مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

قوله تعالى : (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

بيان لمنته العظمى التي من بها الله تعالى على المؤمنين وتأكيد لها فقد ابتدأ عزوجل بالنعمة ان بعث فيهم رسولا عظيم الشأن جليل القدر. و(إذ) ظرف ـ ل من ـ ويتضمن التعليل.

وقد وصف سبحانه وتعالى هذا الرسول بأوصاف تدل على جلالة قدره وتؤكد المنة عليهم وان كل واحد منها نعمة جليلة تستوجب الشكر ، وهي اربع :

الاول : انه رسول من أنفسهم اي : من جنسهم فلم يكن من غير الإنسان ولا من غير العرب ليستأنسوا به كما يستأنس الرجل بأبيه وأخيه فيفهموا كلامه ويسهل التلقي منه وليتأكدوا على أحواله وكماله وملكاته العظيمة الفائقة وأخلاقه الفاضلة وغيرها مما يدعو الى الإقبال عليه والانقياد اليه والتصديق به ؛ ولئلا تأخذهم النخوة والعصبية أو العزة بالإثم من الايمان به لو كان من غيرهم ، فكان من عظيم المنة على العرب ان سهل عليهم التعرف على الرسول ويسّر لهم الايمان به وازدادوا بذلك شرفا وعزة ، وقد أكد عزوجل هذه المنة في مواضع متعددة في القرآن الكريم قطعا للمعاذير وإتماما للحجة قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجمعة ـ ٢.

قوله تعالى : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ).

وصف ثان. الآيات جمع آية والمراد بها الآيات التي أوحاها الله تعالى عليه المشتملة على جميع المعارف الإلهية والعلوم الحقيقية الواقعية. والتلاوة هي القراءة مع التدبر والتمعن ليسهل عليهم فهم تلك الآيات

٤١

ويدركوا معانيها وحقائقها وإشاراتها وقد جعل الله تعالى معجزة هذا الرسول العظيم والدليل على رسالته في القرآن الكريم الذي نزل بلغتهم.

قوله تعالى : (وَيُزَكِّيهِمْ).

وصف ثالث وهو تزكية نفوسهم وتطهيرها من العقائد الزائفة والآراء الباطلة والأخلاق الذميمة والصفات الرذيلة التي كانوا عليها قبل بعثته فان مع وجود تلك الملكات الفاسدة في النفس لا يمكنها التحلي بالمعارف الإلهية وهي حجب ظلمانية تعوق عن الوصول الى الفيض الالهي ، والتخلية متقدمة على التحلية.

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ).

وصف رابع وهو تعليمهم الكمالات الانسانية وجهات الحكمة العلمية والعملية ، والحكمة بأي معنى أخذت مما يفتقر إليها الإنسان ويعجز عن الاحاطة بها البيان.

والتعليم وان كان مترتّبا على التلاوة الا انه لا بد من التزكية التي هي عبارة عن تخلية النفس عن الرذائل والحجب وتصفية النفس وتهذيبها بالفضائل ثم تكميلها بالعلم والتعليم المترتبين على التلاوة ، ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) البقرة ـ ١٢٩ إلا ان الفرق بينهما في تقديم التزكية على التعليم وتأخيرها عنه ويأتي في البحث الدلالي ما يتعلق بذلك.

والآية المباركة تدل على ان جهات تكميل الانسانية الواقعية تكون مفوضة الى الله تعالى وليس للجهات الامكانية دخل فيها ابدا.

٤٢

قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

جملة حالية تبين حالتهم السابقة التي كانوا عليها قبل البعثة وقد وصفها الله تعالى بالجاهلية في مواضع متعددة من القرآن الكريم ، ويتضمن هذا اللفظ على جهات الفساد في العقيدة والعمل.

والمراد من قوله تعالى : (مِنْ قَبْلُ) القبلية الرتبية اي قبل العمل بالشريعة فيشمل ما بعد البعثة وقبلها.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول : يستفاد من سياق قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) تنزيه ساحة الأنبياء وطهارتهم عن السوء والفحشاء وعصمتهم عن كل معصية ورذيلة فيصح ان تجعل هذه الآية الكريمة من جملة الادلة الدالة على عصمة الأنبياء ولو عن معصية الخيانة فتتم في غيرها بالقول بعدم الفصل ، وكذا نقول في القائمين مقامهم.

