مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

وغواية الشيطان الذي يمني الإنسان بالسوء وحب العاجل والتغاضي عن الجزاء ، فان جميع ذلك توجب الغفلة والوقوع في الجهالة فيغفل عن وجه قبح الفعل وذمه مع كون الفاعل انما يفعل عن علم وارادة وعلى هذا تكون الجهالة قيدا توضيحيا لكل معصية تصدر عن الهوى وغلبة الشهوة والغضب فتكون صادرة عن الجهالة ، ولذا لو سكنت ثائرة الغضب وخمد لهيب الشهوة ورأى جزاء عمله عاد إلى العلم وزالت الجهالة وندم على فعله ومما ذكرنا يظهر السر في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كفى بالندم توبة».

هذا إذا لم يكن صدور الذنب عن المكابرة للحق وعناد معه وإلا فان ذلك يرجع إلى خبث الذات ورداءة الفطرة ، ومعهما لا يرجع إلى الحق بالتوبة ويستمر على ذلك طول حياته إلا إذا لحقته العناية الربانية فيرجع عن عناده ولجاجته وتلحقه الندامة وفي غير هذه الحالة لا يكون المعاند نادما ، وإن اظهر الندامة فإنما يكون لحيلة يحتالها لنفسه فرارا عن الجزاء ونحوه ويدل عليه رجوعه إلى غيه ولجاجته لو ارتفعت الضرورة كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) الانعام ـ ٢٨.

ومما ذكرناه يظهر ان القيد يمكن أن يكون احترازيا ايضا فيكون المراد به ان لا يكون الذنب عن عناد ولجاجة واستعلاء على الله تعالى ، ويشهد لذلك عدم تقييد عمل السيئات بالجهالة في الآية التالية فان المنساق منها هو التعمد والتجبر على الله تعالى كما يشهد له قوله تعالى : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فالحالة التي تكون بين الموت وعمل السيئة على اقسام.

الاول : ان يكون مبادرا إلى التوبة بعد عمل المعصية فهذا تقبل التوبة منه :

٣٨١

الثاني : ان يكون بانيا على الطغيان والعصيان إلى ان يحضر بعض علامات الموت فيتوب حينئذ ، والمنساق من الآيات الشريفة عدم قبول التوبة حينئذ قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) غافر ـ ٨٥ لان التوبة انما تقبل في ظرف اختيار العبد وتمشي القصد الجدي منه وهو لا يتحقق في وقت ظهور علامات الموت وورود الإنسان في الأشراف على أول منازل الآخرة وهو البرزخ إذ لا اختيار له.

الثالث : ما إذا كان بانيا على التوبة بحسب الفطرة ولكن تساهل فيها لغلبة الشهوات الدنيوية حتى إذا حضر بعض علامات الموت التي لا تسلب الاختيار ويتحقق منه القصد الجدي في الطاعة والمعصية ويترتب عليهما الآثار الشرعية والعرفية فتاب عن قصد فحينئذ تقبل التوبة ان كانت جامعة للشرائط كما تقبل وصيته قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) البقرة ـ ١٨٠ والروايات الدالة على قبول التوبة حتى إذا بلغت النفس الحلقوم تختص بهذه الصورة فتقبل التوبة لتحقق موضوعها.

وبالجملة : بعد إرجاع بعض الآيات إلى بعض يستفاد منها ان عدم قبول التوبة إما لأجل عدم تحقق الموضوع كما في صورة العناد واللجاج أو لأجل عدم تحقق ظرفها وهو الاختيار والقصد للطاعة والمعصية ، ونرجو منه جلت عظمته ان يدخل عباده في قوله عز شأنه في القدسيات «أغفر ولا ابالي».

وقد ظهر من جميع ذلك ان الاحتمال الاول وهو كون القيد احترازيا وان كان أوفق للقواعد فان المعروف ان الأصل في القيود ان يكون

٣٨٢

احترازيا إلا ان كونه توضيحيا أوفق لسعة رحمته.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ).

