التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

نواحي القرآن الثلاث

للقرآن الكريم نواح ثلاث تجمّعن فيه ، وبذلك أصبح القرآن كتابا سماويا ذا قدسيّة فائقة ، وممتازا على سائر الكتب النازلة من السماء :

أوّلا : كلام إلهي ذو قدسيّة ملكوتيّة ، يتعبّد بقراءته ويتبرّك بتلاوته.

ثانيا : هدى للناس ، يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.

ثالثا : معجزة خالدة ، دليلا على صدق الدعوة عبر العصور.

تلك نواح ثلاث خطيرة تجمّعن في هذا الكتاب ، رهن نظمه الخاص في لفظه ومعناه ، وأسلوبه الفذّ في الفصاحة والبيان ، ومحتواه الرفيع في نظمه وتشريعاته.

وبعد ، فهل بإمكان الترجمة ـ من أيّة لغة كانت ـ الوفاء بتلكم النواحي أم ببعضها على الأقلّ ، أم تذهب بهنّ جمع أدراج الرّياح؟! الأمر الذي يحدّد أبعاد بحثنا في هذا المجال ، فنقول :

أما الترجمة الحرفيّة فإنها تفتقد دلائل الإعجاز أوّلا ، ولا سيما البيانيّ منها القائم على أعلى درجات البلاغة ، كما تعوزها تلك القدسيّة المعهودة بشأن القرآن ، فلا تجري عليها الأحكام الشرعية المترتّبة على هذا العنوان الخاص (القرآن الكريم) ، وأخيرا فإنها تخون في التأدية أحيانا ، إن لم يكن في الأغلب.

لكن الترجمة المعنوية ـ الحرّة غير المتقيّدة بنظم الأصل ـ فإنها تواكب أختها غالبا في افتقاد دلائل الإعجاز ، وكذا في الذهاب بقدسيّة القرآن الخاصة بهذا العنوان ، نعم سوى الإيفاء بالمعنى إن قامت على شروطها اللازمة ، وإليك التفصيل :

١٢١

الترجمة الحرفية للقرآن

الترجمة الحرفية إن كانت بالمثل تماما ، فمعناها : إفراغ المعنى في قالب لفظي يشاكل قالبه الأول في جميع خصوصياته ومميزاته الكلامية تماما ، سوى كونه من لغة أخرى ، الأمر الذي لا يمكن الإتيان به بشأن القرآن بتاتا ؛ لأنّ الإتيان بما يماثل القرآن نظما وأسلوبا ، هو الأمر الذي تحدّى به القرآن الكريم كافّة الناس لو يأتوا بمثله ، وقد دلّت التجربة على استحالته.

وإن كانت بغير المثل ، بأن يقوم المترجم بإنشاء كلام يشاكل نظم القرآن حسب المستطاع ، فهذا أمر ممكن في نفسه ، إلّا أنه حينئذ يفتقد الكثير من المميّزات اللفظية والمعنوية التي كان القرآن مشتملا عليها ، وكانت من دلائل الإعجاز لا محالة.

كما أنه إذا غيّر الكلام إلى غير لفظه وبسوى نظمه ولا سيما بغير لغته ، فهذا لا يعدّ من كلام المتكلم الأوّل ؛ لأنّ من مقوّمات كلام كل متكلم هو البقاء على نفس الكلمات والتعابير والنظم والأسلوب الذي جاء في كلامه ، فإن غيّر في أحد المذكورات ، فإنه يصبح أجنبيّا عنه ولا يعدّ من كلامه البتّة ، الأمر الذي لا يحتاج إلى مزيد بيان.

وعليه فلو كان كلام خاص ، يحمل قدسيّة خاصّة ، وله أحكام خاصة به ، وباعتبار انتسابه إلى متكلّم خاص ، فإنّ هذه الميزة سوف تذهب بأدنى تغيير شكلي في كلامه. فكيف إذا كان تغييرا في الكلمات والألفاظ من غير اللّغة ، ومغيّرا للنظم والأسلوب أيضا ولو يسيرا ، الأمر الذي يتحقق في الترجمة الحرفية لا محالة.

١٢٢

من أجل ذلك نرى الفقهاء (١) ـ ولا سيّما فقهاء الإماميّة ـ متّفقين على عدم إجزاء القراءة بغير العربية في الصلاة ، حتى على العاجز عن النطق بالعربية ، وإنما يعوّض بآيات اخرى ، أو دعاء وتهليل وتسبيح إن أمكن. أما الفارسية أو غيرها فلا تجوز إطلاقا ، اللهمّ إلّا بعنوان الذكر المطلق ، إذا جوّزناه بغير العربية ، وفيه إشكال أيضا.

قال المحقق الهمداني : يعتبر في كون المقروء قرآنا حقيقة ، كونه بعينه هي الماهيّة المنزلة من الله تعالى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مادّة وصورة ، وقد أنزله الله بلسان عربيّ ، فالإخلال بصورته التي هي عبارة عن الهيئات المعتبرة في العربية بحسب وضع الواضع كالإخلال بمادّته ، مانع عن صدق كونه هي تلك الماهيّة (٢).

وقال : ولا يجزئ المصلّي عن الفاتحة ترجمتها ، ولو بالعربية فضلا عن الفارسيّة ، اختيارا بلا شبهة ، فإنّ ترجمتها ليست عين فاتحة الكتاب المأمور بقراءتها ، كي تكون مجزئة (٣).

