التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

يبدأ فيه بالنص العربي ، ثم ترجمته تحت اللفظ ، ثم التفسير. ويعدّ من أفصح النثر الفارسي القديم في أسلوب رائع وجيّد للغاية ، مع البسط والشرح لمناحي معاني الآيات ، بصورة مستوعبة ومستوفاة. وهو من أكبر الذخائر الإسلامية العريقة. طبع هذا التفسير القيم في إيران عدة طبعات أنيقة ، وقد اعتنى به العلماء الأفذاذ.

ولنظام الدين الحسن بن محمد القمي النيسابوري (٧٢٨) تفسير بديع باسم (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) يترجم الآية أوّلا باللغة الفارسية ، ثم التفسير بالعربي ، ويتعرّض للتفسير الظاهري ، ويعقبه بالتفسير الباطني على أسلوبه العرفاني المعروف. وقد طبع هذا التفسير مع حذف الترجمة في مصر على هامش الطبري ، لكن النسخ المخطوطة والمطبوعة في الهند وإيران مشتملة عليها.

كيفية ترجمة القرآن

تبيّن ـ ضمن المباحث السابقة ـ أسلوب الترجمة الذي نتوخّاه ، وهو :

أن يعمد المترجم إلى آية آية من القرآن ، وفق الترتيب الموجود ، فيستجيد ـ أوّلا ـ فهم مضامينها عن دقة وإمعان ، بما فيها من دلالات أصليّة ودلالات تبعيّة لفظية ، دون الدلالات التبعيّة العقليّة ؛ اذ التصدّي لهذه الأخيرة شأن التفسير دون الترجمة.

فيفرغ المستفاد من كل آية ، في قالب لفظي من اللغة المترجم إليها. ويتحرّى الكلمات التي تفي بتأدية المعاني التي كانت ألفاظ الأصل تؤدّيها ، وفاء كاملا حتى في الدلالات التبعيّة اللفظية مهما أمكن ، وإلّا فيحاول تأديتها أيضا ولو بمعونة

١٦١

قرائن ؛ لينعكس المعنى في الترجمة كما هو في الأصل. كما يحاول ـ مبلغ جهده ـ أن لا يصطدم القالب اللفظي المشابه للأصل بشيء من التحوير أو التحريف.

وهذه الكيفية من الترجمة ـ التي تحافظ على سلامة المعنى بالدرجة الأولى ـ قد تستدعي تبديلا في مواضع بعض الألفاظ والتعابير ـ من تقديم أو تأخير ـ أو تغييرا في روابط كلامية معمولة في الأصل ، وفي الترجمة على سواء.

كما قد تستدعي زيادة لفظة في التعبير ؛ لغرض الوفاء بأصل المراد تماما. الأمر الذي لا بأس به ، ما دامت الغاية هي المحافظة على سلامة المعنى.

غير أن الأولى أن يضع اللفظ المزيد بين قوسين ، فلا يلتبس على القارئ هذه الزيادة مع ألفاظ الأصل.

وبالجملة فالواجب على المترجم ـ ترجمة معنوية صحيحة ـ أن يتابع الخطوات التالية :

١ ـ فهم المعنى الجملي فهما جيّدا دقيقا ، والتأكّد من ذلك.

٢ ـ تحليل جملة ألفاظ الأصل إلى كلماتها وروابطها الموجودة ، وفصل بعضها عن بعض ، ليعرف ما لكل من معنى ومفاد استقلالي أو رابطي في لغة الأصل ، والتدقيق فيما إذا كان للوضع التركيبي الخاص معنى زائد على ما للألفاظ من معاني ، ويتأكّد ذلك عن إمعان.

٣ ـ التحرّي لكلمات وروابط من اللغة المترجم إليها ، تشاكل الكلمات والروابط الأصل ، تشاكلا في الإفادة والمعاني ، إن حقيقة أو مجازا.

٤ ـ تركيب هذه الكلمات والألفاظ تركيبا صحيحا يتوافق مع أدب اللغة المترجم إليها ، أدبا عاليا ، ومراعيا ترتيب الأصل مهما أمكن.

٥ ـ إفراز الألفاظ والكلمات الزائدة ، التي لا تقابلها كلمات وألفاظ في الأصل ، وإنما زيدت في الترجمة لغرض الإيفاء بتمام المعنى ، فيضعها ـ مثلا ـ بين

١٦٢

قوسين. لكن يمسك عن تكرار ذلك كثيرا في كلام واحد ؛ لأنه يملّ ، وقد يسبب تشويش فهم المعاني.

