التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجّر؟

حتى أتى على آخرها فأقبل عليه نافع بن الأزرق ، فقال : الله يا ابن عباس! إنّا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنّا ، ويأتيك غلام مترف من مترفي قريش فينشدك :

رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت

فيخزى وأما بالعشيّ فيخسر!

فقال : ليس هكذا قال. قال : فكيف قال؟ فقال : قال : رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشيّ فيحصر! فقال : ما أراك إلا وقد حفظت البيت! قال : أجل! وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إيّاها. قال : فإنّي أشاء. فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها. وما سمعها قطّ إلّا تلك المرّة صفحا (١) ، وهذا غاية الذكاء.

فقال له بعضهم : ما رأيت أذكى منك قطّ! فقال : ولكنّي ما رأيت قطّ أذكى من عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وكان ابن عباس يقول : ما سمعت شيئا قطّ إلّا رويته.

ثم أقبل على ابن أبي ربيعة ، فقال : أنشد ، فأنشده :

تشطّ غدا دار جيراننا ... وسكت.

فقال ابن عباس : وللدار بعد غد أبعد!

فقال له عمر : كذلك قلت ـ أصلحك الله ـ أفسمعته؟ قال : لا ، ولكن كذلك ينبغي!! (٢)

وهذا غاية في الفطنة والذكاء ، مضافا إليه الذوق الأدبي الرفيع!

__________________

(١) أي مرورا وعرضا.

(٢) الأغاني ، ج ١ ، ص ٨١ ـ ٨٣.

٢٤١

وهو الذي كان يحفظ خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام الرنّانة فور استماعها ، فكان راوية الإمام في خطبه وسائر مقالاته.

وكان ذوقه الأدبي الرفيع وثقافته اللغوية العالية ، هو الذي حدا به إلى استخدام هذه الأداة ببراعة ، حينما يفسّر القرآن ويشرح من غريب لفظه. كان يقول : الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن ، الذي أنزله الله بلغة العرب ، رجعنا إلى ديوانها ، فالتمسنا معرفة ذلك منه.

وأخرج ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عباس ، قال : إذا سألتموني عن غريب القرآن ، فالتمسوه في الشعر ، فإن الشعر ديوان العرب (١).

وأخرج الطبري من طريق سعيد بن جبير ـ في تفسير قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) ـ عن ابن عباس ، وقد سئل عن (الحرج) ، قال : إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربيّ. ثم دعا أعرابيا فقال : ما الحرج؟ قال : الضيق. قال ابن عباس : صدقت (٣).

وكان إذا سئل عن القرآن ، في غريب ألفاظه ، أنشد فيه شعرا. قال أبو عبيد : يعني كان يستشهد به على التفسير.

قال ابن الأنباري : وقد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرا ، الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر ، قال : وأنكر جماعة ـ لا علم لهم ـ على النحويّين ذلك ، وقالوا : إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلا للقرآن. وليس الأمر كما زعموا ،

__________________

(١) الإتقان ، ج ٢ ، ص ٥٥.

(٢) الحج / ٧٨.

(٣) الطبري ، ج ١٧ ، ص ١٤٣.

٢٤٢

بل المراد تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر ؛ لأنه تعالى يقول : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(١) ، وقال : (وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(٢).

مسائل ابن الأزرق

ولعلّ أوسع ما أثر عن ابن عباس في هذا الباب هي مسائل نافع بن الأزرق الخارجي (٣) ، جاء ليسأل حبر الأمّة تعنّتا لا تفهّما. وكان متقنا للعربية وأمير قومه وفقيههم ، فحاول إفحام مثل ابن عباس استظهارا لمذهبه.

والقصّة كما رواها السيوطي في الإتقان ، فيها شيء من الغرابة ، ولعلّ فيها زيادة وتحريفا ، غير أنها على كل حال تحدّد من اتجاه ابن عباس اللّغوي في التفسير ، واضطلاعه بالأدب الرفيع.

قال جلال الدين السيوطي : قد روينا عن ابن عباس كثيرا من استشهاده بالشعر لحلّ غريب القرآن ، وأوعب ما رويناه عنه مسائل ابن الأزرق ـ وساقها تماما حسب استخراجه من كتاب الوقف لابن الأنباري ، والمعجم الكبير للطبراني ـ (٤) ولنذكر منها طرفا :

قال بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة ، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن ، وإذا بنافع بن الأزرق قال لنجدة بن عويمر (٥) : قم بنا إلى هذا الذي

__________________

(١) الزخرف / ٣.