قال ـ بشأن العاجز عن العربية ـ : الأقوى عدم الاعتبار بالترجمة ـ في حالة العجز عن الفاتحة وبدلها (من قرآن غيرها أو تحميد وتسبيح) ـ من حيث هي أصلا ، ضرورة عدم كونها قرآنا ولا ميسوره ، بعد وضوح أن لألفاظ القرآن دخلا في قوام قرآنيّتها. نعم بناء على الاجتزاء بمطلق الذكر لدى العجز عن قراءة شيء من القرآن مطلقا ، أو لدى العجز عن التسبيح والتحميد والتهليل أيضا ، اتّجه الاجتزاء بترجمة الفاتحة ونظائرها ، لا من حيث كونها ترجمة للقرآن ، بل من

__________________

(١) من عدا أبي حنيفة ومن رأى رأيه ، حسبما يأتي.

(٢) راجع : مصباح الفقيه ، كتاب الصلاة ، ص ٢٧٣.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٢٧٧.

١٢٣

حيث كونها من مصاديق الذكر ، وأما ترجمة الآيات التي هي من قبيل القصص فلا يجتزئ بها أصلا ، بل لا يجوز التلفّظ بها لكونها من الكلام المبطل (١).

وهذا إجماع من الإمامية : أن ترجمة القرآن ليست بقرآن. وفي ذلك أحاديث متظافرة عن النبيّ والأئمة الصادقين عليهم‌السلام :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تعلّموا القرآن بعربيّته».

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : «تعلّموا العربيّة ، فإنها كلام الله الّذي كلّم به خلقه ونطق به للماضين» (٢).

ولا يزال الفقهاء يفتون بالمسائل التالية :

١ ـ من لا يعرف قراءة الحمد ، يجب عليه التعلّم.

٢ ـ ومن تعذّر عليه تعلّمها استبدل من قراءتها ما تيسّر من سائر آيات القرآن.

٣ ـ ومن لم يتيسّر له ذلك أيضا يعوّض عنه بما يعرفه من أذكار وأدعية على قدر سورة الفاتحة (٣) ، بشرط أدائها بالعربية.

٤ ـ وإذا كانت الترجمة لا تصدق عليها عنوان الذكر أو الدعاء ، فغير جائزة البتة.

٥ ـ وإذا كانت من قبيل الدعاء والذكر فتجوز في الدرجة الثالثة ، بناء على جواز الدعاء بغير العربية في الصلاة ، وهو محلّ خلاف بين الفقهاء.

والخلاصة : أن فقهاء الإماميّة متّفقون على عدم إجراء أحكام القرآن ـ بصورة

__________________

(١) مصباح الفقيه ، كتاب الصلاة ، ص ٢٨٢.

(٢) راجع : وسائل الشيعة للشيخ حرّ العاملي ، ج ٤ ، ص ٨٦٥ ـ ٨٦٦ ، الباب (٣٠) من كتاب الصلاة ، رقم ١ و ٢.

(٣) الوسائل ، ج ٤ ، ص ٧٣٥.

١٢٤

عامة ـ على ترجمته ، بأيّة لغة كانت. ويوافقهم على هذا الرأي أصحاب سائر المذاهب من عدا أبي حنيفة وأصحابه ، فقد أجازوا في الصلاة قراءة ترجمة الفاتحة بالفارسيّة استنادا إلى ما روي : أنّ الفرس كتبوا إلى سلمان الفارسي رضى الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسيّة ، فكانوا يقرءون ذلك في صلاتهم ، حتى لانت ألسنتهم للعربية.

أما أبو حنيفة فقد أجاز ذلك مطلقا ، وأمّا صاحباه (أبو يوسف ومحمد) فقد أجازا لمن لا يحسن العربية (١). وكان الحبيب العجمي ـ صاحب الحسن البصري ـ يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسيّة ، لعدم انطلاق لسانه باللّغة العربية (٢).

وقد أفتى بالجواز ـ عند العجز ـ الشيخ محمّد بخيت ، مفتي الديار المصرية ـ سابقا ـ فتوى لأهل الترانسفال ، استنادا إلى فعلة الحبيب العجمي (٣) ، وسيأتي تفصيل ذلك مشروحا.

هذا ومن ناحية أخرى فإن الترجمة الحرفية (تحت اللفظية) تخون في التأدية ولا تفي بإفادة المعنى المراد في كثير من الأحيان ، إن لم تشوّه المعنى وتشوشه على أذهان القرّاء والمستمعين ، على ما سبق بعض الأمثلة على ذلك ، وسيأتي مزيد بيان.

وعليه فقد صحّ القول : بأن الترجمة الحرفية تذهب برواء الكلام ، فضلا عن بلاغته الأولى التي كانت من أهل دلائل الإعجاز في القرآن ، كما لم يصح إسناد

__________________

(١) راجع : المبسوط للسرخسي ، ج ١ ، ص ٣٧.

(٢) شرح مسلّم الثبوت ، بنقل المراغي شيخ الأزهر في رسالته (بحث عن ترجمة القرآن) ، ص ١٧.

(٣) الأدلة العلمية لفريد وجدي ، ص ٥٨.

