مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

يتوهم ان الموت هو سبب لصيرورة الميت كالجماد روحا وبدنا وانعدام كل منهما فلا حياة بعد ذلك وراء هذه الحياة الدنيا ولا بعث. والتعبير بالحسبان للاعلان ببطلان هذا الزعم وفساده.

والمراد بسبيل الله كل سبيل شرع لإقامة الحق وإزاحة الباطل وقمعه سواء كان من الجهاد الأكبر أو الجهاد الأصغر ، وتعلم المعارف الربوبية والاحكام الشرعية ، وتهذيب النفس بما يرتضيه الله تعالى ، بل ويشمل السعي في قضاء حوائج المؤمنين تقربا إلى الله تعالى ؛ فكل من قتل في سبيل تلك تشمله الآية الشريفة.

كما ان المراد بالموت هنا هو الموت الظاهري وسقوط الإدراك لأجل مفارقة تلك الحياة الحيوانية المعروفة.

والحياة الثانية هي الحياة الواقعية المعنوية ، فالشهيد بالحق وفي الحق تصعد روحه الى الجنة وتعيش في المقامات المعدة لها ، فتكون أرواح الشهداء من مظاهر تجليات الحق بالحق ومن شوارق اشعة الذات غير المحدودة بحد أبدا.

فالآية الشريفة تبين حقيقة من الحقائق الواقعية وهي الحياة بعد الموت وان الإنسان بروحه لا بجسده فحسب فهي التي تشقى أو تسعد والمنافقون وغيرهم غفلوا عن هذه الحقيقة واقتصروا على ما هو المحسوس وكان قصدهم من ذلك تثبيط المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله تعالى وتقنيطهم عن مأمولهم وما كانوا يرجونه في جهادهم وقتلهم في سبيل الله تعالى لكن الوجدان الانساني يعلن بطلان أقوالهم ويحكم عليهم بالخزي والعار وان نصيبهم من ذلك الحرمان والشقاء.

فالآية المباركة ترشد إلى أمر وجداني يذعن الإنسان به بعد أدنى تفكر وروية ، ولعل ذلك كله هو الوجه في تأكيد هذه الحقيقة في القرآن

٦١

الكريم وتكرارها في مواضع متعددة منه وقد تقدم في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) البقرة ـ ١٥٤ فقد نفى عزوجل عنهم الشعور لكثرة انسهم بالماديات وغفلتهم عن الحقائق والمعنويات وبعد التفكير وعدم الاقتصار على الجانب المادي فقط في هذه الحياة تنكشف الحقيقة بوضوح هذا وللإذعان بهذه الحقيقة فوائد كثيرة فانه يوجب الاعتقاد ببقاء الروح وانها تنتقل من عالم الى عالم آخر ، كما انه يقتضي زوال كثير من الهموم والغموم التي تصيب الإنسان في الحياة الدنيا وشدة الاقدام والمثابرة في تحمل المكاره للعلم بأنها إذا كانت في سبيل الله تعالى فان لها الجزاء الأوفى وهي توجب السعادة والعيش الهنيء في العقبى.

ولذا نرى ان هذه الحقيقة انما تذكر بعد آيات الجهاد والقتال في سبيل الله لما لها الأثر الكبير على الصبر في ميدان القتال والمثابرة عند النزال.

كما ان الاعتقاد بهذه الحقيقة يكون من اسباب استكمال الإنسان واعداد نفسه لحياة اخرى بوجه أتم وأكمل كما تدل عليه ذيل الآية الشريفة وآيات اخرى في مواضع متعددة ، يضاف إلى ذلك ان لها الأثر الكبير في النفس فتجعلها مطمئنة راضية بما قسمه الله تعالى وما ينزل عليها من المصائب.

قوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

إبطال لما زعموه في المقتولين في سبيل الله تعالى بأنهم أموات قد انتهت حياتهم بل هم احياء بحياة خاصة ومقربون عند ربهم يتغمون بأنواع الرزق في تلك الحياة الكريمة وسعداء في ذلك العالم الحميد ، وقد كرمهم عزوجل بذكر (عند) والربوبية واضافتها إلى ضمير

٦٢

(هم) وفيه غاية التكريم والتبجيل وقد تقدم في آية (١٥٤) من سورة البقرة بعض الكلام فراجع.

قوله تعالى : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

الفرح : السرور وهو ضد الحزن اي : انهم مسرورون بما وجدوه من فضل الله الذي كان حاضرا مشهودا عندهم ، والفضل هذا يكون زائدا على الرزق فانه ما كان من غير مقابلة قال تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) فاطر ـ ٣٠.

