مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

خطاب إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يبين فيه عزوجل فضله العظيم وما من الله عليه من الصفات الكريمة ويذكّره نعمة الله تعالى عليه وعلى المسلمين أن جعل قلبه رحيما بهم ولينا معهم ، وقد مدح رسوله الكريم بالعفو وترك الفظاظة والخشونة مع المؤمنين وانهم كانوا مستحقين لأكثر من اللوم والعتاب بعد ما صدر منهم ما أوجب الفشل والهزيمة وقد ضعفوا امام إغراء الغنيمة ووهنوا عن الجهاد في سبيله تعالى وقد ارشدهم سبحانه وتعالى في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم ويسعدهم في دنياهم وترك ما يوجب شقائهم في الدنيا والآخرة.

والآيات المباركة تشتمل على أهم الحقائق والصفات التي لا بد لمن يتصدى امور المؤمنين من التحلي بها وهي العفو عنهم ، والمشاورة

٥

معهم ، والتوكل على الله لان فيها اظهار العبودية فتكون حياتهم واتجاهاتهم حسب ما قرره سبحانه وتعالى.

وفيها وعدهم عزوجل بالنصر على الأعداء لأنه لا يعطى النصر إلا لمن يستحق ولا يكتب الهزيمة والخذلان إلا على من خالف أوامره ونواهيه تعالى وإلا فليس له الا الخذلان والردى ، وأمرهم بالتوكل عليه.

التفسير

قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ).

التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لان الخطاب يتضمن اللوم والعتاب لما صدر عنهم في احد وقد استحقوا بسببه التوبيخ من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والتعنيف فقد فعلوا ما أوجب الهزيمة وما يمس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالاعتراض عليه فإنهم قالوا ان النبي هو الذي أورد من قتل منهم إلى ذلك ولكن عظمة رحمة الله تعالى التي أنزلها على رسوله الكريم شملت الجميع فخاطب رسوله الكريم لأنه أرسله رحمة للعالمين كما قال عز شأنه (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الأنبياء ـ ١٠٧.

ومما ذكرنا يظهر ان الفاء في قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ) هو لترتيب مضمون الكلام على ما سبق ، والمعروف ان «ما» زائدة جاءت مؤكدة للكلام ، وادعي الإجماع عليه. ولكنه موهون لأنه ليس في القرآن الكريم حرف زائد مضافا إلى ذهاب جمع إلى الخلاف في المقام وسيأتي في البحث الادبي ما يتعلق بذلك.

٦

قوله تعالى : (لِنْتَ لَهُمْ).

مادة (لين) تدل على ضد الخشونة والصلابة وفي حديث أوصاف المؤمنين «يتلون كتاب الله لينا» اي سهلا على ألسنتهم لكثرة تلاوتهم له.

والمعنى : مع كون المؤمنين على ما وصفناهم فبرحمة من الله تعالى عليك حيث جعلك متصفا بمكارم الأخلاق لان جانبك ورؤفت بالمؤمنين وصرت تحتملهم وتعطف عليهم وتعفو عنهم وتشاورهم في الأمر مع ما هم عليه من اختلاف الآراء والأحوال وما صدر عنهم مما أوجب اللوم والعتاب والتعنيف وعدم رضاء الله تعالى عنهم وبسبب هذه الرحمة العظيمة التي من بها عزوجل عليهم وبواسطة الفيض دخلوا تحت لوائه واهتدوا بهداه وأقيم عمود الدين وانتظمت شؤون الإسلام وانقمعت شوكة الكفر والطغيان.

قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

الفظاظة : هي الخشونة والشراسة في الأخلاق. وغليظ القلب : اي قسيّ القلب والثاني سبب للأول فان غلظة القلب وقساوته سبب للفظاظة ، وقدمها لظهورها في بادئ الأمر.

وانما أكد عليهما عزوجل لأنه يتبعهما كل صفة ذميمة ، والانفضاض التفرق قال تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) الجمعة ـ ١١ وتستعمل في موارد التفرق الموجب للسقوط في الهاوية والردى.

