التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

البشر عامّة. وقد شاءت حكمته البالغة أن ينزل قرآنه العظيم على نبيّه بلسان قومه ، مع أنّ تعاليمه عامّة وهدايته شاملة ؛ ولذلك فمن الواجب أن يفهم القرآن كل أحد ليهتدي به. ولا شكّ أنّ ترجمته مما يعين على ذلك ، ولكنه لا بدّ أن تتوفّر في الترجمة براعة وإحاطة كاملة باللغة التي ينقل منها القرآن إلى غيرها ؛ لأنّ الترجمة مهما كانت متقنة لا تفي بمزايا البلاغة التي امتاز بها القرآن ، بل ويجري ذلك في كل كلام ؛ إذ لا يؤمن أن تنتهي الترجمة إلى عكس ما يريد الأصل. ولا بدّ إذن في ترجمة القرآن من فهمه ، وينحصر فهمه في أمور ثلاثة : ١ ـ الظهور اللّفظي الذي تفهمه العرب الفصحى ، ٢ ـ حكم العقل الفطري السليم ، ٣ ـ ما جاء من المعصوم في تفسيره. وعلى هذا تتطلّب إحاطة المترجم بكل ذلك لينقل منها معنى القرآن إلى لغة أخرى. وأما الآراء الشخصيّة التي يطلقها بعض المفسّرين في تفاسيرهم ، ولم تكن على ضوء تلك الموازين ، فهي من التفسير بالرأي وساقطة عن الاعتبار ، وليس للمترجم أن يتّكل عليها في ترجمته. وإذا روعي في الترجمة كل ذلك ، فمن الراجح أن تنقل حقائق القرآن ومفاهيمه إلى كل قوم بلغتهم ؛ لأنّها نزلت للناس كافّة. ولا ينبغي أن تحجب ذلك عنهم لغة القرآن ، ما دامت تعاليمه وحقائقه لهم جميعا» (١).

كتاب شيخ الأزهر

جاء في كتاب رسمي قدّمه شيخ الجامع الأزهر الأسبق الشيخ محمد مصطفى المراغي إلى رئيس مجلس الوزراء المصري عام (١٣٥٥ ه‍. ق) ما نصّه :

«اشتغل الناس قديما وحديثا بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللّغات المختلفة ، وتولّى ترجمته أفراد يجيدون لغاتهم ولكنّهم لا يجيدون اللغة العربيّة ،

__________________

(١) البيان ـ قسم التعليقات ـ رقم ٥ ، ص ٥٤٠ ، (ط نجف)

١٤١

ولا يفهمون الاصطلاحات الإسلامية ، الفهم الذي يمكنهم من أداء معاني القرآن على وجه صحيح ؛ لذلك حدث في التراجم أخطاء كثيرة ، وانتشرت تلك التراجم ولم يجد الناس غيرها ، فاعتمدوا عليها في فهم أغراض القرآن الكريم وفهم قواعد الشريعة الإسلاميّة ، فأصبح لزاما على أمّة إسلامية كالأمّة المصريّة التي لها المكان الرفيع في العالم الإسلامي أن تبادر إلى إزاحة هذه الأخطاء ، وإلى إظهار معاني القرآن الكريم نقيّة في اللغات الحيّة لدى العالم.

ولهذا العمل أثر بعيد في نشر هداية الإسلام بين الأمم التي لا تدين بالإسلام ، ذلك أنّ أساس الدعوة إلى الدين الإسلامي إنما هو الإدلاء بالحجة الناصعة والبرهان المستقيم. وفي القرآن من الحجج الباهرة والأدلّة الدامغة ما يدعو الرجل المنصف إلى التسليم بالدين والإذعان له.

وفائدة أخرى للأمم الإسلاميّة التي لا تعرف العربيّة وتشرئبّ أعناقها إلى اقتطاف ثمرات الدين من مصدرها الرفيع ، فلا تجد أمامها إلّا تراجم قد ملئت بالأخطاء. فإذا ما قدّمت لها ترجمة صحيحة تصدرها هيئة لها مكانتها الدينيّة في العالم ، اطمأنّت إليها وركنت إلى أنّها تعبّر عن الوحي الإلهي تعبيرا دقيقا.

ونرى أنّ عهد حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الذي تمّت فيه أعمال جليلة لخير الإسلام والمسلمين ، خليق بأن يتمّ هذا المشروع الجليل ، أطال الله بقاء جلالته نصيرا للعلم والدين.

لذلك أقترح : أن يقرّر مجلس الوزراء ترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة رسميّة ، على أن تقوم بذلك مشيخة الأزهر بمساعدة وزارة المعارف ، وأن يقرّر مجلس الوزراء الاعتماد اللازم لذلك المشروع الجليل ، فأرجو النظر في هذا ..».

وهناك كتاب رسمي آخر من وزير المعارف المصريّة إلى رئيس مجلس

١٤٢

الوزراء ، بشأن تأييد كتاب شيخ الأزهر والتأكيد من إنجاز الطلب (١).