وهذه الآية الشريفة تثبت الحياة الكاملة لهم بعد قتلهم ، وتبين نهاية السعادة ورفعة الدرجات.

قوله تعالى : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ).

مزيد بيان لتلك الحياة فإنهم في تنعمهم في فضل الله تعالى يفرحون بأخبار خيار المؤمنين الباقين في الحياة الدنيا ويستبشرون بسعادتهم وصلاحهم في الآخرة. وانما عبر تعالى : (مِنْ خَلْفِهِمْ) لبيان انهم على طريقة الشهداء ويقتفون أثرهم.

قوله تعالى : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

بيان لصلاحهم في الآخرة اي : انهم يستبشرون بمن خلفهم بأنهم لا خوف عليهم من المتوقع ولا هم يحزنون من الواقع وانما كان ذلك منهم مشاهدة وإرشادا للمؤمنين بأن لا يخافوا مما يصيبهم ولا يحزنوا مقابل تلك المقامات العالية.

وقد أبهم الخوف والحزن لتدل على التعميم من كل جهة يمكن ان تفرض ، لان النكرة في سياق النفي تفيد العموم.

٦٣

قوله تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ).

جملة مستقلة لم يذكر فيها حرف العطف اهتماما وتعظيما لأن مفادها نعمة عظيمة فوق جميع النعم.

والاستبشار هو الخبر السار الظاهر سروره على البشرة وهذا الاستبشار أعم من الاستبشار بحال أنفسهم والاستبشار بحال غيرهم ، وانما حصلت هذه الفضيلة لهم من مجاهداتهم في سبيل الله تعالى والاصطبار عليها.

والنعمة : هي الأجر الجزيل الذي اتحفهم تعالى به وخصهم بولايتهم ، والفضل هو الكرامة التي حباهم عزوجل زيادة على أجرهم وجزائهم نظير قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) يونس ـ ٢٦.

وانما جمع عزوجل بين الاستبشار بانتفاء الخوف والحزن ، والاستبشار بنعمة من الله وفضل لبيان تمامية النعمة وكمال الحياة بعد الموت ، والإرشاد الى ان أعمالهم مشكورة ومقبولة عند الله وهي محفوظة لهم قال تعالى : «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ» البقرة ـ ١١٠ ولعله لأجل ذلك كله كرر سبحانه وتعالى الاستبشار والفضل في الآيات المتقدمة.

وقد أبهم عزوجل النعمة وأضافها الى نفسه جلّ جلاله ليقترن الفخامة الذاتية لفخامة الاضافية ، وليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن ، كما انه عزوجل جمع بين النعمة والفضل لبيان ان النعمة التي أنعمها الله تعالى عليهم مضاعفة ولا نهاية لسرورهم ولذّاتهم ولا حد لعناياته عزوجل بهم.

قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).

تأكيد آخر بتوفية الله اجر المؤمنين من الشهداء وغيرهم من غير

٦٤

نقصان ، والآية الشريفة تبين وجه نفي الحزن والخوف عنهم فان الإنسان انما يخاف إذا كانت النعمة التي هو فيها في معرض الزوال ، ويحزن إذا علم بفقدان السعادة التي اكتسبها فإذا تيقن بأن الأعمال محفوظة عند الله تعالى وانه عزوجل لا يضيع الأجر عنده فيرتفع الخوف والحزن عنه وهذا هو الفضل الذي ذكره تعالى ابتداء وإذا كان عزوجل هو الذي يتولى أمرهم ويمنحهم الفضل الكبير لا وجه للحزن والخوف عنده.

وانما ذكر عزوجل المؤمنين تنويها بمقامهم السامي وان تلك المقامات التي ذكرها عزوجل انما تنال بالإيمان. فما ذكره تعالى في هذه الآيات انما هو لبيان تمام النعمة والدخول في حياة كاملة لا ينغصها شيء من الكدورات وقد خصهم عزوجل بولايته ومنحهم انواع النعم.

والآيات الشريفة المتقدمة من أجل الآيات التي وردت في اثبات الحياة للروح بعد الموت واثبات عالم البرزخ وتنعم أرواح الشهداء وابطال مزاعم الكفار والمنافقين في هذا المجال وهي في غاية الفصاحة والبلاغة بأسلوب جذاب لطيف في منتهى الجمال والروعة وقد ذكر عزوجل فيها من الدقائق والرموز التي لا يمكن ان يدركها عقول سائر الناس إلا بواسطة الوحي المبين وارشاد واسطة الفيض الربوبي وهي تدل على امور نحن نذكر جملة منها في المقام.