(٢) النحل / ١٠٣ ، الإتقان ، ج ٢ ، ص ٥٥.

(٣) نافع بن الأزرق الحنفي الحروري ، رأس الأزارقة من الخوارج وإليه نسبتهم. هلك سنة (٦٥ ه‍)

(٤) راجع الإتقان ، ج ٢ ، ص ٥٦ ـ ٨٨.

(٥) نجدة بن عامر الحنفي الحروري ، رأس الفرقة النجدية. كان من أصحاب الثورات ذلك العهد. هلك سنة (٦٩) ه.

٢٤٣

يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به ، فأتياه وقالا : نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله ، فتفسّرها لنا ، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب ، فإنّ الله إنما أنزل القرآن بلسان عربيّ مبين. قال ابن عباس : سلاني عمّا بدا لكما.

فسأله نافع عن قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ)(١)؟ قال : العزون : الحلق الرقاق. قال نافع : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :

فجاءوا يهرعون إليه حتّى

يكونوا حول منبره عزينا

قال الراغب : عزون ، واحدته عزة ، وأصله من : عزوته فاعتزى ، أي نسبته فانتسب.

وقال الطبرسي : عزون ، جماعات في تفرقة ، واحدتهم عزة. وإنما جمع بالواو والنون ؛ لأنه عوض ، مثل سنة وسنون. وأصل عزة عزوة من : عزاه يعزوه ، إذا أضافه إلى غيره. فكل جماعة من هذه الجماعات مضافة إلى الأخرى (٢).

وسأله عن قوله : (إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ)(٣)؟ قال : نضجه وبلاغه. واستشهد بقول الشاعر :

إذا مشت وسط النساء تأوّدت

كما اهتزّ غصن ناعم النبت يانع (٤)

وسأله عن (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)(٥)؟ قال : السفينة الموقرة الممتلئة. واستشهد بقول ابن الأبرص :

__________________

(١) المعارج / ٣٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٥٧.

(٣) الأنعام / ٩٩.

(٤) أود وتأوّد : اعوجّ وانحنى.

(٥) الشعراء / ١١٩.

٢٤٤

شحنّا أرضهم بالخيل حتى

تركناهم أذلّ من الصراط (١)

وسأله عن (زَنِيمٍ)(٢)؟ قال : ولد زنى. واستشهد بقول الخطيم التميمي :

زنيم تداعته الرّجال زيادة

كما زيد في عرض الأديم الأكارع (٣)

قال الراغب : الزنيم : الزائد في القوم وليس منهم. وهو المنتسب إلى قوم هو معلّق بهم لا منهم.

وسأله عن (جَدُّ رَبِّنا)(٤)؟ قال : عظمة ربّنا. واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت :

لك الحمد والنعماء والملك ربّنا

فلا شيء أعلى منك جدّا وأمجدا

وكان يبحث عن لغات القبائل ويترصّد أخبارهم ، استطلاعا للغريب من ألفاظهم الواقعة في القرآن ، وكان إذا أشكل عليه فهم كلمة أرجأها حتى يتسمّع قول الأعراب ليعثر على معناها ، طريقة متّبعة لدى أهل التحقيق.

أخرج الطبري بإسناده إلى ابن أبي يزيد قال : سمعت ابن عباس ، وهو يسأل عن قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٥) ، قال : ما هاهنا من هذيل (٦) أحد؟ فقال رجل : نعم ، قال : ما تعدّون الحرجة فيكم؟ قال : الشيء الضيّق.

__________________

(١) شحن المدينة بالخيل : ملأها.

(٢) القلم / ١٣.

(٣) تداعوا الشيء : ادّعوه. تداعى القوم : دعا بعضهم بعضا. والأديم : وجه الأرض. وأكارع الأرض :

أطرافها القاصية.

(٤) الجن / ٣.

(٥) الحج / ٧٨.

(٦) تروى الأخبار أنّ هذيلا كانت أحسن القبائل ثقافة وأوسعها في اللغة ، ومن ثم تمنّى عثمان ـ عند ما

٢٤٥

قال ابن عباس : فهو كذلك (١).

وأخرج من طريق قتادة عن ابن عباس ، قال : لم أكن أدري ما (افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ)(٢) حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك ، تعني أقاضيك (٣).

وأخرج أبو عبيد في الفضائل من طريق مجاهد عن ابن عباس ، قال : كنت لا أدرى ما (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٤) حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر ،

__________________

رفع إليه المصحف ورأى فيه شيئا من اللحن ـ قال : لو كان المملئ من هذيل ، والكاتب من ثقيف ، لم يقع فيه هذا. (مصاحف السجستاني ، ص ٣٢ ـ ٣٣) ويروى أن عمر قرأ على المنبر : أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ النحل / ٤٧ ، ولم يدر ما معنى التخوّف هنا! فسأل القوم عن ذلك ، فقام إليه شيخ من هذيل وقال : هذه لغتنا التخوّف : التنقّص.