٦ ـ وأخيرا مقابلة الترجمة مع الأصل في حضور هيئة ناظرة ، تحكم بالمطابقة في الآراء والإيفاء.

أما الشروط التي يجب توفّرها في المترجم أو المترجمين ؛ لتقع الترجمة مأمونة عن الخطأ والخلل ، فهي كما يلي :

١ ـ أن يكون المترجم مضطلعا بكلتا اللغتين : لغة الأصل واللغة المترجم إليها. عارفا بآدابهما والمزايا الكلامية التي تبنّتها كلتا اللغتين ، معرفة كاملة.

٢ ـ أن يتناول المعنى المستفاد من كل آية ، بمعونة التفاسير المعتمدة الموثوق بها ، ولا يقتنع بما استظهره من الآية حسب فهمه العادي ، وحسب معرفة أوضاع اللغة فحسب ؛ إذ قد يكون دلائل وشواهد على إرادة غير الظاهر قد خفيت عليه ، لو لا مراجعته للمصادر التفسيرية المعتبرة.

٣ ـ أن لا يحمل ميلا إلى عقيدة بذاتها ، أو انحيازا إلى مذهب بخصوصه ؛ لأنه حينذاك قد تجرفه رواسبه الذهنية التقليدية إلى منعطفات السّبل الضالة ، فتكون تلك ترجمة لعقيدة ، وليست ترجمة لمعاني القرآن.

٤ ـ أن يترك الألفاظ المتشابهة كما هي ، ويكتفي بتبديلها إلى مرادفاتها من تلك اللغة ، فلا يتعرّض لشرحها وبسط معانيها ، فإنّ هذا الأخير من مهمّة التفسير فقط.

٥ ـ أن يترك فواتح السور على حالها ؛ لإنّها رموز يجب أن تبقى بألفاظها من غير تبديل ولا تفسير.

٦ ـ أن يترك استعمال المصطلحات العلمية أو الفنيّة في الترجمة ؛ لأنّ مهمة

١٦٣

المترجم إفراغ المعاني المستفادة إفراغة لغوية بحتة.

٧ ـ أن لا يتعرّض للآراء والنظريات العلمية ، فلا يترجم الكلمات الواردة في القرآن بمعاني اكتشفها العلم ، بل يترجمها حسب الاستفادة اللغوية ؛ لتكون التأدية لغوية بحتة.

تلك شروط خاصة يجب توفّرها في كل مترجم يقوم بترجمة القرآن الكريم. وهناك شروط عامّة يجب مراعاتها في ترجمة القرآن ترجمة رسمية ، معترفا بها لدى جامعة المسلمين العامة ، هي :

٨ ـ أن تقوم هيئة أو لجنة متشكّلة من علماء صالحين لذلك ، ومعروفين بسلامة الفكر والنظر والاجتهاد ، لأنّ الترجمة الفردية كالتفاسير الفردية غير مأمونة عن الخطأ والاشتباه كثيرا ، وعلى الأقل يكون العمل الجماعي أبعد من الزلل مما يكون عملا فرديّا ؛ ولذلك يكون آمن وأحوط بالنسبة إلى كتاب الله العزيز الحميد.

وهذه الهيأة يجب أن تحمل تأييدا من قبل مقامات رسمية إسلامية ، إما حكومات عادلة أو مراجع دينية عالية ؛ ذلك لكي يتنفّذ القرار تنفيذا رسميا قاطعا.

٩ ـ أن يشترك مع اللجنة شخصية أو شخصيّات معروفة من اللغة المترجم إليها ، لغرض التأكّد من صحة الترجمة أولا ، وليطمئن إليها أصحاب تلك اللغة.

١٠ ـ والشرط الأخير ـ المتمّم للعشر ـ أن توضع الترجمة مع الأصل ، مصحوبا معها ، فلا يقدّم إلى مختلف الأقوام والملل ، تراجم مجرّدة عن النص العربي الأصل.

وذلك لغرض خطير ، هو أن لا يلتبس على سائر الملل ، فيحسبوا من الترجمة قرآنا هو كتاب المسلمين ، لا ، بل هي ترجمة محضة وليست قرآنا ، وإنما القرآن

١٦٤

هو الأصل ، وكانت الترجمة إلى جنبه توضيحا وتبيينا لمعانيه فحسب.

