسلام (١).

يقال : لما بلغ ذلك كعبا ، اعتذر له بعد وتعلّل (٢).

وربما كان كعب يجالس ابن عباس يحاول مراودته العلم فيما زعم ، فكان ابن عباس يجابهه بما يحطّ من قيمته. روي أنه ذكر الظلم في مجلس ابن عباس ، فقال كعب : إني لا أجد في كتاب الله المنزل (يريد التوراة) (٣) أن الظلم يخرّب الديار ، فقال ابن عباس : أنا أوجدكه في القرآن ، قال الله عزوجل : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا)(٤).

هذه حقيقة موقف ابن عباس من اليهود كما ترى ، وهو إذ كان يدعو إلى تجنّب الرجوع إلى أهل الكتاب ، لما يدخل بسبب ذلك من فساد على العقول وتشويه على العامة ، فكيف يا ترى أنه كان يرجع إليهم رغم نهيه وتحذيره! وهل لا طرق سمعه ، وهو الحافظ لكلام الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا

__________________

(١) العرائس للثعالبي ، ص ١٨. (مناهج في التفسير ، ص ٢٩)

(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٤.

(٣) حسب التصريح به في الرواية : كتاب الله المنزل ، يعني التوراة (راجع : ابن قتيبة في عيون الأخبار ، ج ١ ، ص ١٤٦ ، س ١٣)

(٤) عيون الأخبار لابن قتيبة ، ج ١ ، ص ٢٦ (مناهج ، ص ٣٩) ، النمل / ٥٢.

٢٦٦

تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(١) ، فحاشا ابن عباس أن يراجع أهل الكتاب ، وحاشاه حاشاه!!

استعمال الرأي والاجتهاد

وهل استعمل ابن عباس رأيه في تفسير القرآن؟

إذا كان المراد من الرأي ، ما انتجه الفكر والاجتهاد بعد تمام مقدماته المعروفة ، فأمر طبيعي لا بدّ منه ، ولا يستطيع أحد محايدته ، إنما هو شيء كان عليه الأصحاب والعلماء من التابعين لهم بإحسان.

كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير ، يرجعون في فهم معاني القرآن إلى القرآن ذاته أولا ، وإلى ما وعوه من أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله في بيان معاني القرآن ، ثم إلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد ، مع الاستعانة في ذلك بمعرفة أسباب النزول ، والظروف والملابسات التي نزل فيها القرآن ، بالإضافة إلى توسّعهم في المعارف ، ولا سيّما مثل ابن عباس ، كان متوسعا في علومه فيما يتعلق بمواقع النزول وأنحائه ، ومعرفته بالأحكام والتاريخ والجغرافية ، حسبما مرّ عليك.

فالرأي المستند إلى مثل هذه المقدمات المعروفة المتناسبة بعضها مع البعض ، رأي ممدوح وأمر طبيعي ، ليس ينكر البتة.

هذا هو المنهج الذي سار عليه ابن عباس في التفسير ، لم يحد عن مناهج سائر الصحابة النبهاء. وقد ساهمت ثقافته العميقة في كثير من جوانب المعرفة ، على أن يتألّق في منهجه ، كما ساعده على ذلك ـ إضافة على ما ذكرنا ـ تبحّره في

__________________

(١) الصف / ٣ و ٢.

٢٦٧

معرفة مواقع النزول ، واستيعابه للمحكم والمتشابه ، والقراءة والأحكام والتاريخ والجغرافية ، فضلا عن اللغة والأدب الرفيع.

وهكذا كان ابن عباس بمعارفه الوسيعة يهتمّ بتعرّف كل شيء في القرآن ، حتى ليقول : إني لآتي على آية من كتاب الله تعالى ، فوددت أنّ المسلمين كلّهم يعلمون منها مثل ما أعلم (١). ويقول مصوّرا مدى اقتداره على استنباط معاني القرآن : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى (٢). قال الجويني : وما كان له أن يقول ذلك لو لا أخذه من كل ثقافة بطرف ، وتسخيرها جميعا لخدمة تفسير القرآن (٣).

ولهذا ظلّ ابن عباس دوما موضع الاعتبار والتقدير من الصحابة الأوّلين ومن معاصريه من التابعين ، وممن لحقه بعد ، منذ عهد التدوين ولا يزال. فما أكثر ما يدور اسمه في كتب التفسير على اختلاف مناهجها ومنازعها السياسية والمذهبية حتى الآن ، فرحمه‌الله من مفسّر لكلامه البليغ الوجيز.

