التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك. ولا غرو فإنهم أعرف بموضع أهل البيت ولا سيّما سيدهم وكبيرهم عليّ بن أبي طالب ، من رسول الله ، وكثرة وصاياه بشأنهم ، والتمسّك بأذيالهم والسير على هديهم ، فلا يضلّوا أبدا.

ومن ثم فقد امتازت الكوفة في أمور جعلتها في قمة العظمة والإكبار ، على مدى الدهور :

أوّلا : كانت مهجر علماء الصحابة الأخيار وأعلام الأمة الكبار ، وبلغ أوجها عند مهاجرة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

أخرج ابن سعد عن إبراهيم ، قال : هبط الكوفة ثلاثمائة من أصحاب الشجرة ، وسبعون من أهل بدر. وبذلك قال ابن عمرو : ما من يوم إلّا ينزل في فراتكم هذا مثاقيل من بركة الجنة. كناية عن مهاجرة أصحاب الرسول إليها فوجا فوجا. (١)

وثانيا : أصبحت معهد العلم في الإسلام في دور نضارته وازدهار معارفه ، فمن الكوفة صدرت العلوم والمعارف الإسلامية ، بشتّى أنحائها إلى البلاد ، وسارت به الركبان إلى الأمصار في عهد طويل. أخرج ابن سعد ـ أيضا ـ عن عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا عبد الجبار بن عباس عن أبيه ، قال : جالست عطاء ، فجعلت أسأله. فقال لي : ممّن أنت؟ فقلت : من أهل الكوفة. فقال عطاء : ما يأتينا العلم إلا من عندكم. (٢)

وثالثا : كانت أرضا خصبة لتربية ولاء آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفوس مؤمنة صادقة في إيمانها ، مؤدّية أجر رسالة نبيّها ، حافظة لكرامة رسول الله في ذريّته الأنجاب ، عارفة بأنهم سفن النجاة ، وأحد الثقلين ، والعروة الوثقى التي لا انفصام

__________________

(١) الطبقات ، ج ٦ ، (ط ليدن) ، ص ٤٠ ، س ١٥ و ٢٠.

(٢) الطبقات ، ج ٦ ، ص ٥ ، س ٢٠.

٢٢١

لها ، ومن ثم روى ابن سعد : «إنّ أسعد الناس بالمهديّ أهل الكوفة» (١).

أما أصحاب ابن مسعود (الصحابي الجليل الموالي لآل بيت الرسول) فكانوا أصدق عند الناس على عليّ عليه‌السلام على ما أخرجه ابن سعد بإسناده عن أبي بكر ابن عياش عن مغيرة (٢) ، كانوا لا يغالون ولا ينتقصون. ومن ثمّ روي عن عليّ عليه‌السلام ما يدلّ على رضائه عن موقفهم هذا المشرّف ، قال : «أصحاب عبد الله سرج هذه القرية» (٣).

ملحوظة

إنما يعرف صلاح الرجل واستقامته في الدّين ، بتقواه عن محارم الله واستسلامه لأوامره ونواهيه ، وفي إطاعة الرسول واتّباع سنّته والعمل بوصاياه ، من غير أن يكون له الخيرة من أمره بعد ما قضى الله ورسوله ؛ إذ مقتضى الإيمان الصادق أن يسلّم أمره إلى الله ورسوله تسليما.

ومن أهمّ وصاياه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي جعله أجر رسالته ، هو الانضواء تحت لواء أهل البيت والاستمساك بعرى وثائقهم مدى الحياة. وقد كان علي عليه‌السلام شاخص هذا البيت الرفيع ، فمن كان معه كان مع الحق ، ومن دار معه دار مع الحق ، ومن حاد عنه حاد عن الإسلام ونبذ وصية الرسول وراء ظهره ، وأعرض عن الحقّ الصريح. فكيف الثقة به وهو حائد عن الجادّة ، ضالّ عن الطريق ، فلا يصلح أن يكون هاديا ، وهو لم يهتد السبيل.

__________________

(١) الطبقات ، ج ٦ ، ص ٤ ، س ١٩.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٥ ، س ٤.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٤ ، س ٢٤.

٢٢٢

الأمر الذي يحفز بنا أن نجعل من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام محورا أساسيا في هذا الحقل ، وميزانا يفصل بين الصالح والطالح من الصحابة والتابعين ـ الفقهاء والمفسّرين والمحدّثين ـ وليس ذلك منّا بدعا ، بعد ما جعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابه الذي منه يؤتى ، وسفينة النجاة ، وثاني الثقلين اللذين ما أن تمسّكت الأمّة بهما معا (ولن يفترقا حتى يردا عليه الحوض) لن يضلّوا أبدا.

ولسنا نأخذ العلم إلّا ممن عرفنا صلاحه ووثقنا بإيمانه الصادق. تلك وصية إمامنا أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام قال في قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ)(١) : «إلى العلم الذي يأخذه عمّن يأخذه» (٢).

