مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

بها الحياة وينتظم النظام الأحسن وجعل لكل جنس حكمه المختص به التي تتطلبه وظيفته الفطرية وفي غيرها يشترك الجنسان في جميع الاحكام والحقوق ، وقد أسست في الفقه الاسلامي قاعدة معروفة يعتمد عليها الفقهاء وهي : «اشتراك الرجال والنساء في جميع الاحكام إلا ما خرج بالدليل» كما عرفت في احد مباحثنا السابقة. وتطبيقا لتلك المشاعر العاطفية والنعرات الجاهلية فقد وضعت القوانين الحديثة احكاما تشرك النساء مع الرجال في جميع المجالات منها تساوي الرجال والنساء في سهم الإرث فالاباء والأمهات والبنات والبنون سواء فيه.

وقد سن القانون الوضعي في فرنسا في الإرث أمورا منها انه رتب الطبقات على اربع : الاولى البنون والبنات. الثانية : الآباء والأمهات والاخوة والأخوات. الثالثة : الأجداد والجدات. الرابعة : الأعمام والعمات والأخوال والخالات. ولم يجعل القانون موضعا للزوجية في هذه الطبقات لأن الجاعلين اعتبروا علاقة الزوجية من مجرد المحبة القلبية ولكنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج فلا يحق لها ان تتصرف في الأموال التي ترثها من أقاربها إلا باذن زوجها. إلا ان القوانين التي وضعت بعد ذلك أخرجت المرأة عن قيمومية الرجل وساوت بينهما في الملك والتصرف. وبعد الاحاطة بما ذكرناه آنفا تعرف الفرق الكبير بين قانون الإسلام والقوانين الوضعية التي تباين الإسلام من جهات كثيرة ، فان الشريعة التي وضعت على الحكمة والمصلحة العامة وأعرضت عن الاحساس والعواطف الوقتية لجديرة بالعمل بها والاعراض عن غيرها.

٣٦١

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى بعض احكام اليتامى واحكام المواريث وبين شريعة الحق فيها ففي هاتين الآيتين يبين عزوجل حكما اجتماعيا يتعلق بالاجتماع والإفراد معا ، وهو النهي عن الفحشاء والتغليظ على من يأتي الفاحشة ويرتكب هذه المعصية الموبقة وإخلاء المجتمع منها لأنها توجب زوال الحياء والعفة وتستلزم إفساد النسل والشقاء. ويبين سبحانه وتعالى لزوم اجراء الحد الشرعي على مرتكبها.

ويجمع هذه الآيات المباركة انها تشتمل على الاحكام الشرعية الإلهية التي نزلت لتكميل الإنسان وجلب السعادة له في الدارين ، وهذا هو وجه الارتباط بين هاتين وما سبقتهما من الآيات الكريمة ولا موجب لالتماس وجوه بعيدة عن السياق للتوفيق بينها.

التفسير

قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ).

اللاتي : احدى صيغ جموع (التي) السماعية وهو اسم مبهم للمؤنث ولا يتم إلا بصلته ولا ينزع الالف واللام منه ، ولذا أدخل بعض

٣٦٢

الشعراء حرف النداء عليه كاسم الجلالة قال :

لأجلك يا التي تيمت قلبي

وأنت بخلية بالوّدعني

ويأتي في البحث الادبي تتمة الكلام.

و(يأتين) من الإتيان وهو المجيء يكنى به عن الفعل ، كما جاءت الكناية عن الفعل بالقرب في القرآن الكريم قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) الانعام ـ ١٥١ وانما عبر به عنه عزوجل لمزيد التهجين ، ولبيان ان الفعل صدر عنهم مع القصد والاختيار.

والفاحشة : اسم لكل فعل قبيح ، بل لكل ما اشتد قبحه من المعاصي وهي مصدر كالعافية والعاقبة وقيل اسم وضع موضع المصدر.

وهي إما تصدر من الذكرين وتسمى باللواط والتفخيذ أو تصدر من الأنثيين وتسمى مساحقة أو بين الذكر والأنثى وتسمى بالزنا ، وقد استعملت في القرآن الكريم في جميع تلك الموارد ففي الزنا قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) الإسراء ـ ٣٢ وفي اللواط والسحق قال تعالى : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) العنكبوت ـ ٢٨.

