التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

أما الفقيه النابه فيستفيد من الآية شيئا أوسع ، يشمل كل ضرورات الدولة القائمة على أساس العدل ، وإحياء كلمة الله في الأرض ؛ فيجب بذل المال في سبيل تثبيت دعائم الحكم العادل والتشييد من مبانيه ، فيجب دفع الضرائب الماليّة حسبما يقرّره النظام ، مستفادا من الآية الكريمة في باطن فحواها ، أخذا بالتأويل حسب المصطلح.

وهكذا المستفاد من آية خمس الغنائم ، وجوب دفع الخمس في مطلق الفوائد وأرباح المكاسب ، حسبما فهمه الإمام الصادق عليه‌السلام من الآية ، أخذا بعموم الموصول ، وإطلاق الغنيمة على مطلق الفائدة.

وفي القرآن من هذا القبيل الشيء الكثير ، الأمر الذي ضمن للقرآن بقاءه مع الخلود.

وجهة أخرى : إنّ للقرآن لغته الخاصة به ، شأن كل صاحب اصطلاح ، فللقرآن اصطلاحه الخاص ، يستعمل ألفاظا وتعابير في معان أرادها بالذات ، من غير أن يكون في اللغة أو في سائر الأعراف دليل يدلّ عليه ؛ لأنه من اصطلاحه الخاص ولا يعرف إلّا من قبله. ومن ثمّ كان القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، كما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

إنّ في القرآن تعابير كثيرة لا تكاد تدرك معانيها إلّا إذا سبرت القرآن سبرا وفحصته فحصا ، لتعرف مفاهيمها التي اصطلح عليها القرآن من القرآن ذاته ، وليس من غيره إطلاقا.

هكذا ذهب سيدنا العلّامة الطباطبائي قدس‌سره إلى أنّ الدلالة على مفاهيم القرآن ،

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة رقم ١٣٣.

١٠١

إنما هي من ذات القرآن ، وليس من خارجه أبدا ، لأنه تبيان لكل شيء ، وحاشاه أن لا يكون تبيانا لنفسه ، فإن القرآن يفسّر بعضه بعضا. وهذا هو أصل التفسير المعتمد ، وقد بنى تفسيره في الميزان على هذا الأساس (١).

مثلا : لفظة «الإذن» في الاستعمال القرآني ، جاء بمعنى : إمكان التداوم في التأثير الحاصل وفق مشيئة الله وإرادته الخاصّة ، أي تداوم الإفاضة من قبله تعالى ؛ حيث التأثير في عالم التكوين ، موقوف على إذنه تعالى ، بأن يفيض على عامل التأثير خاصيّته التأثيرية ؛ حالة التأثير ، أي يديمها ولا يقطع إفاضته عليه حينذاك ، وإلّا لما أمكن لعامل التأثير أن يؤثّر شيئا (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢) تلك إرادته تعالى الحادثة ، هي التي أمكنت للأشياء تأثيرها وتأثّرها في عالم الطبيعة ، ولولاها لما أمكن لعامل طبيعي أن يؤثر شيئا في عالم الوجود ، وهذا هو المراد من تداوم إفاضته تعالى في عالم التكوين.

قال تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(٣) فلو لا إذنه تعالى ، أي تداوم إفاضة ـ إمكان التأثير من قبله تعالى ـ لما أمكن لسحرهم أن يؤثر شيئا.

وذلك نظرا لأن عوامل التأثير في عالم الوجود ، إنما هي متأثّرة ـ في إمكان تأثيرها ـ بتأثيره تعالى ؛ إذ لا مؤثّر في الوجود إلّا الله ؛ حيث الممكنات بأسرها فقيرات في ذوات أنفسها ، فكما أنها بذاتها محتاجة إلى إفاضة الوجود عليها ، كذلك أثرها في عالم الطبيعة أمر ممكن ، ومحتاج لإفاضة الوجود عليه. ففور إرادة التأثير يجب تداوم إفاضة إمكان التأثير عليه حتى يتمكّن من التأثير (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ

__________________

(١) راجع : مقدمة التفسير ، ج ١ ، ص ٩.