فقال له عمر : أو هل تعرف العرب ذلك؟ قال الشيخ : نعم ، يقول الشاعر :

تخوّف الرّحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النّبعة السّفن

والسّفن : الحديدة التي يبرد بها خشب القوس. والقرد : الكثير القردان. والتامك : العظيم السنام.

يقول : إن الرحل تنقص سنام الناقة كما تأكل الحديدة خشب القوس.

(فجر الإسلام لأحمد أمين ، ص ١٩٦ عن الموافقات ، ج ٢ ، ص ٥٧ و ٥٨. والذهبي ، ج ١ ، ص ٧٤ ، عنه ج ١ ، ص ٨٨)

(١) تفسير الطبري ، ج ١٧ ، ص ١٤٣.

(٢) الأعراف / ٨٩.

(٣) الطبري ، ج ٩ ، ص ٣. وفي رواية : انطلق أفاتحك ، تعني أخاصمك ... وراجع : الإتقان ، ج ٢ ، ص ٥.

وجاءت القصة في تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ، ج ١ ، ص ٤٨ محرّفة. وراجع : أيضا مناهج التفسير للصاوي ، ص ٣٤.

(٤) فاطر / ١.

٢٤٦

فقال أحدهما : أنا فطرتها ، يقول : أنا ابتدأتها (١).

وفي تفسير الزمخشري ـ عند قوله تعالى : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ)(٢) ـ : وعن ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى «يحور» حتى سمعت أعرابيّة تقول لبنيّة لها : حوري ، أي ارجعي.

واستشهد الزمخشري بقول لبيد :

وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (٣)

وقد جاء نفس الاستشهاد في مسائل ابن الأزرق أيضا (٤).

وهكذا استطاع بثقافته اللّغوية أن يحيط بلغات القبائل ، ويميّز عن بعضها البعض.

روي عنه في قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(٥) أنه قال : البور ، في لغة أذرعات الفاسد ، فأما عند العرب فإنه لا شيء (٦).

وقال في قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ)(٧) السمود : الفناء ، وهي يمانيّة.

__________________

(١) الإتقان ، ج ٢ ، ص ٤.

(٢) الانشقاق / ١٤.

(٣) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٧٢٧.

(٤) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٦٤.

(٥) الفتح / ١٢.

(٦) رواه ابن قتيبة مسندا له إلى ابن عباس (تأويل مشكل القرآن ، ج ٢ ، ص ١٣٣) وفيه شيء من التصحيف ، صحّحناه على تفسير الطبري (ج ٢٦ ، ص ٤٩) من غير أن ينسبه إلى ابن عباس.

(٧) النجم / ٦١.

٢٤٧

وفي قوله تعالى : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً)(١) قال : ربّا ، بلغة أهل اليمن.

وفي قوله : (كَلَّا لا وَزَرَ)(٢) قال : الوزر : ولد الولد ، بلغة هذيل.

وفي قوله : (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٣) قال : مكتوبا ، وهي لغة حميريّة ، يسمّون الكتاب أسطورا (٤).

بل نراه لم يقتصر على الإحاطة بلغات القبائل ، حتى ضمّ إليها التعرّف إلى الكلمات الوافدة إلى العربية من لغات الأمم المجاورة. قال في قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) بلسان الحبشة ، إذا قام الرجل من الليل قالوا : نشأ (٥).

وقال في قوله تعالى : (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) هو بالعربية الأسد ، وبالفارسية شار (شير) ، وبالقبطية أريا ، وبالحبشية قسورة (٦).

هذا ، مضافا إلى معرفته بآداب سائر الأمم ورسومهم ، كان يقول في قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) هو قول الأعاجم : «زه ، نوروز ، مهرجان حر.» (٧).

وعن تلميذه سعيد بن جبير : هو قول بعضهم لبعض إذا عطس : زه هزار

__________________

(١) الصافات / ١٢٥.

(٢) القيامة / ١١.

(٣) الإسراء / ٥٨.

(٤) الإتقان ، ج ٢ ، ص ٨٩ ـ ٩١.

(٥) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٦ ، المزمّل / ٦.

(٦) المصدر نفسه ، المدّثر / ٥١.

(٧) الطبري ، ج ١ ، ص ٣٤٠ ، البقرة / ٩٦.