الثاني : يدل قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) على تجسم الأعمال وظهور الملكات بما يناسبها من الصور والحقائق في يوم القيامة والظالم المذنب يتحمل تبعات تلك المعاصي فيحاسب عليها ويوفي جزاؤه.

الثالث : يرشد قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) على ان نسبة الخيانة إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ظلم ولا بد من التنزه عنها كما تنزه عزوجل عنه فلا يظلم عباده يوم الجزاء مطلقا.

٤٣

الرابع : يدل قوله تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) على ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا يمكن رميه بالخيانة ، والخائن باء بسخط من الله تعالى.

وفي الآية المباركة الموعظة للمؤمنين وإرشادهم الى اتباع رضوان الله تعالى والتعريض لهم بأن هذه الأقوال والأعمال من التعرض بسخط الله ولا بد من الابتعاد عنه.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ان لمن اتبع رضوان الله تعالى منازل كريمة واجرا عظيما ، وقد عبر عزوجل في موضع آخر : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) الأنفال ـ ٤ ولعل الاختلاف في التعبير باعتبار الاضافة الى الله تعالى التي هي الأصل لجميع خيرات الدنيا والآخرة فقال (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ومن حيث الاضافة الى نفس العاملين الموفين فقال : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) والجميع صحيح لا اشكال فيه ، مع انه يصح ان يقال ان اللام في قوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ) للاختصاص الذاتي كما يقال : للجنة أشجار وأوراد ورياحين.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) أهم اصل من أصول التعليم والتربية في الإسلام وهذه الآية المباركة مع إيجازها تتضمن أعظم المقومات في السير والسلوك في الأخلاق وهي تدل على ان المتبع لها يتصف بفضيلة الصلاح وهي توجب الفوز بالسعادة الفردية والاجتماعية لمن عمل بها ، كما انها تبين الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم والخيال ، فان كل من لم يتبع رضوان الله تعالى انما هو قشر بدون لب وجسد بلا روح ، وان كان الظاهر مليحا ولكنه سراب زائل وضال ولم يبين سبحانه سبل رضوان

٤٤

الله تعالى لأنها ذكرت في القرآن الكريم والسنة الشريفة وهي معلومة يحكم بحسنها العقل والفطرة المستقيمة ، ولذا ورد في الحديث «ان الذين اتبعوا رضوان الله تعالى هم الأئمة (عليهم‌السلام) لأنهم يدعون الى الكمال المطلق وهم مثال للأخلاق الفاضلة والأصل في جميع الاحكام.

السابع : يبين قوله تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ان جهات تكميل الإنسان لا بد ان تكون من الله تعالى وان مكمل الانسانية يجب أن يكون مبعوثا من قبله عزوجل لان جهات التكميل الواقعية مما لا يمكن ان يحيط بها العقل.

وبمثل هذه الآية الشريفة يمكن ان يستدل على ان وصي الرسول لا سيما خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا بد ان يكون باختيار الله تعالى وتنصيص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عليه لان ما يتمم الانسانية الواقعية مثل المكمل للانسانية لا دخل لاختيار الناس فيه فلا بد وان يكون باختيار من الله عزوجل وتعيين من واسطة الفيض بطريق التنصيب وسيأتي في الآيات اللاحقة تفصيل الكلام ان شاء الله تعالى.

الثامن : انما خص المؤمنين بالذكر في قوله تعالى ، (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) مع ان رسول الله تعالى وأنبيائه مبعوثون إلى كافة الناس لبيان مزيد المنة وتماميتها عليهم لأن تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية ولأنهم مستعدون لنيل الإفاضات الربوبية ، وقد تقدم في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ما يرتبط بالمقام فراجع.

التاسع : انما قدم عزوجل التزكية على التعليم في المقام وأخرها في قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) البقرة ـ ١٢٩

٤٥

لبيان التلازم بين التخلية والتحلية في النفوس المستعدة فلا ينافي تقديم احد المتلازمين على الآخر في موضع مع تأخره عنه في موضع آخر ، أو لأن التزكية والتعليم الواقعين لا بد ان يدعو كل واحد منهما الى الآخر وإلا فليسا من التخلية والتحلية بشيء.

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) قال (عليه‌السلام) : «فصدق الله لم يكن الله ليجعل نبيا غالا «ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة» ومن غل شيئا رآه يوم القيامة في النار ثم يكلف ان يدخل اليه فيخرجه من النار».