فتوى علماء الأزهر

قدّم إلى هيئة علماء الأزهر استفتاء بشأن ترجمة القرآن إلى سائر اللغات ، ضمّنه الشروط المقرّرة لهذا المشروع. فكان الجواب هي الموافقة الصريحة.

وإليك نصّ الاستفتاء مشفوعا بجوابه :

«ما قول السادة أصحاب الفضيلة العلماء في السؤال الآتي بعد ملاحظة المقدمات الآتية؟

١ ـ لا شبهة في أنّ القرآن الكريم اسم للنظم العربي الذي نزل على سيدنا محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا شبهة أيضا في أنه إذا عبّر عن معاني القرآن الكريم بعد فهمها من النّص العربى بأيّة لغة من اللغات ، لا تسمّى هذه المعاني ولا العبارات التي تؤدّى هذه المعاني قرآنا.

٢ ـ وممّا لا خلاف فيه أيضا أنّ الترجمة اللفظيّة ، بمعنى نقل المعاني مع خصائص النظم العربي المعجز مستحيلة.

٣ ـ وضع الناس تراجم للقرآن الكريم بلغات مختلفة اشتملت على أخطاء كثيرة ، واعتمد على هذه التراجم بعض المسلمين الذين لا يعرفون اللغة العربيّة ، وبعض العلماء من غير المسلمين ممّن يريد الوقوف على معاني القرآن الكريم.

٤ ـ وقد دعا هذا التفكير في نقل معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى على الوجه الآتي : يراد ـ أولا ـ فهم معاني القرآن الكريم بوساطة رجال من خيرة علماء الأزهر الشريف ، بعد الرجوع لآراء أئمة المفسّرين ، وصوغ هذه المعاني بعبارات دقيقة محدودة. ثم نقل المعاني التي فهمها العلماء ، إلى اللّغات الأخرى ،

__________________

(١) راجع : كتاب «حدث الأحداث» للشيخ محمد سليمان ، ص ٣٣ ـ ٣٥.

١٤٣

بوساطة رجال موثوق بأماناتهم واقتدارهم في تلك اللغات ؛ بحيث يكون ما يفهم في تلك اللغات من المعاني هو ما تؤدّيه العبارات العربيّة التي يضعها العلماء.

فهل الإقدام على هذا العمل جائز شرعا أو هو غير جائز؟

هذا مع العلم بأنه سيوضع تعريف شامل يتضمّن أنّ الترجمة ليست قرآنا ، وليس لها خصائص القرآن ، وليست هي ترجمة كل المعاني التي فهمها العلماء ، وأنه ستوضع الترجمة وحدها بجوار النّص العربي للقرآن الكريم».

وجاء الجواب ما نصّه :

«الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد فقد اطّلعنا على جميع ما ذكر بالاستفتاء المدوّن بباطن هذا ، ونفيد بأن الإقدام على الترجمة على الوجه المذكور تفصيلا في السؤال ، جائز شرعا ، والله سبحانه وتعالى أعلم».

وقد وقّعه كبار علماء الأزهر وأسماؤهم كما يلى :

محمود الدنياوي

عضو جماعة كبار العلماء ، وشيخ معهد طنطا.

عبد المجيد اللبّان

شيخ كلية أصول الدين ، وعضو جماعة كبار العلماء.

إبراهيم حمروش

شيخ كلية اللغة العربية وعضو جماعة كبار العلماء.

محمد مأمون الشناوي

شيخ كلية الشريعة وعضو جماعة كبار العلماء.

عبد المجيد سليم

مفتي الديار المصريّة وعضو جماعة كبار العلماء.

محمد عبد اللطيف الفحّام

وكيل الجامع الأزهر وعضو جماعة كبار العلماء.

دسوقي عبد الله البدري

عضو جماعة كبار العلماء.

أحمد الدلبشاني

عضو جماعة كبار العلماء.

يوسف الدجوي

عضو جماعة كبار العلماء.

محمد سبيع الذهبي

شيخ الحنابلة وعضو جماعة كبار العلماء.

عبد الرحمن قراعة

عضو جماعة كبار العلماء.

١٤٤

أحمد نصر

عضو جماعة كبار العلماء.

محمد الشافعي الظواهري

عضو جماعة كبار العلماء.

عبد الرحمن عليش الحنفي

عضو جماعة كبار العلماء.

وعقّب شيخ الجامع الأزهر محمد مصطفى المراغي على الفتوى المذكورة بالنص التالي ، وأبدى موافقته لهم في الجواب. وهذا نصّه :

«بسم الله الرّحمن الرّحيم. وجّهت هذا السؤال إلى حضرات أصحاب الفضيلة جماعة كبار العلماء. وإنّي أوافقهم على ما رأوه».

