مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

التاسع : يستفاد من ظاهر الآية الشريفة : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) ان مضمونها لا تختص بحالة دون اخرى ولا بعالم دون آخر.

والمراد بالانقلاب المعنى العام الشامل للتحولات الدنيوية والبرزخية والاخروية ، كما ان المراد بالنعمة والفضل ايضا كذلك ، وتشمل النعم الدنيوية والمثالية والاخروية والوجه في ذلك ان الموضوع كلما اتسعت جهات كماله وفضله اتسع جميع جهات الاضافة إلى الله تعالى والمنعم إذا كان محيطا ووسيعا من جميع الجهات المفروضة فيه ، فلا يعقل وجه للتخصيص حينئذ ، وجهة التعميم تارة مأخوذة في الكلام كما إذا قيل : لا تأكل الرمان لأنه حامض فيشمل الكلام كل حامض ، واخرى مأخوذة في السياق العام من الكلام ، والثانية اولى من الاول بمراتب ، وقد اشتهر في العلوم الادبية ان الكناية ابلغ من التصريح والقرآن العظيم مشتمل على أنحاء الكنايات والاستعارات والتشبيهات البليغة وفقنا الله تعالى للتدبر فيها.

العاشر : يستفاد من قوله تعالى ، (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) ان من لم يتصف بما ذكر في الآيات السابقة قد فوت على نفسه امرا عظيما لا يمكن ان يتدارك وهو جدير بأن يتحسر على ما فاته.

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) ان الخوف الناشئ من الأمور الدنيوية انما يكون منشأه الشيطان الذي يريد ان يخرج الإنسان بسببه عن طاعة الله تعالى والاحجام من تنفيذ أوامره وأحكامه عزوجل والخوف الذي يكون مصدره الشيطان هو من أهم سبله التي يتوصل بها لإغواء الإنسان ولذا أمرنا عزوجل بعدم الخوف وحصره الله تعالى في نفسه ، فان الخوف منه عزوجل

٨١

مصدر كل خير ومبعث كل سعادة فالآية المباركة ترشد المؤمنين إلى الصراط المستقيم والكمال العظيم الذي لا كمال فوقه كما انها تنبه المؤمنين إلى الموازنة بين وليّ الكافرين والمشركين والمنافقين واهل الباطل الذي عجز عن نصرهم وبين ولي المؤمنين الذي لا يعجزه أمر وهو القادر على كل شيء.

الثاني عشر : يدل قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) على ان الايمان جنة واقية تحرس صاحبه من الخوف عن غير الله تعالى. وان الايمان مع الخوف من غير الله تعالى هما ضدان لا يجتمعان فمن يرجح الخوف من اولياء الشيطان فان إيمانه مشكوك فيه ، فهذه الآية الشريفة من الآيات التي ينبغي ان يوزن الإنسان نفسه وإيمانه واعماله بها.

بحث عرفاني

يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) كمال العناية بالشهداء الذين قتلوا في سبيل الله فقد أرادوا من جهادهم وبذل أرواحهم الغالية في إعلاء كلمة الله واحياء الحق واماتة الباطل فأعطاهم الله تعالى الأجر الجزيل والثناء الجميل ، والذكر الحميد ، ومنحهم السعادة الكبيرة ان جعلهم عنده يرزقون ويستبشرون ويفرحون قد خلت حياتهم عن كل ما ينغصها من الخوف والحزن والآلام ، فإذا كان الجهاد الأصغر له هذه الحظوة عند خالق الأرواح ، فما ظنك بالجهاد الأكبر مع النفس الأمّارة لكسر سورتها ، وقمع الهوى بالصبر والاصطبار وكان العبد معه مطيعا لمولاه مخالفا لهواه مراقبا لنفسه

٨٢

واعماله وأقواله فان له الفضل العظيم والمنزلة الكبرى عند الله عزوجل قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) العنكبوت ـ ٦٩ والجهاد الأصغر وان كان في وقت معين معلوم اما الجهاد الأكبر فان مدته أطول ومعاناته أشد وأعظم.

