مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا».

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من سره ان يكون اغنى الناس فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يده».

وروي عن الصادق (عليه‌السلام) : «اوحى الله تعالى إلى داود ما اعتصم عبد من عبادي بي من خلقي عرفت ذلك من نيته ثم تكيده السموات والأرض ومن فيهن إلا جعلت له المخرج من بينهن وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلق عرفت ذلك من نيته إلا قطعت اسباب السموات والأرض من يديه وأسخت الأرض من تحته ولم أبال باي واد هلك».

وعنه (عليه‌السلام) : «ان الغنى والعز يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا».

وعن الكاظم (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال : «التوكل على الله على درجات منها ان تتوكل على الله في أمورك كلها فما فعل بك كنت عنه راضيا تعلم انه لا يألوك خيرا وفضلا وتعلم ان الحكم في ذلك له فتوكل على الله بتفويض ذلك اليه وثق به وفي غيرها».

وقال الصادق (عليه‌السلام) : «من اعطي ثلاثا لا يمنع ثلاثا من اعطي الدعاء اعطي الاجابة ، ومن اعطي الشكر اعطي الزيادة ومن اعطي التوكل أعطي الكفاية ثم قال : أتلوت كتاب الله عزوجل (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ، وقال : «ولئن شكرتم لأزيدنكم» ، وقال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالة على فضل التوكل ومدحه والترغيب اليه وانه خلق كريم يجب على المؤمن التحلي به ويدل عليه العقل ايضا.

٢١

معنى التوكل :

التوكل مشتق من الوكالة يقال وكل فلان الأمر إلى غيره اي فوضه اليه واكتفى به لاعتماده عليه انه ينجزه ووثق به ويسمى المفوض اليه متكلا ومتوكلا عليه ، واما الوكيل فانه فعيل يأتي بمعنى المفعول ـ وهو الذي يوكل الأمر اليه أو موكول اليه الأمر. ويأتي بمعنى الفاعل فيكون بمعنى الحافظ والناصر والرقيب والمطلع لأنه الذي يرعى الأمور ويحفظها ويتعهدها وينصر من يركن اليه ومنه قوله تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران ـ ١٧٣ لأنه هو الذي يتعهد الأمور التي وكلت اليه من عباده وناصره وحافظه والاسم التكلان (بضم التاء).

وإذا رجعنا إلى اللغة نرى ان التوكل تارة يطلق ويراد منه التولي للغير ، يقال توكلت لفلان إذا صرت وكيلا عنه وتوليت له ، ومنه الوكالة (بفتح الواو) أو (بالكسر على لغة) وهي الوكالة المعروفة في الفقه.

ويطلق اخرى ويراد به الاعتماد على الغير والوثوق به. والتوكل على الله تعالى هو تفويض الأمر اليه عزوجل والاكتفاء به ويشبه التوكل التفويض من هذه الجهة فهما يشتركان في تسليم الأمر اليه عزوجل قال تعالى حكاية عن شعيب : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) غافر ـ ٤٤ أي اسلم الأمور اليه عزوجل فهو الذي يكفيكها ، وفي الحديث ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يدعو فيقول : «اللهم اني أسلمت نفسي وفوضت امري إليك».

٢٢

لكن التوكل يزيد على التفويض في انه يتضمن طلب النصرة منه والوثوق بأنه ينجزها ويحفظ من يكل اليه أمره والرضاء بفعل الله عزوجل بعد الاعتراف بالعجز ولقصوره امام عظمته وكبريائه.

حقيقة التوكل :

التوكل على الله تعالى هو الاعتماد عليه عزوجل قلبا واطمينان النفس به والوثوق بأنه لم يهمله بعد الاعتراف بعجز الإنسان امام قدرته وعلمه وإحاطته وقيموميته ، والاعتقاد بانه تعالى هو الفاعل لا غيره وان لا رب غيره فيعلم علما قطعيا بانه لا حول ولا قوة إلا بالله. يضع الأشياء في مواضعها بحكمته وهو القادر على كل شيء في السموات والأرض.

ومن ذلك يظهر السر في ذكره عزوجل العزة والحكمة في قوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لان الاعتقاد بأنه حكيم يضع الأشياء في مواضعها وعزيز قادر لا يمتنع عليه شيء إذا أراد فلا محالة يذعن المؤمن بأنه تعالى ناصره ومعينه وهو حسبه وكافيه ويحصل له الاعتقاد بأن كل ما يسوقه اليه ربه هو طيب وكريم وحسن وخير ويعتمد عليه في جميع أموره وتحصل الثقة بالله العظيم فيتوكل عليه عزوجل.