وبذلك نكون قد أمّننا على القرآن ضياعه ، فلا يضيع كما ضاعت التوراة والإنجيل من قبل ؛ بتجريد تراجمهما عن النصّ الأصل ، الأمر الذي يجب أن لا يتكرّر بشأن هذا الكتاب السماوي الخالد (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

نماذج من تراجم خاطئة

لا ريب أنّ كل عمل فردي قد يتحمّل أخطاء لا يتحمّلها عمل جماعي ، ومن ثم وقع الكثير من الأفاضل في مآزق الانفراد فزلّوا أو أخطئوا المقصود ، هذا الإمام بدر الدين الزركشي ، المضطلع باللّغة والأدب ، وكذا تلميذه جلال الدين السيوطي الخبير بمواضع الكلام ، نراهما قد اشتبها في اشتقاق «هدنا» (٢) ، فزعماه من : هدى يهدي (٣). مع العلم أنه من : هاد يهود.!

لكن الزمخشري في تفسيره يقول : هدنا ـ بالضم ـ : فعلنا. من : هاده يهيده (٤).

وقال الراغب : الهود : الرجوع برفق ، ومنه التهويد وهو مشي كالدبيب. وصار

__________________

(١) الحجر / ٩.

(٢) من قوله تعالى : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ، إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) ـ الأعراف / ١٥٦.

(٣) قال الزركشي (البرهان ، ج ١ ، ص ١٠٣ ـ ١٠٤) : فمنه الهدى سبعة عشر حرفا ـ إلى قوله ـ أو بمعنى التوبة : «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» أي تبنا :

وقال السيوطي (الإتقان ، ج ٢ ، ص ١٢٢ ـ ١٢٣) : من ذلك الهدى يأتي على سبعة عشر وجها ـ إلى قوله ـ والتوبة : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ)!

(٤) الكشاف ، ج ٢ ، ص ١٦٥.

١٦٥

«الهود» في التعارف التوبة ، قال تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي تبنا (١).

والأعجب اشتباه مثل الراغب ، ذكر في مادة (عنت) قوله تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)(٢) أي ذلّت وخضعت (٣) ، في حين أنه من (عني) بمعنى العناء وهو ذلّ الاستسلام ؛ ولذلك يقال للأسير : العاني. وقد غفل الراغب فذكره في (عنى) أيضا. قال الطبرسي : أي خضعت وذلّت خضوع الأسير في يد من قهره ... (٤)

فإذا كان مثل هؤلاء الأئمة الأعلام يزلّون مغبّة انفرادهم في المسيرة ، فكيف بمن دونهم من ذوي الأقلام؟!

هذا العلّامة المعاصر «إلهى قمشه اى» مع اضطلاعه بالأدب والعلوم الإسلامية ، تراه لم يسلم ـ في ترجمته الفارسية للقرآن الكريم ـ من ذلّة الانفراد ، فقد ترجم قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا)(٥) بما يلي :

«آنگاه قوم مريم كه به جانب او آمدند كه از اين مكان همراه ببرند گفتند ...»

فحسب من القوم فاعلا ، وأنهم أتوا مريم! كما حسب أن الضمير المنصوب في «تحمله» يعود إلى مريم ، وأنّهم أتوها ليحملوها معهم!

في حين أن الآية تعني : «أنّ مريم عليها‌السلام هي التي أتت إلى القوم ، في حال كونها تحمل الوليد المسيح عليه‌السلام على عكس ما زعمه المترجم.

__________________

(١) المفردات ، ص ٥٤٦.

(٢) طه / ١١١.

(٣) المفردات ، ص ٣٤٩.

(٤) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٣١.

(٥) مريم / ٢٧.

١٦٦

وهكذا ترجم قوله تعالى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ)(١) إلى قوله : «تو خود بر آن مردم گواه وناظر اعمال بودى مادامى كه من در ميان آنها بودم»! ولم يلتفت إلى أن الضمير في «كنت» للمتكلم لا للمخاطب ، فضلا عن تهافت المعنى على حسابه.

وترجم قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ)(٢) ، إلى قوله : «وآن روز بمانند عذاب انسان كافر هيچ كس عذاب نكشد ، وآن گونه جز انسان كافر ، كسى به بند (هلاك) گرفتار نشود»!