رئيس جماعة كبار العلماء

محمد مصطفى المراغي

قرار مجلس الوزراء المصري

أقرّ مجلس الوزراء المصري المشروع ووافق عليه ، وأدخل عليه عشرة آلاف جنيه في ميزانيّة السّنة الجديدة ، لتنفيذ بعضها في ميزانية وزارة المعارف ، وبعضها في ميزانية الجامع الأزهر ، وبعضها في ميزانية المطبعة الأميريّة. وأصبح المشروع نافذ المفعول من الوجهة القانونيّة ، واستوفى الإجراءات من الناحيتين العلمية والرسميّة ، وهذا قرار مجلس الوزراء المصري كما يلي :

«بعد الاطلاع على كتاب فضيلة شيخ الجامع الأزهر ، وكتاب سعادة وزير المعارف العموميّة ، بشأن ترجمة معاني القرآن الكريم ، ومع تقدير مجلس الوزراء لمشقّة هذا العمل وصعوبته ، ومنعا لإضرار التراجم المنتشرة إلى الآن ، رأى بجلسته المنعقدة في (١٢ آبريل / ١٩٣٦ م) الموافقة على ترجمة معاني القرآن الكريم ، ترجمة رسمية تقوم بها مشيخة الجامع الأزهر ، بمساعدة وزارة المعارف

١٤٥

العموميّة ؛ وذلك وفقا لفتوى جماعة كبار العلماء ، وأساتذة كليّة الشريعة». (١)

محاولة دون تنفيذ القرار

تكتّلت الجماعة المعارضة بزعامة الشيخ محمد سليمان نائب المحكمة الشرعيّة العليا ، وقاومت المشروع مقاومة عنيفة. وانحاز إليهم شخصيّات كبيرة ، أمثال الشيخ محمد الأحمدي الظواهري ، شيخ الجامع الأزهر السابق والعضو في هيئة كبار العلماء ، فلم يشهد الاجتماع الذي عقدته هيئة كبار العلماء لإقرار المشروع ، ولم يوافق عليه ، أضف إلى ذلك أنه أرسل كتابا إلى علي ماهر پاشا رئيس الوزارة السابقة ، يحمله على رفض المشروع.

وعقد مقاومو المشروع اجتماعات ، وأسّسوا جمعيّة لمقاومته ، ووزّعوا بعض نشرات ، وطافوا بمضابط في الأسواق ، يسألون الناس توقيعها ، فوقّعها كثيرون يعدّون بالألوف ، ورفعوها إلى البرلمان. وأصدر فريق كبير من العلماء فتوى ضدّ المشروع ، وفي مقدّمتهم الشيخ موسى الغراوي رئيس المحكمة الشرعيّة العليا السابق ، وغيره من قضاة المحاكم الشرعيّة ورؤسائها ، ورفعوها إلى البرلمان.

وتألّف حزب في البرلمان ، بزعامة الشيخ عباس الجمل المحامي الشرعي ، يضمّ عددا كبيرا من النّواب والشيوخ لمقاومة المشروع ، والإلحاح بحذف المخصّصات المرصدة له في الميزانيّة.

وأرسل فريق من أهل الشام وفلسطين والعراق كتبا إلى رئيس الوزراء (النحاس پاشا) يطلبون إليه بكل إلحاح ويستحلفونه باسم الإيمان الذي يملأ صدره وباسم القرآن والدين ، أن يحول دون ترجمة القرآن.

__________________

(١) حدث الأحداث ، ص ٤٠.

١٤٦

فكانت مغبّة هذه النعرات المعارضة أن حالت دون تحقيق المشروع وأوقفته وشيك تنفيذه. وقام النحّاس پاشا بحلّ المشكلة شكليّا ، فقرّر ترجمة تفسير جديد للقرآن دون ترجمة نفسه ؛ وبذلك حاول إرضاء كلا الفريقين ظاهريّا ، وتخلّص بنفسه عن خوض المعركة ، فانتهت بهذا الشكل الاسمي الباهت! (١).

مناقشات فقهيّة

سبق أنّ فقهاء الإماميّة متّفقون على أنّ الترجمة ليست قرآنا ، ذلك الكتاب العلي الحكيم ، الذي لا يمسّه إلّا المطهّرون. فبالتالي لا تجري عليها الأحكام الخاصة بالقرآن ، التي منها جواز القراءة بها في الصلاة. وقد عرفت كلام المحقق الهمداني : عدم إجزاء الترجمة عن القراءة في الصلاة ، حتى للعاجز عن النطق بالعربية. وهذا إجماع من علمائنا ـ قديما وحديثا ـ أن الترجمة ليست قرآنا إطلاقا.

أما سائر المذاهب ، فقد ذهب أبو حنيفة إلى جواز قراءة الترجمة بدلا عن القرآن نفسه ، مطلقا سواء أقدر على العربية أم عجز عنها ، واستدل على ذلك بأن القرآن الواجب قراءته في الصلاة ، هي حقيقة القرآن ومعناه الذي نزل على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)(٢) ، (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(٣) ، والضمير في «أنه» ، والإشارة في «إنّ هذا» إنما هو للقرآن ، ومعلوم أنه لم يكن في تلك الصحف إلّا معانيه.

__________________

(١) راجع : مجلّة الرابطة العربيّة المصرية. صفر وربيع الأول سنة ١٣٥٥ ه‍. ق. يونيو سنة ١٩٣٦ م.

(٢) الشعراء / ١٩٦.

(٣) الأعلى / ١٨ ـ ١٩.