٢٤٨

سال ، وفي رواية عن ابن عباس : هو قول أحدهم : زه هزار سال ، يقول : عش ألف سنة. (١) «زه» و «زى» بالفارسية بمعنى الدعاء بطول العمر ، من «زيستن» بمعنى الحياة.

أضف إلى ذلك معرفته بالتاريخ والجغرافية ، وما جرت على جزيرة العرب من حوادث وأيام ، وقد أتاح له حظّا وافرا من هذه الثقافة ، تنقّله في البلاد ، بين مكة والمدينة ، ثم ولايته على البصرة واشتراكه في غزوة إفريقية ، بل وتنقّله بين أنحاء الجزيرة في طلب العلم ؛ إذ كان يهتم الاهتمام كلّه بتعرّف قصّة كل اسم أو موطن أو موضع جرى له ذكر في القرآن ، إن مبهما أو صريحا. يقول : «الأحقاف ، المذكور في الكتاب العزيز : واد بين عمّان وأرض مهرة». وأرض مهرة هي حضرموت كما جاء في كلام ابن إسحاق. وقال قتادة : الأحقاف : رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن. قال ياقوت : هذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في المعنى (٢).

وقال ـ في البحرين ـ : روي عن ابن عباس : البحرين من أعمال العراق ، وحدّه من عمّان ناحية جرّ فار ، واليمامة على جبالها (٣).

وقال ـ في عرفة ـ : وقال ابن عباس : حدّ عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبالها إلى قصر آل مالك ووادي عرفة (٤).

__________________

(١) الطبري ، ج ١ ، ص ٣٤٠ والدر المنثور ، ج ١ ، ص ٨٩.

(٢) معجم البلدان ، ج ١ ، ص ١١٥.

(٣) المصدر نفسه ، ج ١ ، ص ٣٤٧.

(٤) معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ١٠٤.

٢٤٩

وقال ـ في تحديد جزيرة العرب ـ : وأحسن ما قيل في تحديدها ما ذكره أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي مسندا إلى ابن عباس ، قال : اقتسمت العرب جزيرتها على خمسة أقسام. قال : وإنما سمّيت بلاد العرب جزيرة ؛ لإحاطة الأنهار والبحار بها من جميع أقطارها وأطرافها ، فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر (١).

إلى غيرها من موارد تدلّك على سعة معرفة ابن عباس بالأوضاع والأحوال التي تكتنفه ، شأن أيّ عالم ومحقق خبير.

وبعد فإنّ إحاطته باللغة وبالشعر القديم ، لتدلّك على قوة ثقافته البالغة حدّا لم يصل إليه غيره ، ممّن كان في طرازه ذلك العهد ، الأمر الذي جعله بحقّ زعيم هذا الجانب من تفسير القرآن ، حتى لقد قيل في شأنه : هو الذي أبدع الطريقة اللغويّة في التفسير (٢) فضلا عن كونه أبا للتفسير في جميع جوانبه ومجالاته.

وبذلك كان قد كشف النقاب عن وجه كثير من آيات أحاطت بها هالة من الإبهام ، لو لا معرفة سبب النزول.

مثلا نتساءل : ما هي العلاقة بين (ذكر الله وذكر الآباء) في قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)(٣) والسياق وارد بشأن أحكام الحج ومناسكه؟

وهنا يأتي ابن عباس ليوضّح من موضع هذه العلاقة. قال : «إنّ العرب كانوا

__________________

(١) معجم البلدان ، ج ٢ ، ص ١٣٧.

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٧٥ عن مذاهب التفسير الاسلامي لجولد تسيهر ، ص ٨٩.

(٣) البقرة / ٢٠٠.

٢٥٠

عند الفراغ من حجّتهم بعد أيّام التشريق ، يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ، ويتناشدون فيها الأشعار ، ويتكلمون بالمنثور من الكلام ، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل ، حصول الشّهرة والترفّع بمآثر سلفه. فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربّهم كذكركم لآبائهم أو أشدّ ذكرا» (١).

وهكذا لما تساءل بعضهم : ما وجه قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)(٢) أي لا حرج عليه ولا مأثم في السعي بين الصفا والمروة. وظاهره نفي البأس ، أي عدم المنع ، وهو لا يقتضي الوجوب ، مع أنّ قوله تعالى ـ في صدر الآية ـ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...) يستدعي الوجوب ؛ لأنه خبر في معنى الأمر؟!