ثم ان المحتملات في المراد من الفاحشة في الآيتين ثلاثة :

الاحتمال الاول : ان يكون المراد منها الزنا ، وهذا هو المعروف بين المفسرين والفقهاء واستدلوا على ذلك بأمور :

منها : ان الزنا هو المعهود من اطلاق لفظ الفاحشة.

ومنها : مناسبة المقام تقتضي ان يكون المراد منها الزنا.

ومنها : ظهور الآية المباركة في ان الحكم فيها مؤقت وانه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور حيث قال تعالى في المقام (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) والسبيل ما ورد في سورة النور : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي

٣٦٣

فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) سورة النور ـ ٢.

ومنها : الروايات المتعددة التي تدل على ان المراد منها الزنا فقد روى كبار المحدثين من الجمهور عن عبادة بن الصامت في حديث : «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اوحي اليه ، ولما سرى عنه الوحي فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة» ومثله غيره.

وفي الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) في حديث : «ان سورة النور نزلت بعد سورة النساء قال الله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) فالسبيل الذي قال الله تعالى هو : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وفي تفسير العياشي عن جابر عن الباقر (عليه‌السلام). «جعل السبيل الرجم أو الجلد» وغير ذلك من الروايات.

واصحاب هذا القول اختلفوا في تعيين المراد من الآيتين فقيل ان الاولى في زنا المحصنات لتخصيص النساء بالذكر دون الرجال ، وشيوع اطلاق النساء على ذوات الأزواج لا سيما إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمْ) والآية الثانية متعرضة لحكم الزنا من غير إحصان ، فيكون الحكم المذكور في الآية الاولى مؤجلا إلى ان يجعل الله لهنّ سبيلا ، فان المراد من السبيل الحكم الالهي المبين بالوحي أو السنة المقدسة ، ولا يسمى هذا نسخا. والمراد من قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) ترغيب الأولياء إلى النهي عن المنكر وردعهن عن الفاحشة وتربيتهن تربية صالحة حتى يأتي حكم

٣٦٤

آخر وحينئذ فان تابت فلا حد وإلا فيجري عليها الحد.

والمراد من الإيذاء مطلق ما يوجب الاذية من الضرب والحبس والتعبير بالقول والاهانة ونحو ذلك وعلى هذا تكون الآية منسوخة ببيان الحد في سورة النور وهو الجلد.

وقيل : ان الاولى تتعرض لبيان حكم الزنا في الثيب والثانية لبيان حكم الأبكار ؛ وحينئذ يكون المراد بالإيذاء الحبس ثم تخلية السبيل مع التوبة والإصلاح.

وقيل : ان الآية الاولى متعرضة لحكم الزانيات والثانية متعرضة لحكم الزاني من الرجال ، وجميع الاحكام الواردة فيهما منسوخة بآية النور.

وقيل : ان المراد من الآيتين شيء واحد وهو بيان عقوبة الزنا وهي الإيذاء ثم نسخ بالحبس ثم نسخ بالجلد والرجم واستقر الحكم على ذلك. وقيل غير ذلك.

وبالجملة : ان الآية الاولى تتعرض لحكم النساء الزانيات مطلقا على نحو الإجمال ، واما التفصيل فهو مذكور في آية سورة النور والسنة المقدسة سواء كن محصنات أم غير محصنات ثيبات أم أبكارا. واما الآية الثانية فهي تتعرض لحكم من يصدر عنه الفاحشة كما ستعرف. ولكن لا وجه للنسخ من الآية بل هي مفصلة ومشروحة بعضها في هذه السورة والبعض الآخر ـ وهو حكم غير المحصنات ـ في سورة النور.

الاحتمال الثاني : ان يكون المراد من الفاحشة في الآية الاولى خصوص المساحقة وفي الآية الثانية اللواط وقد نسب هذا القول إلى أبي مسلم من الجمهور وبعض المفسرين ، وأيده الاردبيلي في زبدة البيان فيكون حكم المساحقات الحبس والإمساك في البيوت والمنع من مخالطة النساء مع المرأة التي اعتادت هذه الجريمة والفاحشة حتى تتوب

٣٦٥

أو يتوفاهن الموت. واما اللواط فحكمه معلوم من السنة وهو القتل فيكون ما ورد في السنة تفسيرا للأذية الواردة في الآية الثانية فالآيتان غير منسوختين.