(٢) التكوير / ٢٩.

(٣) البقرة / ١٠٢.

١٠٢

يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)(١) أي بإمكان التأثير الحاصل من قبله تعالى.

وهذا هو معنى «الإذن» في التكوين ، حسب المصطلح القرآني ، مستفادا من قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(٢).

وقد دأب القرآن على إسناد الأفعال الصادرة في عالم الوجود كلها إلى الله ، سواء أكان فاعلها فاعلا إراديا كالإنسان والحيوان ، أم غير إرادي كالشمس والقمر ، وليس ذلك إلّا من جهة أنه المؤثّر في تحقّق الأفعال مهما كانت ، اختيارية أم غير اختيارية. إنه تعالى هو الذي أقدر الأشياء على فعل الأفعال ، وأمدّهم بالقوى ، وأفاض عليهم الإقدار بصورة مستديمة.

قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٣) أي انقلبت أهواؤهم وأبصارهم ، وهم الذين أوجبوا هذا القلب.

وهكذا قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)(٤) بدليل قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ. بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٥).

قال تعالى : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ)(٦) أي تتقلّب أجسادهم ذات اليمين وذات الشمال ، غير أن هذا التقلّب كان بإذنه تعالى ؛ فصحّ إسناد الفعل

__________________

(١) الأعراف / ٥٨.

(٢) الإنسان / ٣٠.

(٣) الأنعام / ١١٠.

(٤) البقرة / ٧.

(٥) البقرة / ٨٨.

(٦) الكهف / ١٨.

١٠٣

إليه.

ولفظة «القلب» في القرآن الكريم ، يعني : شخصيّة الإنسان الباطنة ، وراء شخصيّته هذه الظاهرة ، وهي التي كانت منبعث إدراكاته النبيلة ، وأحاسيسه الكبرى الرفيعة ، المتناسبة مع شخصيته الإنسانية الكريمة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢).

المراد ب «القلب» في هذه الآية ، هي شخصيّة الإنسان الكريمة إذا ما تمرّد الإنسان على قوانين الشريعة ، فإنه يصبح بهيمة لا يعرف من الإنسانية شيئا (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(٣).

ولفظة «المشيئة» في القرآن ، مصطلح خاص يراد بها الإرادة الحادثة المنبعثة عن مقام حكمته تعالى ، وليست مطلق الإرادة.

فقوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤).

كان المقصود : المشيئة وفق الحكمة ، فيؤتى الملك من اقتضت حكمته

__________________

(١) ق / ٣٧.

(٢) الأنفال / ٢٤.

(٣) الحشر / ١٩.

(٤) آل عمران / ٢٦.

١٠٤

تعالى ، وينزع الملك ممن اقتضت حكمته.

وهكذا (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ)(١) ، أي من تقتضيه حكمتنا أن نرفعه ، أي من كانت المقتضيات متوفرة في ذات نفسه ، فالاقتضاء إنما هو في ذاته ، فهو محل صالح لهذه العناية الربانية ، وليس اعتباطا أو ترجيحا من غير مرجّح ؛ حيث الحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها.

والدليل على ذلك ، تذييل الآية بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فالحكيم لا يشاء شيئا إلّا ما كان وفق حكمته ، وليس مطلق المشيئة.

والتعابير من هذا القبيل كثيرة في القرآن ، وإنما هي مصطلحات قرآنية ، لا تعرف إلّا من قبله ؛ ليكون القرآن هو الذي يفسّر بعضه بعضا.

ومن المصطلح المتعارف في القرآن ، اعتماده المعهود من قرائن حاليّة ، ليصدر أحكاما في صورة قضايا خارجية ـ إشارة إلى المعهود الحاضر حال الخطاب ـ وليست بقضايا حقيقيّة ، حتى تكون الأحكام مترتبة على الموضوعات ، متى وجدت وأين وجدت. هذه الظاهرة كثيرة الدور في القرآن الكريم ، وربما زعم زاعم أنّها قضايا حقيقية دائمة ، وليست كذلك.