أقول : الحديث ينص على تجسم الأعمال وان العامل مأخوذ بعمله في الدار الآخرة.

وفي المجالس عن الصادق (عليه‌السلام) : «وإن رضاء الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ، ألم ينسبوه ـ أي نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ يوم بدر الى انه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتى أظهره الله على القطيفة وبرّأ نبيه من الخيانة ، وانزل في كتابه : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

أقول : الروايات في مضمون ذلك كثيرة مروية من الخاصة والجمهور ، ويستفاد منها انهم قد نسبوا ذلك اليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في عدة مواضع.

في الكافي عن عمار الساباطي قال : «سألت أبا عبد الله (ع)

٤٦

عن قول الله عزوجل : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) فقال (عليه‌السلام) : الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة ، وهم والله يا عمار درجات للمؤمنين ، وبولايتهم إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم ويرفع الله لهم الدرجات العلى».

أقول من كان مع الحق وفي الحق في جميع أفعاله وأقواله تنطبق عليه الآية الشريفة فتكون الرواية من باب التطبيق.

وفي تفسير العياشي عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) قال (ع) : «الدرجة ما بين السماء الى الأرض».

أقول : لا ريب في اختلاف الدرجات اختلافا كثيرا بل ربما تكون التفاوت غير متناهية.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ

٤٧

وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

الآيات الشريفة تبين جانبا من الجوانب المتعدّدة في غزوة احد فقد كشفت عن شبهات المنافقين وكيدهم في إضلال المؤمنين عن القتال وتعرضت للرد عليهم وبينت الحقيقة فيهم وانهم على الكفر والضلال.

والآيات المباركة تكشف عن الموازنة بين ما أصابهم من خسارة وهزيمة حصلت من عند أنفسهم وبين تلك النعمة العظمى والمنة الكبرى بما تحقق لهم من اتباع الرسول العظيم الذي هو من أنفسهم.

التفسير

قوله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها).

بيان لحقيقة واقعية وهي ان ما يصيب الإنسان من المصائب إنما يكون بسبب المعاصي التي تقع منه جريا على قانون الأسباب والمسببات وقد تقدم في الآيات السابقة بيان الكبرى فراجع قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) آل عمران ـ ١٤٠.

والاستفهام للتقريع فيكون السؤال الاستنكارى في موضعه. والواو عاطفة وقد تقدمت عليها همزة الاستفهام لان لها الصدارة في الكلام و «ما» ظرف بمعنى حين و (قَدْ أَصَبْتُمْ) صفة لمصيبة وقيل في محل نصب على انه حال.

والمصيبة هي التي اصابتهم يوم أحد إثر عصيان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

٤٨

ومخالفتهم لأوامره وعدم التقوى عندهم والفشل والتنازع بينهم مما كان سببا لهزيمتهم وتوبيخهم وتقريعهم. والمشهور بين المفسرين ان المراد بالمثلين : المثلان في غزوة بدر الكبرى فإنهم قتلوا من المشركين سبعين وأسروا منهم سبعين فكان ذلك مثل ما أصاب المسلمين يوم أحد من قتل سبعين منهم. والظاهر انه أعم من ذلك ومما أصاب المسلمون من المشركين في غزوة احد فقد هزموهم أول الأمر وقتلوا منهم جمعا ولكن عصيانهم للرسول وفشلهم وتنازعهم كان السبب في هزيمتهم وقتل المشركين لهم. وكيف كان ففي هذا التوصيف تسكين لقلوبهم وتحقير للمعصية ولما يورث السكون وهذا كاف في الجواب عن سؤالهم.

والمعنى : أتدرون لما ذا أصابكم تلك المصيبة فإنها كانت من عند انفسكم ونتيجة حتمية لأعمالكم لأنكم خالفتم أوامر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفشلتم واختلفتم وتنازعتم فكان ذلك سببا في إفساد الفتح والظفر اللذين كانا من نصيبكم.

قوله تعالى : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا).

سؤال عن سبب المصيبة تعجبا منهم واستيحاشا واستعظاما واستبعادا للحادثة مع مباشرتهم لسببها والجملة جواب «لما» وهذه واحدة من تلك الشبهات التي ذكروها في المقام بعد ما رأوا النصر الباهر في بدر فاعتبروا أن ذلك لأجل كونهم مسلمين ولكنهم ذهلوا عن الحقيقة.

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).