منها : انه عزوجل ذكر ابتداء الأمر بطلان كل ما قيل من السوء أو يقال في هذا المجال وبين فساد مزاعم المنافقين في أرواح الشهداء والمؤمنين وأدرج جميع ذلك في قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ويستفاد من ذلك ان الاعتقاد بخلاف ما ذكره عزوجل من مجرد الحسبان الذي لا واقع له.

٦٥

ومنها : ثبوت الحياة الكاملة لأرواح الشهداء التي شرّفها عزوجل وانها حاظت مقام القرب لديه الذي هو من أجل المقامات ولا يعقل محمدة فوق هذه المحمدة لان الشهداء بذلوا أعز الأشياء عندهم وهي الروح فإذا فدّى الإنسان ما هو أعز الأشياء لديه في سبيله جلت عظمته كان الجزاء عظيما وينال ذلك المقام العظيم وهو مقام القرب ولذا ورد في الحديث انه «فوق كل بر بر إلا القتل في سبيل الله فليس فوقه بر» والعندية المذكورة في الآية المباركة ليس المراد بها العندية الظاهرية بل العندية الواقعية الحقيقية التي لا يعقل لها حد. وليس لجلالها ولا لكمالها غاية فهي خارجة عن الحدود الامكانية وإدراكات العقول ورزقنا الله تعالى لمحة من لمحاتها وشارقة من شوارقها.

ومنها : انها تتنعم في تلك الحياة بأنواع الرزق الظاهرية والمعنوية بجميع مراتبها فلا ينقص من تلك الحياة شيء من اسباب العيش الهنيء وقد منحهم عزوجل ذلك الرزق العظيم لأنهم حرموا في هذه الحياة المحدودة الفانية عن تلك الأرزاق ببذل أعز شيء عندهم في سبيل الله تعالى وكانوا في جهاد مستمر مع النفس الأمارة واعداء الله تعالى.

ومنها : انهم فرحون بما أتاهم الله تعالى من فضله لأنهم وجدوا جزاء أعمالهم تاما كاملا قد منحهم الله تعالى الفضل الكبير ، وهذا الفرح مما يزيد في بهجة تلك الحياة ، وانما كانوا فرحين فيها لأنهم كانوا محزونون في الحياة الدنيا بسبب افعال الكافرين والمنافقين وأقوالهم وما كان يصيبهم من شدة البلاء والمثابرة في سبيل الله تعالى.

ومنها : ان المقتولين في سبيل الله تعالى لما كانوا يحيون حياة كاملة ويتنعمون فيها بأنواع الرزق وهم فرحون فيها لا يحزنهم شيء مما كان يحزنهم في هذه الحياة الفانية قد أتم الله تعالى عليهم النعمة وانهم في

٦٦

اتصال مع خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا يستخبرون عن أحوالهم ويصل إليهم اخبارهم ويسألون عن شؤونهم ويسرون بصلاحهم ، ويفرحون بنجاتهم عن سوء العقاب.

ومنها : انهم بمشاهدتهم جزاء أعمالهم واعمال المؤمنين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وبذلك كملت حياتهم لان الحياة التي اشتملت على جميع اللذات واسباب الفرح وخلصت من جميع ما يوجب الحزن والخوف لا يعقل فوقها كمال وإذا كان ذلك على وجه الدوام والخلود ولم يكن في معرض الزوال فلا نقمة من هذه الجهة ايضا ، فهذه هي السعادة العظمى ، ولذا نرى ان الله تعالى يؤكد على هذا الجانب في آيات اخرى قال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) القصص ـ ٦٠ وقال تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) النحل ـ ٩٦.

ومنها : انهم في ولاية الله تعالى يرعى شؤونهم ويفيض عليهم ما يوجب استبشارهم في كل آن لأنهم رأوا جزاء ما عملوا حاضرا قد زانه الفضل من الله تعالى وبعد اجتماع تلك الخصوصيات في هذه الحياة لا يعقل حياة ولا سعادة فوقها.

قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ).