فحسب من (لا يُعَذِّبُ) و (لا يُوثِقُ) مضارعا مبنيّا للمفعول ، كما حسب من الضمير عوده إلى الإنسان المعذّب والموثق.

وهذه غفلة عجيبة في قراءة الآية القرآنية ، لا يمكن إعفاؤها أبدا.

وقد جمع الدكتور السيد عبد الوهاب الطالقاني (٣) من ذلك لمّة من تراجم قام بها أساتذة ذووا كفاءة راقية ، فكيف بغير الأكفّاء!

ومن التراجم الأجنبيّة ، جاءت ترجمة «كازانوفا» لكلمة «الأمّي» ـ وصفا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعنى «الشعبي» مأخوذا من «الأمّة» حسبما زعم. في حين أنه من «أمّ القرى» ـ اسما لمكة المكرمة ـ ليكون بمعنى «المكّي» ، أو نسبة إلى «الأمّ» كناية عن الذي لا يكتب ولا يقرأ.

وترجم «كازيميرسكي» «اسجدوا» في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ

__________________

(١) المائدة / ١١٧.

(٢) الفجر / ٢٤ ـ ٢٥.

(٣) نشر بعضها في مجلة (كيهان انديشه) ، ع ٢٨ ، ص ٢٢٣.

١٦٧

اسْجُدُوا لِآدَمَ)(١) بمعنى «اعبدوا لآدم»! في حين أنه بمعنى الخضوع التامّ لآدم عليه‌السلام أو جعله قبلة للسجود لله تعالى ـ كما عن بعض التفاسير ـ.

وترجم «هواء» قوله تعالى : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)(٢) بمعنى الهوى والميل النفساني ، في حين أنه بمعنى «الفارغة الجوفاء»! (٣).

__________________

(١) البقرة / ٣٤.

(٢) إبراهيم / ١٤.

(٣) من رسالة «القرآن والترجمة» ص ١١ ، للأستاذ عبد الرحيم محمد علي النجفي.

١٦٨

التفسير

نشأته وتطوّره

في مراحل :

أولا ـ في عهد الرسالة.

ثانيا ـ في دور الصحابة

ثالثا ـ في دور التابعين

رابعا ـ دور أهل البيت في التفسير

خامسا ـ التفسير في دور التدوين

١٦٩
١٧٠

المرحلة الأولى

التفسير في عهد الرسالة

* النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفسّرا!

* هل تناول القرآن كله بالتفسير؟

* حجم المأثور من تفاسيره!

* أوجه بيانه لمعاني القرآن!

* نماذج من تفاسيره!

١٧١
١٧٢

التفسير في نشأته الأولى

(في عهد الرسالة)

قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ. وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(١).

إنّ في القرآن الكريم من أصول معارف الإسلام وشرائع أحكامه ، الأسس الأوّليّة التي لا غنى لأيّ مسلم يعيش على هدى القرآن ويستظل بظلّ الإسلام ، أن يراجع دلائله الواضحة ويتلمّس حججه اللائحة ، وإن أبهم عليه شيء فليستطرق أبواب أهل الذكر ممن نزل القرآن في بيوتهم ، فيهدوه سواء السبيل.

نعم كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المرجع الأوّل لفهم غوامض الآيات وحلّ مشاكلها ، مدة حياته الكريمة ؛ إذ كان عليه البيان كما كان عليه البلاغ. قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٢) ، فكان

__________________

(١) النحل / ٨٩.

(٢) النحل / ٤٤.

١٧٣

دوره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دور مرشد ومعين ، وكان الناس هم المكلّفين بالتفكّر في آيات الله والتماس حججه.

وقد تصدّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتفصيل ما أجمل في القرآن إجمالا ، وبيان ما أبهم منه إمّا بيانا في أحاديثه الشريفة وسيرته الكريمة ، أو تفصيلا جاء في حلّ تشريعاته من فرائض وسنن وأحكام وآداب ، كانت سنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولا وعملا وتقريرا ، كان كلها بيانا وتفسيرا لمجملات الكتاب العزيز وحلّ مبهماته في التشريع والتسنين. فقد كان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلّوا كما رأيتموني أصلي ..» شرحا وبيانا لما جاء في القرآن ، من قوله تعالى : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ..)(١) ولقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)(٢) وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عنّي مناسككم» بيان وتفسير لقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...)(٣) ، وهكذا فكلّ ما جاء في الشريعة من فروع أحكام العبادات والسنن والفرائض ، وأحكام المعاملات ، والأنظمة والسياسات ، كل ذلك تفصيل لما أجمل في القرآن من تشريع وتكليف.