ولا دليل على تعيين هذا الاحتمال أصلا إلا ما يقال : من انه لو لم يكن المراد منها ذلك لم يذكر في الكتاب حكمهما وهو تبيان كل شيء.

وفيه : انه كذلك بلا ريب ولا اشكال لكن مع شرحه في السنة المقدسة وقد ورد حكمهما فيها مفصلا وتقدم سابقا ان القرآن الكريم يتكفل اصول الاحكام وجذورها واما الشروط والقيود بل الفروع تتكفلها السنة.

او ما يقال : من ان لفظ (اللَّاتِي) يدل على المساحقة إذ ليس بينهن فاحشة غيرها.

وفيه : ان الآية الاولى الوارد فيها (اللَّاتِي) باعتبار غلبة افراد النساء الزانيات ولا مانع منهن من ارتكاب المساحقة وغيرها وسيأتي في البحث الدلالي ما يرتبط بالمقام.

الاحتمال الثالث : ان يكون المراد من الفاحشة في الآية الاولى المعنى الأعم من الزنا والمساحقة وهو احتمال حسن أخذا بالعموم الوضعي للفظ الفاحشة فيكون الحكم المذكور في الآية الشريفة مجملا تبينه الآيات التي وردت في الحدود وما ورد في السنة الشريفة. واما الآية الثانية فيجري فيها ما يجري في الآية الاولى ايضا كما عرفت إلا ان المراد بالفاحشة فيها إما اللواط أو التفخيذ أو الزنا ، والاولى هو التعميم ايضا كما تقدم فيكون الحكم فيها مجملا تبينه السنة المقدسة وما ورد في سورة النور. واحتمال اختصاصها بخصوص اللواط يبعده ظاهر الآية الشريفة فان مجرد الإيذاء لا يناسب تلك المعصية العظيمة

٣٦٦

التي ورد فيها التغليظ الشديد. فقد خسف الله تعالى قوم لوط لأجلها وكيف كان فالآيتان غير منسوختين.

ثم ان المراد من قوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمْ) هو النساء المؤمنات تشريفا لهن ، وقيل ان المراد النساء ذوات الأزواج لشيوع هذا الاستعمال قال تعالى : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) النساء ـ ٢٣ وقال تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) النساء ـ ٤ ومن هنا قال بعض المفسرين باختصاص هذه الآية بالمحصنات ذوات الأزواج.

وفيه. ان اللفظ مطلق يشمل ذوات الأزواج وغيرهن واختصاصه بالأولى لبعض القرائن لا يوجب تقييد بقية الموارد وقد ورد في القرآن الكريم استعماله في العموم قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) آل عمران ـ ١٤ وقال تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) النساء ـ ٣ وغير ذلك مما ورد في القرآن الكريم والسنة المقدسة.

قوله تعالى : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ).

اي : أقيموا اربعة من الشهداء الرجال عليهن باتيانهن الفاحشة. وتخصيص الفاحشة بإقامة اربعة شهداء ذكور انما هو للتغليظ على المدعي والستر على العباد وعدم شيوع الفحشاء.

ولا يختص الزنا بإقامة اربعة شهود بل يشترك معه اللواط والسحق ايضا فلا يستفاد من هذا الحكم اختصاص الفاحشة بالزنا في الآية كما عن بعض. كما لا يستفاد من الآية المباركة وجوب تحمل الشهادة ولزوم المراقبة لهن فان ذلك أمر آخر لا ربط له بالآية المباركة ، فتشمل الآية الشريفة الشهادة الاتفاقية ايضا.

٣٦٧

قوله تعالى : (فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ).

اي : وان شهد الرجال الاربعة وثبت الأمر عند الحاكم الشرعي باتيانهن الفاحشة فاحبسوهن في البيوت حائلين بينهن وبين الفاحشة.

والظاهر ان هذا الحكم ادبي اجتماعي تربوي حيث تجعل المرأة التي اقترفت هذه الجريمة تحت المراقبة وللابتعاد عن مظان الجريمة والمواظبة على تهذيبهن وتربيتهن تربية صالحة.