وهكذا أبيّ بن كعب الأنصاري الخزرجي ، هو أوّل من كتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مقدمه المدينة ، وكان قد لقّب بسيّد المسلمين ؛ لشرفه وفضله وعلوّ منزلته في العلم والفضيلة ، كما لقّب بسيّد القرّاء ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وأقرؤهم أبيّ بن كعب». وكان هو الذي تولّى رئاسة لجنة توحيد المصاحف على عهد عثمان ، عند ما عجز القوم الذين انتدبهم الخليفة لذلك ، ولم يكونوا أكفّاء ، حسبما أسلفنا.

وعنه في التفسير الشيء الكثير ، والطرق إليه متقنة أيضا.

قال جلال الدين : وأما أبيّ بن كعب ، فعنه نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه ، وهذا إسناد صحيح. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم منها كثيرا ، وكذا الحاكم في مستدركه ، وأحمد في

__________________

(١) عبس / ٢٤.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ١٠٩ ، رقم ٤٤.

٢٢٣

مسنده. (١)

وذكر أبو الصلاح تقي الدين الحلبي (٣٧٤ ـ ٤٤٧) أبيّا وابن مسعود من الثابتين على ولاء آل بيت الرسول ، المتخصّصين بهم في العهد الأول بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، وأضاف : أن أبيّا حاول الإجهار بما يكنه ضميره في أخريات حياته لو لا حؤول الموت. (٣) وقد كان من النفر الاثني عشر الذين نقموا على أبي بكر تصدّيه ولاية الأمر دون الإمام أمير المؤمنين (٤) ، وكابد الأمرين على ذاك الحادث الجلل ، رافعا شكواه إلى الله (قال : وإلى الله المشتكى) (٥) وقد سمع من سعد بن عبادة ما نطق بما يوجب فرض ولاية الإمام عليه‌السلام (٦).

وأما عبد الله بن عباس ، فهو حبر الأمّة وترجمان القرآن ، وأعلم الناس بالتفسير ـ تنزيله وتأويله ـ تلميذ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، الموفّق وتربيته الخاصة ، وقد بلغ من العلم مبلغا قال في حقّه الإمام أمير المؤمنين : «كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق». ولا غرو فإنّه دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأنه : «اللهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» ، أو قوله : «اللهمّ علّمه الكتاب والحكمة» ، أو : «اللهمّ بارك فيه وأنشر منه». (٧)

__________________

(١) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) تقريب المعارف لأبي الصلاح ، ص ١٦٨. وراجع : سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٨.

(٣) بنقل التستري في قاموس الرجال ، ج ١ ، ص ٢٣٧.

(٤) الخصال للصدوق ، ج ٢ ، ص ٤٦١.

(٥) شرح النهج لابن أبي الحديد ، ج ٢ ، ص ٥٢.

(٦) المصدر نفسه ، ج ٦ ، ص ٤٤.

(٧) الإصابة ، ج ٢ ، ص ٣٣٠ ـ ٣٣٤. وأسد الغابة ، ج ٣ ، ص ١٩٢ ـ ١٩٥.

٢٢٤

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولكل شيء فارس ، وفارس القرآن ابن عباس» (١).

ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، فحنّكه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبارك له. فتربّى في حجره ، وبعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد لازم بيت النبوّة. وربّاه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فأحسن تربيته ، ومن ثم كان من المتفانين في ولاء الإمام عليه‌السلام. وقد صحّ قوله : «ما أخذت من تفسير القرآن فمن عليّ بن أبي طالب». هذا في أصول التفسير وأسسه.

وكان يراجع سائر الأصحاب ممن يحتمل عنده شيء من أحاديث الرسول وسننه ، مجدّا في طلب العلم مهما كلّف الأمر. فكان يأتي أبواب الأنصار ممن عنده علم من الرسول ، فإذا وجد أحدهم نائما كان ينتظره حتى يستيقظ ، وربما تسفي على وجهه الريح ، ولا يكلّف من يوقظه حتى يستيقظ هو على دأبه ، فيسأله عما يريد وينصرف ، وبذلك كان يستعيض عما فاته من العلم أيام حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصغره ، باستطراق أبواب العلماء من صحابته الكبار.

قيل لطاوس : لزمت هذا الغلام ـ يعني ابن عباس لكونه أصغر الصحابة يومذاك ـ وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : إنّي رأيت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله ، إذا تدارءوا في أمر ، صاروا إلى قول ابن عباس.

وعن عبيد الله بن عليّ بن أبي رافع ، قال : كان ابن عباس يأتي جدّي أبا رافع ، فيسأله عما صنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم كذا ، ومعه من يكتب له ما يقول.

قال مسروق بن الأجدع : كنت إذا رأيت ابن عباس قلت : أجمل الناس ، فإذا نطق قلت : أفصح الناس ، فإذا تحدّث قلت : أعلم الناس.

وقال أبو بكرة : قدم علينا ابن عباس البصرة ، وما في العرب مثله حشما ،

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٢ ، (ط بيروت) ، ص ٣٤٣.