والمجاهدون مع النفس الامارة لهم الحياة الحقيقة لان الأرواح لها نحو تعلق خاص بالمبدأ الفياض ، والحي القيوم فإذا اشتد ارتباطها معه اشتاقت اليه ، وان حبها له قد تصل إلى مرتبة لا تحس بآلام الجراح ووقع السيوف مثل ما نسب إلى علي (عليه‌السلام) من عدم توجهه إلى إخراج السهم من بدنه حين اشتغاله بالصلاة وقد نظم هذه القضية جملة من العرفاء باشعار لطيفة وما نسب الى الصادق (عليه‌السلام) من مشيه على النار وقوله (عليه‌السلام) : «انا ابن ابراهيم الخليل» الى غير ذلك من آثار ذلك العالم الوسيع الذي لا يمكن ان يحيط به بيان فانه لا يهدي من الجنة إلا بعض ثمارها لإتمام أشجارها. وحينئذ يقدر العبد المجاهد المؤمن على الخلع واللبس ، ومن حيث شروق نوره على هذا البدن يتحرك البدن بقدر ذلك الشارق ، ومع درك هذه المرتبة قد يصل الى مرتبة جمع الجمع بأن يكثر بدنه كما نسب الى بعض الأولياء من وجودهم في زمان واحد في امكنة متعددة ، وقد رأينا بعض مشايخنا (رضوان الله تعالى عليه) ورآه بعض أصحابه في عين هذا البدن في محل آخر ، ولكن لا يعد ذلك شيئا في مقابل تلك المجاهدات لشدة تفانيه في مرضاة الله تعالى ومن هنا تنكشف أبواب من المعارف.

ويمكن ان يكون قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) اشارة الى بعض مقامات العارفين بالله في سيرهم

٨٣

وسلوكهم ، وهم الذين طرحوا جميع الجهات الجسمانية للوصول الى المعشوق الحقيقي والمحبوب الواقعي ، فيكون ألم النبال والسهام في ذلك يسير ووقع الصمصام على أبدانهم سهلا حقيرا ، بل وجدوا في ذلك التذاذا كبيرا ، وهم الذين سمعوا زئير جهنم بآذانهم ورأوا الحور المقصورات في الخيام بأعينهم ، فتجاوزوا عن ذلك كله وخرقوا جميع الحجب الظلمانية بهممهم العالية وطرحوا حدود الامكانية فوصلوا الى حد الوجوب ورأوا ان الاملاك قد وضعت أجنحتها تبركا بمقدمهم ووصلوا الى ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فنزلت عليهم أنوار الجمال واستشرقوا من مشارق الجلال الى غير ذلك من جذبات الحبيب التي يبهر فيها كل عاقل لبيب. رزقنا الله تعالى رشحة من تلك الرشحات ونسمة من تلك النفحات.

وخلاصة الكلام ان هذه الطائفة من المخلصين (بفتح اللام) هم الذين تابعوا نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث قيل له : «هل لك شيطان يا رسول الله؟ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : نعم ولكن أسلمت شيطاني بيدي».

بحث روائي

في المجمع في قوله تعالى : «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ـ الآيات ـ» عن الباقر (عليه‌السلام) «نزلت في شهداء بدر وأحد معا».

أقول : وردت في ذلك روايات متعددة في بعضها انها نزلت في

٨٤

شهداء أحد خاصة وفي بعضها في شهداء بئر معونة وقصتهم مشهورة وذكر كل ذلك من باب المثال لا التخصيص كما هو كذلك في شأن نزول الآيات.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) ـ الآية ـ» عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «هم والله شيعتنا إذا دخلوا الجنة واستقبلوا الكرامة من الله استبشروا بمن لم يلحق بهم من إخوانهم من المؤمنين في الدنيا».

أقول : المراد من الشيعة هنا من تابع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في اعتقاده وأفعاله وأقواله حتى في قوله (ص) : «انى تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي» وقوله (ص) : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» الى غير ذلك من الأحاديث التي رواها المسلمون في شأن ذلك.