١٢٥

الترجمة إلى صاحب الكلام الأوّل ، بعد تبديله إلى غيره لفظا وأسلوبا. وأخيرا فإنها تخون في تأدية المراد في كثير من الأحيان ، الأمر الذي يحتم ضرورة اجتنابها ، ولا سيما في مثل القرآن العظيم.

الترجمة المعنوية (التفسيريّة)

أما الترجمة المعنوية ـ الترجمة الحرّة غير المتقيدة بنظام الأصل ، إن دعت ضرورة الإيفاء بالمعنى إلى مخالفة النظم ـ فهو أمر معقول ، وتختلف عن الترجمة الحرفية بوفائها بتمام المراد ، وإن كانت توافقها في الأمرين الأوّلين (انتقاد دلائل الإعجاز والمميّزات اللفظية التي كانت في الأصل ، وعدم إجراء أحكام القرآن عليه) أما الوفاء بالمعنى تماما فهو الأمر الذي يختص به هذا النوع من الترجمة الحرّة ، على شريطة الدقّة والإحاطة ، بتمام جهات المعنى المقصودة من الكلام.

وصاحب هذا النوع من الترجمة إنّما يقوم بعملية إيفاء المعنى وبيان مقصود الكلام ، وهو نوع من الشرح والتفسير ، ولكن في قالب لفظي متناسب مع الأصل مهما أمكن ، فهو في الغالب (بل الأكثرية الساحقة) متوافق مع الأصل في النظم والترتيب وحتى في الأسلوب البياني ، إن أمكن ذلك ، وكانت اللغة المترجمة إليها متقاربة مع اللغة المترجم عنها في تلكم المصطلحات وفنون المحاورة غالبا. والمعهود أن لغات الأمم المتجاورة ، قريبات بعضهنّ مع البعض في آفاق التعبير والبيان.

والترجمة المعنوية ، هي الراجحة والمتداولة في الأوساط العلمية والأدبية ، منذ عهد سحيق ، وهي الوسيلة الناجحة لبثّ الدعوة بين الملأ على مختلف لغاتهم وألسنتهم ، وقد جرت عليها سيرة المسلمين ولا تزال قائمة على ساق.

١٢٦

ولا شك أن عرض مفاهيم القرآن وحقائقه الناصعة ، على ذوي الأحلام الراجحة من سائر الأمم ، من أنجح الوسائل في أداء رسالة الله إلى الخلق ، التي تحمّلتها عواتق هذه الأمة (١) ، الأمر الذي لا يمكن إلّا بتبيين وترجمة النصوص الإسلامية ـ كتابا وسنة ـ وعرضها بألسن الأمم ولغاتهم المألوفة (٢). ومن ثم كانت ترجمة القرآن ترجمة صحيحة ، ضرورة دعائية يستدعيها صميم الإسلام وواقع القرآن ، حسبما يأتي.

المنع من الترجمة وأخطارها

لم تسبق من علماء الإسلام نظرة منع من ترجمة القرآن ، بعد أن كانت ضرورة دعائية ، لمسها دعاة الإسلام من أوّل يومه. وإنما حدث القول بعدم الجواز في عصر متأخّر (في القرن الماضي ، في تركيا العثمانية ، وفي مقاطعاتها العربية ، مثل سوريا ومصر) ولعلها فكرة استعمارية تبشيريّة ، محاولة لشدّ حصار قلعة الإسلام ، دون نشره وبثّ تعاليم الإسلام ، في المناطق غير العربية.

قال الدكتور علي شواخ : فلو تدبّرنا وتعمّقنا لوجدنا أنّ القول بالمنع عاصر فتوى النصارى الغربيّين واستعمارهم لبلاد الإسلام ، فقد حاولوا تنصير المسلمين بكل وسيلة ، ولم يكتفوا بإرسال المبشّرين في شتّى الملابس ، بل منعوا أيضا تدريس اللغة العربية حتى في المستعمرات العربيّة مثل شمال إفريقيّة. والظاهر أنهم ارادوا إتمام حصار قلعة الإسلام بمنع تراجم القرآن بلغات أجنبيّة ، فالمسلمون غير العرب لا يعرفون العربية ، ولن يجدوا تراجم القرآن بلغات

__________________

(١) البقرة / ١٤٣.

(٢) إبراهيم / ٤.

١٢٧

يعرفونها ، فتبقى الساحة فارغة للديانات الأخرى. قال أحد المبشّرين (وبتعبير أصحّ : أحد المنصّرين) لبعض علماء الإسلام الساذجين : «القرآن معجزة حقّا ، لا تتحمّل بلاغته الترجمة!». فوثب هذا العالم الساذج ـ لشدّة السرور ـ وقال : «الفضل ما شهدت به الأعداء!» وخطب وكتب : «القرآن تصعب أو تستحيل ترجمته» ، وتبعه آخرون ، وفي الخطوة الثانية قالوا : «القرآن لا تجوز ترجمته».

ولكن الإنسان يدبّر ، والله يقدّر. فالنصارى الذين دسّوا هذه الفكرة ، ظنّوا أنّ العرب سوف لا يقومون بترجمة القرآن ، ولقد صدق ظنّهم بشأن العرب. أما سائر المسلمين من غير العرب ، فإن التاريخ يشهد بأنهم اهتمّوا بهذا الأمر ، فقاموا بالترجمة إلى لغاتهم على يد علماء كانوا عارفين بالعربيّة ، فترجموه إلى لغاتهم لتدريس أبنائهم وعامّة أهل بلادهم الذين لم يدرسوا العربيّة (١).

