التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

المرحلة الثانية

التفسير في دور الصحابة

* هم درجات عند الله

* المفسرون من الصحابة

* أعلم الصحابة بمعاني القرآن

* قيمة تفسير الصحابي

* ميزات تفاسير الصحابة

٢٠١
٢٠٢

التفسير في دور الصحابة

هم درجات عند الله

قال تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(١).

لا شكّ أن الصحابة ، ممن (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(٢) كانوا هم مراجع الأمّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كانوا حاملي لوائه ومصادر شريعته إلى الملأ ، ليس يعدل عنهم إلى الأبد.

نعم كانوا على درجات من العلم والفضيلة حسبما أوتوا من فهم وذكاء وسائر المواهب والاستعداد (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها)(٣) ، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(٤).

__________________

(١) يوسف / ٧٦.

(٢) التوبة / ١٠٠.

(٣) الرعد / ١٧.

(٤) البقرة / ٢٦٩.

٢٠٣

قال مسروق بن الأجدع الهمداني (١) : جالست أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدتهم كالإخاذ ـ يعني الغدير من الماء ـ فالإخاذ يروي الرجل ، والإخاذ يروي الرجلين ، والإخاذ يروي العشرة ، والإخاذ يروي المائة ، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم (٢).

وفي لفظ ابن الأثير : تكفي الإخاذة الراكب ، وتكفي الإخاذة الراكبين ، وتكفي الإخاذة الفئام من الناس. قال : والإخاذ ككتاب : مصنع للماء يجتمع فيه. والفئام : الجماعة الكثيرة (٣).

ويعني بالأخير (لأصدرهم) الإمام أمير المؤمنين ، عليه صلوات المصلّين ؛ حيث كان ـ سلام الله عليه ـ ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير. (٤) قال مسروق : «انتهى العلم إلى ثلاثة : عالم بالمدينة عليّ بن أبي طالب ، وعالم بالعراق عبد الله ابن مسعود ، وعالم بالشام أبي الدرداء ، فإذا التقوا سأل عالم الشّام وعالم العراق عالم المدينة وهو لم يسألهم» (٥).

قال الأستاذ محمد حسين الذهبي : الحق أن الصحابة كانوا يتفاوتون في القدرة على فهم القرآن وبيان معانيه المرادة منه ؛ وذلك راجع إلى اختلافهم في أدوات الفهم. فقد كانوا يتفاوتون في العلم بلغتهم ، فمنهم الواسع الاطلاع الملمّ بغريبها (كعبد الله بن عباس) ، ومنهم دون ذلك ، ومنهم من لازم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) كان من التابعين ، فقيه عابد. قال الشعبي : ما رأيت أطلب منه للعلم. كان معلّما ومقرئا ومفتيا. صحب عليا عليه‌السلام ولم يتخلّف عن حروبه. توفّي سنة ٦٢ ، وله من العمر ٦٣ سنة.

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٣٦.

(٣) النهاية ، ج ١ ، ص ٢٨.

(٤) راجع : الخطبة الشقشقية من نهج البلاغة ، رقم ٣.

(٥) راجع : تاريخ دمشق لابن عساكر ، ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب ، ج ٣ ، ص ٥١ ، رقم ١٠٨٦.

٢٠٤

فعرف من أسباب النزول ما لم يعرفه غيره (كعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام) أضف إلى ذلك أن الصحابة لم يكونوا في درجتهم العلمية ومواهبهم العقليّة سواء ، بل كانوا مختلفين في ذلك اختلافا عظيما (١).

هذا عديّ بن حاتم (٢) ، العربيّ الصميم ، حسب من قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ...)(٣) أنه تمايز أحد خيطين : أبيض وآخر أسود ، أحدهما عن الآخر في ضوء الفجر ، فأخذ عقالين أبيض وأسود وجعلهما تحت وساده ، فجعل ينظر إليهما فلا يتبيّن له أحدهما عن الآخر ، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بما صنع ، فضحك رسول الله من صنيعه ذلك ، حتى بدت نواجذه ، وفي رواية ، قال له : إنّ وسادك إذن لعريض ـ كناية عن عدم تنبّهه لحقيقة الأمر ـ ثم قال له : إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل (٤) ، إنه البياض المعترض على الأفق تحت سواد الليل المنصرم. وفي الدرّ المنثور : لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٣٥.