القريب من الأمور الاضافية وله مراتب كثيرة ، وقد استفاد العلماء من هذا اللفظ الفورية العرفية في التوبة وهي في نفسها حسن لان العصيان حجاب بين العبد والمعبود ودرن للروح ، والعقل يحكم بازالة الدرن والنجاسة عن اللباس والبدن فضلا عن الروح وهذا لا ينافي ان تكون الجملة اشارة إلى المسارعة وعدم التساهل ، فيكون المراد من القريب الزمان القريب قبل ظهور الموت وبروز آيات الآخرة بحيث لا يعدّ تساهلا في امر التوبة حتى تفوت الفرصة بحضور علامات الموت.

وبالجملة : المراد من قوله تعالى : (مِنْ قَرِيبٍ) التوبة في عهد قريب من قبل ان تموت الشهوات وتسقط دواعي المعصية ، بل تكون في حال صراع النفس مع القوة العاقلة فترغم النفس الامارة ويقلع عن المعصية ندما ويرغب في الطاعة شوقا إلى رضاء الله تعالى وطلبا لعفوه وغفرانه ، ويؤدي حقوق الناس وحقوق الله سبحانه وتعالى لو كانتا عليه ففي كل وقت صح إبراز ما في الضمير والارادة الجدية من القلب تقبل التوبة كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ).

أولئك اسم الإشارة الموضوع للبعيد وهو مبتدأ وخبره جملة (يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) وعديت التوبة ب (عليهم) لتضمنها معنى العطف والرحمة اي : انه تعالى يعطف عليهم بقبول التوبة ويعود بالرحمة.

وانما أشار إليهم بالبعيد اعلاما بعلوّ قدرهم وتعظيم شأنهم ،

٣٨٣

لأنهم تابوا على حقيقة التوبة والتفريع بالفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها ولبيان ان قبول التوبة من مصاديق ذلك الوعد الذي قرره تعالى في صدر الآية المباركة.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

اي ان الله تعالى عالم بحقيقة الحال فيعلم شؤون عباده ومصالحهم ويعلم المخلص في توبته ، حكيم في أفعاله قد وضع التوبة وفق نظام محكم ، فلا تغره ظواهر الأحوال وصريف الأقوال.

وانما ذكر هذين الاسمين لبيان اهمية الموضوع وانه تابع لعلمه الأتم وحكمته المتعالية يضع التوبة في مواضعها وهو ارحم الراحمين.

قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ).

بيان لحال من لا تقبل توبتهم وهم طائفتان : إحداهما لأجل عدم تحقق موضوع التوبة منهم وهم الذين يعملون السيئات دوما ولا بتحقق منهم الندم حتى إذا حضرهم الموت وانتفى اسباب العمل فلا داعي فيهم لعمل السيئات لانقطاع آمالهم وموت شهواتهم فلا تقبل توبتهم.

وانما ترك عزوجل اعادة اسم الجلالة (على الله) لبيان انقطاع العناية الإلهية عنهم ، وللاعلام بان التوبة الصحيحة لا تقع منهم لنفي موضوعها كما عرفت آنفا.

وانما جمع عزوجل السيئات وأفردها في الآية السابقة وقال (يَعْمَلُونَ السُّوءَ) للدلالة على إحصاء سيئاتهم الكثيرة العديدة واستمرارهم على فعلها وإصرارهم على التكرار بلا فرق بين ان تكون السيئة المكررة من انواع مختلفة أو من نوع واحد فان التكرار يوجب التعدد لا محالة.

٣٨٤

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ).

أي : حتى إذا حضر الموت برؤية علاماته لاهية قلوبهم ، والجملة تدل على استهانتهم بالتوبة واستحقارهم لموجبات الرحمة والمغفرة ، فهم يدعون التوبة حال العجز ولم تتحقق حقيقتها عندهم ولم ترغب نفوسهم عن الذنب فإذا زال عنهم المهلكة عادوا إلى الذنب ورجعوا الى المخالفة والعصيان كما يخبر عن ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) الانعام ـ ٢٨.

قوله تعالى : (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ).

اي : انه في حال العجز واليأس يردد على لسانه التوبة في تلك الحال فقط من دون ان يكون ذلك من حاق نفسه.