الآية الشريفة باسلوبها اللطيف تبين كيفية تأثير التربية الحقيقة الملهمة في نفوس المؤمنين بعد ان وعوا تلك الدروس الهائلة التي مرت بهم في معركة احد ، وبعد ما لاقوا من الشدائد والصعاب بسبب المخالفة والعصيان ، فكانت حصيلة تلك التعليمات الإلهية والارشادات الربوبية انهم هبّوا من غفلتهم ، وأفاقوا مما لحقهم من تبعات المعصية

٦٧

والتفرق والاختلاف ، ورجعوا إلى الحق والصراط المستقيم فاجتمعت فيهم صفات الثبات والصمود والعزيمة والتوكل على الله تعالى فأطاعوا الله والرسول واستجابوا له عند ما دعاهم إلى قتال الكفار إثر المعركة السابقة فقد لاحقوا جيش المشركين في رجوعهم من معركة احد على ما هم عليه من الجراح وهم لا يزالون يقاسون الآلام التي انهكت قواهم وأصروا على ان لا يعودوا إلى العهد السابق حذرا من العتاب والخروج عن الحق فأدوا العمل على أكمل وجه واتقوا التقصير الذي حصل منهم في تلك المعركة فكانوا في صورة مقابلة للصورة السابقة التي حكى عنها عزوجل في قوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) ـ ١٥٣ هذه هي التربية الإلهية التي تؤثر في النفوس وتغيرها إلى صورة اخرى مخالفة للتي كانت عليها قبلها ، وهؤلاء هم المؤمنون الذين حكى عنهم عزوجل آنفا بان الشهداء يستخبرون عن أحوالهم ويستبشرون بجزائهم الجزيل ومقامهم الرفيع.

وانما ذكر سبحانه وتعالى (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) مع ان اطاعة أحدهما اطاعة للآخر لبيان أن ما صدر منهم في أحد قد تضمن مخالفة الله وعصيان الرسول كليهما اما الاولى فقد خالفوا الله تعالى في أوامره بالصبر والثبات فعصوه بالفرار والتولي. واما عصيان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقد كان بمخالفة امره بالصمود في فم الشعب ولزوم مراكزهم. وفي هذه الواقعة قد استجابوا لله والرسول فاستحقوا الثناء الجميل والأجر الجزيل.

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ).

ثناء جميل لمن احسن ممن استجاب لله والرسول واتقى في أقواله

٦٨

وأفعاله وامتثل أوامر الله تعالى والرسول بحسن نية واخلاص واحترز عن كل ما يوجب البعد عنه عزوجل ، فان الله تعالى وان وصف الجميع بالاستجابة إلا انها أعم من الإحسان والتقوى اللتين عليهما مدار هذا الثناء والأجر الجزيل.

والاستجابة امر ظاهري تشمل جميع من لبّى دعوة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا ان وراء ذلك امرا خفيا لا يمكن ان يطلع عليه إلا الله تعالى وهو تحري الإخلاص ، ومراقبة العمل والتحذر مما يشينه فانه الإحسان الذي أمرنا الله تعالى بابتغائه في جميع الأحوال. وإذا لازم ذلك التقوى والتحرز عما يوجب سخط الله تعالى في الأقوال والأفعال ، فقد استحق العامل ذلك الثناء الجميل وعظيم الأجر ، وهذا مما يختص به طائفة معينة.

فالآية المباركة تقسم المستجيبين إلى طائفتين إحداهما ما حصل منهم الاستجابة الظاهرية التي خلت عن الإحسان والتقوى ، والثانية كانت محسنة ومتقية فاستحقت عظيم الأجر.

ومن ذلك يظهر ان «من» في قوله تعالى : (مِنْهُمْ) تبعيضية وقيل ان «من» بيانية وعليه الأكثر. كما في قوله تعالى : «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ـ إلى ان قال تعالى ـ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» الفتح ـ ٢٩ وعليه يكون المستجيبون لله والرسول كلهم محسنين ومتقين ، والجمع بين الوصفين انما يكون للمدح والتعليل لا التقييد ، ويمكن تقريب هذا الاحتمال على ما يوافق الاول بأن الآية الشريفة في الموردين وان كانت صورتها جارية على النوع إلا ان المراد منها البعض بالتقريب المتقدم وفي غيره يكون التأويل خلاف السياق ويأتي

٦٩

في البحث الادبي ما ينفع المقام.

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ).

اثر من آثار التربية الحقة الحقيقية انهم لا يتأثرون بأقاويل المرجفين وتحذير المنافقين بل ان اثر ذلك يكون على الخلاف فيزيد في ايمانهم بالله تعالى وتوكلهم عليه عزوجل والثبات والعزيمة وقد كان ذلك فضلا كبيرا من الله تعالى عليهم ولذا لمّا عرف المشركون عزم المؤمنين وذلك الثبات لم يصدقوا بأن فلول الجيش المتفرقة المضطربة في الأمس تريد القتال مع ما بهم من الجراح فأرهبتهم هذه العزيمة فآثروا الفرار على القرار.