(٢) هو ابن حاتم الموصوف بالجود الذي يضرب به المثل ، وفد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة تسع. كان جوادا شريفا في قومه. وكان ثابت الإيمان راسخ العقيدة ، روي عنه أنه قال : ما دخل عليّ وقت صلاة إلّا وأنا مشتاق إليها. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرمه إذا دخل عليه. قال الشعبي : أرسل إليه الأشعث يستعير منه قدور حاتم فملأها وحملها الرجال إليه. فقال : إنما أردناها فارغة ، فقال عديّ : إنّا لا نعيرها فارغة. كان منحرفا عن عثمان ، ثابتا مع أمير المؤمنين عليه‌السلام فقئت عينه يوم الجمل وقتل ابنان له في ركاب علي عليه‌السلام وشهد صفين بنفسه. توفّي سنة ٦٧ بالكوفة أيام المختار ، وله مائة وعشرون سنة ، (أسد الغابة ، ج ٣ ، ص ٣٩٢)

(٣) البقرة / ١٨٧.

(٤) فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر ، ج ٤ ، ص ١١٣ ـ ١١٤. وتفسير الطبري ، ج ٢ ، ص ١٠٠.

٢٠٥

المستطيل ـ وهو الساطع المصعد ـ ولكن الفجر المستظهر في الأفق ، هو المعترض الأحمر ، يلوح إلى الحمرة. وفي حديث : لا يمنعكم أذان بلال من سحوركم فإنه ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذّن حتى يطلع الفجر (١).

قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «الفجر هو الخيط الأبيض المعترض ، وليس هو الأبيض صعدا» (٢).

وزعمت عائشة من قوله تعالى : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) إرادة ارتكاب المآثم ، الأمر الذي يتنافى مع سياق الآية الواردة بشأن الإشادة بموضع المؤمنين حقا ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) ـ إلى قوله ـ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ. أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها

__________________

(١) الدر المنثور ، ج ١ ، ص ١٩٨ ـ ٢٠٠.

هكذا رواه القوم بشأن بلال وابن أم مكتوم ، ولعله اشتباه من الراوي أو الناسخ ؛ لأن بلالا كان هو المؤذن المعتمد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأصحاب. وكان ابن أم مكتوم مكفوفا ، يؤذن قبيل طلوع الفجر ، وكان ذلك سبب تشريع أذانين. وقد تداوم عليه أهل المدينة ، حتى اليوم.

قال أبو جعفر الصدوق : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤذنان ، بلال والآخر ابن أم مكتوم وكان أعمى ، وكان يؤذن قبل الصبح. وكان بلال يؤذن بعد الصبح ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن ابن أم مكتوم يؤذن بالليل ، فإذا سمعتم أذانه فكلوا واشربوا ، حتى تسمعوا أذان بلال. فغيرت العامة هذا الحديث عن جهته ، وقالوا : إنه عليه‌السلام قال : إن بلالا يؤذن بليل ، فإذا سمعتم أذانه فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم (من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، ص ١٩٣ ـ ١٩٤)

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ١٥٣ ، رقم ٤ ، باب ٢٧ ، المواقيت.

٢٠٦

سابِقُونَ)(١).

فسألت عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالت : هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ، ولكنّه الذي يصوم ويصلّي ويتصدّق ويخاف الله. (٢) كناية عن إتيانه الطاعات ، وجلا أن لا يكون مؤدّيا لها تامّة حسبما أراده الله.

ولعلّها كانت تتصور من الكلمة أنها مقصورة (يأتون ما أتوا) بمعنى : (يعملون ما عملوا) ، وقد أسلفنا الكلام عن تزييفه. (٣) وأنّ الصحيح هو قراءة المدّ (يؤتون ما آتوا) بمعنى : يؤدّون ما أدّوا ، أي من أفعال البرّ والخيرات ، من غير إعجاب ولا رياء ، وإلى ذلك ينظر تفسيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروى زرارة عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : أتى عمّار بن ياسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أجنبت اللّيلة ولم يكن معي ماء. قال : كيف صنعت؟ قال : طرحت ثيابي ثم قمت إلى الصعيد فتمعّكت (٤)!! فعلّمه رسول الله التيمّم ، سواء أكان بدل وضوء أم بدل غسل (٥).