وفي تفسير العياشي في الآية المتقدمة ايضا عن الصادق (عليه‌السلام) «هم والله شيعتنا حتى صارت أرواحهم في الجنة واستقبلوا الكرامة من الله عزوجل واستيقنوا انهم كانوا على الحق وعلى دين الله عزوجل فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم من خلفهم من المؤمنين».

أقول : المراد من الشيعة من تابع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فان متابعته متابعتهم ايضا كما مر في الرواية السابقة.

وفي تفسير العياشي ايضا عن جابر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «اتى رجل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : إني راغب نشيط في الجهاد في سبيل الله قال (ص) : فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حيا عند الله ترزق وان مت فقد وقع أجرك على الله وان رجعت خرجت من الذنوب إلى الله هذا تفسير (وَلا

٨٥

تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً).

أقول : لا منافاة بين هذا التفسير وما مر من قول الصادقين (عليهما‌السلام).

وفي اسباب النزول عن ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد انهار الجنة ، وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مآكلهم ومشربهم و(حسن) مقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا (عنا) انا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب؟ فقال الله عزوجل انا أبلغهم عنكم فانزل الله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

أقول : رواه في الدر المنثور وقال اخرج احمد وابن داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ـ صححه ـ والبيهقي من الدلائل وغيرهم رووا جميعا عن أبي سعيد الخدري ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي العالية وابن عباس وغيرهم ، وهي وان اختلفت في بعض الألفاظ ولكنها متقاربة في المعنى. وهذه الروايات لا بد من تأويلها على نحو تساوق القواعد العقلية والنقلية ، والمؤمن أعز على الله تعالى من ان يحصره في حواصل الطير ، ويمكن ان يراد بحواصل الطيور الخضر الأبدان المثالية التي تكون لهم في ذلك العالم ، وقد تقدم ما يتعلق بهذه الروايات في سورة البقرة آية ـ ١٥٣.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) اخرج ابن إسحاق وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل «انها نزلت

٨٦

في حمراء الأسد» وفي تفسير القمي أيضا انها نزلت في حمراء الأسد.

وفي المجمع عن الباقر (عليه‌السلام) في الآية المباركة انها نزلت في غزوة بدر الصغرى.

أقول : يأتي في البحث التاريخي تفصيل الكلام.

وفي اسباب النزول في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) عن قتادة : «ذلك يوم بعد القتل والجراحة وبعد ما انصرف المشركون ـ أبو سفيان وأصحابه ـ قال نبي الله لأصحابه ألا عصابة تشدد لأمر الله فتطلب عدوها فانه أنكى للعدو ، وأبعد للسمع ، فانطلق عصابة على ما يعلم الله تعالى من الجهد حتى إذا كانوا بذي الحليفة جعل الاعراب والناس يأتون عليهم فيقولون : هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس ؛ فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل فانزل الله تعالى فيهم قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) ، وفي المجمع وتفسير القمي عنهما (عليهما‌السلام) في الآية يعنى نعيم بن مسعود الأشجعي.

أقول : انه على تقدير كون الغزوة هي غزوة بدر الصغرى وإلا فان الناس المحذرين هم غيرهم ويحتمل ان يكون هذا الشخص قد حذر المؤمنين في الغزوتين فلا منافاة في البين.

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا «حسبنا الله ونعم الوكيل».

وفيه أيضا عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه قال : «حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف».

أقول : على فرض صحتهما فإنهما تدلان على اهمية الآية الشريفة على كل تقدير.

٨٧

بحث تاريخي

تقدم ان قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) يشير إلى وقعة اخرى من وقعات الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) التي كانت مع المشركين والكفار واعداء الله تعالى لتثبيت الإسلام والدفاع عنه وعن المؤمنين من كيد المشركين والكافرين والمنافقين وابطال مزاعمهم وتقدم في أحد مباحثنا السابقة ذكر عدد غزوات الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وسراياه ، وتكلمنا عن غزوة احد مفصلا ونذكر في المقام ما يتعلق بغزوة حمراء الأسد وموقعها ، واسبابها ، واهدافها.