وهكذا كان الصحابة يستفهمونه كلّما تلا عليهم القرآن أو أقرأهم آية أو آيات ، كانوا لا يجوزونه حتى يستعلموا ما فيه من مرام ومقاصد وأحكام ؛ ليعملوا بها ويأخذوا بمعالمها.

أخرج ابن جرير بإسناده عن ابن مسعود ، قال : كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوزهنّ حتى يعرف معانيهنّ والعمل بهنّ. وقال أبو عبد الرحمن

__________________

(١) البقرة / ٤٣.

(٢) النساء / ١٠٣.

(٣) آل عمران / ٩٧.

١٧٤

السّلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءوننا ، أنهم كانوا يستقرءون من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا إذا تعلّموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، قال : فتعلّمنا القرآن والعمل جميعا (١).

نعم ، ربما كانوا يحتشمون هيبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتحجبهم دون مساءلته ، فكانوا يترصّدون مجيء الأعراب المغتربين عن البلاد ، ليسألوه عن مسائل ، فيغتنموها فرصة كانوا يترقبونها.

قال علي عليه‌السلام : وليس كل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسأله ويستفهمه ، حتى كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابيّ أو الطارئ فيسأله عليه‌السلام حتى يسمعوا ... قال : وكان لا يمرّ من ذلك شيء إلّا سألت عنه وحفظته. (٢)

وهكذا حدّث أبو أمامة ابن سهل بن حنيف (٣) قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون : إن الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، قال : أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ، لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية ، وما كنت أرى أنّ في الجنة شجرة تؤذي صاحبها! فقال رسول الله : وما هي؟ قال : السدر ، فإنّ لها شوكا. فقال رسول الله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ)(٤) يخضد الله شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها تنبت ثمرا ، تفتق الثمرة معها عن اثنين وسبعين لونا ، ما منها لون يشبه الآخر (٥).

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٢٧ ـ ٢٨ وص ٣٠.

(٢) المعيار والموازنة للإسكافي ، ص ٣٠٤.

(٣) اسمه أسعد ، سماه بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا له وبرك عليه توفّي سنة (١٠٠) وهو ابن نيف وتسعين. (أسد الغابة ، ج ٥ ، ص ١٣٩)

(٤) الواقعة / ٢٨.

(٥) أخرجه الحاكم وصحّحه ، المستدرك ، ج ٢ ، ص ٤٧٦.

١٧٥

ومن ثم كان ابن مسعود يقول : والله الذي لا إله غيره ما نزلت آية في كتاب الله إلّا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت. وهكذا تواتر عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وتلميذه ابن عباس ، وغيرهم من علماء الصحابة ، حسبما يأتي في تراجمهم. (١)

هل تناول النبيّ القرآن كلّه بالبيان؟

عقد الأستاذ الذهبي بابا ذكر فيه الجدل بين فريقين ، يرى أحدهما : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بيّن لأصحابه معاني القرآن كله إفرادا وتركيبا. ويترأس هذا الفريق أحمد بن تيميّة ، كان يرى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن جميع معاني القرآن كما بيّن ألفاظه ؛ لقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(٢) فإنه يشمل الألفاظ والمعاني جميعا. (٣)

والفريق الثاني ـ ويترأسهم الخويّي والسيوطي ـ : يرون أنّه لم يبيّن سوى البعض القليل ، وسكت عن البعض الآخر ، ثمّ فرض لهم دلائل ، أهمّها ما أخرجه البزّاز عن عائشة ، قالت : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفسّر شيئا من القرآن إلّا آيا بعدد ، علّمه إياهنّ جبريل (٤).

وأسهب في النقض والإبرام ، وأخيرا نسب كلّا من الفريقين إلى المغالاة ، واختار هو وسطا بين الرأيين ـ فيما حسب ـ وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن الكثير دون الجميع ، وترك ما استأثر الله بعلمه ، وما يعلمه العلماء ، وتعرفه العرب بلغاتها ،

__________________

(١) عند الكلام عن دور الصحابة في التفسير.