وقرأ عمر بن الخطّاب من سورة «عبس» حتى وصل إلى قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ

__________________

(١) المؤمنون / ٥٧ ـ ٦١.

(٢) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٣٨.

(٣) عند المبحث عن مسألة التحريف عند حشوية العامة برقم ٢٠. وراجع : المستدرك ، ج ٢ ، ص ٢٣٥ و ٢٤٦.

(٤) التمعك : التمرغ في التراب.

(٥) العياشي ، ج ١ ، ص ٢٤٤ ، رقم ١٤٤ و ١٤٥ وص ٣٠٢ ، رقم ٦٣.

٢٠٧

الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ، وَعِنَباً وَقَضْباً ، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ، وَحَدائِقَ غُلْباً ، وَفاكِهَةً وَأَبًّا ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)(١) ، فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها ، فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إنّ هذا لهو التكلّف يا عمر!

وفي رواية : ثم رفض ـ أو نقض ـ عصا كانت في يده ، وقال : هذا لعمر الله هو التكلّف ، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ ، اتّبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه! ـ ولعلّه سئل عن تفسير الآية فحار في الجواب.

وقد ورد أن أبا بكر ـ أيضا ـ سئل قبل ذلك عن تفسير الآية ، فقال : أيّ سماء تظلّني ، وأيّ أرض تقلّني ، إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم. (٢)

قال الذهبي : ولو أنّنا رجعنا إلى عهد الصحابة لوجدنا أنهم لم يكونوا في درجة واحدة بالنسبة لفهم معاني القرآن ، بل تتفاوت مراتبهم ، وأشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم. وهذا يرجع إلى تفاوتهم في القوّة العقليّة ، وتفاوتهم في معرفة ما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات. وأكثر من هذا أنهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات ، فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة ، ولا ضير في هذا ، فإنّ اللغة لا يحيط بها إلّا معصوم ، ولم يدّع أحد أنّ كل فرد من أمّة يعرف جميع ألفاظ لغتها.

__________________

(١) عبس / ٢٤ ـ ٣٢.

(٢) راجع : الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣١٧ ، والمستدرك للحاكم ، ج ٢ ، ص ٥١٤.

والأبّ : العشب المتهيّئ للرّعي والجزّ ، من قولهم : أبّ لكذا ، إذا تهيّأ له. كما أنّ الفاكهة هي الثمرة الناضحة للأكل والقطف. جاء في المعجم الوسيط : الأبّ : العشب رطبه ويابسه. يقال : فلان راع له الحبّ ، وطاع له الأبّ ، إذا زكا زرعه واتّسع مرعاه.

٢٠٨

قال : ومما يشهد لهذا الذي ذهبنا إليه ، ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن أنس : أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها ، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إنّ هذا لهو التكلّف يا عمر!

وما روي من أن عمر كان على المنبر فقرأ : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ)(١) ثم سأل عن معنى التخوّف ، فقال له رجل من هذيل : التخوّف عندنا التنقّص ، ثم أنشد :

تخوّف الرحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النّبعة السّفن (٢)

قال الطبرسي : التخوّف : التنقّص ، وهو أن يأخذ الأوّل فالأوّل حتى لا يبقى منهم أحد ، وتلك حالة يخاف معها الهلاك والفناء وهو الغناء تدريجا ، ثم أنشد البيت بتبديل الرحل إلى السير (٣).

قال الفراء : جاء التفسير بأنه التنقّص. والعرب تقول : تحوّفته ـ بالحاء المهملة ـ : تنقّصه من حافاته. (٤) ومعنى الآية ـ على ذلك ـ : أنه تعالى يهلكهم على تدرّج شيئا فشيئا ، بما

__________________

(١) النحل / ٤٧.

(٢) الموافقات ، ج ٢ ، ص ٨٧ ـ ٨٨. (الذهبي ، ج ١ ، ص ٣٤)

(٣) مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٣٦٣.