وعلى هذا لا ينافي خروجهن من البيوت إذا تحقق المناط وهو المراقبة ، ويستفاد ذلك من لفظ الإمساك ايضا حيث لم يعبر عزوجل بالحبس والسجن ونحوهما.

قوله تعالى : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ).

اي حتى يستوفيهن الموت بانتهاء أجلهن وقد تقدم في قوله تعالى : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) آل عمران ـ ٥٥ الكلام في مادة (وف ي).

قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).

اي : أو يشرع لهن حكما غير الحبس فيه المخرج لهن ، ويستفاد من ذلك ان الحكم السابق مؤقت حتى يأتي الحكم الجديد. والسبيل هو الجلد أو الرجم كما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة.

وقد راعى القرآن الكريم في من اقترف الفاحشة من النساء السماحة والتسهيل فقد جعل الإمساك في البيوت عقابا مؤقتا يسائر الضمير ، ولوحظ فيه تربية من اقترف الفاحشة وتهذيبه بالإصلاح وترك الفاحشة والحيلولة بين المقترف وبينها ثم ينتقل الى حكم آخر روعي فيه قمع مادة الفساد ، فكان كلا الحكمين جاريا على حكمة متعالية وفق المصلحة

٣٦٨

العامة فان الحكم الاول بني على الفطرة وهي بعث العفة بين النساء التي طمست في الجاهلية ، واما الحكم الثاني فقد بني على المحافظة لناموس العفة وزوال مادة الفساد وهذه قرينة اخرى على عدم اختصاص الفاحشة بالزنا أو السحق ، كما عرفت.

قوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ).

اللذان تثنية (الذي) والتثنية إما باعتبار الزانية والزاني تغليبا كما عليه المشهور ؛ أو الرجلين في اللواط كما عليه جمع ، أو الرجلين في الفاحشة مطلقا اللواط والتفخيذ وسائر الفواحش بينهما.

والضمير في (يَأْتِيانِها) يرجع الى الفاحشة وقد ذكرنا ان الفاحشة وان كانت مطلقة في الآيتين لكنها تختلف في الآية الاولى عن الآية الثانية فراجع. والضمير في (مِنْكُمْ) يرجع الى المسلمين لكونهم أهلا لإلقاء الخطاب وتلقي الاحكام الإلهية.

وهذه الآية المباركة تتعرض لحكم الرجال في الفاحشة اما الآية الاولى فهي تتعرض لحكم النساء كما عرفت آنفا.

وقيل : ان هذه الآية تتعرض لحكم زنا الأبكار وان المراد بالأذية هي مطلق الحبس ثم تخلية السبيل مع التوبة. وفيه : انه لم يقم دليل عليه.

قوله تعالى : (فَآذُوهُما).

بالقول أو الفعل بما هو المعتاد للردع عن الفاحشة ، سواء كان بالحبس أم الضرب أم الاهانة أم بالتوبيخ والتعيير ونحو ذلك ، والحكم وان كان مطلقا أول الأمر الا انه ورد تفسيره في السنة الشريفة بالحد المعين لفاحشة الرجال وهو القتل في اللواط والجلد في التفخيذ ، ولو حظ في هذا الحكم ابتداء جانب التربية وروعي فيه التسهيل والسماحة

٣٦٩

واثارة العفة والحياء والترغيب إليهما ثم ورد تفسيره بذلك قمعا لمادة الفساد على سبيل التدريج.

قوله تعالى : (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا).

هذه قرينة على ان الحكم كان مبنيا على السماحة والتسهيل فانه إذا تابا حقيقة وأصلحا أعمالهما بالرجوع عن الفاحشة. وعطف الإصلاح على التوبة لبيان تحقق حقيقتها دون مجرد اللفظ لو بقي في حالة معينة.

قوله تعالى : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما).

اي : اصفحوا عنهما وكفوا عن ايذائهما بعد تحقق التوبة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً).

اي : ان التوبة والرحمة ثابتتان منه تعالى لعباده ازلا وابدا.