بيان للحقيقة الّتي غفلوا عنها وتأكيد لما بينه عزوجل سابقا من ان ما يصيب الإنسان انما هو آثار أفعاله ونتائج اعماله.

والمعنى : قل يا رسول الله في جوابهم انكم أخطأتم في الرأي فان الذي أصابكم انما هو بسبب أعمالكم وأفعالكم حيث خالفتم أوامر الرسول

٤٩

(صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفشلتم وتنازعتم في الرأي ، وانكم اخترتم هذه المصيبة لأنكم طمعتم بفداء الأسرى مع ان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انذرهم بأنه يقتل منهم بعددهم واشترط عليهم ذلك فرضوا به. وهذا محمول على الغالب من الذين كانوا معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واما أعاظم الصحابة مثل علي (عليه‌السلام) ونحوه فلا تشملهم الآية الشريفة فلا وجه لإشكال بعض المفسرين في المقام.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

اي : ان الله تعالى قادر على الظفر عند المطاوعة والصبر والخذلان عند المخالفة. وما وقع انما كان بسوء اختياركم وجريا على سنة الأسباب ولكنه تعالى قادر على اللطف بكم.

وفي الآية الشريفة كمال العناية بهم وتطييب لأنفسهم حيث قرن مرارة التقريع بحلاوة الوعد وفيها درس من دروس الحكمة التي يعلّمها الله تعالى للمؤمنين.

قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) بيان لقدرته الكاملة ، وذكر لاحد مصاديقها فان كل شيء لا بد ان ينتهي الى اذن الله تعالى وقدرته (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) فاطر ـ ٤٥ فكل ما أصاب المسلمين يوم التقى جمعهم بجمع المشركين في احد من قتل وجراح إنما كان باذن الله تعالى وارادته الازلية وتقديره وقضائه فانه جرت إرادته على امتحان المؤمنين وتمحيصهم ليكمل ايمانهم بذلك وينال من قتل منهم بدرجة الشهادة.

وذكر بعض المفسرين ان هذه الآية الشريفة تؤيد المراد من الآية السابقة لان المستفاد من قوله تعالى : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)

٥٠

اختيارهم الفداء من اسرى يوم بدر ، وشرطهم على أنفسهم لله ما شرطوا فأصابهم هذه المصيبة باذن الله تعالى.

وفيه : ان ظاهر هذه الآية المباركة يبين القدرة الكاملة والارادة التامة الازلية التي قضى بها عزوجل على اجراء سنة الأسباب في هذا العالم ويمكن ان يكون لما أصابهم اسباب كثيرة قد بين جملة منها في الآيات السابقة ويدل على ما ذكرناه ذيل الآية الشريفة.

قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ).

غاية اخرى من الغايات المترتبة على ما أصابهم من المصائب وهي وقوع المعلوم في الخارج ليطابق علمه الازلي اي : أصابتكم المصيبة ليعلم حال المؤمنين في قوة ايمانهم وضعفه. وليعلم الذين صبروا وثبتوا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ميدان القتال والذين آثروا الفرار وخذلوا الرسول الكريم ، فهذه الآية الشريفة لبيان وجه الحكمة والغاية والآية الاولى لبيان السبب.

وكيف كان فهذه الآيات الشريفة تبين جانبا من الجوانب المتعددة في غزوة احد التي اشتملت على وجوه من الحكمة وتضمنت غايات متعددة قلما اجتمعت في غزوة اخرى.

وانما ذكر عزوجل المؤمنين ابتداء تشريفا لهم عن الانتظام والدخول في الطائفة الاخرى فان الفريقين مختلفان من جميع الجهات ، ويمكن ان يكون ذكر اسم الفاعل الدال على الثبوت والاستمرار للاشارة الى ما ذكرناه.

قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا).

تمهيد لذكر احوال المنافقين الذين ظهروا في غزوة احد بأقبح

٥١

صورة سواء في أقوالهم أو أفعالهم. والجملة عطف على قوله تعالى : (فَبِإِذْنِ اللهِ) وانما أعاد عزوجل الفعل للتأكيد على هذه الغاية واعتناء بهذه العلة.

والمراد من (الَّذِينَ نافَقُوا) هم الذين أظهروا الايمان وابطنوا الكفر ، اي انما أصابتكم المصيبة ليظهر المنافق ويميز بينه وبين المؤمن.