والرحل : القتب وهو ما يجعل على ظهر البعير كالسرج للفرس. والتامك : السنام ، لارتفاعه ، يقال : تمك السنام تموكا إذا طال وارتفع. والقرد : الذي تجعّد شعره فصار كأنه وقاية للسنام. والنبع : شجر للقسيّ والسهام. والسفن : ما ينحت به كالمبرد ونحوه.

ومعنى البيت : أنّ الرحل قد أخذ من جوانب السنام فجعل يأكله وينقص من أطرافه ، رغم سموكه وتجعّده بالشعر المتلبّد. كما يأخذ المبرد من أطراف عود النبعة لبريه سهما أو قوسا.

(٤) معاني القرآن ، ج ٢ ، ص ١٠١.

٢٠٩

يجعلهم على خوف الفناء ؛ حيث يرون أنهم في تنقيص ، والأخذ من جوانبهم تدريجا ، وهذا نظير ما ورد في آية أخرى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها)(١) وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ)(٢).

وأيضا أخرج أبو عبيدة من طريق مجاهد عن عبد الله بن عباس ، قال : كنت لا أدري ما «فاطر السماوات» حتى أتاني أعرابيّان يتخاصمان في بئر. فقال أحدهما : أنا فطرتها ، والآخر يقول : أنا ابتدأتها ... (٣)

قال الذهبي : فإذا كان عمر بن الخطاب يخفى عليه معنى «الأبّ» ومعنى «التخوّف» ، ويسأل عنهما غيره ، وابن عباس ـ وهو ترجمان القرآن ـ لا يظهر له معنى «فاطر» إلّا بعد سماعه من غيره ، فكيف شأن غيرهما؟! لا شكّ أنّ كثيرا منهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالي للآية : فيكفيهم ـ مثلا ـ أن يعلموا من قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) أنه تعداد للنعم التي أنعم الله بها عليهم ، ولا يلزمون أنفسهم بتفهّم معنى الآية تفصيلا ، ما دام المراد واضحا جليّا (٤).

المفسّرون من الأصحاب

اشتهر بالتفسير من الصحابة أربعة ، لا خامس لهم في مثل مقامهم في العلم بمعاني القرآن ، وهم : عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وكان رأسا وأعلم الأربعة ، وعبد الله

__________________

(١) الأنبياء / ٤٤. ونظيرتها آية أخرى في سورة الرعد / ٤١ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ ...).

(٢) البقرة / ١٥٥.

(٣) الإتقان ، ج ٢ ، ص ٤ (ط ٢) وج ١ ، ص ١١٣ ، (ط ١)

(٤) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٣٥.

٢١٠

ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، كان أصغرهم وأوسع باعا في نشر التفسير.

أمّا غير هؤلاء الأربعة فلم يعهد عنهم في التفسير سوى النزر اليسير.

قال جلال الدين السيوطي : اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة : الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير. أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم عليّ بن أبي طالب ، والرواية عن الثلاثة (أبي بكر وعمر وعثمان) نزرة جدّا (١).

قال الأستاذ الذهبي : وهناك من تكلّم في التفسير من الصحابة غير هؤلاء ، كأنس بن مالك ، وأبي هريرة وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعائشة. غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جدّا ، كما أن العشرة الذين اشتهروا بالتفسير ، تفاوتوا قلّة وكثرة ، والمخصوصون بكثرة الرواية في التفسير منهم أربعة : عليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس. أما باقي العشرة ، وهم : زيد ، وأبو موسى وابن الزبير ، فقد قلّت عنهم الرواية ، ولم يبلغوا ما بلغه الأربعة.

قال : لهذا نرى الإمساك عن الكلام في شأن السّتّة ، ونتكلّم عن (عليّ بن أبي طالب) و (ابن مسعود) و (أبيّ بن كعب) و (ابن عباس) نظرا لكثرة الرواية عنهم في التفسير ، كثرة غذّت مدارس الأمصار على اختلافها وكثرتها (٢).

__________________

(١) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٤.

(٢) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٦٣ ـ ٦٤.