بحوث المقام

بحث ادبي :

اللاتي احدى صيغ جموع التي كما عرفت وهي «اللات» بحذف الياء وإبقاء الكسرة ، و «اللائي» بالهمز واثبات الياء ، و «اللاء» بكسر الهمز وحذف الياء ، و «اللا» بحذف الهمزة ، واما جمع الجمع فاللاتي تجمع على «اللواتي» و «اللاء» على «اللوائي» ، وقيل : (اللوات) بحذف الياء وإبقاء الكسرة و(اللوا) بإسقاط التاء.

٣٧٠

وتصغير «التي» اللتيا بالفتح والتشديد قال الراجز :

بعد اللّتيا واللّتيا والّتي

إذا علتها نفس تردت

واللتيا والتي اسمان للداهية. يقال : وقع في اللتيا والتي.

واللذان تثنية الذي ـ كما تقدم والقياس ان يكون اللذيان كرحيان ومصطفيان ولكن قيل انه حذفت الياء تخفيفا وقيل : انه للفرق بين الأسماء المبهمة والأسماء المتمكنة لان نون التثنية قد تنحذف فيها مع الاضافة نحو رحياك ومصطفيا القوم ، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين. هذا بخلاف اللذان فان النون لا تنحذف فيه.

وقرئ بتخفيف النون وبالتشديد وهي قراءة قريش.

بحث دلالي

تدل الآيتان الشريفتان على امور :

الاول : يستفاد من قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) أطراف الفاحشة التي نهى عنها الله تعالى في مواضع متفرقة من القرآن الكريم وشدد النكير عليها وجعل على من ارتكبها حدا ردعا معينا عن اقترافها مرة اخرى وإصلاحا للمجتمع.

والمذكور في هذه الآية المباركة من المقومات والأطراف هي الطرفان المرتكبان ، والفاحشة ، وثبوتها باربعة شهداء ، والحد. وقد أجمل سبحانه وتعالى سائر الخصوصيات في هاتين الآيتين لأنهما في مقام قبح هذه الجهة (الفاحشة) واعلام الناس بها ، وبعث الضمير الانساني

٣٧١

على التجنب عنها ، وهذه الآية الشريفة من اجمع الآيات الواردة في هذا الموضوع ، وحملها على إطلاقها بحيث تشمل جميع اقسام الفاحشة اولى من اختصاصها ببعض الأقسام من غير دليل.

وقيل : ان الموصول في الآية الاولى (وَاللَّاتِي) يدل على اختصاص الفاحشة بالتي ترتكبها النساء وهي المساحقة والموصول في الآية الثانية (الَّذانِ) يدل على اختصاصها بالتي يرتكبها الرجال وهي اللواط والتفخيذ فلا اطلاق لها.

ويرد عليه : ان ذلك صحيح إذا لم يكن احتمال آخر يساويه ويمنعه عن الظهور فان اسم الموصول في الآية الاولى قد يراد به الطرف الانثوي في الفاحشة اي الإفراد منهن والموصول في الآية الثانية يراد به الطرف المقابل لها وهو الرجل فتختص الفاحشة بالزنا كما ذكره جمع من الفقهاء وخصه عزوجل بالذكر لشيوع هذه الجريمة في المجتمع وهي ذات طرفين ذكر وأنثى فالآية الاولى تتعرض للثاني والآية الثانية تتعرض للأولى ، وانما قدم عزوجل الأنثى على الذكر في هاتين الآيتين لقوام هذه الجريمة بالمرأة نظير قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) النور ـ ٢.

ويحتمل ايضا ان يكون إتيان اسم الموصول جمعا للمؤنث في الاولى لبيان مطلق الفاحشة الصادرة من النساء سرا وجهرا حتى انهن كن ذوات الأعلام في الجاهلية كما هو معروف ، وإتيان التثنية مذكرا في الثانية باعتبار الفواحش الصادرة من الرجال وشناعتها بحيث فرض وجودها كالعدم ولم يعرف ذو علم بالنسبة إلى رجل فلا تختص الإتيان بفرد خاص من الفاحشة كما عرفت في التفسير فراجع.