مثلا قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى. ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(٢).

ليس المراد مطلق اليهود ، سواء من عاصر نبيّ الإسلام أم غيرهم ، ولا مطلق

__________________

(١) الأنعام / ٨٣.

(٢) المائدة / ٨٢.

١٠٥

من أشرك ، ولا مطلق النصارى بل يهود يثرب ممن عاصر نبي الإسلام ، ومشركو قريش ، ونصارى نجران ، وقيل : وفد النجاشي ذلك العهد ؛ لأنها حكاية عن أمّة ماضية أسلم من أسلم منهم ، وعاند من عاند.

فقد جاء تعقيب الآية بقوله : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) ـ يعني بهم اليهود والمشركين ـ (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١).

وهذا نظير قوله تعالى عن المخلّفين من الأعراب : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا)(٢) إشارة إلى خصوص من قعد عن الحرب أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكذا «الناس» في قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)(٣) حيث المراد بالناس الأول : هم المنافقون المرجفون من أهل المدينة ، والناس الثاني : هم مشركو قريش رهط أبي سفيان ، بعد هزيمتهم من أحد.

وهكذا قوله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٤) المراد من عاصروا النبي من أهل

__________________

(١) المائدة / ٨٣ ـ ٨٦.

(٢) الفتح / ١١.

(٣) آل عمران / ١٧٣.

(٤) التوبة / ٩٧.

١٠٦

الجفاء والنفاق ، كما في قوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ)(١) وغير ذلك مما وقع هذا التعبير في مواضع من سورة براءة (الآيات : ٩٠ / ٩٧ / ٩٨ / ٩٩ / ١٠١) حيث المقصود من الجميع : أعراب المدينة ومن حولها.

وجهة ثالثة : إيفاؤه بالوفرة الوفيرة من المطالب ومختلف المسائل ، في أقصر تعابير وأيسر كلمات ، ربما يكون حجم المطالب أضعاف حجم الكلمات والتعابير. والقرآن ملؤه ذلك ، وهو من اختصاصه ، أن يدلي بأوفر المعاني في أوجز الألفاظ.

هذه سورة الحجرات على قصرها ، وهي ثماني عشرة آية ، تحتوي على أكثر من عشرين مسألة من أمهات المسائل الإسلامية العريقة ، نزلت بالمدينة ؛ لتنظيم الحياة الاجتماعية العادلة. وقد تعرّض لها المفسرون ولا سيّما المتأخرين بتفصيل ، وتعرّضنا لأكثرها في تفسيرنا للسورة.

ومما جاء فيها التعرّض لقاعدة «اللطف» التي هي أساس الشرائع ، ومسألة «الحبّ في الله والبغض في الله» التي هي أساس الإيمان ، في أقصر عبارة : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ)(٢). فمن لطفه تعالى وعنايته بعباده أن مهّد لهم أسباب الطاعة وقرّبها إليهم ، ليتمكنوا من طاعة الله ويجتنبوا الفسوق والعصيان ، وذلك بأنّ زيّن الإيمان والطاعة في قلوبهم ، أي أبدى لهم زينة الإيمان ، بأن رفع عن أعينهم غشاء

__________________

(١) التوبة / ١٠١.

(٢) الحجرات / ٧.

١٠٧

التّعامي ، كما أنه تعالى كرّه إليهم العصيان بأن أظهر قبحه في أعينهم فكرهوه في ذات أنفسهم. فالمؤمن إنما يطيع الله وهو محبّب له الطاعة ، ومن ثمّ فإنّه يقدم على الطاعة في وداعة وطمأنينة ويسر ، كما أنه يجتنب المعاصي في يسر ؛ لأنه عن نفرة لها في نفسه.

وهذه هي قاعدة اللطف تمهيد ما يوجب قرب العباد إلى الطاعة وبعدهم عن المعصية ، مستفادة من الآية الكريمة.