قال الدكتور شواخ : وهكذا يتّضح لنا ، أنّ الحركة ضد ترجمة القرآن إلى سائر اللغات ، انحصرت في بلاد العرب ، وبالدولة العثمانية خاصّة! (٢) وعلى هذا الغرار ساق الأستاذ الشاطر ـ رأس المعارضين ـ أدلّة في المنع عن الترجمة ، وذكر أخطارا سوف تتّجه نحو حامية الإسلام الحصينة (القرآن الكريم) إن أصبح عرضة للترجمة إلى لغات أجنبيّة ، نذكر أهمها :

١ ـ يقول : إن الترجمة تضيع بالقرآن ، كما ضاعت التوراة والإنجيل من جرّاء ترجمتهما إلى غير لغتهما الأصل ، فقد ضاع الأصل بضياع لغته وضياع الناطقين بها. فيخشى أن يحلّ بالقرآن ـ لا سمح الله ـ لو ترجم إلى غير لغته ، ما حلّ بأخويه

__________________

(١) وسيوافيك ـ في نهاية المقال ـ جدول عن مائة وثماني عشرة لغة حيّة ترجم القرآن إليها ، على يد أبنائها الغيارى على الإسلام ، ولا تزال تتزايد مع اتساع رقعة الزمان.

(٢) معجم مصنفات القرآن الكريم للدكتور علي شواخ إسحاق ، ج ٢ ، ص ١٣.

١٢٨

من ذي قبل! (١)

قلت : هذا قياس مع الفارق ؛ إذ السبب في ضياع التوراة وكذا الإنجيل ، إنّما يعود إلى إخفاء الأصل عن العامة وإبداء تراجمهما المحرّفة للناس ، لغرض التمويه عليهم. كان الأحبار والقساوسة يدأبون في تحريف تعاليم العهدين تحريفا في معاني الكلم دون نصّ اللّفظ ؛ إذ لم يكن ذلك بمقدورهم ، فعمدوا إلى تفسيرهما على غير وجهه ، وإبداء ذلك إلى الملأ باسم التعاليم الإلهية الأصيلة.

قال تعالى ـ بشأن التوراة ـ : (الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ...)(٢) ، أي تبدون منه مواضع وتخفون أكثره.

وقد أسبقنا ـ في مسألة تحريف الكتاب ـ أنّ التحريف في العهدين إنّما يعني التحريف في معناهما ؛ أي التفسير على غير وجهه ، الأمر الذي حصل في تراجم العهدين دون نصّهما.

قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)(٣) وقال : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤).

فالكارثة كل الكارثة إنما هي في إخفاء نصّ العهدين الأصليين عن أعين الناس ، وهذا هو السبب الوحيد لضياعهما ، دون مجرد ترجمتهما.

__________________

(١) القول السديد ، ص ١٥ ـ ١٦.

(٢) الأنعام / ٩١.

(٣) المائدة / ٦٨.

(٤) آل عمران / ٩٣.

١٢٩

أما القرآن فهو الكتاب الذي يتعاهده المسلمون جيلا بعد جيل ، بل العالم كله من مسلم معتقد وآخر محقق مضطلع ، يحرسون على نصّ القرآن العزيز ، وقد قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١) ، أي في صدور الرجال وعلى أيدي الناس ، الأولياء والأعداء جميعا ، معجزة قرآنية خالدة.

٢ ـ يقع ـ بطبيعة الحال ـ اختلاف بين التراجم ؛ لاختلاف السلائق بل العقائد التي يذهب إليها كل مذهب من المذاهب ، وكذا اختلاف المواهب والاستعدادات في فهم معاني القرآن وترجمتها وفق الأفهام والآراء المتضاربة ؛ ولهذا الاختلاف في تراجم القرآن آثار سيّئة ؛ إذ يستتبعها اختلاف الاستفادة واستنباط الأحكام والآداب الشرعية ، وكل قوم من الأقوام إنّما يرتئي حسب ما فهم من الترجمة التي أتيحت له ، وربّما لا يدري مدى اختلافها مع سائر التراجم (٢).

لكن هذا خروج عن مفروض الكلام ، فإن للترجمة ضوابط يجب مراعاتها ، ولا سيما ترجمة القرآن الكريم ، يجب أن تكون تحت إشراف لجنة رسميّة ، ومن هيئة علماء وأدباء اختصاصيّين برعاية حكومة إسلامية قاهرة ، لا تدع مجالا لتناوش أيدي الأجانب فيجعلوا القرآن عضين ، كما هو الشأن في رسم خط المصحف الشريف ، وطباعته على أصول مقرّرة ، تحفظه عن الاختلاف والاضطراب.

نعم يجب أن يعلم كل الأمم الإسلامية ، أنّ الترجمة لا تضمن واقع القرآن ، وأنّ المصدر للاستنباط واستخراج الأحكام والسنن للمجتهدين هو نص القرآن

__________________

(١) الحجر / ٩.

(٢) محمد مصطفى الشاطر في «القول السديد في حكم ترجمة القرآن المجيد» ، ص ١٧ ـ ١٨.