والآية تدل على تحقق التوبة اللسانية مرة واحدة بلا استمرار عليها بخلاف الآية السابقة التي دلت على الاستمرار المستفاد من هيئة المضارع في قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) وهذه تؤكد ما ذكرناه آنفا من ان التوبة منه ليست على الحقيقة فانه التجأ إليها عند مشاهدة سلطان الآخرة وانقطاع أمله عن الدنيا بحضور الموت ولذا ذكر عزوجل (قالَ إِنِّي) ولم يقل (تاب) ونحو ذلك تحاشيا عن تسمية ما قاله توبة ، ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن المجرمين (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) السجدة ـ ١٢.

قوله تعالى : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ).

بيان لحال الطائفة الثانية وهم الذين يصدر عنهم الذنب عنادا ولجاجا واستكبارا على الله تعالى فلا توبة لهؤلاء كما لا توبة لأولئك

٣٨٥

لأنهم تمادوا في الكفر فماتوا وهم كافرون فلم تصدر عنهم السيئات بجهالة بل عن عناد ولجاج فإذا مات الإنسان على هذه الحالة لا تنفعه التوبة ولا نجاة له بعد الموت وقد أكد القرآن الكريم ذلك في مواضع متعددة قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) البقرة ـ ١٦٢.

قوله تعالى : (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

اي : أولئك الفريقان قد اعتدنا لهم وهيّأنا لهم عذابا أليما مؤلما جزاء لاعمالهم السيئة التي قدموها في دار الأعمال. وقد ذكرهم باسم الإشارة للدلالة على بعدهم عن ساحة القرب والعناية الربانية.

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات الشريفة امور :

الاول : يستفاد من الحصر الوارد في قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) ان التوبة من الأمور المختصة به عزوجل ومن مظاهر ربوبيته العظمى ومن مصاديق رحمته الواسعة التي وسعت كل شيء ، وهو رد على كل من يدعي ان هذا الأمر يمكن ان يتصديه بعض

٣٨٦

الإفراد إما ولي من اولياء الله تعالى أو الكنيسة كما في الديانة المسيحية التي اعترفت لها غفران الذنوب حتى بلغ من افراط الكنيسة انها كانت تبيع صكوك الغفران بعد ما كانت التوبة في هذه الديانة من الأمور غير النافعة للإنسان لان المسيح (عليه‌السلام) فدّى بنفسه لأجل خلاص الإنسان على ما هو المعروف عندهم.

فالآية الشريفة رد على جميع المزاعم فإنها صريحة في ان التوبة من شؤون الباري عزوجل وانها محصورة عليه تبارك وتعالى لا شأن لاحد غيره فيها.

الثاني : تدل الآية الشريفة على فضل التوبة وانها من مظاهر رحمته عزوجل وفضله العظيم وقد من بها على عباده ومن المعلوم انه لا شيء يوجب رحمته عليه ولكن لا ينافي ذلك وجوب هذا القسم من الفضل عليه بإيجاب من نفسه على نفسه لا من إيجاب غيره عليه وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك في مبحث التوبة في سورة البقرة آية ـ ١٦٢.

واما ما ذكره بعض المفسرين من ان الله تعالى غير مجبور في قبول التوبة لأن له الأمر والملك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد واستدل على ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) آل عمران ـ ٩٠ وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) النساء ـ ١٣٧.

فانه يرد عليه ان الله تعالى قد وعد عباده بقبول التوبة ـ كما اعترف به هذا المستدل ـ وكل وعد منه عزوجل واجب الوفاء عليه كما قال في كتابه العزيز : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) آل عمران ـ ٩ والآيات الشريفة التي استدل بها تدل على عدم قبول توبة المتمادي في

٣٨٧

الكفر وهذا ما استثناه عزوجل من القبول في المقام أيضا كما عرفت. وكيف كان فالآية الشريفة من الآيات التي تعتني بشأن العاصين وتأمرهم بالتوبة من الشرك والضلال والسيئات والمعاصي كلها.

وللتوبة اثار عظيمة فإنها من سبل الصلاح والتقوى وتجلب السعادة وتزيل درن الشقاء والرذيلة من القلب الذي هو محل الصلاح والفساد معا. وتصفى النفوس التي انكدرت بالعصيان ، وتزيل الغشاوة عن القلوب وترفع الموانع عن طريق سير الإنسان نحو السعادة والكمال ، وتخلّص الناس من بوار الذنب وهلاك المعصية وهي الوسيلة للفلاح قال تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور ـ ٣١.