١٤٧

وأيضا قوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(١). وإنما ينذر كل قوم بلسانهم (٢). وزاد السرخسي استدلال أبي حنيفة بما روى أن الفرس كتبوا إلى سلمان الفارسي ، أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية ، فكانوا يقرءون ذلك في صلاتهم حتى لانت ألسنتهم للعربية (٣).

أمّا صاحباه (أبو يوسف ومحمد) فقد أجازا قراءة الترجمة للعاجز عن العربية دون القادر عليها ، وبذلك أفتى الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصريّة في فتوى له لأهل الترانسفال ، قال فيها : «وتجوز القراءة والكتابة (أي للقرآن) بغير العربيّة للعاجز عنها ، بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى. فقد كان تاج المحدّثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسيّة! لعدم انطلاق لسانه باللّغة العربيّة» وقد أرسل بها إلى مسلمي الترانسفال سنة (١٩٠٣ م) ونشرتها مجلة المنار في ذلك الحين (٤).

وبقية المذاهب وافقوا الإماميّة في المنع إطلاقا ، فلا يجوز عندهم قراءة الفاتحة بغير العربيّة على كل حال (٥).

__________________

(١) الأنعام / ١٩.

(٢) راجع : المغني لابن قدامة ، ج ١ ، ص ٥٢٦. ومدارك الأحكام للعاملي ، ج ٣ ، ص ٣٤١. ورسالة ترجمة القرآن للمراغي ، ص ٩.

(٣) المبسوط للسرخسي ، ج ١ ، ص ٣٧. وفي رواية تاج الشريعة الحنفي زيادة «فكتب (بسم الله الرحمن الرحيم : بنام يزدان بخشاونده ...) وبعد ما كتب ذلك ، عرضه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (حاشية الهداية لتاج الشريعة ج ١ ، ص ٨٦. طبع دلهي ، ١٩١٥ م) ، معجم مصنفات القرآن لشواخ ، ج ٢ ، ص ١٢.

(٤) محمد فريد وجدي في الأدلّة العلمية ، ص ٦١.

(٥) راجع الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ١ ، ص ٢٣٠.

١٤٨

وهكذا أفتى الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر (١٩٣٢ م) بالجواز للعاجز عن العربيّة.

قال ـ في رسالته التي كتبها بهذا الشأن ـ : «وأنتهي من البحث في هذه المسألة إلى ترجيح رأي قاضي خان ومن تابعه من الفقهاء ، وهو وجوب القراءة في الصلاة بترجمة القرآن للعاجز عن قراءة النظم العربي».

وقال ـ ردّا على المانعين ومنهم صاحب الفتح ـ : «إن حجّة المانع هو أن ترجمة القرآن ليست قرآنا ، وما كان كذلك كان من كلام الناس ، فهو مبطل للصلاة. قال : وهذا الاستدلال غير صحيح ؛ لأنّ الترجمة وإن كانت غير قرآن ، لكنها تحمل معاني كلام الله ، لا محالة. ومعاني كلام الله ليست كلام الناس. قال : وعجيب أن توصف معاني القرآن بأنها من جنس كلام الناس ، بمجرّد أن تلبس ثوبا آخر غير الثوب العربي ، كأنّ هذا الثوب هو كل شيء» (١).

قال السيد محمد العاملي ـ في شرح كلام المحقق الحلّي : «ولا يجزئ المصلي ترجمتها» ـ :

«هذا الحكم ثابت بإجماعنا ، ووافقنا عليه أكثر علماء سائر المذاهب ، لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٢) ؛ ولأن الترجمة مغايرة للمترجم ، وإلّا لكانت ترجمة الشعر شعرا» (٣).

وأمّا استدلال أبي حنيفة بأنه جاء ذكر القرآن في «زبر الأولين» وفي

__________________

(١) بحث في ترجمة القرآن للمراغي ، ص ٣٢.

(٢) يوسف / ٢.

(٣) مدارك الأحكام في شرح شرايع الإسلام ، ج ٣ ، ص ٣٤١.

١٤٩

«الصحف الأولى» ، فهذا يعني وصفه ونعته ، وليس نفسه. قال الطبرسي : أي وأنّ ذكر القرآن وخبره جاء في كتب الأوّلين على وجه البشارة به وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بمعنى أنه تعالى أنزله على غير محمد (١).

وقال ـ في آية الصحف الأولى ـ : يعني أنّ هذا الذي ذكر من فلاح المتزكّي إلى تمام ما في الآيات الأربع ، لفي الكتب الاولى. فقد جاء فيها ذكر فلاح المصلي والمتزكّي وإيثار الناس الحياة الدنيا على الآخرة ، وأن الآخرة خير وأبقى. (٢) وهذا لا يعني نفس الكتاب وأنه مذكور بذاته في تلك الصحف ، ليستلزم ذلك أن يكون ذكر المعاني ذكرا للقرآن نفسه.