وقد كان ذلك موضع تساؤل منذ أوّل يومه. أخرج الطبري بإسناده إلى عمرو ابن حبيش قال : قلت لعبد الله بن عمر : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ، قال : انطلق إلى ابن عباس فاسأله فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فأتيت ابن عباس فسألته ، فقال : إنّه كان عندهما أصنام ، فلما أسلموا أمسكوا عن الطّواف بينهما حتى أنزلت (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ)(٣).

كان المشركون قد وضعوا على الصفا صنما يقال له : «أساف» ، وعلى المروة «نائلة». فلمّا اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرة القضاء تحرّج المسلمون عن السعي

__________________

(١) الفخر الرازي ، ج ٥ ، ص ١٨٣.

(٢) البقرة / ١٥٨.

(٣) تفسير الطبري ، ج ٢ ، ص ٢٨ ، الدر المنثور ، ج ١ ، ص ١٥٩ ، البقرة / ١٥٨.

٢٥١

بينهما ، زعما منهم أنّ السعي بينهما شيء كان صنعه المشركون تزلّفا إلى الصنمين ، فأنزل الله أن لا حرج ولا موضع لما وهمه أناس (١).

مراجعة أهل الكتاب!

وهل كان ابن عباس يراجع أهل الكتاب في فهم معاني القرآن؟

سؤال أجيب عليه بصورتين : إحداهما مبالغ فيها ، والأخرى معتدلة إلى حدّ ما ؛ كانت مراجعته لأهل الكتاب ـ كمراجعة سائر الاصحاب ـ في دائرة ضيّقة النطاق ، في أمور لم يتعرّض لها القرآن ، ولا جاءت في بيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ حيث لم تعد حاجة ملحّة إلى معرفتها ، ولا فائدة كبيرة في العلم بها كعدد أصحاب الكهف ، والبعض الذي ضرب به موسى من البقرة ، ومقدار سفينة نوح ، وما كان خشبها ، واسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ، ونحو ذلك مما لا طريق إلى معرفة الصحيح منه. فهذا يجوز أخذه من أهل الكتاب ، والتحدّث عنهم ولا حرج ، كما ورد «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (٢) ، المحمول على مثل هذه الأمور.

قال ابن تيميّة : وفي بعض الأحيان ينقل عنهم (عن بعض الصحابة مثل ابن مسعود وابن عباس وكثير من التابعين) ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ حيث قال : «بلّغوا عنّي ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، ولهذا

__________________

(١) مجمع البيان للطبرسي ، ج ١ ، ص ٢٤٠.

(٢) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ١٥٩ و ٢٠٢ و ٢١٤. عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وص ٤٧٤ و ٥٠٢ عن أبي هريرة. وج ٣ ، ص ١٣ و ٤٦ و ٥٦ عن أبي سعيد الخدري.

٢٥٢

كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين (١) من كتب أهل الكتاب ، فكان يحدّث منهما ، بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك. ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية إنما تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، فإنها من الأمور المسكوت عنها ، ولم نعلم صدقها ولا كذبها مما بأيدينا ، فلا نؤمن به ولا نكذّبه ، وتجوز حكايته ، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ، وقد أبهمه الله في القرآن ، لا فائدة في تعيينه تعود على المكلّفين في دنياهم ولا دينهم. (٢)

ووافقه على هذا الرأي الأستاذ الذهبي ، قال : كان ابن عباس يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم ، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل ، في كثير من المواضع التي أجملت في القرآن وفصّلت في كتب العهدين. ولكن في دائرة محدودة ضيّقة ، تتّفق مع القرآن وتشهد له. أمّا ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن ولا يتّفق مع الشريعة ، فكان لا يقبله ولا يأخذ به.

قال : فابن عباس وغيره من الصحابة ، كانوا يسألون علماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام فيما لا يمسّ العقيدة أو يتّصل بأصول الدين وفروعه ، كبعض القصص والأخبار الماضية.

قال : وبهذا المسلك يكون الصحابة قد جمعوا بين قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ، وقوله : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم». فإن الأوّل محمول على ما وقع فيهم من الحوادث والأخبار ؛ لما فيها من العظة والاعتبار ، بدليل قوله بعد ذلك : «فإنّ فيهم أعاجيب». والثاني محمول على ما إذا

__________________

(١) أي ملفّتين ، من زمّل الشيء بثوبه أو في ثوبه : لفّه.

(٢) راجع : مقدمته في أصول التفسير ، ص ٤٥ ـ ٤٧.

٢٥٣

كان المخبر به من قبلهم محتملا ، ولم يقم دليل على صدقه ولا على كذبه. قال : كما أفاده ابن حجر ، ونبّه عليه الشافعي (١).