١٣٠

الأصل ، ليس ما سواه. هذا أمر يجب الإعلان به ، فلا يذهب وهم الواهمين إلى حيث لا ينبغي.

نعم ، على كل محقق إسلامي أن يتعلّم القرآن بلغته العربية الفصحى ، وليست الترجمة بذاتها لتفي بمقصوده أو تشبع نهمه.

٣ ـ أنّ للقرآن في كثير من آياته حقائق غامضة ، قد تخفى على كثير من العلماء ، وقد يعلمها غيرهم ممن جاء بعدهم ؛ ولذلك أمثلة كثيرة. فلو ترجمنا القرآن وفق معلومنا اليوم ، ثم جاء الغد ليرتفع مستوى العلوم وينكشف من حقائق القرآن ما كان خافيا علينا ، فهل نخطّئ أنفسنا بالعلانية ونغيّر الترجمة ونعلن للملإ ، أن الذي ترجمناه أمس أصبح خطأ ، وأن الصحيح غيره.

فما ذا يقول لنا الناس؟ وما الذي يضمن بقاء ثقتهم اليوم كثقتهم بالأمس؟ ثم ضرب لذلك أمثلة :

١ ـ منها : قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)(١) فسّر القدامى «الزوجين» بالصنفين. ثم جاء العلم الحديث ليكشف النقاب عن المعنى الصحيح ، وهو أنّ كلّ ثمرة فيها ذكر وأنثى (٢).

قال : فلو حصلت الترجمة وفق التفسير الأول لأضاعت على قارئيها تلك الحقيقة التي أظهرها العلم الحديث!

__________________

(١) الرعد / ٣.

(٢) وللآيات التي يذكرها معاني أخر أوفى سوف نتعرّض لها ، ولقد اشتبه على الأستاذ الشاطر مواضع كثيرة من هذه الآيات ، فتنبّه.

١٣١

٢ ـ ومنها : قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ)(١). فقد فسّر «تثير» بمعنى «تسوق» ، وبذلك قد ضاع المعنى البديع الذي أصبح معجزة للقرآن. وهو أنّ لفظ «تثير» من الإثارة وهو التهييج ، نظير تهييج الغبار والدخان ، وهذا مبدأ «عملية التبخير» وتكوين الأمطار. فإنّ التبخير يحصل من الحرارة المركزيّة والحرارة الجوية والريح ، أي لا بدّ من هذه العوامل الثلاثة لتكوين «عملية التبخير» ، ثم بعد ذلك تحمل الرياح هذا البخار إلى حيث شاء الله ، وهذا المعنى لم يظهر إلّا حديثا.

٣ ـ ومنها : قوله تعالى : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ)(٢). فسّروا «الأوتاد» بكثرة الجنود ، أو أنها كانت مسامير أربعة كان يعذّب الناس بها. وقد تبيّن الآن أن المراد هي هذه الأهرام وهي تشبه الجبال ، وقد عبّر القرآن عن الجبال بالأوتاد في قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً)(٣).

٤ ـ ومنها : قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)(٤). فسّر «الدحو» بعض المفسرين بالبسط. فلو ترجم إلى هذا المعنى ضاع المعنى الذي يؤخذ من «الدحو» ، وهو التكوير غير التام ، كتكوير البيضة مع الدوران. ولا يزال أهل الصعيد ـ وأصل أكثرهم عرب ـ يعبّرون عن «البيض» بالدحو أو الدحى أو الدح.

__________________

(١) فاطر / ٩.

(٢) الفجر / ١٠.

(٣) النبأ / ٧.

(٤) النازعات / ٣٠.

١٣٢

٥ ـ وكذلك إذا ترجم قوله تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ)(١) بما يقوله بعض المفسرين (٢) ، ذهب المعنى المستفاد من الآية ، وهو كرويّة الأرض ؛ لأنّ تكوير الضوء أو تقوّسه يستلزم تكوير المضاء وتقوّسه ؛ لأنّ النور والظلمة إنما يتشكّلان بأشكال الجسم الواقعين عليه. فلو ترجمت الآية بذلك المعنى (التغشية) ثم دلّتنا الأدلة على صحة المعنى الثاني ، لكنّا قد خسرنا معجزة من معجزات القرآن.

قال الأستاذ الشاطر : إني لأخشى أن ينطبق علينا الحديث الشريف : «لتتّبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ خرب لاتّبعتموهم.

قيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟!» (٣)

دفاع حاسم

ولقد أحسن الأستاذ محمد فريد وجدي الدفاع عن «مشروع ترجمة القرآن إلى اللّغات الأجنبيّة» وأجاب عن اعتراض الأستاذ (الشاطر) قائلا : نحن نعتقد أنّ القرآن كتاب لا تنقضي عجائبه ولا يدرك غوره ، كما يعتقد الأستاذ (الشاطر) ولكنّا لا نذهب بالغلوّ في هذا المعنى إلى درجة التعطيل ، واعتباره طلسما تضلّ العقول في فهمه ، ولا تصل منه إلى حقيقة ثابتة. فإنّ هذا الفهم يصطدم بالقرآن نفسه ، فقد وصفه في غير آية بأنه آيات بيّنات ، وبأنه منزل ليتدبّر الناس هذه الآيات ، حتى

__________________

(١) الزمر / ٥.