الطرق إليه في التفسير

ذكر السيوطي تسعة طرق إلى ابن عباس في التفسير (٤) ، وصف بعضها بالجودة وبعضها بالوهن حسبما يلى :

أوّلها ـ وهو من جيّدها ـ : طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة الهاشمي عن ابن عباس. قال أحمد بن حنبل : بمصر صحيفة في التفسير ، رواها

__________________

(١) الإصابة لابن حجر ، ج ٢ ، ص ٣٣٤.

(٢) الإتقان ، ج ٣ ، ص ٢٦ عن تفسير ابن أبي الفضل المرسي.

(٣) مناهج في التفسير ، ص ٤٠ ـ ٤١.

(٤) راجع : الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٧ ـ ٢٠٩.

٢٦٨

عليّ بن أبي طلحة. ولو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ، ما كان كثيرا. قال ابن حجر : وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث ، رواها معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وهي عند البخاري عن أبي صالح ، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا فيما يعلّقه عن ابن عباس. وأخرج منها ابن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر كثيرا ، بوسائط بينهم وبين أبي صالح.

وقد غمز بعضهم في هذا الطريق ؛ حيث إن ابن أبي طلحة لم يسمع التفسير من ابن عباس. قال ابن حبّان : روى عن ابن عباس ولم يره ، ومع ذلك عدّه في الثقات (١). قالوا : وإنما أخذ التفسير عن مجاهد أو سعيد بن جبير ، وأسنده إلى ابن عباس رأسا ، وذلك أنه توفّي سنة (١٤٣) وقد توفّي ابن عباس سنة (٦٨) ، وما بين الوفاتين (٧٥) سنة ، الأمر الذي يمتنع معه الرواية عن ابن عباس مباشرة. قال الخليلي : وأجمع الحفّاظ على أن ابن أبي طلحة لم يسمع التفسير من ابن عباس. (٢)

وحاول بعضهم رميه بالضعف وسوء الرأي والخروج بالسيف أيضا. قال يعقوب بن سفيان : ليس محمود المذهب.

قال ابن حجر ـ بصدد ردّ الاعتراض ـ : أمّا إسقاط الواسطة فلا ضير فيه بعد أن عرفنا الواسطة وهو ثقة (٣) ، لا سيّما وقد روى عنه الثقات. قال صالح بن محمد : روى عنه الكوفيّون والشاميّون ـ لأنه انتقل إلى حمص ـ ، قال ابن حجر : ونقل

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٣٤٠.

(٢) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٧.

(٣) المصدر نفسه.

٢٦٩

البخاري من تفسيره رواية معاوية بن صالح عنه عن ابن عباس شيئا كثيرا.

قال : وقد وقفت على السبب الذي رمى به الرأي بالسيف ؛ وذلك فيما ذكره أبو زرعة الدمشقي عن عليّ بن عياش الحمصي ، قال : لقي العلاء بن عتبة الحمصي عليّ بن أبي طلحة تحت القبّة ، فقال (عليّ لعلاء) : يا أبا محمد ، تؤخذ قبيلة من قبائل المسلمين فيقتل الرجل والمرأة والصبيّ ، لا يقول أحد : الله ، الله! والله لئن كانت بنو أميّة أذنبت ، لقد أذنب بذنبها أهل المشرق والمغرب! (يشير بذلك إلى استباحة دماء بني أميّة من قبل بني العباس يومذاك وأنّهم يستحقون ذلك ، فطائفة منهم بارتكاب جرائم ، وطائفة أخرى بالسكوت عما يفعله إخوانهم) ثم قال عليّ بن أبي طلحة : يا عاجز ـ خطابا مع العلاء ؛ لأنه كان من أشياع بني أميّة (١) ـ أو ذنب على أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يريد بهم بني العباس) أن أخذوا قوما بجرائرهم وعفوا عن آخرين؟!

فقال له العلاء : وإنه لرأيك؟ قال : نعم. فقال له العلاء : لا كلّمتك من فمي بكلمة أبدا. إنما أحببنا آل محمد بحبّه ، فإذا خالفوا سيرته وعملوا بخلاف سنّته ، فهم أبغض الناس إلينا (٢).