٢١١

أعلم الصحابة بمعاني القرآن فالأعلم

قال الإمام بدر الدين الزركشي : وصدر المفسّرين من الصحابة هو عليّ بن أبي طالب ، ثم ابن عباس. وهو تجرّد لهذا الشأن ، والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي عليه‌السلام ، إلّا أنّ ابن عباس كان قد أخذ عن علي عليه‌السلام (١).

قال الأستاذ الذهبي : كان عليّ عليه‌السلام بحرا من العلم ، وكان قويّ الحجّة سليم الاستنباط ، أوتي الحظّ الأوفر من الفصاحة والخطابة والشعر ، وكان ذا عقل ناضج وبصيرة نافذة إلى بواطن الأمور. وكثيرا ما كان يرجع إليه الصحابة في فهم ما خفي ، واستجلاء ما أشكل. وقد دعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ولاه قضاء اليمن ، بقوله : «اللهمّ ثبّت لسانه واهد قلبه». فكان موفّقا مسدّدا ، فيصلا في المعضلات (٢) ، حتى ضرب به المثل ، فقيل : «قضيّة ولا أبا حسن لها».

قال : ولا عجب ، فقد تربّى في بيت النبوّة ، وتغذّى بلبان معارفها ، وعمّته مشكاة أنوارها. وقيل لعطاء : أكان في أصحاب محمد أعلم من علي؟ قال : لا ، والله لا أعلمه. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : إذا ثبت لنا الشيء عن عليّ ، لم نعدل عنه إلى غيره (٣).

قال ابن عباس : جلّ ما تعلّمت من التفسير ، من عليّ بن أبي طالب. وقال : عليّ علم علما علّمه رسول الله ، ورسول الله علّمه الله ؛ فعلم النبي من علم الله ، وعلم

__________________

(١) البرهان ، ج ٢ ، ص ١٥٧ ، والبحار ، ج ٨٩ ، ص ١٠٥ (بيروت)

(٢) وناهيك قولة ابن الخطاب : «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن» (أنساب الأشراف ، ص ١٠٠ ، رقم ٢٩)

(٣) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٨٩.

٢١٢

علي من علم النبيّ ، وعلمي من علم عليّ عليه‌السلام. وما علمي وعلم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علم علي إلّا كقطرة في سبعة أبحر. وفي حديث آخر : فإذا علمي بالقرآن في علم علي عليه‌السلام كالقرارة في المثعنجر ، قال : القرارة : الغدير ، والمثعنجر : البحر (١).

وقال : لقد أعطي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام تسعة أعشار العلم ، وأيم الله لقد شاركهم في العشر العاشر ، الأمر الذي أحوج الكل إليه واستغنى عن الكل ، كما قال الخليل.

وقال سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقول : إذا جاءنا الثبت عن علي عليه‌السلام لم نعدل به. وفي لفظ ابن الأثير : إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره.

وقد عرفت أن ما أخذه ابن عباس من التفسير فإنما أخذه عن علي عليه‌السلام.

وقال سعيد بن المسيب : ما كان أحد من الناس يقول سلوني غير عليّ بن أبي طالب. قال : كان عمر يتعوّذ من معضلة ليس لها أبو حسن. وقد روى البلاذري في الأنساب قولة عمر : «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن».

وقال أبو الطفيل : كان علي عليه‌السلام يقول : سلوني ، سلوني ، سلوني عن كتاب الله تعالى ، فو الله ما من آية إلّا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار ...

وقال عبد الله بن مسعود : إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن ، وأنّ عليّ بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن. (٢)

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨٩ ، (ط بيروت) ، ص ١٠٥ ـ ١٠٦ عن كتاب سعد السعود للسيد ابن طاوس ، ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٢) راجع في ذلك : أسد الغابة لابن الأثير ، ج ٤ ، ص ٢٢ ـ ٢٣. والإصابة لابن حجر ، ج ٢ ، ص ٥٠٩ وحلية الأولياء لأبي نعيم ، ج ١ ، ص ٦٥. وأنساب الأشراف للبلاذري ، ج ٢ ، ص ١٠٠ ، رقم ٢٩.