ومن آثار التوبة ايضا انها تجعل قلب المذنب متعلقا بالرحمة الإلهية وتبعث روح الرجاء بعد انخماد نور النفس بظلمة الذنب وتمحو الآثار السيئة التي تترتب على الحياة بسبب العصيان وعمل السيئات. والآية المباركة تعد البشارة العظمى للمذنبين.

ثم ان التوبة مظاهر مختلفة كالندم ، والاستغفار والانقلاع عن المعصية وإتيان الطاعة والتلبس بالعمل الصالح وأداء الحقوق وغير ذلك مما ذكره علماء الأخلاق وتقدم في مبحث التوبة وهي تبدل السيئات بالحسنات.

الثالث : يستفاد من الآية الشريفة ان التوبة امر اختياري فإنها رجوع إلى الله تعالى بعد البعد عنه بسبب فعل السيئة وإتيان المعصية بالدخول في سلك الطاعة والعبودية بعد الاعراض عنه عزوجل وذلك لا يتحقق إلا في ظرف الاختيار وكون العبد مخيرا بين طريقي الصلاح والسعادة ، والطلاح والشقاوة ، وفي غير ذلك فلا توبة له لما يدل عليه ذيل الآية الشريفة.

٣٨٨

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (بِجَهالَةٍ) ان كل ذنب يصدر عن جهالة قابل للعفو والغفران من الله تعالى ، وبهذا القيد يخرج كل ذنب يصدر عن لجاج وعناد مع الحق واستكبارا على الله تعالى ، وقد عرفت في التفسير ان الجهالة في المقام ـ وفي باب الأعمال على العموم ـ هي الغفلة عن وجه قبح الفعل وفساده لغلبة الشهوة واستيلاء الهوى ولكن ذلك لا يسلب نسبة الفعل إلى الفاعل لأنه صدر عنه عن علم وارادة كما يسمى الشاب قليل التجربة جاهلا لأجل غلبة العواطف والنزوات الشهوانية عليه.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) ان المؤمن إذا صدر عنه الذنب ينبغي ان يبادر إلى التوبة بعده ولا يسوّف في ذلك فهو في صراع مع النفس الامارة وتوبة مستمرة يرجو رحمة ربه وهذا ينبئ عن حسن السريرة وشدة الأمل بالله تعالى ، ولعل ما ورد في بعض الروايات : «طوبى لمن كان له تحت كل سيئة توبة» إشارة إلى ذلك ويستفاد من قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) اولوية التوبة من الذنب من ترك الذنب رأسا فان الله تعالى مدح التائبين من الذنب وأدخلهم تحت رحمته وقرّبهم اليه. وقال بعض العلماء ان ترك الذنب مطلقا احسن واولى من ارتكابه ثم التوبة عنه ، لان الله تعالى مدح هؤلاء بما لم يرد في غيرهم وهم المختصون لمقام العبودية التشريفية.

ولكن يمكن اختيار الاول لكثرة ما ورد من الترغيب الى التوبة كتابا وسنة وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» فيصير التائب من الذنب مساويا له من هذه الجهة اي عدم الذنب ويكون تذلله مما في نفسه عند

٣٨٩

ربه لتصوره لما صدر منه من المعصية موجبا لترجيح هذا المقام بنفسه عند الله تبارك وتعالى نعم من عصمه الله من الزلل كالأنبياء والائمة الهداة (عليهم‌السلام) والأولياء لهم مقام خاص وهبه الله تعالى لهم.

وفي حديث آخر «لو لا انكم تذنبون الله ثم تستغفرونه لذهب بكم ثم يأتي بأقوام يذنبونه ثم يستغفرونه» وهذا هو المطابق لما هو المتسالم بين اذواق المتألهين من ان كل اسم من اسماء الله المقدسة لا بد له من مظهر خارجي ومن أسمائه جلت عظمته التواب والغفور ولا مظهر لذلك الا بعد الذنب والتوبة.

مع ان حالة الندامة والاستحياء من الله تعالى من حالات العبد وأحسنها ولا يتحقق تلك الحالة الا بذلك.