وشيء آخر : مسألة «الحبّ في الله والبغض في الله» وهي أساس الإيمان وصلب العقيدة ، والباعث على الجدّ في العمل ، ومن ثم قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «وهل الإيمان إلّا الحب والبغض ، ثم تلا الآية الكريمة» (١) وقد قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)(٢).

وأمر ثالث مستفاد من الآية الكريمة : أن هدايته للناس كانت فضلا من الله ورحمة ، ناشئة عن مقام فيضه القدوسي ، وليس عن حق عليه سبحانه (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٣) ، (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)(٤).

فالإنسان بذاته لا يستحق شيئا على ربّه ، وإنما الله هو الذي تفضّل على الإنسان برحمته (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ)(٥) ، ومن ثم عقّب سبحانه الآية بقوله : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، ص ١٢٥ رقم ٥.

(٢) آل عمران / ٣١.

(٣) البقرة / ٦٤.

(٤) القصص / ٨٦.

(٥) الأعراف / ٤٣.

١٠٨

حَكِيمٌ)(١).

وفي السورة إشارة إلى مسألة التعاون في الحياة الاجتماعية ، جاءت في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٢).

وفيها الإشارة إلى مسألة «المساواة» وأن لا شعوبية في الإسلام ، ولا عنصريّة ، ولا قوميّة ، وأن لا فضل لأحد على غيره إطلاقا ، لا حسبا ولا نسبا ، إلّا بفضيلة التقوى ، وهو التعهّد في ذات الله.

كما فيها الإشارة أيضا إلى مسألة «الأخوّة الإسلاميّة» المتطلبة للإيثار والتضحية ، فوق قانون العدل والإنصاف.

وفي القرآن كثير من عبارات يسيرة انطوت على مفاهيم ذات أحجام كبيرة ، كقوله تعالى في سورة الانفال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(٣) إشارة إلى مسألة «الأمر بين الأمرين» وأن لا جبر ولا تفويض ، وهي من المسائل المذيّلة ذات تفصيل طويل.

وكقوله تعالى في سورة الواقعة : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)(٤) إشارة إلى مسألة «الاستطاعة» وأن لا استقلال للعباد فيما يتصرّفون

__________________

(١) الحجرات / ٨.

(٢) الحجرات / ١٣.

(٣) الأنفال / ١٧.

(٤) الواقعة / ٦٣.

١٠٩

من أفعالهم الاختيارية.

والأمثلة على ذلك كثيرة ومنبثّة في القرآن الكريم ، غير خفية على الناقد البصير.

وجهة رابعة : قد سلك القرآن في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكا ، ينتفع به الجمهور ، ويخضع له العلماء ، ومن ثم جاء بتعابير يفهمها كل من الصّنفين : الجمهور يأخذون بظاهر الكلام ويتصورون له من المعاني ما ألفت بها أذهانهم في الأمور المحسوسة ، ويحسبون فيما وراء محسوسهم ما يشاكل المحسوس ، ويقتنعون بذلك ، ويستريح بالهم.

والعلماء يعرفون حقيقة الحال التي جاءت في طيّ المقال ، ويأخذون بلطائف الإشارات وظرائف الكنايات التي مثّلت لهم الحقيقة في واقع الأمر ، بما يخضعهم له ويطمئنّون إليه.

خذ لذلك مثلا قوله تعالى ـ تعبيرا عن ذاته المقدّسة في عالم الكون ـ : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) لمّا كان أرفع الموجودات في الحسّ هو النور ، ضرب الله به المثال ، وبهذا النحو من التصور أمكن للجمهور أن يفهموا من الذات المقدسة موجودا أجلى وأظهر فيما وراء الحسّ ، يشبه أن يكون مثل النور في المحسوس شبها ما ، ويقتنعون بذلك.

أما العلماء فيرون من هذا التشبيه أقرب ما يكون تصوّرا من ذاته المقدسة ، فليس في عالم المحسوس ما يكون على مثاله ، وفي أخص أوصافه تعالى كالنور الذي هو ظاهر في نفسه ، ومظهر لغيره ، وليس شيء في عالم المحسوس (المبصرات) إلّا ويكون ظهوره بالنور ، أما النور فهو ظاهر بنفسه وليس بغيره.