وانما ذكر عزوجل هذه الطائفة بموصول صلة فعل ، للدلالة على الحدوث وعدم الثبوت بانه قد يتوب منهم بعد ذلك ويرجع الى الايمان وقد ذكرهم تعالى بعد ذكر المؤمنين للعبرة بسوء عاقبتهم والاحتراز عن أفعالهم وأقوالهم وعدم التشبه لهم.

قوله تعالى : (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا).

بيان لوجوه نفاقهم منها ان الذين نافقوا قد دعوا الى القتال في سبيل الله ونصرة دينه لينالوا الشهادة فيفوزوا بدرجاتها العالية ولو لم تقاتلوا كذلك فادفعوا عن انفسكم وأهليكم حمية أو ابتغاء للغنيمة والكسب وغير ذلك من المقاصد الدنيوية ولكنهم تكاسلوا وراوغوا بنفاقهم.

وانما ذكر عزوجل «تعالوا» لما فيه من الدلالة على التظاهر والتعاون ترغيبا لهم عليهما والمشاركة مع المؤمنين في نيل السعادة.

قوله تعالى : (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ).

مظهر من مظاهر نفاقهم فإنهم قالوا لو كنا نعلم انكم تلقون العدو لأجل القتال في سبيل الله واقامة الحق لذهبنا معكم ولكن لا نرى قتالا حقا في البين ، وهذا تعلل منهم نفاقا واستهزاء بالمؤمنين ، فان القتال معلوم حيث نزل العدو بساحتهم بجميع عدده وعدته وقد

٥٢

حنق غيظا على الحق وعلى المؤمنين به. وقد رد عزوجل عليهم وبيّن كذبهم.

والمراد باتبعناكم هو الذهاب مع المؤمنين للقتال ولم يفصحوا بالقتال لكمال معاندتهم مع الحق وغيظهم واحجامهم عن ذكره.

قوله تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ).

اي : هم يوم إذ قالوا «لو نعلم قتالا» اقرب إلى الكفر منهم قبل ذلك إلى الايمان لظهور إمارته عليهم فان هذه المقالة كفر بالله العظيم واستهزاء بالنبي الكريم فإنهم يميلون إلى الكفر اكثر من ميلهم إلى الايمان.

وانما ذكر عزوجل (يَوْمَئِذٍ) مع انهم لم يؤمنوا لرفع شأن ذلك اليوم الذي ظهر فيه الحق وتميّز المؤمن عن المنافق.

كما انه سبحانه وتعالى قال : «هم اقرب» لبيان ظهور كفرهم الصريح واما النفاق فأمره واضح لأنهم واقعوه قبل ذلك وظهر على أفعالهم وأقوالهم ، ولترغيبهم إلى الإسلام والدخول فيه ولو كانوا على خلاف الحق وعدم ايئاسهم.

قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).

بيان لحال المنافقين مطلقا ، والجملة مستأنفة تبين حقيقة نفاقهم. اي : انهم لم يؤمنوا بالحق ولم يتبعوكم ولو علموا به لأنهم على الكذب دائما واظهار خلاف ما يضمرون وذلك عادتهم وسيرتهم ، فهم مستمرون عليه. والأفواه : جمع فاه وانما ذكره عزوجل للتأكيد ومقابلة للقلوب وزيادة في التقريع ونظير ذلك قوله تعالى : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ

٥٣

فِي قُلُوبِهِمْ) الفتح ـ ١١.

قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ).

اي : انهم غافلون عن الحقيقة فان الله تعالى اعلم بما يكتمونه من الكفر والنفاق والشر والفساد وهو يحاسبهم به ويجازيهم عليه.

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا).

مظهر آخر من مظاهر نفاقهم وانما صدر منهم هذا القول بعد القتال ، كما ان القول السابق صدر منهم قبله كما هو واضح. والجملة بدل.

والمراد بإخوانهم : الاخوان في النسب ، وانما ذكره بالخصوص لأنهم يدعون الاخوة الظاهرية ومع ذلك يخالفونها ولم يفوا بدعواهم فإنهم قعدوا عن مساعدتهم حين ابتلائهم بالقتال وهذا أقبح تعيير في الجاهلية فضلا عن الإسلام.

قوله تعالى : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا).

هذا من من المثبطات التي كان المنافقون يتوسلون بها في تضعيف المؤمنين وبث روح الشك والارتياب في نفوسهم.