٢١٣

وروى أبو عمرو الزاهد (٢٦١ ـ ٣٤٥) بإسناده إلى علقمة ، قال : قال لنا عبد الله بن مسعود ذات يوم في حلقته : لو علمت أحدا هو أعلم منّي بكتاب الله عزوجل ، لضربت إليه آباط الإبل. قال علقمة : فقال رجل من الحلقة : ألقيت عليّا عليه‌السلام؟ فقال : نعم ، قد لقيته ، وأخذت عنه ، واستفدت منه ، وقرأت عليه ، وكان خير الناس وأعلمهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقد رأيته كان بحرا يسيل سيلا ... (١) قال ابن أبي الحديد ـ بصدد كونه عليه‌السلام مرجع العلوم الإسلامية كلها ـ : ومن العلوم علم تفسير القرآن وعنه أخذ ، ومنه فرّع. وإذا راجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك ؛ لأنّ أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس. وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له وانقطاعه إليه ، وأنه تلميذه وخرّيجه. وقيل له : أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط. (٢)

وأخرج الحاكم بإسناده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «عليّ مع القرآن والقرآن مع علي ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» وقال : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» (٣).

والآن فلنستمع إلى ما يصف عليه‌السلام نفسه وموضعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «سلوني عن كتاب الله ، فإنه ليست آية إلّا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار ، في سهل أو جبل» ، «والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيم أنزلت وأين نزلت. وأنّ ربّي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سئولا».

قيل له : «ما بالك أكثر أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثا؟ فقال : لأني كنت إذا سألته

__________________

(١) سعد السعود ، ص ٢٨٥. البحار ، ج ٨٩ ، ص ١٠٥.

(٢) شرح النهج ، ج ١ ، ص ١٩.

(٣) المستدرك للحاكم ، ج ٣ ، ص ١٢٦ و ١٢٤.

٢١٤

أنبأني ، وإذا سكتّ ابتدأني» (١).

قال عليه‌السلام : «كنت أول داخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآخر خارج من عنده ، وكنت إذا سألت أعطيت ، وإذا سكتّ ابتديت. وكنت أدخل على رسول الله في كل يوم دخلة ، وفي كل ليلة دخلة وربّما كان ذلك في بيتي ، يأتيني رسول الله أكثر من ذلك في منزلي. فإذا دخلت عليه في بعض منازله أخلى بي وأقام نساءه ، فلم يبق عنده غيري. وإذا أتاني لم يقم فاطمة ولا أحدا من ولدي. وإذا سألته أجابني ، وإذا سكتّ عنه ونفدت مسائلي ابتدأني. فما نزلت على رسول الله آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ وكتبتها بخطّي ، فدعا الله أن يفهمني ويعطيني ، فما نزلت آية من كتاب الله إلّا حفظتها وعلّمني تأويلها ...» (٢).

وفي الكافي : «فما نزلت على رسول الله آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ ، فكتبتها بخطي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها. ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها. فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليّ وكتبته ، منذ دعا الله لي بما دعا. وما ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية ، إلّا علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفا واحدا. ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا. فقلت : يا نبيّ الله ـ بأبي أنت وأمّي ـ منذ دعوت الله لي بما دعوت ، لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه ، أفتتخوّف عليّ النسيان فيما بعد؟ فقال : لا ،

__________________

(١) أنساب الأشراف للبلاذري ، ص ٩٨ ـ ٩٩ ، رقم ٢٦ و ٢٧ و ٢٨.

(٢) المعيار والموازنة للإسكافي ، ص ٣٠٠.

٢١٥

لست أتخوّف عليك النسيان والجهل!» (١).

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «إنّ الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلّمك ولا أجفوك. فحقيق عليّ أن أعلّمك ، وحقيق عليك أن تعي» (٢).

وفي الخطبة القاصعة ـ من نهج البلاغة ـ : «وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، (٣) وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه. وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة (٤) في فعل.

ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره.

ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به.

ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة.

ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الرّنّة؟ فقال : هذا الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع ، وترى

__________________

(١) الكافي الشريف ، ج ١ ، ص ٦٤ ، كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث ، رقم ١.

(٢) المعيار والموازنة ، ص ٣٠١.

(٣) بفتح العين : رائحته الذكيّة.

(٤) الخطل : الخطأ ينشأ من عدم الرويّة.