وقال السيد العاملي ـ في آية البلاغ ـ : الإنذار بالقرآن لا يستلزم نقل اللفظ بعينه ؛ إذ مع إيضاح المعنى يصدق أنه أنذرهم به ، بخلاف صورة النزاع (٣). يعني أنّ هناك فرقا بين قولنا : أنذر بهذا القرآن ، وقولنا : اقرأ بهذا القرآن. فإنّ الأول لا يستدعي حكاية نفس القرآن ونقله بالذات إلى المنذرين ، بل يكفي تخويفهم بما يستفاد من القرآن من الوعد والوعيد. وهذا بخلاف الثاني المستلزم تلاوة نفسه كما في قراءة الصلاة.

قال ابن حزم : «ومن قرأ أم القرآن أو شيئا منها أو شيئا من القرآن ، في صلاته مترجما بغير العربيّة ، أو بألفاظ عربيّة غير الألفاظ التي أنزل الله تعالى ، عامدا لذلك ، أو قدّم كلمة أو أخّرها عامدا لذلك ، بطلت صلاته ، وهو فاسق ؛ لأن الله

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٢٠٤.

(٢) المصدر السابق ، ج ١٠ ، ص ٤٧٦.

(٣) المدارك ، ج ٣ ، ص ٣٤١.

١٥٠

تعالى قال : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وغير العربي ليس عربيّا ، فليس قرآنا. وإحالة رتبة القرآن (١) تحريف كلام الله تعالى ، وقد ذمّ الله تعالى قوما فعلوا ذلك ، فقال : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ).

«وقال أبو حنيفة : تجزئة صلاته. واحتج له من قلّده بقول الله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ).

«قال علي (٢) : لا حجة لهم في هذا ؛ لأن القرآن المنزل علينا على لسان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينزل على الأوّلين ، وإنما في زبر الأوّلين ذكره والإقرار به فقط ، ولو أنزل على غيره عليه‌السلام لما كان آية له ولا فضيلة له ، وهذا لا يقوله مسلم.

«ومن كان لا يحسن العربية فليذكر الله تعالى بلغته ؛ لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٣). ولا يحلّ له أن يقرأ أمّ القرآن ولا شيئا من القرآن مترجما على أنه الذي افترض عليه أن يقرأه ؛ لأنه غير الذي افترض عليه كما ذكرنا ، فيكون مفتريا على الله تعالى» (٤).

وأما فتوى الشيخ محمّد بخيت لأهل الترانسفال ، فقد تشابه عليه الحسن بصاحبه ؛ لأن الذي كان يقرأ في الصلاة بالفارسية هو حبيب العجمي صاحب الحسن البصري.

قال ـ في شرح مسلّم الثبوت ـ : «يجوز القرآن بالفارسية للعذر ـ وهو عدم العلم بالعربية وعدم انطلاق اللسان بها ـ وقد سمعت من بعض الثقات أن تاج

__________________

(١) أي تحويل نظم القرآن وتغيير ترتيبه اللفظي.

(٢) يريد نفسه : علي بن أحمد بن سعيد بن حزم. توفي ٤٥٦.

(٣) البقرة / ٢٨٦.

(٤) المحلّى لابن حزم ، ج ٣ ، ص ٢٥٤ ، المسألة رقم ٣٦٧ ، من كتاب الصلاة.

١٥١

العرفاء والأولياء الحبيب العجمي صاحب تاج المحدثين وإمام المجتهدين الحسن البصري كان يقرأ في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه باللغة العربيّة» (١).

وأما حديث ترجمة سلمان للفاتحة ، وقراءة الفرس لها في صلاتهم ، فلم نعثر على مستند له وثيق ، وإنما أرسله السرخسي عن أبي حنيفة إرسالا ، لا يعلم مصدره. ولعل الترجمة ـ على فرض الثبوت ـ كانت لمجرد العلم بمعناها لا للقراءة بها في الصلاة!

ترجمة القرآن ضرورة دعائية

وبعد ، فإذ قد جازت ترجمة القرآن في حدّ ذاتها ، ترجمة معنويّة وافية بإفادة معاني القرآن كملا ، فعندئذ نقول :

إنّ ترجمة القرآن إلى سائر اللغات أصبحت ضرورة دينية وواجبا إسلاميا عامّا (وجوبا بالكفاية) وكان من وظيفة كل مسلم يحمل رسالة الله في طيّات وجوده ، أن يهتمّ بهذا الأمر الذي يمسّ صميم الإسلام ، لغرض انتشار الدعوة وبثّ تعاليم الإسلام عبر الخافقين.

الإسلام دين البشرية عامّة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)(٢) ، (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً)(٣) فلا يخصّ أمّة دون أخرى ولا جيلا دون جيل ، وكان في ذمّة كل مسلم متعهّد بدينه الاهتمام ببثّ الدعوة ونشرها بين الملأ ، وظيفة دينيّة في الصميم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى

__________________

(١) رسالة المراغي في الترجمة ، ص ١٧.

(٢) سبأ / ٢٨.

(٣) الفرقان / ١.

١٥٢

الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١). (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(٢).

ولا شك أنّ القرآن هو السند الوثيق الوحيد لبناء الدعوة ونشر تعاليم الإسلام ، وقد نزل بيانا للناس (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)(٣) فكان حقيقا أن يبيّن للناس (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٤).