٢٢٥

وعلما ، وثيابا ، وجمالا ، وكمالا.

وقد لقّب حبر الأمة ، والبحر ؛ لكثرة علمه. وترجمان القرآن ، وربانيّ هذه الأمّة ؛ لاضطلاعه بمعاني القرآن ووجوه السنّة والأحكام.

وله مواقف مشهودة مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في جميع حروبه : صفين ، والجمل ، والنهروان. مات بالطائف سنة (٦٨) وقد ناهز السبعين ، وصلّى عليه محمد ابن الحنفيّة (١).

روى أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي بإسناده إلى عبد الله بن عبد ياليل ـ رجل من أهل الطائف ـ قال : أتينا ابن عباس رحمه‌الله نعوده في مرضه الذي مات فيه ، فأغمي عليه فأخرج إلى صحن الدار ، فأفاق ، وقال كلمته الأخيرة :

إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنبأني أني سأهجر هجرتين : فهجرة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهجرة مع عليّ عليه‌السلام. وأمرني أن أبرأ من خمسة : من الناكثين : وهم أصحاب الجمل ، ومن القاسطين : وهم أصحاب الشام ، ومن الخوارج : وهم أهل النهروان ، ومن القدرية ، ومن المرجئة. ثم قال : «اللهمّ إني أحيا على ما حيي عليه عليّ بن أبي طالب ، وأموت على ما مات عليه عليّ بن أبي طالب ، ثم مات رحمه‌الله» (٢).

وهذا الذي رواه الكشّي عن رجل من أهل الطائف (عبد الله بن عبد ياليل) ، رواه أبو القاسم عليّ بن محمد الخزّاز الرازي ـ من وجوه العلماء في القرن الرابع ـ في كتابه «كفاية الأثر» ـ بصورة أوسع ـ ، بإسناده إلى عطاء ، قال : دخلنا على عبد الله ابن عباس وهو عليل بالطائف ، في العلّة التي توفّي فيها ـ ونحن زهاء ثلاثين

__________________

(١) الإصابة ، ج ٢ ، ص ٣٣٠ ـ ٣٣٤ ، رقم ٤٧٨١. أسد الغابة ، ج ٣ ، ص ١٩٢ ـ ١٩٥.

(٢) اختيار معرفة الرجال ، ج ١ ، ص ٢٧٧ ، رقم ١٠٦.

٢٢٦

رجلا من شيوخ الطائف ـ وقد ضعف ، فسلّمنا عليه وجلسنا ، فقال لي : يا عطاء ، من القوم؟ قلت : يا سيّدي ، هم شيوخ هذا البلد! منهم عبد الله بن سلمة بن حصرم الطائفي ، وعمّارة بن أبي الأجلح ، وثابت بن مالك. فما زلت أعدّ له واحدا بعد واحد. ثم تقدّموا إليه ، فقالوا : يا ابن عمّ رسول الله ، إنك رأيت رسول الله وسمعت منه ما سمعت ، فأخبرنا عن اختلاف هذه الأمّة ؛ فقوم قدّموا عليّا على غيره ، وقوم جعلوه بعد الثلاثة؟

قال عطاء : فتنفّس ابن عبّاس الصعداء ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «عليّ مع الحقّ والحقّ معه ، وهو الإمام والخليفة من بعدي ، فمن تمسّك به فاز ونجا ، ومن تخلّف عنه ضلّ وغوى ...» ، وأخيرا قال : وتمسّكوا بالعروة الوثقى من عترة نبيّكم ، فإني سمعته يقول : «من تمسّك بعترتي من بعدي كان من الفائزين».

قال عطاء : ثم بعد ما تفرّق القوم ، قال لي : يا عطاء ، خذ بيدي واحملني إلى صحن الدار ، فأخذنا بيده ، أنا وسعيد ، وحملناه إلى صحن الدار ، ثم رفع يديه إلى السماء ، وقال : «اللهمّ» ، إنّي أتقرّب إليك بمحمّد وآل محمّد ، اللهم إنّي أتقرّب إليك بولاية الشيخ ، عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام». فما زال يكرّرها حتى وقع إلى الأرض. فصبرنا عليه ساعة ثم أقمناه فإذا هو ميّت ، رحمة الله عليه (١).

وله في فضائل أهل البيت ولا سيّما الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أقوال وآثار باقية ، إلى جنب مواقفه الحاسمة.

ويكفيك أنه من رواة حديث الغدير الناصّ على ولاية عليّ بالأمر ، ومفسّرا

__________________

(١) كفاية الأثر ، ص ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، والبحار ، ج ٣٦ ، ص ٢٨٧ ـ ٢٨٨ ، رقم ١٠٩.

٢٢٧

له بالخلافة والوصاية بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مصرّا على ذلك.

أخرج الحافظ السجستاني بإسناده إلى ابن عباس ، قال : «وجبت والله في أعناق القوم ...» (١).