إذن فلا مغمز فيما يرويه ابن أبي طلحة من تفسير يسنده إلى ابن عباس ، كما

__________________

(١) قال الذهبي : كان فيه لين. أخذ عن خالد بن معدان وعمير بن هانئ (ميزان الاعتدال ، ج ٣ ، ص ١٠٣) وقد تركه ابن حجر. أما عمير بن هانئ فكان ممن ولّاه الحجاج قضاء الكوفة ، وكان يرى البيعة ليزيد بن الوليد هجرة ثانية بعد الهجرة إلى الله ورسوله (الميزان ، ج ٢ ، ص ٢٩٧) وأمّا خالد بن معدان فكان من فقهاء الشام وكان يروي عن معاوية بن أبي سفيان (تهذيب التهذيب ، ج ٣ ، ص ١١٨) ، وقد حيكت حوله خرافات وأوهام ، وأنه كان إصبعه يتحرك بالتسبيح حين وضع على المغتسل! (الخلاصة لصفي الدين الخزرجي ، ص ١٠٣)

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٣٤٠.

٢٧٠

لا ضعف في الإسناد.

قال الخليلي ـ في الإرشاد ـ : تفسير معاوية بن صالح قاضي الأندلس عن عليّ ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، رواه الكبار عن أبي صالح كاتب الليث ، عن معاوية (١).

قلت : سبب الغمز فيه أنه كان متأثرا بمدرسة ابن عباس ـ وهو في حمص من بلاد الشام في تلك الأوساط المتأثّرة بنفثات آل أميّة المعادية للإسلام ـ فكان يحمل ولاء آل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعادي أعداءهم ، في أوساط ما كانت تتحمله ذلك العهد ، ومن ثمّ ألصقت به تهما هو منها براء.

الثاني ـ أيضا من جيّد الطرق ـ : طريق قيس بن الربيع أبي محمد الأسدي الكوفي. توفّي سنة (١٦٨) عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

قال جلال الدين : هذه طريق صحيحة على شرط الشيخين. وكثيرا ما يخرّج منها الفريابي والحاكم في مستدركه (٢).

وذكر ابن حجر عن أحمد بن حنبل أن قيسا هذا كان يتشيّع. ولكن قال ابن أبي شيبة : هو عند جميع أصحابنا صدوق وكتابه صالح (٣).

وأمّا عطاء بن السائب فكان ممن أخلص الولاء لآل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقا لتعاليم أشياخه سعيد وابن عباس وغيرهما ، وله حديث مع الإمام عليّ بن

__________________

(١) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٧.

(٢) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٨.

(٣) تهذيب التهذيب ، ج ٨ ، ص ٣٩٤.

٢٧١

الحسين زين العابدين عليه‌السلام ينبؤك عن مدى قربه لحضرته السنيّة (١).

* * *

الثالث ـ كذلك جيّد الطريق ـ : طريق محمد بن إسحاق صاحب السير والمغازي عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد ـ هكذا بالترديد ـ عن ابن عباس.

وابن إسحاق معروف بتشيّعه. كما ذكره ابن حجر في التقريب ، وشيخنا الشهيد الثاني في تعليقته على خلاصة الرجال (٢). قال صاحب الكشف : هو أوّل من صنّف في علم السير ، وهو رئيس أهل المغازي (٣).

قال السيوطي : وهذه طريق جيّدة وإسنادها حسن. وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا. وفي معجم الطبراني منها أشياء. (٤)

* * *

الرابع ـ وهو طريق حسن لا بأس به ـ : طريق إسماعيل بن عبد الرحمن أبو محمد القرشي الكوفي السدّي الكبير ، عن أبي مالك وأبي صالح ، عن ابن عباس. وكذلك عن مرّة بن شراحيل الهمداني عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة.

قال جلال الدين : وهذا التفسير يورد منه ابن جرير كثيرا ، وكذا الحاكم في مستدركه يخرّج منه أشياء ، ويصحّحه ، لكن من طريق مرّة عن ابن مسعود ، دون

__________________

(١) معجم رجال الحديث للإمام الخوئي ، ج ١١ ، ص ١٤٥ ، رقم ٧٦٨٨.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام للسيد الصدر ، ص ٢٣٣ وراجع : التقريب ، ج ٢ ، ص ١٤٤ ، رقم ٤٠.