٧

والآية المباركة ترشد إلى أهم ما يجب على الزعيم الروحي ان يتحلى به وهو نبذ كل ما يوجب نفرة الناس منه قولا أو فعلا فانه مهما كثرت فضائله وعمت نوائله وفواضله لكنهم يتفرقون عنه ويتركونه وشأنه إذا رأوا منه ما يوجب تنفيرهم عنه فلا ينتظم أمره ولا يستقيم شأنه وتفوته الغاية التي بعث الأنبياء لأجلها وهي الهداية والإرشاد والدعوة إلى الطاعة والعبودية.

وهكذا يقرر الإسلام صفات القائد الإلهي كالرسول العظيم الذي هو متصف بمكارم الأخلاق وبالمؤمنين رؤوف رحيم مهتم بإرشادهم وحريص على هدايتهم.

قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ).

بيان لسيرته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع المؤمنين وتقريره تعالى لها وقد امره عزوجل بعدم الترتيب على أفعالهم اثر المعصية إذا خالفوه في امر الجهاد والقتال وما يرجع إلى نفسه المقدسة ويطلب لهم من الله تعالى المغفرة في ذلك.

قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

المشاورة المناظرة والمراجعة في أخذ الرأي واستخلاصه من الغير قيل انه مأخوذ من شرت العسل إذا اجتباه واستخرجه من موضعه والاسم الشورى والمشورة بسكون الشين وفتح الواو.

والمراد بالأمر هو ما يهتم بشأنه كالحرب وما يتعلّق بها ، كما هو المنساق من الآيات الشريفة ولا تشمل الآية المباركة امور الدين وما يتعلق به أو ما انزل فيه الوحي من امور الدنيا.

يعني : وشاورهم في ما يعرض عليك من الأمور في ما يهتم بشأنه

٨

لمصالح كثيرة منها استصلاحهم وتطميعا لهم في الدخول في مكارم الإسلام والتخلق بفضائل الأخلاق واستمالة لقلوبهم وتعليما لامته بعدم تركها في أمورهم. وإلا فانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يكن بحاجة إليهم ولم تفده المشاورة ـ علما أو سدادا أو صلاحا ـ كيف وهو المسدد من قبل الله تعالى وقد قال عزوجل في شأنه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) والنجم ـ ٤ وعن الحسن بن علي (عليهما‌السلام) «قد علم الله انه ما به إليهم حاجة ولكن أراد ان يستن به من بعده» وعن ابن عباس عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اما ان الله ورسوله لغنيّان عنها ـ اي المشاورة ـ ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا».

والآية الشريفة تدل على إمضاء سيرته عزوجل مع المؤمنين كالآية السابقة في المشاورة معهم ، والله تعالى راض عنه ، وقد استشار مع أصحابه في عدة مواطن منها غزوة بدر الكبرى حين ما نزل عند ادني ماء بدر فأشاروا عليه ان ينزل ادنى ماء من القوم. وكاستشارته في غزوة أحد عند ما كان رأيه ان يبقى في المدينة ويحارب فيها وقد اشاروا عليه الخروج عنها إلى أحد.

وكيف كان فللشورى فوائد جمة ومصالح كثيرة ، وقد وردت روايات كثيرة في مدحها ففي الحديث عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» وعن علي (عليه‌السلام) «لا ظهير كالمشاورة وما ندم من استشار».

قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

إرشاد الهي بعدم الاتكال على المشاورة. والعزم : عقد القلب

٩

والإمضاء على إتيان الفعل بعد المشورة وعزم قلبه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انما يكون بنور الله تعالى وتسديده له.

والتوكل على الله : هو تفويض الأمر اليه عزوجل فانه الأعلم بمصالح العباد وهو يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد ، والمشورة والفكر وإحكام الرأي وإمضائه لا تكفي في النجاح إلا بتوفيق من الله تعالى وتسديد منه ولا تؤثر الأسباب إلا به تعالى ، فان الموانع كثيرة لا يعلمها ولا يقدر احد ان يزيلها إلا الله عزوجل.