السادس : يدل قوله تعالى : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) على وعد منه عزوجل للمذنبين بقبول توبتهم وهو لا يخلف الميعاد. كما انه يدل على ان التوبة الصحيحة الجامعة للشرائط تمحو الذنوب وتزيلها.

السابع : يمكن ان يكون المراد من قوله تعالى : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) موت الأمزجة والقوى فمن كانت معاصيه من سنخ اعمال الشهوة الجنسية ووصل إلى سن الأربعين مثلا وترك تلك المعاصي لأجل عوارض عرضت عليه فلا توبة له حينئذ وكذلك سائر القوى لأنه لا توبة بعد انتفاء القدرة على ارتكاب المعاصي ، وهذا الاحتمال وان كان مخالفا لما استفدناه من الآيات المباركة ، ولكنه احتمال حسن يوجب المسارعة إلى التوبة والاستعداد لها في حال القدرة.

الثامن : اطلاق الآية الشريفة : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) يشمل التوبة من الشرك وجميع المعاصي ويشمل ايضا المؤمن والكافر إذا تاب عن كفره فيكون إسلامه توبة لما صدر عنه في حال كفره لقوله (صلى

٣٩٠

الله عليه وآله) : «الإسلام يجب ما قبله» واما توبته عن معصية فيها حق الله في حال كفره مع بقائه على الكفر فيشكل قبولها. نعم إذا كان الذنب من حقوق الناس كالسرقة وإيذاء الناس ونحوهما فأرضى الناس سقط هذا الذنب منه لزوال موضوعه ويمكن ان يستفاد ذلك من مفهوم قوله تعالى : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ان توبة الكافرين في حال حياتهم مقبولة إلا ان يستظهر ذلك بخصوص إسلامهم.

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ان التوبة من الله تعالى تشمل العاصين من المؤمنين إذا استغفر لهم الأحياء ولو بعد مماتهم بخلاف الكافر المعاند الذي مات على الكفر بلا فرق بين اقسامه.

بحث روائي

في الكافي عن جميل بن دراج قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) «يقول : إذا بلغت النفس هاهنا وأشار بيده إلى حلقه لم يكن للعالم توبة ثم قرأ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ).

أقول : أراد (عليه‌السلام) بالعالم هو اللجوج المستكبر على الله تعالى واطلاق الآية الشريفة لا ينافي ما ذكرناه سابقا ، ويمكن ان يجمع بذلك بين ما ورد من عدم قبول التوبة حين ظهور علامات الموت وما ورد من قبولها حينها بحمل الاول على العالم العامد المستكبر على الله تعالى كفرعون ونحوه والثاني على غيره.

وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «كل ذنب عمله العبد وان كان عالما» به فهو جاهل حين خاطر

٣٩١

لنفسه في معصية ربه وقد قال في ذلك تبارك وتعالى يحكي عن قول يوسف لإخوته (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله عزوجل».

أقول : يشهد ذلك على ما قلناه في معنى الجهالة.

وفي تفسير العياشي ايضا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «إذا بلغت النفس هذه وأهوى بيده إلى حنجرته لم يكن للعالم توبة وكانت للجاهل توبة».

أقول : يشهد ذلك على ما جمعنا به بين الروايات آنفا.

وفي الكافي عن محمد بن مسلم عن جعفر (عليه‌السلام) قال : «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة اما والله انها ليست إلا لأهل الايمان قلت : فان عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد في التوبة؟ فقال يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر الله منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته؟! قلت : فان فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب ويستغفر؟ فقال : كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة وان الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات فإياك ان تقنط المؤمنين من رحمة الله».

أقول : ورد في بعض الروايات إلى سبعين مرة ويشهد لذلك تحذير الامام (عليه‌السلام) الراوي في ذيل الرواية ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر ـ ٥٣ إذ المراد بالجميع الكثرة العددية. ثم انه قد ذكرنا الروايات الواردة في التوبة في مبحث التوبة فراجع سورة البقرة الآية ١٦٠.