وقبل ان نذكر ذلك لا بد من التنبيه على أمر وهو ان المعروف بين العلماء والمفسرين أن الآيات المتقدمة نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد على ما عرفت وقد وردت في ذلك أحاديث من الفريقين ، وذهب جمع من المفسرين إلى ان الآية الكريمة نزلت في خروج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمن معه لموعد أبي سفيان في غزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة في شهر ذي القعدة رأس الحول من وقعة أحد على ما رواه الواقدي ، أو في شعبان من السنة الرابعة في رواية الدر المنثور عن مغازي ابن عقبة ، ودلائل البيهقي. وفي تاريخ ابن جرير عن ابن إسحاق ، وفي الدر المنثور عن ابن شهاب قال : «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس يخوفونهم وقالوا :

٨٨

قد أخبرنا ان العدو قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل يرجون ان يواقعوكم فيثبتوكم فالحذر الحذر ، فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان فاستجابوا لله ورسوله وخرجوا ببضائع لهم ، وقالوا : ان لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له ، وان لم نلقه اتبعنا بضائعنا وكان بدر متجرا يوافي كل عام فانطلقوا حتى أتوا موسم بدر فقضوا منه حاجتهم ، واخلف أبو سفيان الموعد فلم يخرج هو ولا أصحابه ، ومرّ عليهم ابن حمام فقال من هؤلاء؟ قالوا رسول الله وأصحابه ينتظرون أبا سفيان ومن معه من قريش فقدم على قريش فأخبرهم فارعب أبو سفيان ورجع إلى مكة وانصرف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى المدينة بنعمة من الله وفضل فكانت تلك الغزوة تعد غزوة جيش السويق وكانت في شعبان من السنة الرابعة» وروي قريب منه عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) وفي المجمع رواه أبو الجارود عنه (عليه‌السلام) أيضا.

ولكن الاول هو المعروف بين العلماء والمفسرين ورواه القمي في تفسيره بطريق معتبر ، والشيخ الطوسي في التبيان وقد نسب الثاني إلى القيل. وكيف كان فان تسمية هذه الوقعة بالغزوة باعتبار خروج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بنفسه الشريفة على ما اصطلح عليه العلماء ، وإلا فانه لم يكن في هذه الوقعة قتال ، بل كان المقصود منها مطاردة المشركين ، وابطال نواياهم ، وإفساد ما كانوا يشنونه من الحرب الدعائية ضد المسلمين ، فإنهم كانوا يذكرون نتائج غزوة احد ويظهرونها بمظهر يرفع من قدرهم والحط من قدر المسلمين على ما ستعرف ، فتسميتها بقوة مطاردة لها اهداف معينة غير القتال لما كان يعلم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه لم يقع قتال اولى وقد تحققت تلك الأهداف بأحسن وجه.

٨٩

الموقع والزمان :

حمراء الأسد : سوق للعرب على ثمانية أميال من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة ، والمعروف انه انتهى إليها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في اليوم الثاني من يوم أحد ، فان وقعة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة وفي اليوم الثاني من يوم أحد اي اليوم الخامس عشر من شوال ، ولما كان الغد أذّن مؤذن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالغزو ، وقال : «لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس» فاستجاب المؤمنون لله والرسول فخرجوا إلى حمراء الأسد فأقاموا بها ثلاثة ايام ثم رجعوا إلى المدينة حين علم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان قريشا قد استمرت إلى مكة وقال : «والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها كانوا كأمس الذاهب».

العدد :

عدد المسلمين الذين خرجوا للحرب كما في تفسير العياشي : «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعث عليا (عليه‌السلام) في عشرة استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح» وفي اسباب النزول للواحدي : «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) استنفر الناس بعد أحد حين انصرف المشركون فاستجاب له سبعون رجلا» ويمكن رفع الاختلاف بان رواية الواحدي وردت في مجموع الذين

٩٠

استجابوا لله والرسول. ورواية القمي وردت في خصوص المحسنين والمتقين منهم.