وأمّا المستشرقون فقد ذهبوا في ذلك مذاهب بعيدة ، بالغوا فيها إلى حدّ ترفضه شريعة النقد والتمحيص. يقول العلّامة المستشرق إجنتس جولد تسيهر :

«وترى الرواية الإسلامية أن ابن عباس تلقّى بنفسه ـ في اتصاله الوثيق بالرسول ـ وجوه التفسير التي يوثق بها وحدها. (٢) وقد أغفلت هذه الرواية بسهولة ـ كما في أحوال أخرى مشابهة ـ أن ابن عباس عند وفاة الرسول كان أقصى ما بلغ من السّنّ (١٠ ـ ١٣) سنة.

«وأجدر من ذلك بالتصديق ، الأخبار التي تفيد أن ابن عباس كان لا يرى غضاضة أن يرجع ، في الأحوال التي يخامره فيها الشك ، إلى من يرجو عنده علمها. وكثيرا ما ذكر أنه كان يرجع ـ كتابه ـ في تفسير معاني الألفاظ إلى من يدعى (أبا الجلد) والظاهر أنه (غيلان بن فروة الأزدي) الذي كان يثنى عليه بأنّه قرأ الكتب (٣).

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٧٠ ـ ٧١ و ٧٣ و ١٧٠ ـ ١٧٣. وراجع : فتح الباري لابن حجر ، ج ٨ ، ص ١٢٩ وج ١٣ ، ص ٢٨٢.

(٢) هنا يعلّق المترجم الدكتور عبد الحليم النجار. يقول : وأين الرواية التي يزعمها ، وما قيمتها في نظر رجال النقد؟ (مذاهب التفسير الإسلامي ، ص ٨٤) والصحيح ـ كما أسلفنا ـ أنّ ابن عباس أخذ تفسيره من الصحابة ولا سيّما من أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، فهو إنّما أخذ التفسير من الرسول بواسطة أصحابه الأخيار.

(٣) يقول فيه العسكري في كتاب التصحيف والتحريف : هو صاحب كتاب وجمّاع لأخبار الملاحم. (مذاهب التفسير ، ص ٨٥ الهامش رقم ٣)

٢٥٤

«وكثيرا ما نجد بين مصادر العلم المفضّلة لدى ابن عباس ، اليهوديّين اللّذين اعتنقا الإسلام : كعب الأحبار ، وعبد الله بن سلام ، كما نجد أهل الكتاب على وجه العموم ، أي رجالا من طوائف ورد التحذير من أخبارها ـ عدا ذلك ـ في أقوال تنسب إلى ابن عباس نفسه. ومن الحقّ أن اعتناقهم للإسلام قد سما بهم على مظنّة الكذب ، ورفعهم إلى مرتبة مصادر العلم التي لا تثير ارتيابا (١).

«ولم يعدّ ابن عباس أولئك الكتابيّين الذين دخلوا في الاسلام ، حججا فقط في الإسرائيليات وأخبار الكتب السابقة ، التي ذكر كثيرا عنها الفوائد (٢) ، بل كان يسأل أيضا كعب الأحبار مثلا عن التفسير الصحيح للتعبيرين القرآنيّين : (أُمُّ الْكِتابِ)(٣) و (الْمَرْجانُ)(٤).

«كان يفترض عند هؤلاء الأحبار اليهود ، فهم أدقّ للمدارك الدينية العامة الواردة في القرآن وفي أقوال الرسول ، وكان يرجع إلى أخبارهم في مثل هذه المسائل ، على الرغم من ضروب التحذير الصادرة من جوانب كثيرة فيهم» (٥).

هذه هي عبارة (جولد تسيهر) البادي عليها غلّوه المفرط بشأن مسلمة اليهود ،

__________________

(١) سترى أن الأمر كان بالعكس ، كان هؤلاء موضع ارتياب المسلمين عامة ، سوى أهل المطامع كانوا قد استغلّوا من مواضع هؤلاء غير النزيهة ، أمثال معاوية وابن العاص ومن على شاكلتهما.

(٢) مثل ما أخرجه ابن سعد في الطبقات (ج ١ ، ق ٢ ، ص ٨٧) بإسناده إلى ابن عباس أنّه سأل كعب الأحبار عن صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التوراة والإنجيل.

وكذا ما أسنده إلى مولى عمر بن الخطاب أن كعبا أخبر بموته قبل ثلاثة أيام ؛ إذ وجد ذلك مكتوبا عندهم في التوراة. (الطبقات ، ج ٣ ، ق ٢ ، ص ٢٤٠)

(٣) من سورة الرعد / ٣٩. راجع الطبري ، ج ١٣ ، ص ١١٥.