وأما مواقفه بشأن الدفاع عن حريم أهل البيت فكثير (٢).

وأخيرا فإنه هو القائل : «إنّ الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب! الذي كان فيه فصل الخطاب. وأيضا قوله : «يوم الخميس ، وما يوم الخميس!». ثم بكى حتى بلّ دمعه الحصى ، إلى غير ذلك مما لا يحصى (٣).

الأمر الذي ينبؤك عن مدى صلته بهذا البيت الرفيع ، ومبلغ ولائه وعرفانه

__________________

(١) راجع : الغدير للعلّامة الأميني ، ج ١ ، ص ٤٩ ـ ٥٢ رقم ٧٦.

(٢) من ذلك ما نظمه الشاعر العبقري أبو محمد سفيان بن مصعب العبدي الكوفي ، في أنشودة رثابها الإمام أبا عبد الله الحسين سيّد الشهداء عليه‌السلام ، استنشده إيّاها الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، قال فيها :

وقد روى عكرمة في خبر

ما شكّ فيه أحد ولا امترا

مرّ ابن عباس على قوم وقد

سبّوا عليّا فاستراع وبكا

وقال مغتاظا لهم : أيّكم

سبّ إله الخلق جلّ وعلا؟!

قالوا : معاذ الله. قال : أيّكم

سبّ رسول الله ظلما واجترا؟!

قالوا : معاذ الله. قال : أيّكم

سبّ عليّا خير من وطئ الحصا؟!

قالوا : نعم ، قد كان ذا. فقال : قد

سمعت والله النبي المجتبى

يقول : من سبّ عليّا سبّني

وسبّتي سبّ الإله ، واكتفى!

(الغدير ، ج ٢ ، ص ٢٩٤ ـ ٣٠٠)

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ، ج ٢ ، ص ٥٤ ـ ٥٥.

٢٢٨

بشأن آل الرسول صلوات الله عليهم أجمعين. (١)

ومن ثمّ كان الأئمّة من ذريّة الرسول عليهم‌السلام يحبّونه حبّا جمّا ويعظّمون من قدره ويشيدون بذكره. روى المفيد في كتاب الاختصاص بإسناده إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، قال : كان أبي (الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام) يحبّه (أي ابن عباس) حبّا شديدا. وكان أبي ، وهو غلام ، تلبسه أمّه ثيابه ، فينطلق في غلمان بني عبد المطّلب ، فأتاه (أي ابن عباس) بعد ما أصيب بصره ، فقال : من أنت؟ قال : أنا محمد بن عليّ بن الحسين بن علي فقال : حسبك ، من لم يعرفك فلأعرفك (٢) ، أي يكفي أني أعرفك من أنت.

كانت ولادة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام ، سنة (٦٠) على قول راجع (٣) ، قبل واقعة الطفّ (٦١) بسنة. وقد كفّ بصر ابن عباس بعد واقعة الطفّ ؛ لكثرة بكائه على مصائب أهل البيت عليهم‌السلام. (٤) وفي رواية : أنه كفّ بصره قبل وفاته بسنة (٥) ، وكانت وفاته عام (٦٨) وعليه ـ إن صحت الرواية ـ فقد كانت سنّ الإمام أبي جعفر حينذاك بين السادسة والسابعة.

قال العلّامة ـ في الخلاصة ـ : عبد الله بن العباس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان محبّا لعلي عليه‌السلام وتلميذه ـ حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين أشهر من أن يخفى. وقد ذكر الكشّي أحاديث تتضمن قدحا فيه ، وهو أجلّ من ذلك.

__________________

(١) راجع : بحار الأنوار ، ج ٣٦ ، ص ٢٤٣ و ٢٨٥ وج ٤١ ، ص ١٦ ـ ١٨.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٤٢ ، ص ١٨١ ، رقم ٣٩.

(٣) رجّحه ابن حجر في تهذيب التهذيب ، ج ٩ ، ص ٣٥١.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٨٩ ، ص ١٠٥ ، عن كتاب سعد السعود للسيد ابن طاوس ، ص ٢٨٥.

(٥) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ١٥١.

٢٢٩

وقد حمل السيد ابن طاوس ـ في التحرير الطاوسي ـ ما ورد في جرحه بعد تضعيف الإسناد ـ على الحسد ، قد صدر من الحاسدين الحاقدين عليه ، قال : ومثل حبر الأمّة ـ رضوان الله عليه ـ موضع أن يحسده الناس وينافسوه ، ويقولوا فيه ويباهتوه.

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله

الناس أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدا وبغيا : إنه لدميم

وقد بحث الأئمّة النقّاد عن روايات القدح ، ولا سيّما ما قيل بشأنه من الهروب ببيت مال البصرة ، وما ورد من التعنيف لفعله ذلك ، فاستخرجوا في نهاية المطاف من ذلك دلائل الوضع والاختلاق بشأن هذا العبد الصالح الموالي لآل بيت الرسول. نعم كان الرجل ممقوتا عند رجال السلطة الحاكمة ، لا سيّما وكان يجابههم بما يخشون صراحته وصرامته ، ومن ثمّ كان طاغية العرب معاوية الهاوية ، يلعنه ضمن النفر الخمسة الذين كان يلعنهم في قنوته (١) ، وكان ذلك من شدّة قنوطه من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، أنّه من قوم غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور (٢).