وفي تفسير القمي : «فلما دخل رسول الله المدينة نزل عليه جبرئيل فقال : يا محمد إن الله يأمرك ان تخرج في إثر القوم ولا يخرج معك إلا من به جراحة ، فأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مناديا ينادي يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج ومن لم يكن به جراحة فليقم ، فاقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها فانزل الله تعالى على نبيه : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) وهذه الآية (المباركة) في سورة النساء ويجب ان تكون في هذه السورة قال عزوجل : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح ، فلما بلغ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بحمراء الأسد وقريش قد نزلت الروحا قال عكرمة بن أبي جهل ، والحارث ابن هشام ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد نرجع فنغير على المدينة فقد فقد سراتهم وكبشهم يعني حمزة فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر ، فقال تركت محمدا وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جدّ الطلب ، فقال أبو سفيان : هذا النكد والبغي قد ظفرنا بالقوم وبغينا والله ما أفلح قوم قط بغوا ، فوافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي فقال أبو سفيان اين تريد؟ قال المدينة لامتار لأهلي طعاما ، قال هل لك ان تمر بحمراء الأسد وتلقى اصحاب محمد وتعلمهم ان حلفاءنا وموالينا قد وافونا من الأحابيش حتى يرجعوا عنا ولك عندي عشرة قلائص (الإبل) املئوها تمرا وزبيبا؟ قال : نعم ، فوافى من غد ذلك اليوم حمراء

٩١

الأسد فقال لأصحاب محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اين تريدون قالوا : قريش ، قال : ارجعوا فان قريشا قد اجنحت إليهم حلفاؤهم ومن كان تخلف عنهم وما أظن إلا وأوائل القوم قد طلعوا عليكم الساعة فقالوا «حسبنا الله ونعم الوكيل» ونزل جبرئيل على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : ارجع يا محمد فان الله قد ارهب قريشا ومروا لا يلوون على شيء ورجع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى المدينة وانزل الله : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ»).

أقول : قوله (عليه‌السلام) : «ويجب ان تكون في هذه السورة» ليس المراد الوجوب الاصطلاحي حتى يستلزم التحريف ولعل المراد المناسبة السياقية كما يدل عليه ذيل الحديث أيضا.

الأسباب :

اما اسباب هذه الوقعة فهي متعددة ويمكن تلخيصها في امور :

الاول : الخشية من مداهمة العدو المدينة استغلالا منهم لضعف المسلمين وما أصابهم في أحد ففي الدر المنثور اخرج النسائي وابن أبي حاتم والطبراني عن عكرمة عن ابن عباس قال : «لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم فسمع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بذلك فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد ـ إلى ان قال ـ فقال المشركون نرجع قابل فرجع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فكانت تعد غزوة.

الثاني : بلوغ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان المشركين قد

٩٢

ازمعوا على الرجعة ، ففي الدر المنثور عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حرم قال : «خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بحمراء الأسد ، وقد اجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأصحابه ، وقالوا : رجعنا قبل ان نستأصلهم لنكون على بقيتهم ، فبلغه ان النبي (ص) خرج في أصحابه يطلبهم فثني ذلك أبا سفيان وأصحابه».

الثالث : الحرب الدعائية التي شنها المشركون بإظهار نتائج غزوة احد بمظهر يرفع من قدرهم ويحط من قدر المسلمين ، ومن المعلوم ان لذلك أثرا كبيرا في وهن العزيمة ، وتفكيك القوى وإلقاء الخلاف في الصفوف وهو زوال الهيبة التي اكتسبها المسلمون في غزوة بدر.

الرابع : إعادة الكرة في التطهير العام لإعادة النظام وتمييز المؤمن المستسلم عن غيره وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء.