وكذا لا يكون ـ في عالم المحسوس ـ شيء أكثر ظهورا وفي نفس الوقت

١١٠

أشدّ خفاء من النور ، ظاهر بآثاره ، خفيّ بكنهه وحقيقته.

وهذه هي نفس صفاته تعالى إذا ما لاحظنا حقيقة وجوده ، القائم بذاته ، المظهر لغيره ، الذي خفيت حقيقته وظهرت آثاره ، وهو الله جلّ جلاله ، وعظمت كبرياؤه.

وهكذا نجد القرآن ، في استدلالاته ، قد جمع بين أسلوبين يختلفان في شرائطهما ، هما : أسلوب الخطابة ، وأسلوب البرهان ، ذاك إقناع للجمهور بما يتسالمون به من مقبولات القضايا ومظنوناتها ، وهذا إخضاع للعلماء بما يتصادقون عليه من أوّليات ويقينيّات. ومن الممتنع في العادة أن يقوم المتكلم بإجابة ملتمس كلا الفريقين ، ليجمع بين المظنون والمتيقّن ، في خطاب واحد ، الأمر الذي حقّقه القرآن بعجيب بيانه وغريب أسلوبه.

وقد بحثنا عن ذلك وأتينا بأمثلة عليه في مباحثنا عن الإعجاز البياني للقرآن (١).

وجهة خامسة : قد أكثر القرآن من أنواع الاستعارة وأجاد في فنونها ، وكان لا بدّ منه وهو آخذ في توسّع المعاني توسّع الآفاق ، في حين تضايقت الألفاظ عن الإيفاء بمقاصد القرآن ، لو قيّدت بمعانيها الموضوعة لها المحدودة النطاق.

جاء القرآن بمعان جديدة على العرب لم تكن تعهدها ، وما وضعت ألفاظها إلّا لمعان قريبة ، حسب حاجاتها في الحياة البسيطة البدائيّة القصيرة المدى. أما التعرّض لشئون الحياة العليا المترامية الأبعاد ، فكان غريبا على العرب الأوائل

__________________

(١) راجع : التمهيد ، ج ٥ ، ص ٤٩٩ فصل (الاستدلال في القرآن)

١١١

المتوغّلة في الجاهلية الأولى.

ومن ثمّ لجأ القرآن في إفادة معانيه والإشادة بمبانيه إلى أحضان الاستعارة والكناية والمجاز ، ذوات النطاق الواسع ، حسب إبداع المتكلم في تصرّفه بها ، والقدرة على الإحاطة في تصريف المباني والإفادة بما يرومه من المعاني. وقد أبدع القرآن في الاستفادة بها وتصريفها حيثما شاء من المقاصد والأهداف ، ولم يعهد له نظير في مثل هذه القدرة ومثل هذه الإحاطة ، على مثل هذا التصرف الواسع الأكناف ، الأمر الذي أبهر وأعجب وأتى بالإعجاز.

ولعل هذا هو السبب أيضا في عروض التشابه في لفيف من آيات الخلق والتكوين ، نظرا لقصور الألفاظ عن الإيفاء بتلك المعارف الجليلة الواسعة الأكناف.

وبذلك أصبحت لغة القرآن ـ من هذه الجهة ـ ذات طابع خاص ؛ حيث وفرة الاستعارة من النمط الراقي ، وعروض بعض التشابه بسبب هذا الشموخ والتعالي.