والمراد بالذين هم الذين استجابوا لله والرسول فهي بدل من قوله تعالى (الَّذِينَ اسْتَجابُوا). كما ان المراد من الناس الاول هم الخاذلون المثبطون للعزيمة الذين قد اشاعوا خبر اجتماع العدو ليخذلوا المؤمنين عن القتال والمراد بالناس الثاني المشركون.

والظاهر من الآية المباركة انهم في كلا الموردين جماعة لا واحد واختلفوا في المراد من الناس الاول فقيل انه نعيم بن مسعود الأشجعي قبل إسلامه فيكون اللفظ عاما ويراد به الخاص ، وقيل انه ركب من قريش وقيل غير ذلك.

قوله تعالى : (فَزادَهُمْ إِيماناً).

اي : ان هذا القول زادهم ايمانا بالله تعالى وبرسوله لأنهم أخلصوا لله عزوجل عن جميع ما سواه وأحسنوا ظنهم به جلت عظمته وصدقوا بوعده فأثرت فيهم التربية الحقة وجنبوا أنفسهم من الرذائل والمعاصي فتجلت في قلوبهم الأنوار الربوبية فلا يبقى موضوع حينئذ

٧٠

لتأثرها بما كان من غير الحق قولا أو فعلا فيزيد التحذير والتخويف في اشتداد الايمان بربهم ولم يعد يؤثر في نفوسهم فان الإنسان إذا لم يحسن الظن بأحد واعتقد بكونه على الخلاف ويريد الإضلال والإفساد من أقواله وأفعاله فانه لا يلتفت إلى تخويفه وكل ما أصر عليه زاد في تصميمه والمضي على ما يريد وقوي العزم عنده على طاعة الله والرسول وثبت على دين الحق لأنه يرى نفسه محقا وانه على يقين من نصر الله تعالى وعلى علم من ان الله عزوجل لم يتمّ لهم أمرهم إلا مع ملاقاة الأهوال وان النصر لا يكون إلا في الجهاد مع اعداء الله تعالى والقتال معهم.

وانما يظهر اثر هذه الزيادة في الايمان في اعتقاده وأقواله وأفعاله ويشتد بذلك كله عزيمته على الاقتحام في الشدائد وتحملها في جنب الله فلا يخاف فيه لومة لائم.

قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

هذا أثر من آثار زيادة الايمان فيهم واشتداده في قلوبهم فإنهم صدقوا في أقوالهم وعبَّروا عما يجيش في نفوسهم واعتقدوا بأن الله تعالى يكفيهم من الأمور وقد اعرضوا عن ما سوى الله تعالى ، وهو نعم الوكيل الذي يدبر أمورهم ويكفيهم أعداؤهم وينصرهم عليهم لأنه لا يعجزه شيء في السموات والأرض فاجتمعت النية الصادقة والفعال الحسان والقول الحق فيهم.

وحسبنا مأخوذ من الإحساب وهو الكفاية يقال احسبني الشيء اي كفاني. وقيل انه مصدر مأول باسم الفاعل اي فحسبنا. والحق هو الاول.

٧١

قوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ).

ترتب هذه الآية الشريفة على الآية السابقة من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة ، فان المؤمن إذا وكل امره إلى الله تعالى واعتقد انه عزوجل يكفيه ويعطيه الله تعالى الجزاء العظيم.

وقد ذكر عزوجل أمورا اربعة هي ، الانقلاب بنعمة من الله ، والفضل ، وصرف السوء ، واتباع الرضا.

اما النعمة : فهي عودة المؤمنين إلى التربية الحقة والاستجابة لله والرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، والطاعة بعد المعصية والصمود بعد الخذلان وهذه هي نعمة كبرى ، فجزاهم الله تعالى بان صرف عنهم الأسواء والمهالك ، فما ذكره بعض المفسرين في هذه النعمة من ان المراد منها السلامة والعافية والرجوع عن حمراء الأسد بدون قتال انما هو تخصيص بلا مخصص نعم هي من لوازم تلك النعمة الكبرى.

واما الفضل فهو زيادة الايمان وثبات العقيدة والخروج عن العصيان والخذلان كما حصل منهم في غزوة أحد وهذا الانقلاب كان واضحا عندهم وقد استشعروا برد تلك النعمة والفضل في نفوسهم وظهرت آثارهما على أقوالهم وأفعالهم.