(٣) كشف الظنون ، ج ٢ ، ص ١٠١٢.

(٤) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٩.

٢٧٢

الطريق الأول.

ويرى صاحب التراث : أنه من الممكن جمع نصوص هذا التفسير ، وإعادة تكوينه من جديد (١).

وقال الخليلي ـ في الإرشاد ـ : وتفسير السّدي يورده بأسانيد إلى ابن مسعود وابن عباس ، وروى عن السدّي الأئمّة مثل الثوري وشعبة. لكن التفسير الذي جمعه رواه أسباط بن نصر ، وأسباط لم يتفقوا عليه. قال : غير أنّ أمثل التفاسير تفسير السدّي (٢).

كان إسماعيل بن عبد الرحمن السدّي (٣) من الأئمّة الكوفيين ، وكان شديد التشيّع هو والكلبي. ومع ذلك فقد وثّقه القوم ، وأخرج مسلم عنه أحاديث ؛ لأنه كان يرجّح تعديله على تجريحه. (٤) فقد ذكره ابن حبّان في الثقات ، وقال ابن عديّ : له أحاديث يرويها عن عدّة شيوخ ، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق لا بأس به (٥).

وعدّه الشيخ أبو جعفر الطوسي من أصحاب الأئمّة : عليّ بن الحسين زين العابدين ، ومحمد بن علي الباقر ، وجعفر بن محمد الصادق عليهم‌السلام. قال : إسماعيل ابن عبد الرحمن السدّي أبو محمد المفسّر الكوفي (٦).

قال المولى الوحيد ـ في التعليقة ـ : وصفه بالمفسر مدح. قال المامقاني :

__________________

(١) تاريخ التراث العربي ، ج ١ ، ص ١٩١ ـ ١٩٢. معجم مصنفات القرآن الكريم ، ج ٢ ، ص ١٦٥.

(٢) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٨.

(٣) كان يقعد في سدّة باب الجامع في الكوفة فسمّي بذلك. توفّي سنة ١٢٧.

(٤) قيل كان يتناول الشيخين. تهذيب التهذيب ، ج ١. ص ٣١٤.

(٥) تهذيب التهذيب لابن حجر ، ج ١ ، ص ٣١٤.

(٦) رجال الطوسي ، ص ٨٢ ، رقم ٥ ، وص ١٠٥ ، رقم ١٩ ، وص ١٤٨ ، رقم ١٠٥.

٢٧٣

والمتحصل من مجموع ما ذكر بشأنه كون الرجل من الحسان (١) ، وقد اعتمده الشيخ في تفسيره (التبيان) كثيرا.

وهكذا عدّه ابن شهرآشوب من أصحاب الإمام زين العابدين عليه‌السلام (٢).

وهو الذي روى قصة الأخنس بن زيد ، الذي كان قد وطأ جسم الحسين عليه‌السلام وفعل ما فعل ، فابتلى في تلك الليلة بحريق أصابه من فتيلة السراج ، فلم تزل به النار ، حتى صار فحما على وجه الماء (٣).

* * *

الخامس ـ وهو أيضا حسن ـ : طريق عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، أبو خالد المكّي من أصل رومي ، أحد الأعلام الثقات ، فقيه أهل مكة في زمانه (٤).

قال ابن خلّكان : كان عبد الملك أحد العلماء المشهورين ، ويقال : إنه أول من صنّف الكتب في الإسلام. كانت ولادته سنة (٨٠) وتوفّي سنة (١٥٠) قال : وجريح ، بضم الجيم وفتح الراء وسكون الياء وبعدها جيم ثانية (٥).

قال الخطيب : وسمع الكثير من عطاء بن أبي رباح وغيره. وعن أحمد بن حنبل ، قال : قدم ابن جريج بغداد على أبي جعفر المنصور ، وكان صار عليه دين. فقال : جمعت حديث ابن عباس ما لم يجمعه أحد. فلم يعطه شيئا.

وعن عليّ بن المديني : نظرت فإذا الإسناد يدور على ستّة ـ فذكرهم ـ قال : ثم صار علم هؤلاء الستة إلى أصحاب الأصناف ، ممّن يصنّف العلم ، منهم من أهل

__________________

(١) تنقيح المقال ، ج ١ ، ص ١٣٧ ، رقم ٨٦١.