(٢) النحل / ٤٤.

(٣) راجع : مقدمته في أصول التفسير ، ص ٥ ـ ٦.

(٤) تفسير ابن كثير ، ج ١ ، ص ٦. وتفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٢٩.

١٧٦

مما لا يعذر أحد في جهالته. قال : وبديهي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفسّر ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب ، كما لم يفسّر ما استأثر الله بعلمه ، كقيام الساعة وحقيقة الروح ، مما يجري مجرى علم الغيوب التي لم يطّلع الله عليها نبيّه (١).

قلت : لم أجد ، كما لا أظن أحدا ذهب إلى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبيّن من معاني القرآن سوى البعض القليل وسكت عن الباقي (الكثير طبعا) ، بعد الذي قدّمنا ، وبعد ذلك الخضمّ من تفاصيل الأحكام والتكاليف التي جاءت في الشريعة ، وكانت تفسيرا وبيانا لما أبهم في القرآن من تشريعات جاءت مجملة وبصورة كليّة ، فضلا عمّا بيّنه الرسول وفضلاء صحابته والعلماء من أهل بيته ، شرحا لمعضلات القرآن وحلّا لمشكلاته.

أمّا الذي نسبه إلى شمس الدين الخويّي (٢) وجلال الدين السيوطي ، من ذهابهما إلى ذلك ، فإنّ كلامهما ناظر إلى جانب المأثور من تفاسير الرسول ، المنقول بالنصّ فإنه قليل (٣) ، لو أغفلنا ما رويناه بالإسناد إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طرق أهل البيت الأئمّة من عترته الطاهرة ـ صلوات الله عليهم ـ كما أغفله القوم ، وإلّا فالواقع كثير وشامل ، ولا سيما إذا ضممنا تفاصيل الشريعة (السنّة الشريفة) إلى ذلك

__________________

(١) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) هو أبو العباس أحمد بن خليل المهلبي الخويّي (٥٨٣ ـ ٦٣٧) صاحب الإمام الرازي والمتمّم لتفسيره. ولد في خوي من أعمال آذربيجان ، وتعلم بها وبخراسان ، ثم ولى قضاء دمشق وتوفّى بها.

(٣) قال الخويّي : وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلّا بأن يسمع من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك متعذّر إلّا في آيات قلائل (الإتقان ، ج ٤ ، ص ١٧١) وقال السيوطي ـ عند بيان مآخذ التفسير ـ : الذي صحّ من ذلك (المنقول عن النبيّ) قليل جدّا. (الإتقان ، ج ٤ ، ص ١٨١)

١٧٧

المنقول من التفسير الصريح.

وقد جعل السيوطي جلّ تفاصيل الشريعة الواردة في السنّة تفسيرا حافلا بمعاني القرآن ومقاصده الكريمة. ونقل عن الإمام الشافعي : أن كل ما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مما فهمه من القرآن وبيّنه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا إنّي أوتيت القرآن ومثله معه ، يعني السنّة. وأخيرا نقل كلام ابن تيميّة الآنف ، وعقّبه بالتأييد ، بما أخرجه أحمد وابن ماجة عن عمر ، أنه قال : من آخر ما نزل آية الرّبا ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض قبل أن يفسّرها. قال السيوطي : دلّ فحوى الكلام على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفسّر لهم كل ما أنزل ، وأنه إنما لم يفسّر هذه الآية ؛ لسرعة موته بعد نزولها ، وإلّا لم يكن للتخصيص بها وجه. (١)

وأمّا حديث عائشة ـ لو صح السند ، ولم يصح كما قالوا ـ (٢) فهو ناظر إلى جانب رعاية الترتيب في تفسير الآي ، أعدادا فأعدادا ، أو حسب عدد الآي التي كان ينزل بها جبرائيل. وهذا يشير إلى نفس المعنى الذي رويناه عن ابن مسعود وتلميذه السّلمي ، وقد نقله ابن تيميّة نقلا بالمعنى. قال السلمي : حدّثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن ، أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات ، لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا (٣).

قال الخطيب : هذا أقدم نصّ تاريخي عرفنا به الطريقة التي كان يتعلم بها المسلمون الأوّلون ، كانوا لا يعنون بالإكثار من العلم إلّا بعد إتقان ما يتعلّمونه منه ،

__________________

(١) الإتقان ، ج ٤ ، ص ١٧٤ و ١٧٥ و ٢٥٨.