الثاني : يدل قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) على ان

٣٧٢

المراد منه منع الخروج عن البيوت والحيلولة بينهن وبين الفاحشة. وبعبارة اخرى : ابقاؤهن في البيوت لغرض تربيتهن تربية صالحة. ولعل ذلك هو السر في العدول عن التعبير بالسجن والحبس. ويشهد على ان المراد من الإمساك منع الخروج قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) الطلاق ـ ١ وإن كان الإمساك في الموردين يختلفان في الغاية. وكيف كان فلا ينافي ذلك كونه حدا لهن في المقام ، لما يقتضيه بعض النصوص. وكيف كان فالآية الشريفة تتضمن سماحة الإسلام وسهولته كما لا يخفى.

الثالث : ذكر بعض المفسرين ان قوله تعالى : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) يشير الى عادة جاهلية وحمل قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) على جعل الحكم الالهي والحد الشرعي ـ الفاحشة وهو ما ورد في سورة النور والسنة المقدسة فيزول الحكم الالهي لا محالة بعد التشريع.

ويمكن ان يراد من قوله تعالى : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) المعنى الكنائي وهو اظهار النفرة عنها يعني ان المرتكبة لهذه الفاحشة لا يختلط ولا يعاشر معها حتى يأتيها الموت لقبيح فعلها ، ولا بد ان يقيد ذلك بما قبل التوبة واظهار الندامة وصدور العمل الصالح عنها ، فيزول الموضوع لا محالة كما يدل عليه الآية الثانية.

الرابع : يدل قوله تعالى : (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) على ان الفعل صدر عنهن بالاختيار من دون جبر واكراه فيكون للمكرهة حكم آخر.

الخامس : يدل قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) على ان الحكم مغيى بجعل حكم جديد فليس ذلك من النسخ المصطلح كما عرفت في التفسير لأنه يشترط في المنسوخ ظهوره في التأبيد.

السادس : يدل قوله تعالى : (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما)

٣٧٣

على ان التوبة والإصلاح مسقطان للحد على ما فصل في الفقه.

بحث روائي

في تفسير العياشي عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سألته عن هذه الآية : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» قال (عليه‌السلام) هذه منسوخة قلت : كيف كانت؟ قال (ع) كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها اربعة شهود أدخلت بيتا ولم تحدث ، ولم تكلم ، ولم تجالس وأوتيت بطعامها وشرابها حتى تموت قال (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) فقال (عليه‌السلام) جعل السبيل الجلد والرجم والإمساك في البيوت».

وفي تفسير النعماني عن الصادق (عليه‌السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم‌السلام) في حديث ذكر فيه احكام هذه الآية ـ الى ان قال ـ «فلما قوي الإسلام انزل الله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) فنسخت هذه الآية الحبس والأذى ـ الحديث».

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) كان في الجاهلية إذا زنى الرجل يوذي والمرأة تحبس في بيت الى ان تموت ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

٣٧٤

وفي المجمع : «وحكم هذه الآية منسوخة عند جمهور المفسرين وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهما‌السلام).

أقول : ليس المراد بالنسخ هنا النسخ المعروف بين الفقهاء الذي يبحث عنه في علم الأصول وعلم الكلام وهو : «رفع حكم شرعي ثابت بحكم شرعي آخر» بل المراد بالنسخ هنا ابطال الحكم الجاهلي بتشريع الهي جديد ولعل المراد من قول بعض المفسرين بالنسخ هذا المعنى فلا نزاع ويدل على ما ذكرناه ما تقدم من الحديث.

بحث عرفاني

ذكرنا في احد مباحثنا السابقة ان للقرآن الكريم بطونا ترتقي الى سبعة بطون كما في بعض الروايات او الى سبعين بطنا كما في بعضها الآخر ، ولا بد أن يكون كذلك لأنه كلام من لا تناهي لعلمه وحكمته وتدبيره ، وقد حكي عن بعض الفلاسفة الأقدمين انه كان يلقي على أصحابه كلمات الحكمة وهم يستفيدون من كل واحدة منها وجوها من الحكمة كلها صدق وصواب.