ومن ذلك يعرف ان التوكل انما يتم إذا استحكم الإنسان امره واستكمل العدة وراعى الأسباب العادية الظاهرية ولكن لا يعول عليها ولا يتكل على حوله بل على حول الله وقدرته عزوجل فلا ينافي التوكل مراعاة الأسباب العادية.

وللتوكل فوائد جمة ايضا منها اظهار العجز والعبودية وغيرها كما ياتي في البحث الاخلاقي ان شاء الله تعالى.

وانما اتى عزوجل اسم الجلالة لبيان ان هذه الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية تستدعي التوكل عليه ولا ينبغي للإنسان ان يتكل على نفسه وهو العاجز عن تدبيرها.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

المنقطعين اليه الواثقين به وإذا أحب الله تعالى أحدا كان وليسا وناصرا له ولم يخذله بحال ، ومحبة الله تعالى هي من أعظم الكمالات التي يسعى الإنسان إليها وهي الخير بجميع معنى الكلمة.

١٠

قوله تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ).

جملة مستأنفة ترغب المؤمنين الى طاعة من يستمد منه النصر وتحذّرهم عن عصيان من يكون عصيانه سببا للخذلان ، والخطاب فيها تشريفا للمؤمنين يدعوهم الى التوكل بيان وجه من وجوه الحكمة في وجوب التوكل على الله تعالى وهو ان الإنسان إذا استعد للعمل وهيئ مقدماته على قدر المستطاع وهو لا يعلم عواقب الأمور فتوكل على من يعلمها ويدبرها على النحو الأحسن فلا محالة تحصل في نفسه ثقة واطمينان بتحققه ، وقد اقتضت حكمته محبة المتوكلين عليه ونصرتهم فإذا نصرهم فلا يغلب احد عليه.

وقوله تعالى : (فَلا غالِبَ لَكُمْ) يبين نفي الجنس بنفي جميع افراد الغالب ذاتا وصفة وهذا ابلغ من قول «لا يغلبكم احد» لأنه يدل على نفي الصفة فقط.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ).

اي : وان أراد تعالى خذلانكم بسبب معاصيكم وعدم توكلكم عليه فلا احد يملك نصركم بعد خذلانه. والاستفهام إنكاري يفيد نفي التأخير ، والكلام في قوله تعالى : (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ) على حد قوله تعالى (فَلا غالِبَ لَكُمْ) من نفي الجنس بنفي جميع افراد الناصرين ذاتا وصفة.

وانما لم يذكر سبحانه النفي صريحا في هذه الآية المباركة كما ذكره في جواب الشرط الاول تلطفا بالمؤمنين حيث لم يصرح سبحانه بانه لا ناصر لهم واكتفى بعدم الغلبة لهم وان كان هذا يفيد ذلك أيضا.

١١

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

اي : ان ايمان المؤمنين يستدعي التوكل على الله تعالى فانه لا ناصر ولا معين لهم إلا هو عزوجل المستجمع لجميع صفات الكمال وهو الذي وعد المؤمنين بالنصر يوفقهم الى ذلك واليه يكون التجائوهم.

بحوث المقام

بحث ادبي :

تقدم ان المعروف بين المفسرين ان «ما» في قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) زائدة جاءت مؤكدة ، وادعى الطبرسي والزجاج الإجماع عليه ، ولكنه موهون لذهاب جمع إلى الخلاف حيث ذهب جماعة إلى انها نكرة بمعنى (شيء) و «رحمة» بدل منها. وقال جمع آخر : ان «ما» لتفخيم قدر الرحمة التي لان بها لهم ويرجع هذا إلى قول من قال بأن (ما) استفهامية للتعجب والتقدير. والتنوين في رحمة للتفخيم يضاف إلى ذلك انه لم يرد شيء في القرآن الكريم إلا لمعنى مفيد ولم يكن حرف من حروف القرآن زائدة.