٣٩٢

بحث عرفاني

التذلل لدى المعبود الحقيقي الجامع لجميع الكمالات غير المتناهية والاعتراف بالقصور والتقصير عنده محبوبان لديه عزوجل. والعبودية التي هي غاية مقامات العارفين واولياء الله المخلصين متقومة بهما فانه لا ريب في تحقق الارتباط بين الممكن والواجب كالارتباط بين المعلول مع العلة التامة والمخلوق مع الخالق ، والأثر مع المؤثر بلا فرق في ذلك بين المجردات والماديات والاملاك والأفلاك فان جميعها متعلقة بالإرادة الازلية حدوثا وبقاءا وبزوالها ينعدم جميع ما سوى الله تعالى ، ولا يبقى إلا وجهه الواحد القهار ولكن الإنسان يرتبط مع الله جل جلاله بارتباطين :

الاول : الارتباط العام القهري الذي يعم جميع الخلق وما سواه تعالى.

الثاني : الارتباط الاختياري اي الطاعة والامتثال والانقياد وهذا هو الأصل والأساس في علاقة الإنسان مع الله عزوجل فإذا زال يبقى الارتباط الاول وهو يعم الجميع ـ الحيوان والجماد ـ على حد سواء.

والانسانية انما تظهر في الارتباط الثاني ولا يزول إلا بالطغيان والعصيان ، وحينئذ لا بد من التوبة والرجوع إلى الله تعالى ليعود الارتباط إلى ما كان عليه وتستكمل به الانسانية ، وتزول الشقاوة وتحل محلها السعادة الابدية إذ القرب من ينبوع الحكمة والعلم والكمال المطلق يوجب بلوغ الانسانية إلى الكمال ويتم به العقل والدين ، كما ان البعد عنه يوجب زوال ذلك كله ، فللتوبة الحقيقية دخل في

٣٩٣

استكمال الانسانية والدين والعقل ، ويكفي في فضلها ان فيها يتجلى المعبود الأعظم للتائبين بقوله عزوجل : (أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) فالعبد يعترف بما هو من زي العبودية ، والمعبود يظهر بما هو من شأن الربوبية الواقعية ولذا ترى ان أحب حالات المتعبدين إلى الله تعالى هي حالة الاعتراف بالتقصير كما هو واضح في الدعوات المأثورة عن الائمة الاطهار (سلام الله تعالى عليهم) لا سيما الصحيفة الملكوتية السجادية على صاحبها ومنشيها (أفضل الصلاة والسلام) وليس الاعتراف بالتقصير مع عدم صدور ذلك عنهم كذبا لأنهم يعلمون ان تلك الحالة محبوبة لله عزوجل وتقربهم اليه تعالى ويعترفون بذلك في جملة من دعواتهم الشريفة وهذا كاشف عن اشتياقهم إلى هذا المقام من العبودية.

ثم ان ظاهر الآية الشريفة : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) انما هو في الموت الطبيعي الذي هو مسير كل ذي حياة واما الموت الاختياري الذي هو غاية آمال العارفين وقرة عين اهل التقوى واليقين فهو فوق التوبة بمراتب كثيرة إذا وفق له ولي من اولياء الله تعالى بشرطه وشروطه.

٣٩٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))

الآيات الشريفة تشمل على احكام اجتماعية تهم المجتمع الاسلامي وقد تضمنت تشريعات الهية للحياة الزوجية وقد امر عزوجل الزوج بالمعاشرة بالمعروف مع الزوجة ونبذ الإحساسات والعواطف التي تهدد حياتهما وتجلب الشقاء لهما كما نهت الزوجة عن الخيانة والفحشاء فالعمل بهذه الاحكام الإلهية تجلب السعادة ويهدى الى الكمال وهذه هي وجه الارتباط بين الآيات في هذه السورة.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً).

خطاب إلى المؤمنين الذين آمنوا بالله ودانوا بشريعة الحق واعرضوا

٣٩٥

عن العادات الجاهلية والتقاليد الباطلة ، فصاروا بذلك مستحقين للخطاب الالهي كما تشرفوا به منه تعالى.

والآية الشريفة تشير إلى عادة جاهلية وهي انهم كانوا يجرون على النساء حكم المتاع والعروض بل يستفاد منها انها كانت في زعمهم بمنزلة الحيوانات العجم التي لا ارادة لها ولا اختيار كالإبل والغنم وذلك من اضافة الوراثة إلى النساء إلا ان وراثة النساء عندهم كانت وراثة خاصة لم تكن في عرض وراثة سائر الأموال.