وما يرتبط بالآيات التي تقدم تفسيرها انه ورد في بعض الروايات تفسير الفاحشة بحب الدنيا ، كما ورد تفسير السفه في قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) بحب الدنيا أيضا ، والجميع حق وصواب لقول سيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «حب الدنيا رأس كل خطيئة» وقول سيد الأولياء والعرفاء علي (عليه‌السلام) : «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» فإذا اجتمعا معا كانا من أفحش

٣٧٥

الفواحش في إيجاب المفسدة المهلكة والى ذلك أشار عزوجل في سورة العصر : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) وهذه السورة على صغرها تعين مبدأ الإنسان ومنتهاه الاختياريين ، كما ان قوله تعالى : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) البقرة ـ ١٥٦ يعين مبدؤه ومنتهاه غير الاختياريين ، مع اننا إذا لاحظنا معنى قوله تعالى : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) بالملاحظة التفصيلية في المعتقدات والأفعال والحركات والسكنات يكون داخلا في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) وكيف كان فان اكبر الفواحش حب الدنيا الذي يجتمع مع الاهوية النفسانية ، وحينئذ يكون الحد لهذه الفاحشة هو إماتة النفس الامارة وإصلاحها بالتوبة والعمل الصالح وترويضها بالملكات الفاضلة وتزيين النفس بالأخلاق الحميدة وتزكيتها بالتقوى ليحصل القرب الى الله تعالى والبعد عن الدنيا وما فيها فان ذلك هو الكمال المطلق.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

٣٧٦

لما ختم سبحانه وتعالى الآيات السابقة بالتوبة وبيّن ان بها تسقط العقوبة والحد الشرعي ذكر عزوجل في هاتين الآيتين الشريفتين حقيقة من الحقائق الإلهية التي امتاز بها الإسلام عن سائر الأديان السماوية ، فبين عزوجل حكم التوبة وانها حق من حقوق العبد على خالقه ومربيه وقد وصف نفسه بالرحمة وذكر شروط التوبة ومواردها التي تقبل من الإنسان والموارد التي لا تقبل.

كما بين عزوجل ان التوبة انما تكون وفق النظام الربوبي المتقن المبني على الحكمة والعلم.

والآية من الآيات المتعددة التي ترغب العاصين إلى هذه الموهبة الربانية وتحرضهم إلى التوبة قبل فوات الأوان. وانما ذكر عزوجل هذه الحقيقة ضمن الاحكام الإلهية لما لها من الأهمية الكبرى في تربية الإنسان وهدايته إلى السعادة والكمال ولا تخلو الآيتان من الارتباط بالآيات الاخرى.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ).

بيان لحقيقة من الحقائق الإلهية التي كشف عنها القرآن الكريم بما لم يكشف عنها كتاب سماوي آخر ، فانه بيّن حقيقة التوبة وشروطها ومواردها وآدابها وآثارها. ويمكن اعتبارها بحق من التعاليم المختصة بهذا الكتاب العزيز وانها لم تكن بهذه الخصوصية في سائر الشرائع الإلهية وقد اهتمّ القرآن المجيد بها اهتماما بليغا حتى ورد ذكرها فيه بما يزيد على ثمانين موردا ، وسميت سورة من سور القرآن المجيد باسم التوبة.

٣٧٧

والتوبة في نظر الإسلام من الأمور المعدودة التي لها جوانب متعددة فهي عملية تربوية تربّي الإنسان تربية دينية مبنية على الحقيقة دون الوهم والخيال ، كما انها عملية اصلاحية تصلح النفوس الفاسدة وتهذبها وتزكيها وتصلح المجتمع وتجعله في المسار الصحيح ، كما انها فضيلة اخلاقية وهي من أجل مكارم الأخلاق. ونحن ذكرنا ما يتعلق بها في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة ـ ١٦٠ فراجع الآية الكريمة.

ومادة (توب) تدل على الرجوع سواء استعملت بالنسبة اليه عزوجل أم استعملت بالنسبة إلى العبد قال تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) التوبة ـ ١١٨ وتوبة الله تعالى على العبد هي الرجوع عليه بالرحمة والتوفيق وغفران الذنوب وتوبة العبد هي الرجوع إلى الله تعالى بالندامة والانصراف عن المعصية.