والفاء في قوله تعالى : (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لبيان ترتيب ما بعدها على ما تقدم من غلبة المؤمنين على تقدير نصر الله لهم أو مغلوبيتهم وخذلانه إياهم والعلم بذلك يستدعي قصر التوكل عليه عزوجل.

وقد اشتملت الآية الشريفة (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ

١٢

فِي الْأَمْرِ) على أسلوب لطيف وترتيب حسن يقبله الذوق السليم والطبع المستقيم فقد امر عزوجل بالعفو عن الحقوق التي ترجع إلى نفسه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم طلب الاستغفار من الله تعالى لهم فيما يتعلق بحقوقه عزوجل ، فإذا زال المانع عنهم واستعدوا للمشاورة امر عزوجل بالمشورة معهم ، ثم امر بإظهار العبودية لله تعالى وعدم الاعتماد على غيره عزوجل بالتوكل عليه تعالى والانقطاع اليه فانه لا ملجأ إلا اليه ولا منجا إلا به.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول : يستفاد من قوله تعالى : «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ـ إلى أخر الآية الشريفة ـ» ان النبوات السماوية تتقوم بأمرين :

الاول : المظهرية التامة لأخلاق الله تعالى والمرآتية الكاملة للوحي المبين.

الثاني : اجتماع جميع الجهات الانسانية في النبي من دون نقص فيها وبالأول يستفيض من الله تعالى ، وبالثاني يخالط الناس ويعاشرهم فيفيدهم ، وتدل على ما قلناه الادلة العقلية والنقلية قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) الانعام ـ ٩ وقال تعالى : «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» الكهف ـ ١١٠ وقال تعالى حكاية عن الكافرين : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) الفرقان ـ ٧ وهذا الأمر لا يختص بني دون آخر فهو جار في جميع الأنبياء والمرسلين بل يجري بالنسبة الى اولياء

١٣

الله الداعين اليه المستمدين علومهم من قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) البقرة ـ ٢٨٢ واما سيد الأنبياء وخاتمهم فمقامه الجمع الجمعي من أجل المقامات وأعلاها ففي كل آن له سفران سفر من الخلق إلى الحق المطلق لأن يأخذ منه الكمالات المعنوية التي بها يربّي العباد تربية حقيقية كاملة ، وسفر من الحق إلى الخلق لتربية النفوس المستعدة ، وأسفاره الجسمانية وان كانت محدودة ولكن أسفاره الروحانية لا تعد ولا تحصى كيف وهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقول : «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ربي» بل قول خليل الله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الشعراء ـ ٨٠ يدل على ان لهم صلوات الله عليهم عالما خاصا غير ما نحن فيه وان كانوا يشتركون معنا في كثير من الأمور.

والآيات الشريفة التي تقدم تفسيرها تدل على ما ذكرناه فهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مظهر الرحمة الإلهية واخلاق الله تعالى ؛ كما انه بشر كسائر البشر وقد أمر بأن يخالط الناس ويتشاور معهم.

الثاني : الآيات الشريفة تدل على ان الرحمة واللين مع الخلق والتودد معهم والرحمة لهم من أجلّ صفات الله تعالى فأفاضها على نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فصارت من سيرته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما ان العفو عنهم ، والاستغفار لهم ، والمشاورة معهم كانت كذلك والله سبحانه وتعالى راض عن فعله.