والمعروف انهم كانوا يرثون النساء مع التركة إذا لم تكن المرأة اما للوارث فكان احد الوراث يلقى ثوبا على زوجة الميت فيرثها ويتسلط عليها فان شاء عضلها عن النكاح وحبسها حتى الموت فيرث أموالها وان شاء يزوجها فينتفع من مهرها. والآية المباركة تنهي عن تلك العادات التي لم ينزل بها سلطان ، وتضمنت قوانين فطرية عقلية قررها الوحي المبين وهي امور اجتماعية يسعد بها الاجتماع والحياة الزوجية.

منها : النهي عن ارث النساء كرها وهذا الحكم فطري يقرره كل عقل سليم. وكرها بالفتح كما هو المعروف وقرئ بالضم. والكره بالضم والفتح بمعنى عدم الرضا إما من الغير أو من قبل نفسه وقيل : بالفتح الكراهية وبالضم الإكراه وقيل. غير ذلك وهو مصدر في موضع الحال إما نائب عن المفعول المطلق المستفاد من (تَرِثُوا) أو انه منصوب على انه حال من النساء. وهذا الحكم يتصور فيه وجوه :

الاول : ان يستوهب منها المال الذي يصل من المورث بالإكراه بأن تحرم من تركتها فيستقل الوارث بتمام التركة دونها.

الثاني : ان يؤخذ نفس النساء كسائر الأموال وهن مكرهات على ذلك أو انهن يكرهن ذلك.

٣٩٦

الثالث : ان يستكرهها احد الوراث على ان تهب تركتها أو نفسها له دون سائر الورثة وغير ذلك من الحيل الإكراهية.

وعلى اى حال يكون القيد (كرها) لبيان الواقع الذي كان في الجاهلية ، فتكون الآية في مقام الردع عن تلك العادة السيئة وحينئذ لا معنى للنزاع في ان هذا القيد هو قيد توضيحي أم احترازي ويستفاد من اضافة الوراثة إلى النساء انهن بمنزلة المال فيشمل نفسهن والمال الذي عندهن.

قوله تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ).

حكم فطري آخر عطف على قوله تعالى : (أَنْ تَرِثُوا) ومادة (عضل) تدل على التضييق واليه يرجع الحبس والشدة. يقال : أعضل الأمر اي : اشتد وعضلت المرأة بولدها عسر عليها. وعضل المرأة يعضلها ـ مثلثة الضاد ـ منعها الزوج ظلما وقد وردت هذه المادة في موضعين أحدهما المقام ؛ والثاني في قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) البقرة ـ ٢٣٢ وقد تقدم الكلام هناك فراجع والمراد به هو المنع من حقوقهن في الحياة الزوجية بخلاف الآية الاولى التي كانت في المال الذي تمتلكها النساء.

وهذا ايضا يتصور على اقسام : فاما ان يكون العضل والمنع عن الزواج وهذا ما تقدم في سورة البقرة ـ ٢٣٢ أو العضل عليهن في الطلاق حتى تفتدي بشيء من المال أو العضل عليهن من النكاح حتى تفتدي جميع الصداق أو ببعض منه.

والآية المباركة تؤكد النهي عن منع المرأة من حقوقها المشروعة

٣٩٧

التي قررها القرآن الكريم في مواضع متعددة منها قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) البقرة ـ ٢٣٤ فان المنع والتضييق عليهن باي وجه كان هو خلاف قاعدة السلطنة المقررة عقلا وشرعا.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

استثناء عن ما تقدم. والفاحشة هي الفعل القبيح قد شاع استعمالها في الزنا والمبينة من البين وهو الواضح اي الفاحشة المعلومة الواضحة.

والمعنى : ولا تمنعوا النساء من النكاح وتضيقوا عليهن ليضطررن إلى بذل شيء من المال إما الصداق أو غيره مما دفعتموه إليهن لرفع الاضطرار إلا ان تأتي المرأة بفاحشة معلومة واضحة فله ان يعضلها حتى تدفع مالا له ليفارقها.

ونظير هذه الآية ما ورد في سورة البقرة قال تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) البقرة ـ ٢٢٩ و (إِلَّا) في المقام يفسر عدم اقامة حدود الله تعالى بإتيان الفاحشة هذا كله لو لم يكن رضاء منها في البذل.