(٤) من سورة الرحمن / ٢٢. راجع : الطبري ، ج ٢٧ ، ص ٧٦ ـ ٧٧.

(٥) مذاهب التفسير الإسلامي ، ص ٨٤ ـ ٨٨.

٢٥٥

ودورهم في التلاعب بمقدّرات المسلمين ، الأمر الذي لا يكاد يصدّق في أجواء كانت السيطرة مع الصحابة النبهاء ، إنّما كان ذلك في عهد طغى سطو أميّة على البلاد وقد أكثروا فيها الفساد ، على ما سننبّه.

وقد تابعه على هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين ، قال : ولم يتحرّج حتى كبار الصحابة مثل ابن عباس من أخذ قولهم. روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم». ولكن العمل كان على غير ذلك ، وأنّهم كانوا يصدّقونهم وينقلون عنهم! وإن شئت مثلا لذلك فاقرأ ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ)(١).

وعقّبه بقوله : وقد رأيت ابن عباس كان يجالس كعب الأحبار ويأخذ عنه (٢) ، إشارة إلى ما سبق من قوله : وأمّا كعب الأحبار أو كعب بن ماتع فيهوديّ من اليمن ، وأكبر من تسرّبت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين ، أسلم في خلافة أبي بكر أو عمر ـ على خلاف في ذلك ـ وانتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثم إلى الشام. وقد أخذ عنه اثنان ، هما أكبر من نشر علمه : ابن عباس ـ وهذا يعلّل ما في تفسيره من إسرائيليات ـ وأبو هريرة (٣).

نقد وتمحيص

وإنا لنأسف كثيرا أن يغترّ كتّابنا النقّاد ـ أمثال الأستاذ أحمد أمين والأستاذ

__________________

(١) البقرة / ٢١٠.

(٢) فجر الإسلام ، ص ٢٠١.

(٣) المصدر نفسه ، ص ١٦٠.

٢٥٦

الذهبي ـ بتخرّصات لفّقها أوهام مستوردة ، فلنترك المستشرقين في ريبهم يتردّدون ، ولكن ما لنا ـ نحن معاشر المسلمين ـ أن نحذو حذوهم ونواكبهم في مسيرة الوهم والخيال؟!

لا شكّ أنّ نبهاء الصحابة أمثال ابن عباس كانوا يتحاشون مراجعة أهل الكتاب ويستقذرون ما لديهم من أساطير وقصص وأوهام ، وإنما تسرّبت الإسرائيليات إلى حوزة الإسلام ، بعد انقضاء عهد الصحابة ، وعند ما تسيطر الحكم الأموي على البلاد لغرض العيث في الأرض وشمول الفساد ، الأمر الذي أحوجهم إلى مراجعة الأنذال من مسلمة اليهود ومن تبعهم من سفلة الأوغاد.

وسنذكر أن مبدأ نشر الإسرائيليات بين المسلمين كان في هذا العهد المظلم بالخصوص ، حاشا الصحابة وحاشا ابن عباس بالذات أن يراجع ذوي الأحقاد من اليهود ، ويترك الخلّص من علماء الإسلام أمثال الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكان سفط العلم ولديه علم الأوّلين والآخرين ، علما ورثه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شمول وعموم.

وقد مرّ عليك أنه كان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة بغية العثور على أطراف العلم الموروث من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد سئل : أنّى أدركت هذا العلم؟ فقال : بلسان سئول وقلب عقول (١).

وإليك من تصريحات ابن عباس نفسه ، يحذّر مراجعة أهل الكتاب بالذات ، فكيف يا ترى ، ينهى عن شيء ثم يرتكبه؟!

__________________

(١) التصحيف والتحريف للصاحبي ، ص ٣.

٢٥٧

التحذير عن مراجعة أهل الكتاب

أخرج البخاري بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ، قال :

«يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب ، وكتابكم الذي أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدث الأخبار بالله تقرءونه لم يشب (١) ، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتب الله وغيّروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم ، ولا والله ما رأينا منهم رجلا قطّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم» (٢).

وأخرج عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب (٣) يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربيّة لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم ، وقولوا : آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم» (٤).

وأخرج عبد الرزاق من طريق حريث بن ظهير ، قال : قال عبد الله بن عباس : «لا تسألوا أهل الكتاب ، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم ، فتكذبوا بحقّ أو تصدّقوا بباطل» (٥).

وهذا الحديث وضّح من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدم تصديقهم ولا تكذيبهم ؛

__________________

(١) جاء في موضع آخر : «وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدث ، تقرءونه محضا لم يشب» قوله : لم يشب ، أي لم يخلطه شيء من غير القرآن ، تعريضا بكتب العهدين التي دسّ فيها ما ينبو عن كونه وحيا.