وللمولى محمد تقي التستري ـ أدام الله فضله وألبسه ثوب العافية ـ تحقيق لطيف بشأن براءة الرجل من إلصاق هكذا تهم مفضوحة ، وأنّه لم يزل في خدمة المولى أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يبرح البصرة حتى قتل الإمام عليه‌السلام. وكان من المحرّضين لبيعة الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام. وبعد أن تمّ الصلح اضطرّ إلى

__________________

(١) وهم : علي والحسن والحسين وابن عباس والأشتر. شرح النهج لابن أبي الحديد ، ج ١٥ ، ص ٩٨ وراجع : بحار الأنوار ، ج ٤٢ (ط بيروت) ص ١٧٦.

(٢) من الآية رقم ١٣ من سورة الممتحنة.

٢٣٠

المغادرة إلى بيت الله الحرام حتى توفّاه الله ، عليه رضوان الله (١).

ولسيدنا الأستاذ العلّامة الفاني ـ رحمة الله عليه ـ رسالة وجيزة في براءة الرجل ، استوفى فيها الكلام بشأنه ، جزاه الله خيرا عن الحق وأهله. (٢)

توسّعه في التفسير

ولم تمض العشرة الأولى من وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ونرى ابن عباس قد تفرّغ للتفسير واستنباط معاني القرآن. (٣) بينما سائر الصحابة كانت قد أشغلتهم شئون شتى ، مما يرجع إلى جمع القرآن أو إقرائه ، أو تعليم السنن والقضاء بين الناس ، أو التصدّي لسياسة البلاد ، وما شاكل. وإذا بابن عباس نراه صارفا همّته في فهم القرآن وتعليمه واستنباط معانيه وبيانه ، مستعيضا بذلك عمّا فاته أيام حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمكان صغره وعدم كفاءته ذلك الحين. فكان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة الكبار ، كادّا وجادّا في طلب العلم من أهله أينما وجده ، ولا سيّما من الإمام أمير المؤمنين باب علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما لم يفته عقد حلقات في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمدارسة علوم القرآن ومعارفه ونشر تعاليم الإسلام من أفخم بؤرته القرآن. ويقال : (٤) إن ذلك كان بأمر من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ وبذلك فقد تحقّق بشأنه دعاء الرسول : «اللهمّ بارك فيه وأنشر منه»

__________________

(١) راجع : قاموس الرجال (ط الأولى) ج ٦ ، ص ٢ ـ ٦٥.

(٢) طبعت في قم المقدسة ، سنة ١٣٩٨ ه‍. ق.

(٣) كما قال الزركشي في البرهان ، ج ٢ ، ص ١٥٧. قال : «وهو تجرّد لهذا الشأن».

(٤) حدّثني بذلك السيد محمد باقر الأبطحي عن المرحوم زعيم الملّة في وقته السيد آغا حسين البروجردي قدس‌سره.

٢٣١

لكن بموازاة انتشار العلم منه في الآفاق ، راجع الوضع على لسانه ، لمكان شهرته ومعرفته في التفسير. ومن ثمّ فإن التشكيك في أكثر المأثور عنه أمر محتمل. قال الأستاذ الذهبي : روي عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة ، وتعدّدت الروايات عنه ، واختلفت طرقها. فلا تكاد تجد آية من كتاب الله إلّا ولابن عباس فيها قول مأثور أو أقوال ، الأمر الذي جعل نقّاد الأثر ورواة الحديث يقفون إزاء هذه الروايات ـ التي جاوزت الحدّ ـ وقفة المرتاب (١).

قال جلال الدين السيوطي : ورأيت في كتاب فضائل الإمام الشافعي ، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن شاكر القطّان ، أنه أخرج بسنده من طريق ابن عبد الحكم ، قال : سمعت الشافعي يقول : لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه مائة حديث (٢).

وذكر ابن حجر العسقلاني : أن البخاري لم يخرّج من أحاديث ابن عباس ، في التفسير وغيره ، سوى مائتين وسبعة عشر حديثا ، بينما يذكر أن ما خرّجه من أحاديث أبي هريرة الدوسي ، يبلغ أربعمائة وستة وأربعين حديثا. (٣)

غير أنّ معرفته الفائقة في التفسير ، وأنّ الخرّيجين من مدرسته جعلته في قمة علوم التفسير. وهذا المأثور الضخم من التفسير الوارد عنه أو عن أحد تلامذته المعروفين ـ وهم كثرة عدد نجوم السماء ـ لما يفرض من مقامه الرفيع في إعلاء ذروة التفسير. منه يصدر وعنه كلّ مأثور في هذا الباب.