ومن زيادة النعمة عليهم انهم لم يمسسهم سوء فلم يصبهم قتل أو نكبة وبرأهم الله تعالى عن السوء الذي لاقوه في معركة احد.

قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ).

ثناء جميل ومدح عظيم لهم ، واتباع رضوان الله تعالى هو السعادة العظمى ومناط كل خير وقد مدح عزوجل من اتبع رضوان الله تعالى في الآيات السابقة ، وفي هذه الآية الشريفة يبين تعالى حقيقته وهي

٧٢

الاستجابة لله والرسول ، وشرطها الإحسان والتقوى.

قوله تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

لأنه تعالى وفقهم لهذه التربية الصالحة ومن عليهم ان استجابوا لله والرسول ، وأخرجهم عن ما هم عليه في معركة أحد فعادوا إلى الصراط المستقيم وزاد ايمانهم وقويت عزيمتهم واشتد توكلهم على الله تعالى ومن الفضل عليهم انهم مع ما هم عليه من الجراح والشدّة ان العدو لما رأى فيهم العزيمة على القتال خشي ان ينقلب عليه الأمر فتقع عليه الهزيمة والفرار دون القتال وهذا هو الفضل العظيم على المؤمنين في هذه الحال.

قوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ).

بعد ما اثبت سبحانه وتعالى ان المؤمنين خرجوا عن غفلتهم وعصيانهم بالاستجابة لله تعالى والرسول وانقلبوا عن التفرق والاختلاف والطاعة وتفضل عليهم ربهم ان من عليهم وثبتهم وهداهم إلى الصراط المستقيم فعادوا أقوى عزيمة وأتم ايمانا وأشد توكلا على الله تعالى إلا ان الشيطان يلعب دورا هاما في حياة الإنسان يتربص بالمؤمنين الدوائر ويريد إغواءهم ويبث أولياءه وأعوانه ليقوموا بهذه المهمة فينشروا الفساد في الأرض ويروّجوا الضلال ، فكان ذلك النداء الشيطاني بالخشية من العدو حفظا لأوليائه وحماية للكفر والضلال وتثبيطا للمؤمنين عن القتال بإلقاء الرعب والخوف في نفوسهم ليخضعوا لهم.

والآية الشريفة ترشد المؤمنين الذين كمل ايمانهم واهتدوا بهدى الله تعالى وتوكلوا عليه عزوجل حق التوكل إلى امر مهم يمس عقيدتهم وسعادتهم في الدارين وهو ترك الرهبة والخوف من الشيطان وأوليائه

٧٣

وعدم الوقوع في حبائله ووساوسه لان الخوف يستوجب الوهن في العزيمة ويلزم ذلك الطاعة لمن يخاف منه فمن خاف الله تعالى فانه لا محالة يتبع أحكامه فيبتعد عن الشيطان ، وإذا خاف الشيطان وأولياءه فانه يطيعه ويقيم حكمه فيبتعد عن الله تعالى وهذا هو السبب للتأكيد على ترك خوف الشيطان بقوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ).

واسم الإشارة في قوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) إما راجع إلى الناس المذكور في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) فيكون من اطلاق الشيطان على الشياطين. وإما ان يرجع إلى الوساوس الحاصلة بين الناس من الشيطان ، وانما اتى بضمير ذوي العقول ترجيحا للموسوسين على نفس الوسوسة.

قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

لان الايمان يستلزم خوف الله تعالى ، والخوف يوجب الطاعة كما عرفت والله تعالى هو ولي المؤمنين وناصرهم وقد وعدهم النصر وحسن الجزاء فلا ينبغي الخوف من غيره فالسعادة في خوف الله جلت عظمته وتقواه دون غيره.

وفي الآية الشريفة الذم لإبليس وأوليائه والبشرى للمؤمنين ومن اتبع رضوان الله تعالى بالأمن من شر الشيطان وأوليائه ، ولا تختص الآية الكريمة بخصوص مشركي قريش وغيرهم للعموم في الطرفين.

٧٤

بحوث المقام

بحث ادبي :

المفعول الاول في قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) محذوف وهو أنفسهم.

وقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) قيل انه في محل رفع على انه خبر ثان للمبتدأ المقدر ، أو صفة ل (احياء) ، أو في محل نصب على انه حال من الضمير في «أحياء».

وقوله تعالى : (فَرِحِينَ) منصوب إما على انه حال من الضمير في «يرزقون» أو يكون على المدح أو الوصفية.

ويستبشرون عطف على «فرحين» ويحتمل ان تكون جملة استينافية أو على تقدير (وهم يستبشرون) فتكون حالا في الضمير من (فرحين).