فالمنع عن ترجمته وبثّها بين الناس كتمان لما أنزله الله من البيّنات والهدى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(٥).

قال تعالى ـ عن لسان نبيه ـ : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(٦).

إنّ في القرآن مقاصد عالية ومطالب سامية ، هي ذوات أهداف عالمية كبرى عبر الآفاق ومرّ الأيام ، يجب بثها والإعلام بها لكافة الأنام ، مما لا يتم إلا بتعميم نشر القرآن وعرضه على العالمين جميعا ، الأمر الذي لا يمكن إلّا بترجمة معانيه إلى كل اللغات الحيّة في العالم كله.

__________________

(١) آل عمران / ١٠٤.

(٢) البقرة / ١٤٣.

(٣) آل عمران / ١٣٨.

(٤) النحل / ٤٤.

(٥) البقرة / ١٥٩.

(٦) الأنعام / ١٩.

١٥٣

أما ولو أهملت هذه الأمة بالقيام بهذه المهمّة ، وتقاعست عن الإتيان بواجبها الديني الفرض ، وقصّرت دون أداء رسالة الله في الأرض ، فإنّ الله تعالى سوف يستبدل بهم قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(١).

وقد عرفت أنّ الأوائل كانوا يجيزون ترجمة معاني القرآن لأقوام كانوا جديدي عهد بالإسلام ، ممن لم تكن لهم سابقة إلمام باللغة العربية ، فكانت تعرض عليهم الآية مصحوبة بترجمتها ؛ لغرض إفهام معاني الذكر الحكيم وبيان مقاصده وتعاليمه الرشيدة لملأ الناس.

لا شك أنّ في الهجرة الأولى (إلى الحبشة) حيث عرضت آي من القرآن الكريم على حاضري مجلس النجاشي من الوزراء وأعيان الدولة ، قد ترجمت ما تليت من آي الذكر الحكيم ، باللغة الحبشية (الأمهريّة) ؛ إذ لم يكن الحضور يحسنون العربية بطبيعة الحال ، وفي ذلك يقول صدر الأفاضل : وإني اعتقد أن جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام كان يجيد اللغة الحبشية ، وهو الذي قام بترجمة الآيات التي تلاها حينذاك من سورة مريم (٢) ، فكان ذلك التأثير العجيب في نفوس القوم ولا سيما النجاشي نفسه ؛ حيث قال : «والله إن كلام محمد ، لا يختلف شيئا عن تعاليم سيدنا المسيح ...» ، وبكى بكاء شديدا.

وهكذا لما طلب الراجا (رائك مهروق) ـ الذي كان أميرا على منطقة الرور ـ من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ، مندوب الحكومة الإسلامية هناك سنة

__________________

(١) محمد / ٣٨.

(٢) عن مقال له في مجلة التوحيد ، السنة الثانية ، العدد ٩ ، ص ٢١٦.

١٥٤

(٢٣٠ ه‍. ق) أن يفسّر القرآن له ، أي يترجمه بالهندية. وعند إنجاز الطلب على يد كاتب قدير ، يقول المترجم : فانتهيت من التفسير إلى سورة (يس) حتى وصلت إلى الآية (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(١). قال : فلمّا فسرت له هذا ـ أي ترجمته له باللغة السنسكرتية (الهندية القديمة) خرّ من سريره على الأرض واضعا خدّه عليها وهي مبتلّة ، فتأثر وجهه من بلّة الأرض ، وقال ـ باكيا ـ : «هذا هو الربّ المعبود ، والذي لا يشبه شيء». وكان قد أسلم سرّا ، فكان بعد ذلك يخلو بنفسه في بيت عزلة يعبد الله ويناجي ربه سرّا (٢).

هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنّ كثيرا من الناس قاموا ـ في زعمهم ـ ينقل القرآن إلى لغات كثيرة وترجمات متعدّدة ، قد بلغت المآت في خمس وثلاثين لغة حيّة في العالم المتمدّن اليوم. وقد طبعت بعض هذه التراجم عدة طبعات بل عشرات الطبعات ، فقد طبعت الترجمة الإنجليزية التي قام بها (سيل) أكثر من أربعين مرّة. وهكذا بالنسبة إلى تراجم فرنسيّة وألمانيّة وإيطاليّة وفارسيّة وتركيّة وأورديّة وصينيّة وجاويّة ، إلى غيرها من لغات العالم الحيّة.

ومن هؤلاء المترجمين من يحمل عداء للإسلام والمسلمين عداوة ظاهرة ، ومنهم من تعوّزه كفاءة المقدرة على ترجمة تامة ، وافية بمعاني القرآن ، وهذا الأخير لا يقلّ ضرره عن الأوّل الذي يتعمّد الدسّ والتزوير. فمن هذا وذاك قد

__________________

(١) يس / ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) المصدر نفسه وراجع كتاب (عجائب الهند) ، طبعة ليدن ١٨٨٣ م لمؤلفه بزرك. وكان عائشا حتى سنة (٣٣٩ ه‍. ق)

١٥٥

حصل تحريف في معاني القرآن كثيرا ، الأمر الذي يعود ضرره في نهاية المطاف إلى كيان الإسلام والمسلمين ، فضلا عن الأخطاء الفاحشة التي وقعت في هكذا تراجم ، قام بها غير الأهل.