الاهداف :

كانت لهذه الوقعة اهداف معينة وقد حصلت جميعها وهي متعددة منها : إزالة اثار الهزيمة عن نفوس المؤمنين ، فانه لو استقرت في قلوبهم لأورثت الرعب في قلوبهم وبقيت اثار الخوف في نفوسهم فلا يعودون يقتحمون ميدان الجهاد بسهولة ، وكانت لهذه الوقعة الأثر الكبير في ازالة تلك الآثار وتشجيعهم على القتال ، وإلقاء الرعب والخوف في قلوب الأعداء فإنهم لم يصدقوا ان افرادا من الطائفة التي منيت بالهزيمة بالأمس وقتل صناديدهم وشجعانهم قد تجمعت اليوم لتقاتلهم

٩٣

وهي مثخنة بالجراح فأرهبتهم هذه العزيمة فخشوا ان تنقلب عليهم الدائرة فيذهب ما أحرزوه من النصر بزعمهم.

وفي اسباب النزول : «قال نبي الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأصحابه ألا عصابة تشد لأمر الله فتطلب عدوها فانه أنكى للعدو وأبعد للسمع فانطلق عصابة على ما يعلم الله تعالى من الجهد ـ الحديث ـ».

ومنها : ظهور التربية الإلهية فيهم فتراهم يلبون دعوة الله والرسول من دون شك وارتياب وقد أخذوا من الدروس الماضية عبرا ووعوها وجعلوها محط نظرهم وصغت لها قلوبهم ، فخرجوا من غفلتهم وغسلوا نفوسهم من آثار المعصية والتفرق والاختلاف وعادوا إلى الصورة التي ينبغي ان يكونوا عليها.

ومنها : ان هذه الوقعة بينت للمشركين ان المسلمين على ما هم عليه من الجراح ففيهم القوة الكافية لمجابهتهم ورد كيدهم فأورثت رعبا في نفوس الأعداء قال ابن إسحاق و «انما خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مرهبا للعدو وليبلغهم انه خرج في طلبهم ، ليظنوا به قوة وان الذي أصابهم لم توهنهم عن عدوهم».

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)

٩٤

ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩))

الآيات الشريفة ترشد المؤمنين إلى امور تهمهم في حياتهم الدنيوية والاخروية وتمس عقيدتهم ، فهي تحذرهم من المنافقين والكافرين وأكاذيبهم وقبائح افعاهم ومكرهم فإنهم لم يتحرجوا من إعلان الكذب على الله عزوجل ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وما يوجب وهن العزيمة والحط من قدر المسلمين ، والشك في عقيدتهم وتنفيرهم عن الإسلام.

والآيات المباركة تسلي النبي الكريم من ما يوجب حزنه ، وتعلن ان الله تعالى لن يتركه والمؤمنين فهو يرعاهم ويحفظهم ، وتبين ان ذلك كله سنة الهية جارية في خلقه فلا بد من تمييز المؤمنين من المنافقين والخبيث من الطيب ، وتأمر المؤمنين بالإيمان بالله ورسله والتقوى والتسليم لأمره ليفوزوا بالأجر العظيم.

والآيات الكريمة مرتبطة بما تقدم من الآيات التي وردت في بيان الجوانب المتعددة في غزوة احد وقد تقدم ذكر المنافقين وبعض كيدهم وفي المقام يبين سبحانه وتعالى نوعا آخر منه ، ويحذّر المؤمنين منه.

٩٥

التفسير

قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ).

تسلية للنبي الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومواساة له من الحزن الذي كان يصيبه من افعال المنافقين وأقوالهم مما يوجب وهن عزيمة المؤمنين وإيقاع الشك في عقيدتهم والوقوع في الكفر. وكل ذلك مما يوجب الحزن.

والآية المباركة توجه الخطاب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تشريفا له ولأنه واسطة الفيض ، ولأنه المسؤول عن أمته ويرعى مصالحهم وهو يكشف عن ان الشغل الشاغل للرسول العظيم هو امر الدين والمؤمنين به وهي ترفع الحزن بنفي أسبابه وترشد المؤمنين بازالة الحزن عن أنفسهم ببيان الواقع في المقام وهو انهم لن يضروا الله.