(٢) فسروا «التكوير» بمعنى التغشية.

(٣) أخرجه مسلم ، ج ٨ ، ص ٥٧. راجع القول السديد ، ص ٢١ ـ ٢٦.

١٣٣

قال : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(١) ، أي سهّلناه للاتّعاظ. وكرّرت هذه الآية أربع مرات في سورة واحدة! فلا يجوز أن ندّعي أنّ ما يسّره الله للتذكّر والاتعاظ ، معمّى لا يمكن فكّه ، وطلسم لا يستطاع حلّه.

نعم إنّ المفسّرين بعد القرنين الأوّلين تذرّعوا بالفنون الآليّة التي وضعوها لضبط قواعد اللّغة ، من : نحو وبيان وبديع ومعاني ، إلى زيادة التعمّق في تمحيص الآيات لهذا السبب ـ وأكثر هذا التعدّد آلي محض ـ ولكن المعاني لم تخرج قطّ عن دائرة الفهم ، فلم يدّع أحد أنّ القرآن لم يفهم في عصر من العصور ، ولا سيما الآيات المحكمات. وكيف يمكن أن يقال : إنّ محكمات القرآن لم تفهم على حقيقتها ، وقد انبنى عليها الدين كله عقائده وعباداته ومعاملاته؟!

فاللّجنة التي ستدّعي لترجمة القرآن ستنظر في المعاني التي قرّرها أئمة التفسير ، فإن آنسوا في بعضها ـ خلافا بينهم ـ عمدوا إلى اختيار ما رضيه جمهورهم ، مشيرين في الهامش إلى بقية الاحتمالات ؛ فتكون الترجمة قد استوعبت جميع الآراء.

هذا في آيات العقائد والعبادات والمعاملات. وأمّا الآيات الكونية والتاريخية والمتشابهات ، فإنّ اللجنة ستترجم معانيها على ما يحتمله اللّفظ العربيّ ، ولا تتعرّض لشرحها ، فمثل قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ...) مثل هذه الآية تتولّاها لجنة التفسير فتعطي معناها الصحيح للجنة الترجمة لتترجمه ، دون أن تتعرّض ـ هذه الأخيرة ـ لما تشير إليه الألفاظ من الدلالات العلمية. ولكنها تجتهد في ترجمة كلمة «تثير» مثلا لتكون واجدة لجميع

__________________

(١) القمر / ١٧ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٤٠.

١٣٤

خصائصها اللّغويّة (١) ، تاركة دلالاتها العلمية إلى عقول القارئين ، تفاديا من الوقوع في مثل هذا الخطأ الكبير الذي وقع فيه الأستاذ (الشاطر) في هذا الموطن نفسه (٢) ، وحفظا للقرآن الكريم مما عسى أن يرجع عنه العلم من مقرّراته الحاليّة ، وهو دائم التغيّر بطبيعته.

قال : وهنا يسوغ لنا أن نقول : إذا جرينا على مذهب الأستاذ الشاطر في تفسير الآيات وترجمتها ، ثم رجع العلم عن رأيه الأوّل ، أنعيد إذ ذاك ترجمة القرآن ، أم نترك الترجمة على خطائها. ولكن الترجمة على الأسلوب الذي ذكرناه فلا تجعل محلا لمثل هذا الندم ؛ لأن الكلمة قد تبدّلت إلى ما يرادفها في الإفادة ، من دون التعرّض للشرح والبيان ، تاركين ذلك إلى فهم القرّاء ، كما هو الحال بالنسبة إلى الكلمة في موضعها من القرآن (٣).

وأمّا الآيات التي استشهد بها ، فأظنّه مشتبها فيها ، فضلا عن أنّ الاختلاف في الترجمة لا يزيد خطرا عن الاختلاف في التفسير الذي لا محيص عنه البتة.

وقد تعرّض الأستاذ وجدي لبيان الآيات على وجه يخالف رأي الأستاذ الشاطر ، نذكرها على الترتيب :

أما الآية الأولى التي قال فيها : لكن العلم الحديث كشف لنا أنّ كل ثمرة فيها ذكر وأنثى.

__________________

(١) وقد جاءت ترجمة كلمة «تثير» في التراجم الفارسية ب «بر مى انگيزد» ، لأن معنى «الإثارة» بالفارسية «برانگيختن». وهي تنطبق مع الكلمة في العربية تماما.

(٢) سنذكر مواضع اشتباهه.

(٣) راجع : الأدلّة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن ، بقلم الأستاذ وجدي ، ص ٢٨ ـ ٣٠ ، (ملحق العدد الثاني من مجلّة الأزهر ، ع ١ / ١٣٥٥)

١٣٥

فقال الأستاذ وجدي : هذا خطأ ؛ إذ الثمار ليس فيها ذكر ولا أنثى على الإطلاق ، نعم إنّ الذكورة والأنوثة من أعضاء الأزهار لا الأثمار. فقد يكون هناك عضوان ذكر وأنثى في زهرة واحدة ، وقد يكونان في زهرتين من نفس الشجرة ، أو في زهور شجرتين مستقلّتين. وهذا اللّقاح النباتي كان معروفا منذ أقدم العصور ، حتى أنّ عرب الجاهلية كانوا يعرفونه ، فكانوا يلقّحون إناث النخيل بالطلع المستخرج من ذكورها.