الثالث : يتضمن قوله تعالى : «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ـ الآية ـ» على شروط التوكل على الله تعالى وهي المخالطة مع الناس بأحسن وجه وتهيئة الأسباب والمقدمات والمشاورة معهم وتبيين الوجه الصحيح

١٤

وعزم النية وعقد القلب ثم التوكل عليه عزوجل في إصلاح الأمور وإنجاحها وسيأتي في البحث الاخلاقي تفصيل ذلك

الرابع : يدل قوله تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) على ان الأثر المهم المترتب على التوكل على الله هو النصر على الأعداء والظفر بالمراد ، ولا يمكن ان يدفع ذلك احد مهما كانت مرتبته أو عظمت سلطته ، لأنه يدخل في سلطان الله تعالى وهو القوي الذي لا يغلب.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ان شأن المؤمن ان يتوكل على الله ولا ينبغي له التخلي عنه بعد أن آمن به عزوجل وعلم بانه مسبب الأسباب وان الأمور تحت ارادته ومشيته ولا ناصر له غيره عزوجل فلا محيص من التوكل عليه ولذا كان التوكل من شأن جميع الأنبياء والمرسلين واولياء الله الصالحين.

السادس : يدل قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) على ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مثال الانسانية الكاملة والمرآتية الكبرى لله جلّ جلاله وقد خلق من رحمته عزوجل كما أرسله رحمة للعالمين فصار لينا لهم كما هو شأنه عزوجل فقد سبقت رحمته غضبه وعلى هذا يكون قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) قضية فرضية امتناعية كما هو شأن غالب استعمالات كلمة «لو» فان صدقها انما يكون بصدق لزوم ترتب الجزاء على الشرط لا الوقوع الخارجي ، فتصدق هذه القضية مع الامتناع للشرط مهما كان ترتب الجزاء على الشرط لازما ولو امتنع الشرط.

وكيف كان فهذا الخطاب البليغ مع إيجازه يبين أقصى مراتب الانسانية الكاملة.

١٥

بحث روائي

في الخصال عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال : «سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) عن قوله عزوجل : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) وقوله عزوجل : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)» فقال (ع) : إذا فعل العبد ما أمره الله عزوجل به من الطاعة كان وفقا لأمر الله سمي العبد موفقا ، وإذا أراد العبد ان يدخل في شيء من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى بينه وبين المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ومتى خلى بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتى يركبها فقد خذله ولم ينصره».

أقول : مثل هذا الحديث يبين حقيقة الايمان وكيفية انسلاخ العبد عنه وبيان مراتب التوفيق له ، فيكون كل ذلك بمنشأية نفسه والإمدادات الغيبية ، فالخذلان من نفس العبد إذا تجرى على المعاصي ، كما ان الوصول الى المراتب يكون من نفسه أيضا.

وفي تفسير العياشي عن علي بن مهزيار : «كتب إليّ ابو جعفر الجواد (عليه‌السلام) ان اسأل فلانا يشير عليّ ويتخير لنفسه فهو يعلم ما يجوز في بلده وكيف يعامل السلاطين فان المشورة مباركة قال الله تعالى لنبيه في محكم كتابه (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) فان كان ما يقول مما يجوز كنت أصوب رأيه ، وان كان غير ذلك رجوت ان أضعه على الطريق الواضح ان شاء الله. (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)

١٦

قال (ع) : يعني الاستخارة».

أقول الاستخارة من المؤمن من احدى مراتب التوكل لفرض ان المستخير يكل امره إلى الله تعالى والمراد من قوله (عليه‌السلام) «ويتخير لنفسه» اي : اختيار. مورد المشورة لنفسه وبيانه لغيره.

بحث اخلاقي

التوكل : فضيلة من الفضائل السامية وخلق كريم من مكارم الأخلاق وخصلة حميدة ، ومنزل شريف من منازل الايمان ومقام رفيع من مقامات الموقنين بل أفضل مقامات الانسانية الكاملة ، به يظهر المؤمن صدق إيمانه وثبات اعتقاده ويجتمع فيه كثير من الفضائل والخصال الحميدة فهو قرين الصدق والعز والاستعانة بالله العظيم وغيرها وبه ينتظم العلم والحال والعمل. وكفى به فضلا ومنقبة ان الله تعالى يحب المتوكلين وهو من اخلاق الأنبياء العظام ، ولمكانته السامية فقد امر به عزوجل نبيه الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالتحلي به في عدة مواطن من كتابه الكريم ، وقد ورد في فضل التوكل ومدحه والترغيب اليه من الكتاب الكريم والسنة الشريفة الشيء الكثير ونحن نذكر في هذا البحث ما ورد في التوكل من الفضل ، ومعنى التوكل ، وحقيقته ، وشروطه ، وآثاره ،

فضل التوكل :

قد ورد في مدح التوكل وفضله والترغيب اليه والحث على التحلي

١٧

به في الكتاب الكريم والسنة الشريفة ما يبهر منه العقول.