(٢) جامع البخاري ، ج ٩ ، ص ١٣٦ ، باب قول النبي : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء وج ٣ ، ص ٢٣٧ باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها ، واللفظ على الأخير.

(٣) ويعني بهم اليهود بالذات. صرّح بذلك ابن حجر في الشرح ، ج ٣ ، ص ٢٨٢.

(٤) جامع البخاري ، ج ٩ ، ص ١٣٦.

(٥) فتح الباري بشرح البخاري ، ج ١٣ ، ص ٢٨٤.

٢٥٨

لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل ، فلا يمكن تصديقهم ؛ لأنه ربما كان تصديقا لباطل ، ولا تكذيبهم ؛ لأنه ربما كان تكذيبا لحق ، فالمعنى : أن لا يعتبر من كلامهم شيء ولا يترتّب على ما يقولونه شيء. فلا حجيّة لكلامهم ولا اعتبار لأقوالهم على الإطلاق ، إذن فلا ينبغي مراجعتهم ولا الأخذ عنهم في وجه من الوجوه.

وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبزّاز من حديث جابر ، أن عمر أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : «لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة ، لا تسألوهم عن شيء ، فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو باطل فتصدّقوا به ، والذي نفسي بيده لو أنّ موسى كان حيّا ما وسعه إلّا أن يتّبعني». وفي رواية أخرى : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ...» (١).

تلك مناهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصريحة في المنع عن مراجعة أهل الكتاب إطلاقا ، لا في كبير ولا صغير ، فهل يا ترى أحدا من صحابته الأخيار خالف أوامره وراجعهم في شيء من مسائل الدين والقرآن؟! كما حسبه الأستاذ أحمد أمين ، زعم أن العمل كان على ذلك ، وأنهم كانوا يصدّقون أهل الكتاب وينقلون عنهم! (٢)

وأمّا الذي استشهدوا به على مراجعة مثل ابن عباس لليهود ، فكلّه باطل وزور ، لم يثبت منه شيء.

أمّا الذي جاء به الأستاذ مثلا من قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ

__________________

(١) فتح الباري ، ج ١٣ ، ص ٢٨٤.

(٢) نقلنا كلامه آنفا. راجع : فجر الإسلام ، ص ٢٠١.

٢٥٩

فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ)(١) قال : فاقرأ ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير الآية.

فقد راجعنا تفسير الطبري والدر المنثور وابن كثير وغيرها من أمهات كتب التفسير بالنقل المأثور (٢) ، فلم نجد فيها ذكرا لكعب ولا مساءلته من قبل أحد من الأصحاب ، أو غيرهم من التابعين أيضا. ولم ندر من أين أخذ الأستاذ هذا المثال ، ومن الذي عرّفه ذلك ، فأوقعه في هذا الوهم الفاضح.

وأمّا قوله : كان ابن عباس يجالس كعب الأحبار ، وكان أكثر من نشر علمه ... (٣) ، فكلام أشدّ وهما وأكثر جفاء على مثل ابن عباس الصحابي الجليل ؛ إذ لم نجد ولا رواية واحدة تتضمّن نقلا لابن عبّاس عن أحد من اليهود ، فضلا عن مثل كعب الأحبار الساقط الشخصيّة (٤).

نعم أشار المستشرق جولد تسيهر إلى موارد ، زعم فيها مراجعة ابن عباس لأهل الكتاب ، ولعلها كانت مستند الأستاذ أحمد أمين تقليدا من غير تحقيق. ولكنا راجعنا تلك الموارد ، فلم نجدها شيئا ، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

منها : أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن تفسير تعبيرين قرآنيّين : أمّ الكتاب ، والمرجان (٥).

روى الطبري بإسناده إلى عبد الله بن ميسرة الحرّاني : أنّ شيخا بمكّة من أهل

__________________

(١) البقرة / ٢١٠.

(٢) جامع البيان للطبري ، ج ٢ ، ص ١٩٠ ـ ١٩٢. والدر المنثور للسيوطي ، ج ١ ، ص ٢٤١ ـ ٢٤٢. وتفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٢٤٥ ـ ٢٤٩.

(٣) فجر الإسلام ، ص ١٦٠.

(٤) سوف ننبّه أنّ كعب الأحبار كان من صنايع معاوية ، صنعه لنفسه لغرض الحطّ من كرامة الإسلام.

(٥) مذاهب التفسير الإسلامي ، ص ٨٨.

٢٦٠