(٢) ذكروا أنه حديث منكر غريب ، والاستدلال به باطل. (التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٥٥)

(٣) راجع : رسالة الإكليل ، المطبوعة ضمن المجموعة الثانية من رسائل ابن تيميّة ، ص ٣٢.

١٧٨

وبعد العمل به (١).

وأما الوسط الذي اختاره ، وأن الذي لم يبيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن : هو ما استأثر الله بعلمه ، كقيام الساعة ، وحقيقة الروح ، وما يجري مجرى ذلك من الغيوب التي لم يطلع الله عليها نبيّه ... (٢) فشيء غريب! إذ لم نجد في معاني القرآن ما استأثر الله بعلمه ، ولو كان لكان الأجدر عدم إنزاله ، والكفّ عن جعله في متناول الناس عامّة. وقد تعرّض المفسرون لتفسير آي القرآن جميعا حتى الحروف المقطعة ، فكيف يا ترى خفي عليهم أن لا يتعرضوا لما لا يريد الله بيانه للناس؟!

إذن فالصحيح من الرأي هو : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بيّن لأمته ـ ولأصحابه بالخصوص ـ جميع معاني القرآن الكريم ، وشرح لهم جلّ مراميه ومقاصده الكريمة ، إما بيانا بالنص ، أو ببيان تفاصيل أصول الشريعة وفروعها ، ولا سيما إذا ضممنا إليه ما ورد عن الأئمّة من عترته ، في بيان تفاصيل الشريعة ومعاني القرآن ، والحمد لله.

حجم المأثور من تفاسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قد يستغرب البعض إذ يجد قلّة في التفسير المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصّ! لكن ، لا موضع للاستغراب بعد الذي قدّمنا ؛ أوّلا : وفرة الوسائل لفهم معاني القرآن حينذاك ، ثانيا : جلّ بيانات الشريعة كانت تفسيرا لمبهمات القرآن وتفصيلا لمجملاته.

__________________

(١) هامش مقدمة ابن تيميّة في أصول التفسير ، ص ٦.

(٢) التفسير والمفسّرون ، ج ١ ، ص ٥٦ و ٥٧.

١٧٩

نعم ، كانت موارد السؤال والإجابة عليه فيما يخصّ تفسير القرآن بالنصّ قليل ، نظرا لعدم الحاجة إلى أكثر من ذلك حسبما عرفت. غير أن لهذا القليل من تفاسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا في واقعه ، قليلا في نقله وحكايته. فالمأثور منه قليل ، لا أصله ومنبعه الأصيل.

قال جلال الدين السيوطي : الذي صحّ من ذلك قليل جدا ، بل أصل المرفوع منه في غاية القلّة. وقد أنهاهنّ في خاتمة كتاب الإتقان إلى ما يقرب من مائتين وخمسين حديثا في التفسير ، مأثورا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنص. (١)

وهذا عدد ضئيل جدا ، لا نسبة له مع عدد آي القرآن الكريم ، ومواضع إبهامه الكثير ، الأمر الذي دعا بابن حنبل أن ينكره رأسا ، إلحاقا له بالعدم. قال : ثلاثة ليس لها أصول ، أو لا أصل لها : المغازي ، والملاحم ، والتفسير. قال بدر الدين الزركشي : قال المحققون من أصحابه : يعني أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة الإسناد ، وإلّا فقد صح من ذلك كثير (٢). هذا مع أنّ ابن حنبل قد جعل السنّة برمّتها تفسيرا للقرآن ، وسنذكره.

فلو ضممنا سيرته الكريمة وسنّته في الشريعة ، وأحاديثه الشريفة في أصول الدين وفروعه ومعارف الإسلام ودلائل الأحكام ، لو ضممنا ذلك كلّه إلى ذلك العدد القليل ـ في الظاهر ـ لأصبح التفسير المأثور عن عهد الرسالة ـ على مشرفها آلاف التحية والثناء ـ في حجم كبير وفي كمّية ضخمة ، كان الرصيد الأوفى للتفاسير الواردة في سائر العصور.

__________________

(١) راجع : الإتقان ، ج ٤ ، ص ١٨٠ و ٢١٤ ـ ٢٥٧.

(٢) البرهان للزركشي ، ج ٢ ، ص ١٥٦.

١٨٠