(٢) المناقب ، ج ٤ ، ص ١٧٧.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٤٥ ، ص ٣٢١ ـ ٣٢٢.

(٤) ميزان الاعتدال للذهبي ، ج ٢ ، ص ٦٥٩ رقم ٥٢٢٧.

(٥) وفيات الأعيان ، ج ٣ ، ص ١٦٣ ، رقم ٣٧٥.

٢٧٤

مكة عبد الملك بن عبد العزيز (ابن جريج) وكان قد تعلم على يد عطاء بن أبي رباح ، ولزمه سبع عشرة سنة. وسئل عطاء : من نسأل بعدك؟ فقال : هذا الفتى ، يعني ابن جريج ، وكان يصفه بأنه سيّد أهل الحجاز.

وعن أحمد بن حنبل : كان ابن جريج من أوعية العلم. وقال ابن معين : أصحاب الحديث خمسة ، وعدّ منهم ابن جريج. وقال يحيى بن سعيد القطّان : كتب ابن جريج كتب الأمانة ، وإذا لم يحدثك عن كتابه لم ينتفع به.

قال أحمد : إذا قال ابن جريج : أخبرني وسمعت ، فحسبك به. قال : الذي يحدّث من كتاب أصحّ ، وكان في بعض حفظه ـ إذا حدّث حفظا ـ سيّئ. قال ابن معين : ابن جريج ثقة في كل ما روي عنه من الكتاب.

كان ابن جريج ومالك بن أنس (إمام المالكية) قد أخذا الفقه من نافع. ولكن ابن جريج كان مفضّلا على مالك. فعن أحمد بن زهير ، قال : رأيت في كتاب ابن المديني : سألت يحيى بن سعيد ، من أثبت أصحاب نافع؟ قال : أيّوب ، وعبيد الله ، ومالك بن أنس. وابن جريج أثبت من مالك في نافع. قلت : ومن ثم كان مالك ينافسه في هذه الفضيلة ، وربما كان يرميه بالخلط. قال المخارقي : سمعت مالك ابن أنس يقول : كان ابن جريج حاطب ليل.

وإذا كان مقدّما في الفقه عن نافع ، فهو مقدّم في التفسير عن عطاء بن أبي رباح. فقد حدّث صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، قال : عمرو بن دينار وابن جريج أثبت الناس في عطاء. (١)

وذكره ابن حبّان في الثقات ، وقال : كان من فقهاء أهل الحجاز وقرّائهم

__________________

(١) تاريخ بغداد ، ج ١٠ ، ص ٤٠٠ ـ ٤٠٧.

٢٧٥

ومتقنيهم. وأضاف : وكان يدلّس (١) ، لكن بم كان تدليسه؟

روى البخاري في تفسير (سوره نوح) حديثين أخرجهما عن طريق ابن جريج ، قال : قال عطاء عن ابن عباس. فزعم أبو مسعود ـ في الأطراف ـ أنّ هذا هو عطاء الخراساني البلخي نزيل الشام. وعطاء هذا لم يسمع من ابن عباس ، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء هذا. قال ابن حجر : فيكون الحديثان منقطعين في موضعين. (٢) ومن ثم رموه بأنه كان يدلّس!

وقد ردّ ابن حجر على هذا الوهم بما يبرّئ ساحة ابن جريج من هذه التهمة ، فراجع.

وأما حديثه عن ابن عباس فلا ضير فيه بعد أن كان الواسطة ـ وهو ثقة ـ معلوما ، ألا وهو عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس. وقد لازمه ابن جريج سبعة عشر عاما يتلقّى منه العلم.

* * *

إذن فقد صحّ ما ذكره ابن حبّان بشأن ابن جريج أوّلا من كونه ثقة ثبتا متقنا ، وأن لا منشأ للغمز فيه ، وبذلك نرى أنه كان موضع اعتماد الأئمّة من أهل البيت أيضا. على ما رواه ثقة الإسلام الكليني بإسناده الصحيح عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي ، قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن المتعة ، فقال : الق عبد الملك بن جريج فسله عنها ، فإنّ عنده منها علما. فأتيته فأملى عليّ منها شيئا كثيرا في استحلالها فكتبته ، وأتيت بالكتاب أبا عبد الله عليه‌السلام فعرضت عليه. فقال : صدق ،

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٦ ، ص ٤٠٦.