التوكل في الكتاب الكريم :

وردت مادة (وكل) في القرآن المجيد على ما يناهز السبعين موضعا وغالب استعمالاتها تدل على مدحه والترغيب اليه قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق ـ ٣ ، وقال تعالى : «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ «عَزِيزٌ حَكِيمٌ» الأنفال ـ ٥٠ وقال تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران ـ ١٥٩.

وقد ورد قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) آل عمران ـ ١٦٠ في عدة مواضع وكذا قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ابراهيم ـ ١٢ وقال تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) المائدة ـ ٢٣ ويستفاد منه ان الايمان منوط بالتوكل وقال تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الشورى ـ ٣٦ وهذه الآية المباركة تبين حقيقة التوكل على ما ستعرف.

ويستفاد من الآيات الواردة في شأن الأنبياء ان التوكل كان من سيرتهم وأنه فضيلة مشتركة بينهم قال تعالى حكاية عن ابراهيم (ع) والذي معه (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) الممتحنة ـ ٤ وقال تعالى حكاية عن يعقوب (عليه‌السلام) : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)

١٨

يوسف ـ ٦٧ وقال تعالى حكاية عن موسى (عليه‌السلام) : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يونس ـ ٨٥ وقال تعالى حكاية عن شعيب : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) الأعراف ـ ٨٩ وقال تعالى حكاية عن هود (عليه‌السلام) : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هود ـ ٥٦ وقال تعالى حكاية عن صالح (عليه‌السلام) : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود ـ ٨٨ وقال تعالى حكاية عن نوح (عليه‌السلام) (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) يونس ـ ٧١. وقد تحدث سبحانه وتعالى عن جمع من الرسل (عليهم‌السلام) وحكى عن شأنهم وذكر ان التوكل من عمدة صفاتهم ومن سيرتهم وهو والصبر قرينان لديهم قال تعالى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ابراهيم ـ ١٢.

ويكفى في فضله ان الله تعالى قد امر به نبيه الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مواضع كثيرة من كتابه الكريم قال تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) النساء ـ ٨١ وقال تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) التوبة ـ ١٢٩ وقال تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ

١٩

عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران ـ ١٥٩. والمستفاد من جميع ذلك ان التوكل فضيلة سامية وانه من أعلى مقامات التوحيد وهو يدل على كمال ايمان المؤمنين ولذا كان من صفات الأنبياء الكرام والمؤمنين المخلصين بل هو توحيد عملي يكشف عن درجة الايمان وشدة اعتمادهم على الله عزوجل قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الأنفال ـ ٢. ويستفاد منه ان التوكل اجلى برهان واحكم علامة على ثبات عقيدة المؤمن ورسوخ التوحيد في قلبه لأنه لا يرى لغيره عزوجل سلطة وشأنا فهو خاضع له يطلب منه وحده تهيئة الأسباب وتدبيرها قال تعالى في الشيطان : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) النحل ـ ٩٠ وسيأتي مزيد بيان.

التوكل في السنة الشريفة :

وردت أحاديث كثيرة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والائمة الهداة (عليهم‌السلام) تدل على فضل التوكل على الله وجميعها ـ سواء القولية والفعلية ـ تحكي سيرتهم التي تدل على شدة اعتمادهم على الله تعالى وتفويضهم الأمر اليه وتحريض الناس عليه ففي الحديث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه قال : «من انقطع إلى الله عزوجل كفاه الله كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها».

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لو انكم تتوكلون على الله حق

٢٠