إذن ينبغي أن لا نقف ـ نحن أبناء الإسلام ودعاته ـ مكتوفي الأيدي ملجمين بلجام العار والشغار ، مصمّمي الإخوان تجاه هذه الحوادث الفادحة والحقائق المرّة الماثلة بين أيدينا ، نحن المسلمين.

وقد تصدّى لترجمة القرآن ـ لغرض خبيث ـ قبل ثمانية قرون ، مطران مسيحيّ يدعى «يعقوب بن الصليبي» ترجمه إلى السريانية ، ونشرت خلاصتها سنة (١٩٢٥ م) وتابع هذا المطران أحبار ورهبان كانوا أسبق من غيرهم في هذا الميدان ، والله أعلم بما يبيّتون (١).

قال العلامة أبو عبد الله الزنجاني : وربما كانت أوّل ترجمة إلى اللغة اللاتينية ـ لغة العلم في أروپا ـ وذلك سنة (١١٤٣ م) بقلم «كنت» الذي استعان في عمله ببطرس طليطلي وعالم ثان عربي ، وكان الغرض من الترجمة عرضه على «دي كلوفي» وبقصد الردّ على القرآن الكريم ، وفي عام (١٥٩٤ م) أصدر «هنكلمان» ترجمته ، وجاءت على الأثر (١٥٩٨ م) طبعة مرانشى مصحوبة بالردود (٢).

وبعد ، فأيّ عذر يبديه زعماء الأمّة تجاه هذا التلاعب بأساس الدين؟! وما هو المبرّر للسكوت أمام هذا التناوش المقيت بمقدّسات الإسلام من قريب وبعيد ، لو لا قيام المضطلعين بأعباء رسالة الإسلام ـ حفظا على ناموس الدين ـ فيستعيدوا نشاطهم بأمر الشريعة الغرّاء ، ويؤلّفوا لجنة مركزيّة من علماء مبرّزين ،

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) تاريخ القرآن للزنجاني ، ص ٦٩.

١٥٦

فيقدّموا إلى العالم تراجم صحيحة من القرآن الكريم ، معترفا بها رسميّا من مراجع دينية صالحة ؛ فيكون ذلك مكافحة صريحة مع تلكم المناوشات الخبيثة ، ومقابلة عملية تجاه أعداء الإسلام.

وسنوفّي لك نماذج خاطئة في نهاية المقال دليلا على ضرورة القيام بهذه المقابلة الإيجابيّة.

تراجم إسلامية عريقة

قد عرفت حديث ترجمة (سلمان الفارسي) لسورة الحمد ، بطلب من فرس اليمن المسلمين (١). وهكذا قام دعاة الإسلام وعلماء المسلمين بتراجم لسور وآيات قرآنية ، لغرض إفهام معانيها لسائر الأمم ممن دخلوا في الإسلام ، وكانوا لا يحسنون فهم العربية آنذاك.

وأضخم هيئة علمية قامت بترجمة القرآن ، مصحوبة بترجمة أكبر موسوعة تفسيريّة ، في أواسط القرن الرابع للهجرة ، هم علماء ما وراء النهر (شرقيّ بلاد إيران) بطلب من السلطان منصور بن نوح الساماني (٣٥٠ ـ ٣٦٥) وذلك لمّا أن أرسل إليه التفسير الكبير (جامع البيان) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (توفّي سنة ٣١٠) في أربعين مجلدا ضخما ، فاستعظمه وأكبر من شأنه ، لكنه تأسّف على عدم إمكان استفادة شعبه من هذا التفسير العظيم ، فاستفتى ـ أوّلا ـ جميع علماء وفقهاء ما وراء النهر (بلخ وبخارى وباب الهند وسمرقند وسپيجاب وفرغانة ...) في جواز الترجمة ، فأجازوه جميعا. فطلب منهم أن

__________________

(١) المبسوط للسرخسي ، ج ١ ، ص ٣٧. وتقدم ـ في الهامش ـ عن تاج الشريعة الحنفي : أنه ترجم البسملة ب «بنام يزدان بخشاونده ... الخ ..» ثم عرضها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (معجم مصنفات القرآن لشواخ ، ج ٢ ، ص ١٢).

١٥٧

ينتدب منهم من يصلح لهذا الشأن. فاجتمع لفيف من العلماء المعروفين من تلك الديار ، فترجموا القرآن بدء ، ثم التفسير بكامله. ويوجد من نسخ هذه الترجمة في مكتبات العالم ما فوق العشرة ، وطبع منها سنة () في إيران ـ طهران ـ نسخة صحيحة في طباعة جيّدة.

وقد وضع ـ في النسخ المخطوطة ـ نص القرآن الكريم ـ في عدد من آياته ـ أوّلا ، ثم ترجمته ، وأخيرا ترجمة التفسير. لكن النسخة المطبوعة أهملت ذكر النص ، واكتفت بترجمة الآيات مسبقا ثم ترجمة التفسير ، الأمر الذي يؤخذ على مسئول الطبع ، ولا يقبل منه اعتذاره غير العاذر (١).