١١٢

ترجمة القرآن في كفّة الميزان

* التعريف بالترجمة وأساليبها

* نواحي القرآن الثلاث

* الترجمة الحرفية للقرآن

* الترجمة المعنوية (الحرّة)

* أخطار الترجمة

* دفاع حاسم

* ترجمة القرآن من الوجهة الشرعية

* وثائق شرعية

* ترجمة القرآن ضرورة دعائيّة

* كيفية الترجمة وعرضها

* نماذج من تراجم خاطئة

١١٣
١١٤

ترجمة القرآن

مسائل ثلاث

هناك مسائل ثلاث عن ترجمة القرآن إلى سائر اللّغات :

أوّلا : هل بالإمكان ترجمة كلام الله البليغ الوجيز ، الذي نزل هدى للناس ، ومعجزة خالدة ، في نظمه وأسلوبه ، وفي لفظه ومعناه جميعا ، بما تحدّى البشرية لو يأتوا بمثله؟

ثانيا : لو أمكن ذلك ـ نسبيّا وليس من جميع الوجوه ـ فهل يجوز عرضه قرآنا وكتابا للمسلمين ، على غرار ما ينشره أهل الكتاب من تراجم العهدين ، باسم التوراة والإنجيل؟

ثالثا : ما ذا تكون نظرة الشرع الحنيف؟ فهل يجري على الترجمة ما يجري على الأصل من أحكام وآثار شرعية ، في تلاوته وفي قراءته في الصلاة ، وغير ذلك من أحكام شرعية خاصّة بالقرآن؟

وللعلماء ـ قديما وحديثا ـ آراء تختلف مع بعضها البعض ، وقد ثار حولها جدل عنيف في عهد قريب ، وقد توسّع حتى سرى إلى الصحف والمجلات ،

١١٥

فضلا عن كتب ورسائل خصّصت بهذا الشأن.

وقبل أن نخوض البحث لا بدّ من : تعرفة الترجمة مفهوما وأسلوبا ، والنظر في شرائطها ومقوّماتها الأساسيّة في إطارها المعقول ، فنقول :

التعريف بالترجمة

الترجمة رباعية الوزن ، وتكون بمعنى : التبيين والإيضاح. ويبدو من القاموس أنّه لا بدّ من اختلاف اللغة ؛ لأنه قال : الترجمان : المفسّر للّسان. ومن ثمّ فالترجمة : نقل الكلام من لغة إلى أخرى ، كما في المعجم الوسيط. أما التعبير عن معنى بلفظ ، بعد التعبير عنه بلفظ آخر ، فهذا من التبيين المحض ، وليس ترجمة اصطلاحا.

ويجب في الترجمة أن تكون وافية بتمام أبعاد المعنى المراد من الأصل ، حتى في نكاته ودقائقه الكلامية ذات الصلة بأصل المراد ، كناية أو تعريضا أو تحزّنا أو تحسّرا أو تعجيزا ، ونحو ذلك من أنحاء الكلام المختلف في الإيفاء والبيان ، والمختلف في الأسلوب والنظم ، وغير ذلك مما هو معروف.

ومن ثمّ يجب أن تتوفّر في المترجم صلاحية هذا الشأن ؛ بالإحاطة الكاملة على مزايا اللّغتين الكلامية ، واقفا على أسرار البلاغة والبيان في كلتا اللغتين ، عالما بمواضع نظرات صاحب المقال الأصل ، عارفا بالمستوى العلمي الذي حواه الكلام الأصل ، قادرا على إفراغ تمام المعنى وكماله ـ بمميّزاته ودقائقه ـ في قالب آخر يحاكيه ويماثله جهد الإمكان ، الأمر الذي قلّ من ينتدب له من الكتّاب وأصحاب الأقلام ؛ إذ قد زلّت فيه أقدام كثير ممّن حام حول هذا المضمار الخطير.

١١٦

خطورة أمر الترجمة

قلنا : إن شرائط الترجمة ثقيلة ، وقلّ من توجد فيه هذه الصلاحية الخطيرة ؛ إذ من الصّعب جدّا أن يحيط إنسان علما باللغتين في جميع مزاياهما الكلامية : اللفظية والمعنوية ، عارفا بأنواع الاستعارات والكنايات الدارجة في كلتا اللغتين ، قادرا على إفراغ جميع مناحي الكلام من قالب إلى قالب آخر ، يماثله ويحاكيه تماما.