ولقد كان موضع عناية الأمّة ، ولا سيّما الكبار والأئمّة ، من الصحابة ومن

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٧٧.

(٢) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٩.

(٣) مقدمة شرح البخاري ، ص ٤٧٦ ـ ٤٧٧.

٢٣٢

عاصره وممن لحقه على مدى الأحقاب. فما أكثر ما يدور اسمه في كتب التفسير على اختلاف مبانيها ومناهجها ، ومتنوّع مسالكها ومنازعها في السياسة والمذهب.

قال الدكتور الصاوي : ولعلّ في كثرة ما وضع ونسب إليه آية على تقدير له وإكبارا من الوضّاع ، ورغبة في تنفّق بضاعتهم ، موسومة بمن في اسمه الرواج العلمي (١).

منهجه في التفسير

كان ابن عباس تلميذ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومنه أخذ العلم وتلقّى التفسير ، سواء في أصول مبانيه أم في فروع معانيه ، فقد سار على منهج مستقيم في استنباط معاني القرآن الحكيم.

إنه لم يحد عن منهج السلف الصالح في تفسير القرآن وفهم معاني كتاب الله العزيز الحميد ، ذلك المنهج الذي رست قواعده على أسس قويمة ومبان حكيمة.

وقد حدّد ابن عباس معالم منهجه في التفسير بقوله : «التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلّا الله» (٢).

وقد فسّرته رواية أخرى عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به ، وتفسير تفسّره العرب ، وتفسير تفسّره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ...» (٣).

__________________

(١) مناهج في التفسير ، ص ٤١.

(٢) أبو جعفر الطبري ـ جامع البيان ـ ج ١ ، ص ٢٦.

(٣) المصدر نفسه.

٢٣٣

فالقرآن ، فيه مواعظ وآداب وتكاليف وأحكام ، يجب على المسلمين عامة المعرفة بها والعمل عليها ؛ لأنها دستور الشريعة العام. فهذا يجب تعليمه وتعلّمه ، ولا يعذر أحد بجهالته.

وفيه أيضا غريب اللغة ومشكلها ، مما يمكن فهمها وحلّ معضلها ، بمراجعة الفصيح من كلام العرب الأوائل ؛ لأن القرآن نزل بلغتهم ، وعلى أساليب كلامهم المعروف.

وفيه أيضا نكات ودقائق عن مسائل المبدأ والمعاد ، وعن فلسفة الوجود وأسرار الحياة ، لا يبلغ كنهها ولا يعرفها على حقيقتها غير أولي العلم ، ممن وقفوا على أصول المعارف ، وتمكّنوا من دلائل العقل والنقل الصحيح.

وبقي من المتشابه ما لا يعلمه إلا الله ، إن أريد به الحروف المقطعة في أوائل السور ؛ حيث هي رموز بين الله ورسوله ، لم يطلع الله عليها أحدا من العباد سوى النبي والصّفوة من آله ؛ علّمهم إياها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإن أريد به ما سوى ذلك مما وقع متشابها من الآيات ، فإنه لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم ، وهم رسول الله والعلماء الذين استقوا من منهل عذبه الفرات ، لا سبيل إلى معرفتها عن غير طريق الوحي. فالعلم به خاصّ بالله ومن ارتضاه من صفوة خلقه.

وعلى ضوء هذا التقسيم الرباعي يمكننا الوقوف على مباني التفسير التي استندها ابن عباس في تفسيره العريض :

أوّلا ـ مراجعة ذات القرآن في فهم مراداته

إذ خير دليل على مراد أيّ متكلم ، هي القرائن اللفظية التي تحفّ كلامه ، والتي

٢٣٤

جعلها مسانيد نطقه وبيانه ، وقد قيل : للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء ما دام متكلّما ، هذا في القرائن المتّصلة. وكثيرا ما يعتمد المتكلمون على قرائن منفصلة من دلائل العقل أو الأعراف الخاصّة ، أو ينصب في كلام آخر له ما يفسّر مراده من كلام سبق ، كما في العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، وهكذا ...

فلو عرفنا من عادة متكلم اعتماده على قرائن منفصلة ، ليس لنا حمل كلامه على ظاهره البدائي ، قبل الفحص واليأس عن صوارفه.

والقرآن من هذا القبيل ، فيه من العموم ما كان تخصيصه في بيان آخر ، وهكذا تقييد مطلقاته وسائر الصوارف الكلاميّة المعروفة.

وليس لأيّ مفسّر أن يأخذ بظاهر آية ما لم يفحص عن صوارفها وسائر بيانات القرآن التي جاءت في غير آية ، ولا سيّما والقرآن قد يكرّر من بيان حكم أو حادثة ويختلف بيانه حسب الموارد ، ومن ثم يصلح كل واحد دليلا وكاشفا لما أبهم في مكان آخر.