(٢) المصدر نفسه ، ج ٧ ، ص ٢١٣ ـ ٢١٤.

٢٧٦

وأقرّ به (١).

وقد استظهر المولى الوحيد البهبهاني من ذلك كون جريج موضع ثقة الإمام عليه‌السلام ، وممن يرى رأي الشيعة في فقه الشريعة ، ولا سيّما ما ذكره ابن أذينة ـ الراوي عن الهاشمي ـ في ذيل الحديث : وكان زرارة بن أعين يقول هذا وحلف أنه الحق. فهذا من المقارنة الظاهرة بين موضع الرجلين (ابن جريج وزرارة) في المسألة (٢).

وهكذا استظهر تشيّعه منها كلّ من المولى محمد تقي المجلسي الأول ، والشيخ يوسف البحراني ، على ما جاء في كلام الحائري (٣).

وأيضا روى الشيخ أبو جعفر الطوسي بإسناده إلى الحسن بن زيد ، قال : كنت عند الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه عبد الملك ابن جريج المكّي ، فقال له أبو عبد الله : ما عندك في المتعة؟ قال : حدّثني أبوك محمد بن علي عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب الناس ، فقال : أيّها الناس ، إنّ الله أحلّ لكم الفروج على ثلاثة معان : فرج مورّث وهو البتات ، وفرج غير مورّث وهو المتعة ، وملك أيمانكم (٤).

وفي سؤال الإمام منه عما لديه في المتعة ، دلالة على عنايته به ولطف سابق. كما في الإجابة بأنه حديث أبيك ظرافة وطرافة. أما الرواية عن جابر فلعلّه تغطية لما عسى القوم ينكرون كيف الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يدركه! كما فعله

__________________

(١) الكافي الشريف ، ج ٥ ، ص ٤٥١ ، رقم ٦. وراجع : الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٠٠ ، رقم ٥.

(٢) راجع : التعليقة (هامش رجال الاسترآبادي) ، ص ٢١٥.

(٣) راجع : تنقيح المقال للمامقاني ، ج ٢ ، ص ٢٢٩.

(٤) تهذيب الأحكام ، ج ٧ ، ص ٢٤١ ، رقم ١٠٥١ / ٣ ، باب ٢٣. وراجع : الوافي ، ج ١٢ ، مج ٣ ، ب ٥٢ ، من النكاح ، ص ٥٢.

٢٧٧

الإمام الباقر عليه‌السلام عند ما واجه إنكار القوم.

ومسألة استحلال المتعة كانت حينذاك من اختصاص خلّص الصحابة والتابعين ممن يميلون إلى مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أمثال ابن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس وجابر بن عبد الله وأضرابهم ، فلا غرو أن ينخرط مثل ابن جريج في تلك الزمرة الفائزة ، الأمر الذي دعا بابن جريج أن يكافح القوم رأيا وعملا أيضا. فقد ذكر ابن حجر عن الشافعي ، قال : استمتع ابن جريج بسبعين امرأة ، مع أنه كان من العبّاد ، وكان يصوم الدهر إلّا ثلاثة أيام من الشهر (١).

هذا وقد وقع في إسناد الصدوق من كتابه «من لا يحضره الفقيه» : ابن جريج عن الضحّاك عن ابن عباس ، في قضية الناقة التي اشتراها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأعرابي أربعمائة درهم ، فقبضها الأعرابي ولم يسلّم الناقة إلى النبي ، وأنكر البيع رأسا ، حتى جاء علي عليه‌السلام فقضى قضاءه المبرم. (٢) وظاهر الصدوق اعتماده. وقد عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام (٣).

نعم ذكر أبو عمرو الكشّي : أن محمد بن إسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد الواسطي ، وعبد الملك بن جريج ، والحسين بن علوان الكلبي ، هؤلاء من رجال العامّة ، إلّا أنّ لهم ميلا ومحبّة شديدة (٤) بالنسبة لآل البيت عليهم‌السلام.

قال المامقاني : لا يبعد أن يكون بناء الكشّي ـ على كونه عاميّا ـ ناشئا من شدّة تقيّته ، فإن مثل ذلك كثير في رجال الشيعة (٥).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٦ ، ص ٤٠٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، ج ٣ ، ص ٦١ ، رقم ٢.