والمعنى : انهم قالوا لإخوانهم لو أطاعونا بالقعود عندنا وعدم الذهاب إلى ما دعاهم اليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من الجهاد مع اعداء الله تعالى ما قتلوا كما لم يقع علينا القتل. وقولهم هذا يرجع إلى جحودهم للقضاء والقدر واعتقادهم بأن الموت يستند إلى اسباب معلومة إذا اتقاها الإنسان سلم عنه وان الموت مما يمكن ان يستدفع عنه ويتحرز منه وهذا مكابرة منهم وانكار للوجدان الذي يحكم بأن الموت والحياة وان كانا أمرين طبيعين لهما اسباب معلومة

٥٤

لكنهما كسائر الحوادث الكونية تحت ارادة الله تعالى وقضائه وقدره كما أكد عزوجل ذلك في الآيات السابقة.

قوله تعالى : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ).

تثبيت لإرادة الله تعالى وتأكيد بان الأمور تحت قضائه وقدره. والدرء هو الدفع.

اي : قل يا محمد في جوابهم تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم فادفعوا عن انفسكم الموت فان القعود لا ينجيكم منه لأنه امر محتم يحل إذا حلّ الأجل وان طال بلا فرق بين القاعد والمجاهد ، والحذر عن سبب معين لا يقي عن باقي الأسباب التي تقع بارادة الله تعالى.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

قضية شرطية معلقة على امر ممتنع فيكون الصدق منهم ممتنعا في ذلك. وفي الآية الشريفة التأكيد على كذبهم فانه يمتنع ان يكونوا صادقين في أقوالهم وأفعالهم.

اي : فان كنتم صادقين فادرأوا عن انفسكم جميع اسباب الموت.

بحوث المقام

بحث ادبي :

«ما» في قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) اسم موصول مبتدأ و (أَصابَكُمْ) صلته (فَبِإِذْنِ اللهِ) خبره

٥٥

وانما دخل عليه الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط وقيل انه للسبب.

وانما ترك العاطف بين «تعالوا» و «قاتلوا» في قوله تعالى : (تَعالَوْا قاتِلُوا) لبيان التلازم بينهما وان المقصود بهما واحد.

قوله تعالى : (وَقَعَدُوا) إما حالية من ضمير قالوا بإضمار (قد) وإما معطوفة بالواو التي هي لمطلق الجمع فتكون جملة معترضة بين قالوا ومقوله وهو قوله تعالى : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا).

الظرفان في قوله تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) قيل ان كليهما متعلقان ب «اقرب» وذكروا أن من القواعد في باب الظروف انه لا يتعلق حرفا جر ، أو ظرفان بمعنى واحد بمتعلق واحد إلا في ثلاث صور :

الاولى : ان يتعلق أحدهما به مطلقا ثم يتعلق به الآخر بعد تقييده بالأول.

الثانية : ان يكون الثاني تابعا للأول ببدلية أو عطف بيان أو نحوهما.

الثالثة : ان يكون المتعلق افعل تفضيل لتضمنه الفاضل والمفضول اللذين يجعلانه بمنزلة تعدد المتعلق كما في المقيد والمطلق ، والمقام من هذا القبيل.

والجامع في جميع ذلك لحاظ الوحدة الاعتبارية فكلما لوحظ فيه هذه الجهة يصح ذلك ولا يختص بتلك الصور الثلاث.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور :

٥٦

الاول : يستفاد من قوله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) واقع الإنسان بعد إصابة المصيبة بانه يلتمس أسبابا لتلك وإلقاء تبعاتها على الغير تخفيفا للوعة المصاب ولما فيه الأثر النفسي الكبير. والآية الشريفة لا تنفي ذلك بل تبين الطريق الصحيح وتهدي الإنسان إلى الصراط المستقيم وتبين ان الأسباب لتلك المصائب والهموم انما تكون من عند الإنسان نفسه وقد أتى الجواب عن جميع تلك الأسئلة والشبهات واضحا يبين الحقيقة قال تعالى : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) وقال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الشورى ـ ٣٠ وعلى الإنسان التفكر في عقيدته وأفكاره وأفعاله وأقواله فان فيها الأسباب التي تقتضي حدوث المصائب على الإنسان وكيفية التحرز عنها بالالتزام بالشرع والاتكال على الله تعالى.

الثاني : يدل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) على ان قانون الأسباب والمسببات الذي بني عليه هذا النظام لا يخرج عن قدرة الله تعالى وقضائه وقدره فانه عزوجل المدبر لهذا النظام الكياني وهو المهيمن على جميع ما يجرى فيه فان الأسباب وان اقتضت المسببات المعلومة إلا انها تؤثر بارادة الله عزوجل واذنه.