والمستفاد من الآيات الواردة في هذا الموضوع أن توبة العبد محفوفة بتوبتين من الله تعالى إحداهما : التوفيق لها لان العبد محتاج بذاته وهو الفقير اليه عزوجل قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فاطر ـ ١٥ ، فإذا وفقه الله تعالى للتوبة تاب ورجع اليه عزوجل بالندامة والانصراف عن المعصية : الثانية : توبة الله تعالى عليه بالقبول والغفران فتكون مطهرة للعبد مما أصاب نفسه بسبب المعصية من القذارات والنجاسات المعنوية فيحصل بها التقرب اليه عزوجل.

و(على) في قوله تعالى : (عَلَى اللهِ) تفيد اللزوم والثبوت وهو

٣٧٨

يرادف الوجوب ، وانما وجبت التوبة لأنها من افراد رحمته التي أوجبها على نفسه قال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الانعام ـ ٥٤ واستعمال (على) في الوجوب واللزوم كثير ولا ضير في ذلك.

الا ما يقال : من ان استعمال الوجوب بالنسبة اليه عزوجل امر مستنكر بل لا يصلح لأنه لا سلطة على الله تعالى يوجب بها عليه ولذا ذكر بعض المفسرين ان هذه العبارة وأمثالها التي هي ظاهرة في وجوب بعض الأشياء على الله قد جاءت على طريق العرب في التخاطب ولا يفهم منه إلا انه واقع لا محالة.

ولا يخفى ان ذلك تطويل لا طائل تحته وما ذكره انما هو تغيير في ظاهر اللفظ ، فلا مانع من إيجاب الله تعالى على نفسه أمورا تقتضيه حكمته المتعالية وقد نطق بها القرآن الكريم وشهد بها العقل السليم من دون ان يكون لغيره سلطة عليه يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف فإذا كانت التوبة من مصاديق الرحمة الإلهية التي وعد بها عباده» والله لا يخلف الميعاد فيجب عليه قبول توبة عباده من هذه الجهة ايضا.

ثم ان اطلاق الآية الشريفة يشمل جميع اقسام التوبة من الكفر والشرك والضلال وأنحاء الفسق والعصيان الا ما يستثنيه سبحانه وتعالى بعد ذلك. نعم تختلف أنحاء التوبة ففي بعض المعاصي تكون بالإيمان بالله تعالى وفي البعض الآخر تكون بأداء الحقوق ، وفي ثالث بإيقاع الحد ، وفي رابع باجتناب الكبائر ، وفي خامس بالطاعة والمواظبة على الصلاة وقد ذكرنا جميع ذلك في مبحث التوبة فراجع آية ١٦٠ من سورة البقرة.

٣٧٩

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ).

(للذين) خبر ، و(التوبة) مبتدأ ، و(على الله) متعلق بما تعلق به الخبر ، وقيل غير ذلك و(بجهالة) حال من فاعل (يعملون) والباء للسببية و(السوء) هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله بارتكابه وهو لا يليق به سواء كان كفرا أم معصية كبيرة أم صغيرة و(الذين) عام يشمل المؤمن والكافر معا فالجملة تبين حالهما ، لأنهما معا يعملان السوء. و(العمل) أعم من الجوارح أو عمل القلوب. والتعبير به مع ان الكفر من اعمال القلوب لبيان ان الكفر سيئة ومنشأ للأعمال السيئة.

والجهالة من الجهل مقابل العلم والمراد بها إما عدم العلم بالموضوع أو الحكم أو هما معا ، قصورا أو تقصيرا ، وفي الكل لا يتحقق العصيان حتى يتحقق موضوع التوبة ، لان مقتضى ما هو المتواتر بين المسلمين عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «رفع عن امتي ما لا يعلمون» عموم الحكم لجميع افراد عدم العلم. إلا ان يدعى الانصراف عن مورد التقصير ، كما عن جمع من العلماء من تحقق العصيان في الجهل التقصيري وهو مقتضى ظاهر بعض الاخبار ايضا فلا تكون الجهالة في المقام بهذا المعنى بلا إشكال.

أو المراد بالجهالة في المقام فعل كل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتوجه إلى نفسه والعارف ببصيرته ما فيه صلاحه عن ما يسوؤه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه‌السلام) : (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) سورة يوسف ـ ٨٩ فما يصدر حينئذ عن الفرد انما يكون من داع نفساني غالب على ما تقتضيه القوة العاقلة فيكون مغلوبا لنفس امارة وداعية شهوية أو غضبية ،

٣٨٠