وقوله تعالى : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل اشتمال من «الذين من خلفهم» مبين للاستبشار.

والذين في قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) مبتدأ والخبر قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ). وقيل انه منصوب بإضمار اعني وقيل انه في موضع رفع على إضمار «هم».

ومنهم في قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) حال من الضمير في أحسنوا. ومن للتبعيض ، كما عرفت.

وقيل انها للبيان. ويرد عليه ان التي للإبهام لا بد ان تكون مباينة

٧٥

فيه إبهام في جنسه ويكون في مجرورها بيان يرفع ذلك الإبهام ، ولا إبهام في الآية الشريفة حتى يرفع ب من ومجرورها. ومما يهون الخطب انه يمكن إرجاع ذلك إلى القول الاول كما عرفت في التفسير.

وقيل ان «من» للتبعيض والضمير يرجع إلى المؤمنين في آخر الآية السابقة اي : ان من المؤمنين من لم يخرج إلى حمراء الأسد. وعلى هذا لا بد من نصب (الذين) على المدح في أول الآية المباركة إذ لا يستقيم ذلك على كون (الذين) مبتدأ والخبر جملة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) إذ تبقى الجملة بلا رابط.

ويرد على نصب (الذين) على المدح انه لا عطف يدل على المغايرة مضافا إلى ان جعلها منصوبا على المدح بعيد ، إذ لا دليل عليه.

والذين في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) بدل من (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) أو صفة.

والمخصوص بالمدح في قوله تعالى : (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) محذوف هو ضميره تعالى والجملة الخبرية ، وفي الآية الكريمة كلام طويل في عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية.

والحق ان كل ذلك تطويل بلا طائل تحته ، بل ان جميع هذه الآيات جمل مستقلة وردت في مقام مدح المؤمنين وبيان صفاتهم وجيء بالواو لتزيين الكلام.

وجملة (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) جملة مستأنفة مبينة لشيطنة الشيطان ، أو حال.

وخاف يتعدى إلى مفعول واحد ، ويتعدي بالتشديد إلى مفعول ثان ، وقد يحذف المفعول الاول كما في الآية الشريفة فان الأصل يخوفكم أوليائه. وقد يحذف المفعول الثاني كما تقول خوفني عمرو.

٧٦

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على امور:

الاول : يدل قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) على حقيقة من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن وأكد عليها في مواضع متفرقة وهي تجرد الأرواح وحياتها بعد الموت وقد كانت هذه الحقيقة مورد البحث والنظر من أول حدوث العالم ، فالروح جوهر مجرد مختلف التكون عن غيرها وهي من شعاع الذات المقدسة غير المتناهية.

والآية المباركة رد على شبهات المنافقين والمشركين من ان الإنسان يموت حين القتل في سبيل الله والموت نهاية الحياة في الأرض فتذهب ذكراه ولا يبقى له اسم ولا رسم بعد فترة تطول أو تقصر.

والمستفاد من الآية الشريفة انها تثبت الحياة بعد القتل ، وتبين أجر المؤمنين وهو الرزق عند الله تعالى ، وانه نعمة من الله تعالى وفضل منه ، وزاد عزوجل عليهم انه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهذه كلها من أهم مقومات الحياة الكاملة السعيدة الهنيئة في عالم البرزخ.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ماهية هذه الحياة السعيدة وحقيقتها التي تتقوم بالفرح والاستبشار ونفي الحزن والخوف ، وهي مرزوقة عند الله تعالى وهذا هو الحد الفاصل في ما يقال في هذه الحياة ، فلا يصغي إلى ما قد قيل فيها من ان أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ، فان أرواح المؤمنين اجلّ قدرا من ان

٧٧

يجعلهم الله تعالى في تلك الحواصل ، بل هو نحو من التناسخ الذي ثبت بطلانه.

وقد أنعم تعالى عليهم بأنواع الرزق ، وأعزهم بأن جعلهم (عنده).

الثالث : يدل قوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) على سنخية أرواح المؤمنين لعالم القدس كيف لا وان الله تعالى خلقها من روحه قال عزوجل : «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» ص ـ ٧٢ فنزلت من المحل الأرفع لتتحد مع البدن برهة من الزمن وبعد الموت أو القتل تصعد الى محلها فتكون عند ربها ، وهذه العندية أعظم قدرا من العندية المكانية أو الزمانية بل هي تبين حقيقة تلك الأرواح المقدسة التي خلقت من روح الله جلت عظمته.