وإليك نصّ ما جاء في مقدمة الأصل (الترجمة السامانيّة) :

«اين كتاب تفسير بزرگ است ، از روايت محمد بن جرير الطبري ، ترجمه كرده بزبان پارسى ودرى راه راست. واين كتاب بياوردند از بغداد چهل مصحف بود. اين كتاب نبشته بزبان تازى وبه اسنادهاى دراز بود. وبياوردند سوى امير سعيد مظفّر ابو صالح منصور بن نوح بن نصر بن احمد بن اسماعيل ... پس دشخوار آمد بر وى خواندن اين كتاب وعبارت كردن آن بزبان تازى ، وچنان خواست كه مر اين را ترجمه كند بزبان پارسى.

پس علماء ما وراء النهر را گرد كرد واين از ايشان فتوى كرد كه روا باشد خواندن ونبشتن تفسير قرآن بپارسى ، مر آن كس را كه او تازى نداند؟ از قول خداى عزوجل كه گفت : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)(٢) گفت : من هيچ پيغامبرى را نفرستادم مگر بزبان قوم او وآن زبانى كه ايشان دانستند ... واينجا

__________________

(١) راجع مقدمة الناشر ، ص ١٤.

(٢) إبراهيم / ٤.

١٥٨

بدين ناحيت زبان پارسى است ، وملوكان اين جاى ملوك عجم اند. پس بفرمود ملك مظفّر ابو صالح تا علماى ما وراء النهر را گرد كردند از شهر «بخارا» چون فقيه ابو بكر بن احمد بن حامد ، وچون خليل بن احمد سجستانى. واز شهر «بلخ» ابو جعفر بن محمد بن على. واز «باب الهند» فقيه الحسن بن على مندوس را ، وابو الجهم خالد بن هانى المتفقه را. وهم ازاين گونه از شهر «سمرقند» واز شهر «سپيجاب» و «فرغانه» واز هر شهرى كه بود در ماوراء النهر. وهمه خطبها بدادند بر ترجمه اين كتاب ، كه اين راه راست است.

پس بفرمود امير سعيد ملك مظفر ابو صالح اين جماعت را تا ايشان از ميان خويش هركدام فاضل تر وعالم تر اختيار كنند تا اين كتاب را ترجمه كنند ، پس ترجمه كردند. (١)

ولعلّ أقدم ترجمة رسمية للقرآن ، قام بها رجال الحكم ، هي التي وقعت بطلب من الراجا (رائك مهروق) في مقاطعة (الرور) من بلاد السند. طلب من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ـ وكان واليا هناك سنة (٢٣٠) ـ أن يترجم له معاني القرآن ، فأمر عبد الله بن عمر أحد العلماء العرب ممن كانوا يجيدون لغة الهند القديمة (السنسكريتية) هناك ، فترجم له حسبما مرّت عليك (٢).

وترجمة فارسية أخرى قام بها الفقيه الحنفي أبو حفص نجم الدين عمر بن

__________________

(١) ترجمة الطبري ، ص ٥ ـ ٦.

(٢) عن كتاب (عجائب الهند) للسائح السندهي (بزرگ شهريار) وكان عائشا حتى عام (٣٣٩ ه‍. ق)

١٥٩

محمد النسفي (١) (٤٦٢ ـ ٥٣٨) من علماء ماوراء النهر. له تفسير لطيف باللغة الفارسية ، يبدأ فيه بترجمة الآية ثم تفسيرها على أسلوب بديع.

وللخواجه عبد الله الأنصاري تفسير فارسي للقرآن الكريم وصفه على أسلوب الذوق العرفاني ، وكان موجزا ومختصرا فشرحه وأضاف إليه أبو الفضل رشيد الدين الميبدي عام (٥٢٠) يبدأ بالترجمة ثم بالتفسير في تنوع لطيف وسمّاه (كشف الأسرار وعدة الأبرار) طبع أخيرا في عشر مجلدات كبار. وسيأتي شرحه عند الكلام عن تفاسير أهل العرفان.

وللخواجه ـ عند تفسير قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(٢) ـ استظهار لطيف بجواز تبليغ القرآن إلى سائر الأمم بلغاتهم ، نظرا لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوث إلى كافة الناس ، ويستشهد على ذلك بعدّة من الأدلّة لإثبات مطلوبه.

والأحسن الأكمل من الجميع تفسير مبسّط باللغة الفارسية ، قام بها العلم العلّامة جمال الدين أبو الفتوح الحسين بن علي بن محمد بن أحمد الرازي ، من أحفاد نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، من صحابة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قام بهذا التفسير وأكمله ـ في عشر مجلدات ضخام ـ في المنتصف من القرن السادس للهجرة.

__________________

(١) و (نسف) ويقال لها : (نخشب) بلدة عامرة واقعة على طريق بلخ إلى بخارا.

وهذا غير تفسير النسفي لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي.

(٢) إبراهيم / ٤.

١٦٠