ومن ذلك يعلم السر في تعقيب ذلك بقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) وأكد ذلك بقوله عزوجل : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) الذي يدل على ان الاعتقاد بذلك من الايمان.

الثالث : يدل قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) إلى أهم ما كان يريد المنافقون من أقوالهم وأفعالهم وهو تثبيط المؤمنين عن القتال وبث روح الشك في نفوسهم والاحجام عن تنفيذ أوامر الله تعالى وترك طاعة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقد فند عزوجل مزاعمهم وأبطل

٥٧

دعاويهم وأعلن كفرهم واظهر كذبهم وحقيقة أمرهم وهي انهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وأن ذلك صار من عادتهم وسيرتهم.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) حسن المحاورة والمحاجة مع المنافقين والكافرين واقامة البرهان لهم حتى يرجعوا إلى الايمان وحيث لا بد ان تكون بالتي هي احسن وإلا خرج عن الحدود الشرعية وهذه الآيات كلها تعليم للحكمة التي وردت في الآية السابقة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ).

بحث روائي

في تفسير العياشي في قوله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) قال الصادق (عليه‌السلام) : «كان المسلمون قد اصابوا ببدر مائة وأربعين رجلا قتلوا سبعين رجلا وأسروا سبعين رجلا ، فلما كان يوم أحد أصيب من المسلمين سبعون رجلا فاغتموا بذلك فانزل الله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها).

أقول : قد روى الجمهور مثل ذلك ايضا والرواية على فرض صحتها ترشد إلى استنكار التعجيب منهم بعد وصول مثلي ما أصابهم إليهم في يوم بدر.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قال : فهم ثلاثمائة منافق رجعوا مع عبد الله بن أبي سلول ، فقال لهم جابر بن عبد الله أنشدكم في نبيكم ودينكم ودياركم فقالوا والله لا يكون القتال اليوم ولو نعلم ان يكون القتال لاتبعناكم ، يقول الله : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ).

أقول : بيان لبعض مصاديق النفاق وقد تقدم في التفسير ما يتعلق بذلك.

٥٨

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

بعد ما بين سبحانه وتعالى مكر المنافقين وضعف نفوسهم وتحداهم بأمر واقع لا نكران فيه بأن الموت كما يصيب المجاهدين في سبيله تعالى كذلك يصيب القاعدين ولا يستطيعون درء الموت عن أنفسهم بقعودهم.

بين في هذه الآيات الشريفة المائز والفارق بين ميتة القاعدين وبين ما يصيب المجاهدين في سبيله تعالى ولا يموتون ميتتهم فإنهم ليسوا

٥٩

أمواتا ولا تكون حياتهم محدودة فلا تنتهي وانما لهم الحياة عند ربهم متصفين بأكمل الصفات وأسماها ، فرحين ، ومستبشرين ، لا يطرأ عليهم خوف ولا حزن لأنهم عند «مليك مقتدر».

والأحياء عند ربهم هم الذين استجابوا لله والرسول ولم تزلزلهم المحنة ولم تقعدهم الجراحات عن الجهاد في سبيله ولم يخشوا من تجمع الأعداء ولم يرهبهم ارجاف الناس بل زادهم كل ذلك ايمانا به تعالى وتسليما لأمره فاعتمدوا عليه وساروا على النهج الذي فيه رضوان الله تعالى ويستبشرون خيار المؤمنين بكمال سعادتهم.

وقد كشف سبحانه وتعالى عن منشأ الخوف وهو الشيطان الذي يخوف أولياءه تعالى ولكنهم لا يخافون سواه تعالى وان قلوبهم مملوءة بالثقة بالله العظيم والايمان به.

التفسير

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً).

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية التي غفل عنها جميع من قصر نظره على المادة والماديات واعرض عن الواقع والحقيقة ، ولأجل اهمية المضمون تحقق الالتفات في الآية المباركة عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فكأن هذه الحقيقة لا يمكن دركها بسهولة ولا يتقبلها عقول سائر الناس المأنوسة بالماديات إلا من كان متصلا بالفيض الربوبي ومتربيا بالتربية الإلهية ومهتديا بهدى الله تعالى.

والآية المباركة رد لجميع مزاعم المنافقين والكافرين وكل متوهم

٦٠