إذن فلم يكن هذا المعنى خافيا على المفسرين القدامى ، ومن ثم أخذوا الآية حسب مفهومها الظاهر اللغوي ، وهو الصحيح ، بعد ملاحظة آية أخرى جاء فيها وصف الجنّتين اللّتين وعد الله بهما المتّقين ، قال تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ)(١) ولا يمكن صرف هذه الآية بحال من الأحوال إلى المعنى الذي أراده الأستاذ (الشاطر).

والآية الثانية ، التي جعل لفظة «تثير» فيها إشارة إلى «عملية التبخير» بفعل الحرارة والرياح ، فالمعروف في علم الطبيعة أنّ عملية التبخير ـ في المياه والرطوبات ـ إنما تقوم على فعل الحرارة المركزيّة للأرض ، والحرارة الجوّية للشمس ، أمّا الرياح فلا دور لها في ذلك ، ولم يقل به أحد من العلماء.

وقد كان العلماء منذ خمسمائة عام قبل ميلاد المسيح عليه‌السلام يعرفون تكوّن الأبخرة الأرضية ، التي هي المؤلّفة للسحب. وهذه كتب الطبيعيات القديمة شاهدة بذلك ، وليس أمرا اكتشفه العلم حديثا.

والآية الثالثة ـ التي زعم «الأوتاد» فيها هي الأهرام ـ فلا يمكن المصادقة عليه ، بعد أن كان السبب في إطلاق «الوتد» على الجبل باعتبار تأثيره في ضبط الأرض

__________________

(١) الرحمن / ٥٢.

١٣٦

عن الميدان وعن التفتّت والاندثار ، الأمر الذي يرجع إلى ضخامته وصلابته ، مما لا تناسب بينه وبين أكبر هرم من أهرام مصر ، الذي يبلغ ارتفاعه مائة وخمسين مترا ، وطول قاعدته عن ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين مترا. فأين ذلك من جبل «هماليا» الذي يزيد ارتفاعه عن ثمانية آلاف متر وثمانمائة متر ، ويشغل شمالي الهند كله. أو جبال أنده في أمريكا الجنوبية التي يبلغ طول قاعتها نحو سبعة آلاف كيلومترا ، وارتفاعها بضعة آلاف متر. لا جرم كان أطول الأهرام لا يساوي أصغر تلال الأرض ، فلا يتناسب والإطلاق وتد الأرض عليه ؛ إذ لا مناسبة حينذاك. على أنّ «الأهرام» هي قبور فراعنة مصر ممن سبقوا فرعون موسى نحو ثلاثة آلاف عام ، ولم يكن هذا الأخير ممن شيّدها ، فكيف يصحّ نسبتها إليه؟!

والآية الرابعة ، وكذا الخامسة ، فإنّ الذي ذكره احتمال ، لا نستبعد إمكان الدّلالة عليه إجمالا ، لكن ليس من الحتم ، فهو احتمال كسائر الاحتمالات التي تحتملها جلّ آيات الذكر الحكيم ، كما قال علي عليه‌السلام : «القرآن حمّال ذو وجوه» ، لكن لا يرتبط الأمر وقضيّة إمكان الترجمة بشكل يبقى احتمالات اللفظ على حالها في الترجمة ، كما هي في الأصل.

وعلى أيّة حال فليست الترجمة بذاتها مما يتنافى واحتمالات لفظ القرآن ، إن كانت الترجمة ـ كما ذكره الأستاذ وجدي (١) ـ قائمة على أصولها حسبما عرفت.

الترجمة من الوجهة الشرعيّة

سبق أنّ الغاية من الترجمة هي الإيفاء بمفاهيم القرآن وإيضاح ما يحويه هذا الكتاب السماويّ الخالد ، إيضاحا بسائر اللّغات لسائر الأمم ، تقريبا لهم إلى تعاليم

__________________

(١) راجع : الأدلة العلمية ، ص ٣١ ـ ٣٥.

١٣٧

القرآن وآداب الإسلام وأحكامه وسننه ، الأمر الذي لا بأس به ـ فضلا عن كونه من ضرورة الدعاء إلى الإسلام ـ ما دام لا تعتبر الترجمة قرآنا ، بل ترجمة له محضا. فلا تشملها أحكام القرآن الخاصة به ، وإنما شأنها شأن التفسير الذي وضع على أساس الإيجاز والإيفاء حسب المستطاع.

وأما الحديث المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تعلّموا القرآن بعربيّته» ، فإنّما هو حثّ على تعلّم العربيّة ؛ حيث عبادات الإسلام عربيّة ، وعلى كل مسلم أن يتقنها مهما أمكن. قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «تعلّموا العربية فإنها كلام الله الذي كلم به خلقه ونطق به للماضين» وروى ابن فهد الحلي في «عدّة الداعي ص ١٨» عن الإمام الجواد عليه‌السلام ، قال : ما استوى رجلان في حسب ودين قطّ إلّا كان أفضلهما عند الله ـ عزوجل ـ أأدبهما. قال الراوي : قلت : قد علمت فضله عند الناس في النادي والمجلس ، فما فضله عند الله؟ قال عليه‌السلام : بقراءة القرآن كما أنزل ، ودعائه من حيث لا يلحن ؛ وذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله.