هذا فضلا عن لزوم ارتقاء مستواه العلمي والأدبي إلى حيث مستوى الكلام المترجم أو ما يقاربه ، وهذا أثقل الشروط وأخطرها عند مزلّات الأقدام ومزالق الأقلام.

وسنذكر نماذج من تراجم قام بها رجال كبار ، ولكن لم يسعد لهم الحظّ لمواصلة المسيرة بسلام ، فكم من زلّات أعفوها ولا مجال لإعفائها ، ولا سيما في مثل كلام الله العزيز الحميد.

أساليب الترجمة

إذ كانت الترجمة نوعا من التفسير والإيضاح بلغة أخرى في إيجاز وإيفاء ، وبالأحرى هو إفراغ المعنى من قالب إلى قالب آخر أكشف للمراد ، بالنسبة إلى اللغة المترجم إليها ، فلا بدّ أن يعمّد المترجم إلى تبديل قوالب لفظية إلى نظيراتها من غير لغتها ، بشرط الوفاء بتمام المراد ، الأمر الذي يمكن الحصول عليه من وجوه :

الأوّل : أن يعمد المترجم إلى تبديل كل لفظة إلى مرادفتها من لغة أخرى ، فيضعها بإزائها ، ثم ينتقل إلى لفظة ثانية بعدها وثالثة ، وهكذا على الترتيب حتى نهاية الكلام.

١١٧

وهذه هي «الترجمة الحرفية» أو الترجمة تحت اللّفظية. وهذه أردأ أنحاء الترجمة ، وفي الأغلب توجب تشويشا في فهم المراد أو تشويها في وجه المعنى ، وربما خيانة بأمانة الكلام ؛ حيث المعهود من هكذا تراجم لفظية هو تغيير المعنى تماما ؛ لأنّ المترجم بهذا النمط إنما يحاول التحفّظ على أسلوب الكلام الأصل في نظمه وميزاته البلاغية ، ليأتي بكلام يماثله تماما في النظم والأسلوب ، الأمر الذي لا يمكن بتاتا ، بعد اختلاف اللّغات في أساليب البلاغة والأداء ، وكذا في النكات والدقائق الكلامية السائدة في كل لغة حسب عرفها الخاص. فربّ كناية أو تعريض أو مثل سائر في لغة ، لا تعرفه لغة أخرى ولا تأنس به ، فلو عمد المترجم إلى ترجمة ذلك بعينه ؛ لأصبح غير مفهوم المراد ، وربّما استبشعوا مثل هذا التعبير الغريب عن متفاهمهم.

مثلا قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)(١) جاء «غلّ اليد إلى العنق وبسطها كل البسط» ، كناية عن القبض والبسط الفاحش ، أي التقتير والإسراف في المعيشة وفي الإنفاق ، وهي كناية معروفة عند العرب ومأنوسة الاستعمال لديهم. فلو أريد الترجمة بنفس التعبير من لغة أخرى كان ذلك غريبا عليهم حيث لم يألفوه ، فربما استبشعوه وأنكروا مثل هذا التعبير غير المفهم ؛ لأنهم يتصورون من مثل هذا التعبير : النهي عن أن يربط إنسان يديه إلى عنقه برباط من سلاسل وأغلال ، أو يحاول بسط يديه يمينا وشمالا بسطا مبالغا فيه. ولا شكّ أن مثل هذا الإنسان إنما يحاول عبثا ويعمل سفها ؛ لأنه يبالغ في إجهاد نفسه وإتعابها من غير غرض معقول ، الأمر الذي لا ينبغي التعرض له في مثل كتاب الله العزيز الحميد.

__________________

(١) الإسراء / ٢٩.

١١٨

الثاني : أن يحاول إفراغ المعنى في قالب آخر ، من غير تقيّد بنظم الأصل وأسلوبه البياني ، وإنما الملحوظ هو إيفاء تمام المعنى وكماله ؛ بحيث يؤدّي إفادة مقصود المتكلم بغير لغته ، بشرط أن لا يزيد في البسط بما يخرجه عن إطار الترجمة ، إلى التفسير المحض.