وهكذا نرى مفسّرنا العظيم ، عبد الله بن عباس ، يجري على هذا المنوال ، وهو أمتن المجاري لفهم معاني القرآن ، ومقدّم على سائر الدلائل اللفظية والمعنوية. فلم يغفل النظر إلى القرآن الكريم نفسه ، في توضيح كثير من الآيات التي خفي المراد منها في موضع ، ثم وردت بشيء من التوضيح في موضع آخر. شأنه في ذلك شأن سائر المفسرين الأوائل ، الذين ساروا على هدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فمن هذا القبيل ما رواه السيوطي بأسانيده إلى ابن عباس ، في قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ...)(١) قال : كنتم أمواتا قبل أن يخلقكم ؛

__________________

(١) غافر / ١١.

٢٣٥

فهذه ميتة ، ثم أحياكم ؛ فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور ؛ فهذه ميتة أخرى ، ثم يبعثكم يوم القيامة ؛ فهذه حياة. فهما ميتتان وحياتان ، فهو كقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(١) ، وهكذا أخرج عن ابن مسعود وأبي مالك وقتادة أيضا (٢).

ثانيا ـ رعايته لأسباب النزول

ولأسباب النزول دورها الخطير في فهم معاني القرآن ؛ حيث الآيات والسور نزلت نجوما ، وفي فترات وشئون يختلف بعضها عن بعض. فإذ كانت الآية تنزل لمناسبة خاصّة ولعلاج حادثة وقعت لوقتها ، فإنها حينذاك ترتبط معها ارتباطا وثيقا. ولو لا الوقوف على تلك المناسبة ، لما أمكن فهم مرامي الآية بالذات ، فلا بدّ لدارس معاني القرآن أن يراعي قبل كل شيء شأن نزول كل آية آية ، ويهتمّ بأسباب نزولها. هذا إذا كان لنزولها شأن خاص ، فلا بدّ من النظر والفحص.

وهكذا اهتمّ حبر الأمّة بهذا الجانب ، واعتمد كثيرا لفهم معاني القرآن على معرفة أسباب نزولها ، وكان يسأل ويستقصي عن الأسباب والأشخاص الذين نزل فيهم قرآن وسائر ما يمسّ شأن النزول ، وهذا من امتيازه الخاص الموجب لبراعته في التفسير. وقد مرّ حديث إتيانه أبواب الصحابة يسألهم الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (٣) كان حريصا على طلب العلم ومنهوما لا يشبع :

من ذلك ما رواه جماعة كبيرة من أصحاب الحديث ، بإسنادهم إلى ابن

__________________

(١) البقرة / ٢٨.

(٢) الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٣٤٧. وراجع : الطبري تفسيره ، ج ٢٤ ، ص ٣١.

(٣) الإصابة ، ج ٢ ، ص ٣٣١ ـ ٣٣٢.

٢٣٦

عباس ، قال : لم أزل حريصا أن أسال عمر عن المرأتين من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللّتين قال الله تعالى بشأنهما (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ...)(١) حتى حجّ عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة ، فتبرّز ثم أتى ، فصببت على يديه فتوضّأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللتان قال الله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)؟ فقال : وا عجبا لك يا ابن عباس! هما : عائشة ، وحفصة (٢).

وفي تفسير القرطبي ، قال ابن عباس : مكثت سنتين أريد أن اسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يمنعني إلّا مهابته ، فسألته ، فقال : هما حفصة وعائشة (٣).

ولقد بلغ في ذلك الغاية ، حتى لنجد اسمه يدور كثيرا في أقدم مرجع بين أيدينا عن سبب النزول ، وهو سيرة ابن إسحاق التي جاء تلخيصها في سيرة ابن هشام.

قال : وكان ابن عباس يقول : فيما بلغني نزل في النضر بن حارث ثمان آيات من القرآن : قول الله عزوجل : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٤) ، وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن (٥).

قال : وحدثت عن ابن عباس أنه قال ـ وسرد قصّة سؤال أحبار اليهود

__________________

(١) التحريم / ٤.

(٢) الدّر المنثور ، ج ٦ ، ص ٢٤٢.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، ج ١ ، ص ٢٦.

(٤) القلم / ١٥.

(٥) ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٢١. تكرر لفظ «الأساطير» في تسع سور مكية : الأنعام / ٢٥. الأنفال / ٣١. النحل / ٢٤. المؤمنون / ٨٣. الفرقان / ٥. النمل / ٦٨. الأحقاف / ١٧. القلم / ١٥. المطّفّفين / ١٣.

٢٣٧

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مقدمه المدينة ـ : فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...)(١).

قال : وأنزل الله تعالى عليه فيما سأله قومه من تسيير الجبال (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ...)(٢).

قال : وأنزل عليه في قولهم : خذ لنفسك (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ ...)(٣) ، وأنزل عليه في ذلك من قولهم : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ...)(٤) ، وكذا في قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ..)(٥) : إنما أنزلت من أجل أولئك النفر ... (٦) وهكذا يتابع ذكر أسباب نزول آيات ، وفي الأكثر يسندها إلى ابن عباس.