وقد أسند الحزن إلى ذواتهم باعتبار كونها مظاهر الفساد والغواية والضلال فتراهم يسارعون في الكفر ويقعون فيه سريعا من دون ترّيث ويجتهدون فيه ويمارسونه في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم لأنهم استقروا في الكفر وتمكن في قلوبهم ولأجل ذلك كله تعدت المسارعة ب (في) ولم تتعد ب (إلى) ومثل ذلك ما ورد في حق المؤمنين قال تعالى : (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) آل عمران ـ ١١٤ فان من شدة ايمانهم بالله تعالى وكمالهم أنهم حريصون على الخير وراغبون فيه ، وقد داوموا على ملابستهم له واستقروا فيه. ولعل تعدي المادة ب إلى في قوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ

٩٦

أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران ـ ١٣٣ باعتبار ان المغفرة والجنة منتهى سيرهم ومسيرهم الاستكمالي.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً).

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية فان الله تعالى غني عن العالمين لا يغلبه شيء في السموات والأرض ولا يضره كيد المنافقين والكافرين وغيرهم وتظاهرهم على اطفاء نور الله تعالى وإيقاع الضرر بالمؤمنين لا يوجب اطفاء ذلك النور وطمس الحق ، فهم لا يضرون إلا أنفسهم لأنهم يحاربون الله تعالى وقد خرجوا بسبب ذلك عن اهلية اللطف وحرموا أنفسهم عن كل خير فلا يبقى موضوع للتحزن والأسى ، وهم مسخرون تحت ارادته ومشيته عزوجل فقد تعلقت ارادته بأن يحرمهم من حظ الآخرة ويسلك بهم إلى أسوء العذاب فكانت عاقبة مسارعتهم في الكفر وبالا عليهم.

وفي تعليق الضرر به تعالى كمال التسلية للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والتشريف للمؤمنين ، ولبيان ان مضارتهم مضارته تعالى وهي غير معقول في الواقع وهذا أيضا كذلك.

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ).

تعليل وتأكيد لعدم مضارتهم له تعالى واعلام بأن المضارة الحقيقية هي التي كانت في الآخرة دون ما يتوهموه وهم قد سلكوا مسلكا. اختاروا فيه الملذات الدنيوية الفانية على الدرجات الرفيعة الاخروية ونعيمها وحرموا على أنفسهم نصيب الآخرة ، وتعلقت ارادة الله تعالى الاقتضائية على طبق اختيارهم. ويأتي في الآيات التالية تفسير كيفية تعلق ارادته عزوجل بحرمانهم من نصيب الآخرة.

٩٧

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

اي ولهم مع الحرمان من كل ثواب ونعيم في الآخرة عذاب عظيم لا يتقدر بقدر جزاء ما كانوا يكفرون.

وقد وصف سبحانه وتعالى العذاب بانه عظيم إما باعتبار ان المسارعة في الكفر تدل على عظم قدره عند المسارع اليه وتعلق كل ارادته به وصرف جميع حيثياته في سبيله ، فوصف تعالى عذابه بالعظيم تنبيها على حقارة ما سارعوا اليه ، أو لأجل ان القصد عظيم لأنهم قصدوا إضرارا عظيما لا منتهى لعظمته فيترتب عليه العظيم.

ولم يقيد سبحانه وتعالى العذاب بالآخرة كما قيد الحرمان بها لكون عذابه أعم ولا مانع في ذلك فقد ورد في المنافقين : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) التوبة ـ ١٠١. واستحقاق العذاب العظيم هو نتيجة الحرمان من نصيب الآخرة لان كل من لم يكن له نصيب في الآخرة يكون سعيه في الدنيا وان بلغ ما بلغ سببا في زيادة العذاب.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ).

تعميم لجميع الكافرين بعد تخصيص الآية السابقة بالمسارعين في الكفر فيصح ان تكون علة اخرى تعم لنفي ضرر جميع الكافرين وفيهم المسارعون في الكفر تقديرا للحكم السابق وتأكيدا له ولزيادة التسرية عن قلب سيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والتسلية له.