نعم إن هكذا «ترجمة معنوية» قد تفوت بمزايا الكلام الأصل اللّفظيّة ، وهذا لا يضرّ ما دام سلامة المعنى محفوظة. وهذا النمط من الترجمة هو النمط الأوفى والمنهج الصحيح الذي اعتمده أرباب الفنّ. لا يتقيّدون بنظم الأصل ، فيقدّمون ويؤخّرون ، وينظّمون الترجمة حسب أساليب اللغة المترجم إليها ، كما لا يزيدون بكثير على مثال الألفاظ والتعابير التي جاءت في الأصل. فإن حصلت زيادة مطّردة فهو من الشرح والتفسير ، وليس من الترجمة المصطلحة في شيء.

ذكر الشيخ محمد بهاء الدين العاملي (١٠٣١) ـ نقلا عن الصّفوي ـ : أنّ للترجمة طريقين ، أحدهما : طريق يوحنّا بن بطريق وابن الناعمة الحمّصي ، وهو : أن يعمد إلى كل لفظة من ألفاظ الأصل ليأتي بلفظة أخرى ترادفها في الدلالة فيثبتها ، وينتقل إلى أخرى وهكذا ، حتى يأتي على جملة ما يريد ترجمتها ، وهي طريقة رديئة لوجهين :

الأوّل : أنه قد لا توجد في اللغة المترجم إليها لفظة تقابل الأصل تماما ، ومن ثمّ فتقضي الحاجة إلى استيراد نفس الكلمة الأجنبيّة واستعمالها في الترجمة بلا إمكان تبديل ، ومن ثمّ كثرت اللغات الدخيلة اليونانيّة في مصطلحات العلوم المترجمة إلى العربية.

الآخر : أنّ خواصّ التركيب والنسب الكلاميّة في الإسناد الخبري وسائر الإنشاءات والمجاز والاستعارة وما شابه ، تختلف أساليبها في سائر اللغات ، وليست تتّحد في التعبير والإيفاء ، فالترجمة تحت اللّفظيّة قد توجب خللا في

١١٩

الإفادة بأصل المراد.

أمّا الطريق الثاني ـ وهو طريق حنين بن إسحاق والجوهري ـ فهو : أن يأتي بتمام الجملة ويتحصّل معناها في ذهنه ، ثم يعبّر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها في إفادة المعنى المراد وإيفائه ، سواء أساوت الألفاظ أم خالفتها. وهذا الطريق أجود ، ولهذا لم يحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلّا في العلوم الرياضية ؛ لأنه لم يكن قيّما بها ، بخلاف كتب الطبّ والمنطق والطبيعي والإلهي ، فإنّ الذي عرّبه منها لم يحتج إلى الإصلاح ... (١)

الثالث : أن يبسّط في الترجمة ويشرح مقصود الكلام شرحا وافيا ، فهذا من التفسير بلغة أخرى ، وليست ترجمة محضة حسب المصطلح.

وقد تلخّص البحث في أنحاء الترجمة إلى ثلاثة أساليب :

١ ـ الترجمة الحرفية ، أو الترجمة اللفظية ، أو تحت اللفظية ، وهي طريقة مرفوضة وغير موفّقة إلى حدّ بعيد.

٢ ـ الترجمة المعنوية ، أو الترجمة التفسيرية غير المبسّطة ، ويطلق عليها : الترجمة المطلقة (المسترسلة) غير المتقيّدة بنظم الأصل ، وهي طريقة معقولة.

٣ ـ الترجمة التفسيرية المبسّطة ، وهي إلى الشرح والتفسير أقرب منه إلى الترجمة.

ولننظر الآن في مسألة ترجمة القرآن الكريم بالذات ، من نواحيها المختلفة ، وعلى كلا أسلوبي الترجمة : الحرفية والمعنوية ، فنقول :

__________________

(١) الكشكول (ط حجرية) ، ص ٢٠٨. و (ط مصر ١٣٧٠ ه‍) ، ج ١ ، ص ٣٨٨.

١٢٠