(٣) رجال الطوسي ، ص ٢٣٣ ، رقم ١٦٢.

(٤) رجال الكشّي (ط نجف) ص ٣٣٣ ، رقم ٢٤٨ ـ ٢٥٢.

(٥) تنقيح المقال ، ج ٢ (ط ١) ، ص ٢٢٩ ، رقم ٧٤٩٣.

٢٧٨

السادس ـ حسن أيضا ـ : طريق الضحّاك بن مزاحم الهلالي الخراساني. قال ابن شهرآشوب : أصله من الكوفة ، وكان من أصحاب السجّاد. (١) وقال ابن قتيبة : هو من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة ، وكان معلّما ، أتى خراسان فأقام بها. مات سنة (١٠٢) (٢).

وذكره ابن حبّان في الثقات ، وقال : لقى جماعة من التابعين ، ولم يشافه أحدا من الصحابة ، وكان معلّم كتّاب. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : ثقة مأمون. وقال ابن معين وأبو زرعة : ثقة.

قال أبو داود سلمة بن قتيبة عن شعبة : حدّثني عبد الملك بن ميسرة ، قال : لم يلق الضحاك ابن عباس ، إنما لقى سعيد بن جبير بالرّي فأخذ عنه التفسير (٣).

قال الذهبي : الضحاك بن مزاحم البلخي المفسّر ، أبو القاسم ، وكان يؤدّب ، فيقال : كان في مكتبه ثلاثة آلاف صبّي ، وكان يطوف عليهم (٤).

ونقل المامقاني عن ملحقات الصراح : أنه كان يقيم ببلخ وبمرو ، وأيضا ببخارا وسمرقند مدّة ، ويعلّم الصبيان احتسابا ، وله التفسير الكبير والتفسير الصغير. (٥)

وعدّه الشيخ من أصحاب الإمام زين العابدين ، قال : الضحّاك بن مزاحم الخراساني ، أصله الكوفة ، تابعي (٦).

__________________

(١) المناقب ، ج ٤ ، ص ١٧٧.

(٢) المعارف ، ص ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٣) تهذيب التهذيب ، ج ٤ ، ص ٤٥٤.

(٤) ميزان الاعتدال ، ج ٢ ، ص ٣٢٥.

(٥) تنقيح المقال ، ج ٢ ، ص ١٠٥ / ٥٨٣٢.

(٦) رجال الطوسي ، ص ٩٤.

٢٧٩

واستظهر المامقاني من عبارة الشيخ هذه كونه إماميّا ، ولعله من جهة كونه من الكوفة مهد التشيّع آنذاك.

نعم روى عنه القمي (عليّ بن إبراهيم بن هاشم) في تفسيره ، وقد تعهد في مقدمة التفسير أن لا يروي إلّا عن مشايخه الثقات (١) ، فقد روى ـ عند تفسير سورة الناس ـ بإسناده عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس (٢) وقد جعل سيدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ عافاه الله وأعاذه من شرّ الأعداء الظلمة الطغاة ـ تبعا للحر العاملي ، ذلك دليلا على وثاقة كل من وقع في إسناد هذا الكتاب (٣).

وإنما غمزوا فيه جانب إرساله في الحديث ، ولا سيّما عن ابن عباس. قال ابن حجر في التقريب : صدوق كثير الإرسال! (٤) قلت : لا ضير في الإرسال بعد معلومية الواسطة ، وكون الرجل صدوقا. كما ذكره ابن حجر بشأن عليّ بن أبي طلحة الهاشمي.

إذن لا وجه لما ذكره السيوطي : أن طريق الضحاك إلى ابن عباس منقطعة ، فإن الضحاك لم يلقه.

وأضاف : فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة عن أبي روق عنه ، فضعيفة لضعف بشر. قال : وقد أخرج من هذه النسخة ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا. قال : وإن كان من رواية جويبر عن الضحاك فأشدّ ضعفا ؛ لأنّ جويبرا شديد

__________________

(١) التفسير ، ج ١ ، ص ٤.

(٢) التفسير ، ج ٢ ، ص ٤٥٠.

(٣) معجم رجال الحديث ، ج ١ ، ص ٤٩ وج ٩ ، ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٤) تقريب التهذيب ، ج ١ ، ص ٣٧٣ / ٧.

٢٨٠