فاختلاف العلماء والمفسرين في المراد من قوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لا وجه له بعد ملاحظة سياق الآية الشريفة وما ورد في هذا المضمار في مواضع متعددة من القرآن الكريم قال تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) آل عمران ـ ١٤ وقال تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) ص ـ ٤٧ وغيرهما من الآيات الشريفة.

الرابع : يدل قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) على ان القرح وما يصيب المؤمنين في ميدان القتال مع اعداء الله تعالى في اثبات الحق وإعلاء كلمة الدين وإزهاق الباطل له الأثر الكبير في تهذيب المؤمنين وإرجاعهم الى الصواب بل له دخل في النظام الأحسن فان ما لاقاه المؤمنون من المصائب والمتاعب بسبب عصيانهم وفشلهم والعتاب الشديد العنيف تارة والخفيف اللطيف اخرى كان السبب في زيادة ايمانهم والرجوع الى التربية الحقة والانقلاب عن التفرق والاختلاف الى الطاعة والاتحاد وشدة العزيمة والتوكل على

٧٨

الله تعالى فهو من المقتضيات في إعداد الإنسان نفسه بالدخول في السير التكاملي. ولأجل ذلك كانت المصائب والقرح الذي لحقهم في معركة أحد من أهم طرق التربية الإلهية الحقة. ولذا عدّ سبحانه وتعالى تلك نعمة ربانية وفضلا من الله تعالى عليهم لأنها كانت من الأسباب المهمة في تقويم النفوس واحياء القلوب فقد رجعت الى الحق وخلصت في إيمانها واشتد توكلها عليه تعالى فكان في الخذلان والهزيمة والمعصية دروسا كبيرة اثرت في نفوسهم بل كانت معركة أحد أهم مدرسة للمؤمنين عبر التاريخ.

الخامس : يمكن ان يجعل قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) من الآيات الدالة على لزوم مراعاة الاستقامة الحقيقية للحق في الحق نظير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فصلت ـ ٣٠ وقوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) هود ـ ١١٢ وقوله تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) الجن ـ ١٦ إذ لا ريب في ان بناء الشيطان وأوليائه انما هو التشكيك في عقيدة المؤمنين وبث الأشواك والمزالق في طريق الوافدين الى الله تعالى لان العبد حينئذ انما أزال جميع الحجب الظلمانية عن نفسه بالصبر والمثابرة حتى وصل إلى معدن النور والعظمة فلم يبق في البين إلا سرادق الجلال والجمال التي قال فيها جبرائيل أعظم الاملاك : «لو دنوت انملة لاحترقت» ولعل المراد بالاحتراق انطماس الحدود الامكانية بالكلية.

السادس : يدل قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ان الإحسان والتقوى هما المناط في القرب الى الله تعالى واحراز

٧٩

الأجر العظيم والثناء الجميل وهذان الأمران لا يتوفران في كل احد لان المؤمنين على درجات متفاوتة والإحسان والتقوى يكشفان عن شدة الخلوص لله تعالى فيهم وكمال الايمان عندهم وشدة ارتباطهم مع الله تعالى وذلك هو السبب في استحقاقهم لهذا الأجر العظيم الذي أبهمه تعالى ليذهب ذهن السامع إلى كل مذهب أمكن.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً) حقيقة من الحقائق القرآنية وهي دأب المنافقين واهل الباطل على التشكيك في معتقدات المؤمنين واهل الحق والسعي في فسخ عزائمهم ونقض هممهم وإلقاء الرعب والخوف في نفوسهم وهما مصدران لكل الفساد والخروج عن الطاعة ، والطغيان على الأوامر الإلهية والاحكام الربوبية.

وتبين الآيات الكريمة ان ذلك ناشئ من المضادة التي هي بين الطرفين كما ان اهل الحق يسعون في ابطال مزاعم المنافقين وإفساد مكرهم وكيدهم بالطاعة لله تعالى والرسول والاستجابة لاوامرهما ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والارشادات الحقة ولا تزول تلك المضادة إلا باضمحلال احد الضدين كما هو واضح بالوجدان.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) كمال ايمانهم وخلوصهم فيه وانهم كانوا مخلصين لله تعالى مسلّمين أمرهم اليه عزوجل قد اكتفوا بالله سبحانه عن غيره من الأسباب ، واعتقدوا بأن الله ناصرهم ومؤيدهم ؛ كما قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) الطلاق ـ ٣ فلا يخشون غير الله تعالى ولا يخافون لومة لائم وقد صدق الله وعده فيهم بأن قال : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) واعطاهم الأجر العظيم.

٨٠