وانما ذكر سبحانه لفظ الاشتراء زيادة في التقريع لأنهم بمعاملتهم في تبديل الايمان بالكفر قد استبدلوا الشريف العظيم بالدني الحقير ، ولبيان انهم قد أخذوا الكفر رغبة منهم في ما أخذوا وإعراضا عما تركوا فيكون اظهر على سوء الاختيار وكمال الرضاء منهم ، ولا يتأتى

٩٨

ذلك في لفظ آخر ويستفاد منه علمهم بالخسران الكلي والحرمان الأبدي فيكون الضرر عليهم عظيما.

ويصح ان يكون المراد بالكفر في المقام جميع مراتبه من الاعتقادي والقولي والعملي ، ويشهد لهذا التعميم بعض الآيات الشريفة قال تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) البقرة ـ ٩٩ وقال تعالى : (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) الممتحنة ـ ١ كما ان الايمان كذلك.

قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً).

اي : ان الكافرين جميعا لن يضروا الله شيئا وهذه العلة عامة يمكن تعليل الخاص وهم المسارعون في الكفر بها أيضا.

والآية المباركة تبين قضية عقلية حقيقية هي عين الواقع لان من كان جامعا للصفات الكمالية والجلالية بالذات ومسلوبا عنه جميع النواقص الواقعية والادراكية لا يعقل في حقه النقص والنفع وإلا يلزم الخلف المحال ولعله لذلك عبر تعالى بالنفي التأبيدي وعن مولانا السجاد (عليه‌السلام) في صحيفته الملكوتية «يا من يستغنى به ولا يستغنى عنه ويا من يرغب اليه ولا يرغب عنه ويا من لا تفني خزائنه المسائل ويا من لا ينقطع عنه الوسائل».

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

جزاء لتمردهم على الله تعالى ، وهو يدل على شدة العذاب وفظاظته بذكر أحد آثاره وهو غاية الإيلام.

وقد وصف سبحانه وتعالى العذاب في الآية السابقة بالعظيم وهنا بكونه أليما لتفاوت الطائفتين فان الاولى كانوا مسارعين في الكفر

٩٩

فكان الجزاء المترتب على فعلهم عظيما وقد حرموا أيضا من نعيم الآخرة ولذاتها واستحقوا العذاب العظيم.

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ).

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن الكريم ، وهي سنة من السنن الحكيمة في الاجتماع البشري ، فإنها تدل على السير التكاملي الجاري عليه هذا النظام الأحسن. وتتضمن التوجيه للمؤمنين في ما يدور في نفوسهم إثر كل انتصار للباطل على الحق في الظاهر كما انها توجه الحديث إلى الكفار لتنذرهم بعدم الاغترار بما يحرزونه من النصر الظاهر المؤقت وما يمليه لهم الله تعالى عليهم من انواع نعمه في الاعمار والأولاد والأموال فان ذلك ليس لأجل عناية خاصة من الله تعالى بهم ، بل انما هو سنة جارية في الخلق فلا يعتبروه خيرا لكل واحد منهم بحسب نفسه ولا يضمرون في نفوسهم الخبيثة بأنهم خير من المؤمنين ، أو ان الباطل الذي هم عليه خير من الحق ففي الواقع يكون الإملاء سببا لاسترسالهم في الغي والضلال والفجور وعلة لغرورهم فتزيد آثامهم وجرائمهم لتكون خاتمة اعمارهم وأعمالهم العذاب المهين فان العبرة بالخواتيم لا بالمبادي ، فالآية الشريفة قطع لأعذار المبطلين ، وازالة لكل وهم وحديث نفس من البين ، فان ما املى الله تعالى به لكل فرد لا بد ان يصرف في التوجه إلى المحبوب الحقيقي والمطلوب الواقعي حتى يصل إلى الدرجة العالية من الكمال والحياة الابدية والنعم السرمدية ، وان غير ذلك يكون وبالا على صاحبه وغيّا وضلالا فاملاء الله تعالى للكافرين والعصاة انما يكون وفق

١٠٠