٢١٦

ما أرى ، إلّا أنك لست بنبيّ ولكنّك لوزير. وأنك لعلى خير ...» (١)

وأما عبد الله بن مسعود ، فهو من السابقين في الإيمان ، وأوّل من جهر بالقرآن بمكّة ، وأسمعه قريشا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوذي في الله من أجل ذلك. وكان قد أخذه رسول الله إليه ، فكان يخدمه في أكثر شئونه ، وهو صاحب طهوره وسواكه ونعله ، ويلبسه إيّاه إذا قام ، ويخلعه ويحمله في ذراعه إذا جلس ، ويمشي أمامه إذا سار ، ويستره إذا اغتسل ، ويوقظه إذا نام ، ويلج داره بلا حجاب ، حتى لقد ظنّ أنه من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هاجر الهجرتين ، وصلّى إلى القبلتين ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله.

كان من أحفظ الناس لكتاب الله ، وكان رسول الله يحبّ أن يسمع القرآن منه ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من سرّه أن يقرأ القرآن غضّا طريّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد».

وكان حريصا على طلب العلم ولا سيّما معاني آيات القرآن الكريم ، قال : كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات ، لم يجاوزهنّ حتى يعرف معانيهنّ والعمل بهنّ ، ومن ثم كان يقول : والذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلّا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت ، كما كان شديد الحرص أيضا على بثّ العلم ونشره بين العباد.

قال مسروق بن الأجدع : كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدّثنا فيها ويفسّرها ، عامّة النهار ، وقد أذعن له عامة صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفضيلة والعلم بالكتاب والسنّة. (٢)

__________________

(١) الخطبة ، رقم ١٩٢ ، النهج ، ج ١ ، ص ٣٩٢ ـ ٣٩٤.

(٢) حلية الأولياء ، ج ١ ، ص ١٢٤ ـ ١٣٩. وأسد الغابة ، ج ٣ ، ص ٢٥٦ ـ ٢٦٠ والاستيعاب بهامش الإصابة ، ج ٢ ، ص ٣١٦ ـ ٣٢٤ والإصابة ، ج ٢ ، ص ٣٦٨ ـ ٣٧٠.

٢١٧

ومن ثم كانت له مكانة سامية في التفسير ، وبذلك طار صيته ، وعنه في التفسير الشيء الكثير ، والطرق إليه متقنة.

قال الخليلي في الإرشاد : ولإسماعيل السّدّي تفسير يورده بأسانيد إلى ابن مسعود وابن عباس. وروى عن السدّي الأئمّة ، مثل الثوريّ وشعبة ، وأضاف : أن أمثل التفاسير تفسير السّدّي.

قال جلال الدين السيوطي ـ تعقيبا على كلام صاحب الإرشاد ـ : وتفسير السدّي الذي أشار إليه ، يورد منه ابن جرير (الطبري) كثيرا من طريق السدّي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرّة عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة هكذا. قال : والحاكم يخرج منه في مستدركه أشياء ويصحّحه ، لكن من طريق مرّة عن ابن مسعود ، وناس فقط دون الطريق الأول (١) ، أي طريق أبي صالح عن ابن عباس.

وكان بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ العلم من عليّ عليه‌السلام وليس من غيره بتاتا. وقد تقدم حديث علقمة ، قال : قال ابن مسعود ذات يوم ، وكنّا في حلقته : لو علمت أن أحدا هو أعلم منّي بكتاب الله عزوجل لضربت إليه آباط الإبل. قال علقمة : فقال رجل من الحلقة. ألقيت عليا؟ فقال : نعم ، قد لقيته ، وأخذت عنه ، واستفدت منه ، وقرأت عليه. وكان خير الناس وأعلمهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقد رأيته كان بحرا يسيل سيلا. (٢)

__________________

(١) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٢) سعد السعود ، ص ٢٨٥. البحار ، ج ٨٩ ، ص ١٠٥.