واما لو كان عن تراض منهما فلا اشكال في جوازه إذا لم تكن عن مفسدة شرعية. ومن تقييد الفاحشة بالمبينة يستفاد ان مجرد صرف الوجود غير كاف ما لم تكن مبينة وواضحة.

قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

بيان لأصل من اصول الحياة وهو الأساس للحياة السعيدة فان الله تعالى نهى عن ارث النساء كرها وعضلهن ، ووضع حدا للظلم عليهن وبين في هذه الآية المباركة ان الطريق الصحيح هو المعاشرة مع النساء

٣٩٨

بالمعروف بأن تكون المخالطة والمصاحبة والعيش معهن بما هو المعروف بين افراد المجتمع ولم يعين سبحانه وتعالى كيفية ذلك ليكون العرف الذي هو الشائع في كل عصر وزمان هو المعتمد في ذلك وهذا من المفاهيم الاسلامية القويمة التي تذكر في مجال التطبيق العملي وان الجاهلية والشقاء تتحققان بقدر الاعراض عمّا شرعه الله تعالى فيما بينته السنة المقدسة والإسلام دين متكامل يعطي بقدر ما يترك ولا يصلح جانبا على حساب جانب آخر أو إهمال جهة معينة ، ففي المقام الواجب على الرجل حسن المعاشرة مع النساء بالمعروف فإذا كان ذلك من جانب الرجل ففي جانب المرأة هو اطاعة الزوج وهما يتوازنان الأمر وتتأدى الحقوق والواجبات.

قوله تعالى : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

تأكيد لما ذكره عزوجل وهو المعاشرة مع النساء بالمعروف ، وايقاظ للشعور الانساني بأن دين الله تعالى لا بد ان يعمل به بجميع حدوده وقيوده في جميع اتجاهاته.

وتبين الآية الشريفة حكم الاستمرار في الحياة الزوجية واو كانت مع الكراهية فإنها تأمر بالمعاشرة حتى مع الكراهة وعدم فصم العلاقة الزوجية وقطعها عند ادنى تحول في المشاعر والاحساس ويصلح حالها بالصبر وحسن المعاشرة لتعود حياتهما إلى الانتظام وتتهيأ اسباب السرور والبهجة فان الله تعالى قادر على ان يمنحهما السعادة ويتمتع الرجل ـ الذي وجد أمورا يكرهها في زوجته ـ بما فيه خير كثيرا مما يهون عند ما شاهد ما كرهه في زوجته.

٣٩٩

وللخير الكثير مظاهر كثيرة منها : اظهار الحق وابطال الباطل.

ومنها : كثرة النسل والبركة فيه وفي المال.

ومنها : التخلق بأخلاق الكرام.

ومنها : الهناء في العيش والبعد عن مشاكل الحياة.

ومنها : السعادة في الدارين وغير ذلك مما لا يخفى.

واسناد الكراهة إلى الزوجات انفسهن يدل على أن اسباب الكراهة توجد في انفسهن إما ذاتا كما كان عليه الناس في العصر الجاهلي أو لأمر خارجي كالعيب الخلقي أو الخلقي دون نفس الحياة الزوجية ونكاحهن ، والآية المباركة ترشد الى عدم المسارعة إلى مفارقتهن ومضارتهن.

والتعليل في الآية الشريفة عام لا يختص بمورد الآية فهو من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن الكريم وهي توقظ روح التعقل في الإنسان عند استيلاء القوى الشهوية والغضبية عليه وترشده إلى التفكر في عواقب الأمور وتروّض النفوس على التخلق بمكارم الأخلاق وحسن المعاشرة مع النساء وانه بعمله بما ورد في هذه الآية الشريفة يرتقى إلى المستوي المرغوب منه من المحل الواقعي له ويصل إلى الكمال الذي أعد له فانه أذعن بالحق وعمل به وأنكر الباطل وزيّغه.

والآية المباركة تبعث الأمل والرجاء عند اليأس في الحياة وعروض المشكلات على الإنسان وقد تقدم نظير ذلك في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) البقرة ـ ٢١٦ وتقدم البيان في ذلك ايضا فراجع.

٤٠٠