وقد برع ابن عباس في هذه الناحية من نواحي أدوات التفسير ، حتى كان يخلص آي القرآن المدني من المكي. فقد سأل أبو عمرو ابن العلاء مجاهدا عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي ، فقال : سألت ابن عباس عن ذلك ، فجعل ابن عباس يفصلها له. وهكذا نجد ابن عباس بدوره قد سأل أبيّ بن كعب عن ذلك (٧).

كما تقصّى أسباب النزول فأحسن التقصّي ، فكان يعرف الحضري من

__________________

(١) لقمان / ٢٧.

(٢) الرعد / ٣١.

(٣) الفرقان / ٧.

(٤) الفرقان / ٢٠.

(٥) الإسراء / ١١٠.

(٦) راجع : ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٣٠ و ٣٣٥.

(٧) راجع : الإتقان ، ج ١ ، ص ٢٤ و ٢٦.

٢٣٨

السفري ، والنهاري من الليلي ، وفيم أنزل وفيمن أنزل ، ومتى أنزل وأين أنزل ، وأول ما نزل وآخر ما نزل ، وهلم جرّا (١) ، مما يدلّ على براعته ونبوغه في تفسير القرآن.

ثالثا ـ اعتماده المأثور من التفسير المرويّ

اعتمد ابن عباس في تفسيره على المأثور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والطيّبين من آله والمنتجبين من أصحابه. وقد أسلفنا تتبّعه عن آثار الرسول وأحاديثه. كان يستطرق أبواب الصحابة العلماء ، ليأخذ منهم ما حفظوه من سنة النبيّ وسيرته الكريمة. وقد جدّ في ذلك واجتهد مبلغ سعيه وراء طلب العلم والفضيلة ، حتى بلغ أقصاها. وقد سئل : أنّى أدركت هذا العلم؟ فقال : بلسان سئول وقلب عقول (٢).

هو حينما يقول : «جلّ ما تعلّمت من التفسير من عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» (٣) ، أو «ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب» (٤) ، إنما يعني اعتماده المأثور من التفسير ، إذا كان الأثر صحيحا صادرا من منبع وثيق.

وهكذا عند ما كان يأتي أبواب الصحابة بغية العثور على أقوال الرسول في مختلف شئون الدين ومنها المأثور عنه في التفسير ، إنّ ذلك كلّه لدليل على مبلغ اعتماده على المنقول صحيحا من التفسير.

__________________

(١) الإتقان ، ج ١ ، ص ٥١ ـ ٥٧ و ٦٠ ـ ٦٤ و ٦٨ ـ ٧٦ وغير ذلك ..

(٢) التصحيف والتحريف للصاحبي ، ص ٣.

(٣) سعد السعود لابن طاوس ، ص ٢٨٥.

(٤) التفسير والمفسرون للذهبي ، ج ١ ، ص ٨٩.

٢٣٩

فهو عند كلامه الآنف إنما يلقي الضوء على تفاسيره بالذات ، وأنها من النمط النقلي في أكثره ، وإن كان لا يصرّح به في الموارد ، بعد إعطاء تلك الكلية العامّة.

رابعا ـ اضطلاعه بالأدب الرفيع

لا شكّ أن القرآن نزل بالفصحى من لغة العرب ، سواء في موادّ كلماته أم في هيئات الكلم وحركاتها البنائية والإعرابيّة ، اختار الأفصح الأفشى في اللغة دون الشاذّ النادر. وحتى من لغات القبائل اختار المعروف المألوف بينهم دون الغريب المنفور. فما أشكل من فهم معاني كلماته ، لا بدّ لحلّها من مراجعة الفصيح من كلام العرب المعاصر لنزول القرآن ؛ حيث نزل بلغتهم وعلى أساليب كلامهم المألوف.

وهكذا نجد ابن عباس يرجع ، عند مبهمات القرآن وما أشكل من لفظه ، إلى فصيح الشعر الجاهلي ، والبديع من كلامهم الرفيع. وكان استشهاده بالشعر إنما جاءه من قبل ثقافته الأدبيّة واضطلاعه باللغة وفصيح الكلام. وفي تاريخ الأدب العربي آنذاك شواهد رائعة تشيد بنبوغه ومكانته السامية في العلم والأدب. وساعده على ذلك ذكاء مفرط وحافظة قويّة لاقطة ، كان لا يسمع شيئا إلّا وكان يحفظه بكامله لوقته.

يروي أبو الفرج الأصبهاني بإسناده إلى عمر الركاء ، قال : بينا ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق (رأس الأزارقة من الخوارج) وناس من الخوارج يسألونه ؛ إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين أو ممصّرين (١) حتى دخل وجلس. فأقبل عليه ابن عباس فقال : أنشدنا ، فأنشده :

__________________

(١) ثوب ممصّر : مصبوغ باللون الأحمر ، وفيه شيء من صفرة.

٢٤٠