٢١٨

وعدّه الخوارزمي وشمس الدين الجزري في «أسنى المطالب» من رواة حديث الغدير من الصحابة. (١)

وأخرج جلال الدين السيوطي عنه نزول آية التبليغ (سورة المائدة / ٦٧) بشأن عليّ عليه‌السلام يوم الغدير ، قال : وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود ، قال : كنّا نقرأ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ـ أن عليّا مولى المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته ، والله يعصمك من الناس». (٢)

نعم كان ابن مسعود ممن شدّ وثاقه بولاء آل بيت الرسول ، لم يشذّ عن طريقتهم المثلى منذ أوّل يومه فإلى آخر أيام حياته.

روى الصدوق أبو جعفر ابن بابويه بإسناده إلى زيد بن وهب الجهني أبي سليمان الكوفي (٣) : أنّ اثني عشر رجلا من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنكروا على أبي بكر تقدّمه على عليّ عليه‌السلام وعدّ منهم : عبد الله بن مسعود.

وكان هو الذي أشاد بذكر أهل البيت ، وبثّ حديث «الخلفاء اثنا عشر ...» في الكوفة وما والاها (٤).

قال المرتضى علم الهدى ـ بشأنه ـ : لا خلاف بين الأمّة في طهارة ابن مسعود

__________________

(١) راجع : الغدير ، ج ١ ، ص ٥٣ ، رقم ٧٩.

(٢) الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٢٩٨. والآلوسي في روح المعاني ، ج ٦ ، ص ١٧٢.

(٣) وثّقه أصحاب التراجم. قال الأعمش : إذا حدّثك زيد بن وهب عن أحد فكأنك سمعته من الذي حدّثك عنه. أسلم في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهاجر إليه ، فبلغته وفاته في الطريق. فهو معدود من كبار التابعين ، سكن الكوفة وكان في الجيش الذي مع عليّ عليه‌السلام في حربه الخوارج. وهو أوّل من جمع خطب عليّ عليه‌السلام في الجمع والأعياد وغيرهما. توفّي سنة ٩٦ ، وقد عمّر طويلا. (الخصال ، ج ٢ ، ص ٤٦١ ، باب ١٢)

(٤) راجع : بحار الأنوار ، ج ٣٦ (بيروت) صفحات ٢٢٩ و ٢٣٠ و ٢٣٣ و ٢٣٤.

٢١٩

وفضله وإيمانه ، ومدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له وثنائه عليه ، وأنه مات على الحالة المحمودة (١).

وسيأتي من تقي الدين أبي الصلاح الحلبي ، عدّه وأبيّا من المخصوصين بولاية آل البيت (٢).

وروى رضي الدين أبو القاسم عليّ بن موسى بن طاوس (٦٦٤) عن كتاب أبي عبد الله محمد بن علي السرّاج في تأويل قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)(٣) بالإسناد إلى عبد الله بن مسعود ، أنه قال :

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا ابن مسعود ، أنه قد أنزلت عليّ آية (وَاتَّقُوا فِتْنَةً ...) وأنا مستودعكها ، فكن لما أقول لك واعيا وعنّي له مؤدّيا ، من ظلم عليّا مجلسي هذا كمن جحد نبوّتي ونبوّة من كان قبلي. فقال له الراوي : يا أبا عبد الرحمن ، أسمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : نعم. قال : فكيف ولّيت للظالمين؟ قال : لا جرم حلّت عقوبة عملي (٤) ، وذلك أني لم استأذن إمامي كما استأذن جندب وعمّار وسلمان ، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه» (٥).

ومما يجدر التنبّه له أنّ عامّة الكوفيين من مفسّرين وفقهاء ومحدّثين ، كان طابعهم الولاء لأهل البيت عليهم‌السلام وقد خصّ أصحاب ابن مسعود بالميل لعلي عليه‌السلام الأمر الذي كانت البيئة الكوفيّة تستدعيه بالذات ، على أثر وفرة العلماء من صحابة

__________________

(١) قاموس الرجال للتستري ، ج ٦ ، ص ١٣٦ ، ط ١ ، نقلا عن الشافي.

(٢) تقريب المعارف ، ص ١٦٨.

(٣) الأنفال / ٢٥.

(٤) وفي نسخة : جلبت.

(٥) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ، ص ٣٦ ، برقم ٢٥. وقاموس الرجال ، ج ٦ ، ص ١٤١ ـ ١٤٢.

٢٢٠