هذا إن أريد قراءة القرآن ذاته ، وليس نهيا عن تفسيره أو ترجمته بغير لغة العرب إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، كما نبّهنا. ومع ذلك فقد أجيز القراءة بلحن غير عربي لمن يتعذر عليه التلهّج بلهجة العرب. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الرجل الأعجمي من أمّتي ليقرأ القرآن بعجميّته ، فترفعه الملائكة على عربيّته» (١).

وثائق شرعيّة

لم يبحث علماؤنا السلف رحمهم‌الله عن مسألة «ترجمة القرآن إلى سائر اللغات» بحثا مستوفى يشمل جوانب المسألة وفي تمام أبعادها بتفصيل ، وإنما جاء

__________________

(١) الأحاديث مستخرجة من كتاب الوسائل ، ج ٤ ، ص ٨٦٦.

١٣٨

كلامهم عن الترجمة عرضا عند التكلّم في شروط القراءة في الصلاة. ويبدو من كلماتهم هناك : أنّ الترجمة في حدّ ذاتها لا ضير فيها ، ومن ثم وقع البحث منهم في جواز قراءتها في الصلاة بدلا عن الفاتحة بحثا ثانويا ، مفروغا عن جواز أصل الترجمة ذاتها.

كما أنه في طول حياة المسلمين ، قام رجال من أهل الفضيلة والأدب بترجمة القرآن ، تماما أو بعض آية وسورة ، عرضا على أناس كانوا لا يحسنون العربية (١) ، وكان ذلك بمرأى ومسمع من فقهاء الإسلام من غير نكير منهم ، مما ينبؤك عن تسالمهم على الجواز ، ولا سيما للهدف المذكور.

نعم صدرت ـ أخيرا ـ فتاوي بشأن جواز الترجمة ، وكتب كثيرون حول المسألة ، نقضا وإبراما. أما الفقهاء فقد توافقوا على الجواز ، بشروط ذكروها ، وقد نوّهنا عن طرف منها. ونورد هنا بعضا من تلك النظرات والآراء :

فتوى الحجة كاشف الغطاء

جاء فيما كتبه سماحة الحجة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ـ تغمّده الله برحمته ـ جوابا على استفتاء الأستاذ عبد الرحيم محمد علي ، بشأن جواز ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبيّة ـ ما نصّه ـ :

«إذا أمعنّا النظر في هذه القضيّة نجد أن إعجاز القرآن الذي أدهش العلماء ، بل وأدهش العالم ، يرجع إلى أمرين : فصاحة المباني إلى فصاحة الألفاظ ، وبلاغة الأساليب والتراكيب. والثاني قوّة المعاني. وما في القرآن من التشريع البديع والوضع الرفيع ، والأحكام الجامعة في صلاح البشر عامّة من العبادات والاجتماعيّات ، يعني من أوّل كتاب الطهارة إلى الحدود والديات ، بعد العقائد

__________________

(١) سوف نوفي لك عن تراجم عقيدة قام بها رجالات الإسلام منذ عهد قديم.

١٣٩

المبرهنة في التوحيد والنبوّة والمعاد. وبالجملة فقد تكفل القرآن بصلاح عامّة البشر معاشهم ومعادهم بما لم يأت بمثله أيّ كتاب سماويّ ، وأيّ شريعة من الشرائع السابقة. ولا شك أنّ الترجمة مهما كانت من القوّة والبلاغة في اللّغة الأجنبيّة فإنها لا تقدر على الإتيان بها بلسان آخر ، مهما كان المترجم قويّا ماهرا في كلتا اللّغتين العربيّة والأجنبيّة. فإذا صحّت الترجمة ولم يكن فيها أيّ تغيير وتحريف ، فهي جائزة ، بل نقلها واجب على المقتدر فردا كان أو جماعة ؛ لأنّ فيها أبلغ دعوة للإسلام ودعاية للدّين ، ويشمله قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)(١) وأيّ خير أهم وأعظم من الدعوة إلى الإسلام! ولم تزل ترجمة القرآن باللّغة الفارسيّة شائعة من زمن قديم ، ولم يذكّر أحد من علمائنا الأفاضل رحمهم‌الله المنع عنها ، وإذا جاز بالفارسيّة جاز بغيرها قطعا. وبهذا البيان لا حاجة إلى التمسّك بأصالة الإباحة ونحوها ، فإن الأمر أوضح وأصحّ وأجلى من أن يحتاج إلى دليل أو أصل أصيل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل» (٢).

نظرة الإمام الخوئي

لسيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ دام ظله ـ نظرة وافية بشأن ترجمة القرآن إلى سائر اللغات ، ذكرها في ملحق كتابه «البيان» مع إشارة إجمالية إلى شروطها الأوّلية ، وإليك نصّها :

«لقد بعث الله نبيّه لهداية الناس فعزّزه بالقرآن ، وفيه كل ما يسعدهم ويرقى بهم إلى مراتب الكمال. وهذا لطف من الله لا يختصّ بقوم دون آخر ، بل يعمّ

__________________

(١) آل عمران / ١٠٤.

(٢) نقلا عن رسالة «القرآن والترجمة» بقلم الأستاذ عبد الرحيم ، ص ٣ ـ ٤ ، طبعة النجف الأشرف ، ١٣٧٥ ه‍. ق.

١٤٠