فالتوكل إنما هو ارتباط عالم الشهادة المتناهية من كل جهة بعالم الغيب غير المتناهي كذلك ولذا نرى انه والتوحيد قرينان لا يتحقق أحدهما من دون الآخر فمن لا توحيد له لا توكل له ومن لا توكل له لا ايمان له ويدل عليه قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

٢٣

بل يمكن ان يقال بأن التوكل طريق لمعرفة ايمان المؤمن بل هو محقق له لأنه لا يرى لغير الله تعالى أثرا فالجميع مسخر تحت ارادته وانما جعل لها نظاما معينا أقام امور العالم به فتجرى وفق قانون الأسباب والمسببات خاضعة له لا تتخلف عنه ، إلا انها عاجزة عن اي نفع وضرر لأنها لا تفعل شيئا الا بإرادته ومشيته عزوجل والمؤمن يذعن بهذا النظام الذي أقام الله تعالى هذا العالم به ويطلب كل شيء عن طريق سببه ويعمل ويكافح على إيجاد الأسباب الظاهرية المنوطة بها المسببات ويطلبها وفق ما امره الله تعالى طلبا تكوينيا أو تشريعيا ولكنه يعترف بالعجز امام قدرة الله تعالى ويذعن بالجهل امام المقادير التي قدرها عزوجل ويعلم بأن الأسباب الظاهرية التي عمل لأجلها شيء والمقادير والقضاء والقدر والأسباب الخفية التي يجهلها شيء آخر وجميعها خاضعة له عزوجل مسخرة امام ارادته ومشيته وهو عاجز عنها فيوكل امره اليه معتقدا بانه حسبه وناصره ومعينه.

ومن جميع ذلك يعلم بأن التوكل لا ينافي الأسباب الظاهرية بل الاعتقاد بها والعمل عليها من جملة اساسيات فضيلة التوكل ويدل على ذلك قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الشورى ـ ٣٦.

ويستفاد من هذه الآية الشريفة أمران : الاول ان الإنسان لا يمكن له التغاضي عن متاع الحياة الدنيا الذي هو من نعم الله تعالى عليه فهو الذي يقضى به مآربه ويحقق مقاصده ويعيش عليه في هذه الحياة الدنيا وأما ما عند الله فهو خير من هذا المتاع القليل في الكمية والكيفية وانما جعل الله هذه الدنيا وسيلة لنيل ما هو أعظم منها ولا يمكن تحصيل هذا المتاع الا بأسباب خاصة معروفة يجري عليها نظام هذا العالم فالتوكل

٢٤

على الله تعالى والاعتماد على الأسباب الظاهرية قرينان بل هي من طرق تحصيل التوكل عليه عزوجل كما عرفت ويدل عليه قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اعقلها ثم توكل».

الثاني : ان التوكل من شروط الايمان الصحيح بل هو من أعلى مقامات التوحيد فانه التوحيد العملي الذي اعتنى به الله تعالى في كتابه الكريم واهتم به الأنبياء والمرسلون فهو يبين الجانب العملي في الايمان لأن التوكل وظيفة من وظائف القلب فان به تطمئن النفس ويسكن القلب وبه يدخل المؤمن تحت الآية المباركة (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر ـ ٣٠.

وبالجملة : لما كان هذا العالم متقوما بالأسباب والمسببات الطولية والعرضية ولا بد من انتهاء تلك إلى سبب غيبي وربوبية عظمى لا يعقل فوقها ربوبية وقيمومية كبرى ليس ورائها قيم أصلا ، فيكون الجميع مسخرا تحت ارادته ومشيته التامة ، فلا الماديات تعوق مشيته ولا التكثرات تمتنع قهاريته ، ولا ريب في تحقق ما ذكر في هذا النظام الأحسن وآثار عظمته وابداعه ووحدانيته ظاهرة في كل شيء ، والتوحيد عبارة عن الاعتقاد بهذه الحقيقة ، والتوكل هو الاعتماد على مدبر هذا العالم وخالقه وصانعه ، فان طابق الاعتقاد مع الواقع على ما هو عليه تتجلّى حقيقة التوكل وإلا فلا توكل.

ومن ذلك يظهر السر في ما ورد عن الائمة (عليهم‌السلام) : «ان قول القائل لو لا ان فلانا لهلكت شرك قيل له (عليه‌السلام) فكيف نقول؟ قال (عليه‌السلام) تقول لو لا ان منّ الله عليّ بفلان لهلكت» كما يظهر السر في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يوسف ـ ١٠٦ فالتوكل الحقيقي هو الاعتقاد

٢٥

باستناد الكل اليه عزوجل وانبعاث الجميع منه تعالى ، ويستلزم ذلك الاعتقاد بتسبيب الأسباب والسعي في تحصيلها ، فان التوكل بدون ذلك لا ثمرة فيه بل هو لغو وباطل ، فترجع حقيقة التوكل إلى إرجاع الأمور ـ لا يتعلق بها عقولنا من تحصيل المقتضيات ـ إلى الله تعالى لأنه مسبب الأسباب ومسهل الأمور الصعاب.

ومن ذلك كله يظهر ان التوكل عنوان التوحيد وهو داع اليه فهما متلازمان وبه ينتظم حال الإنسان وعلمه وعمله. وبما ذكرناه يرتفع الغموض من حيث ان ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد والتباعد عنها خلاف طريقة العقل والشرع ، والتوكل يرفع الغموض والعسر عن ذلك كله.

شروط التوكل :

للتوكل على الله تعالى شروط لا يتحقق إلا بها تظهر من التمعن في ما ذكرناه في حقيقة التوكل وهي :

الاول : الاعتقاد بالله تعالى وانه الرب القيوم المدبر لجميع ما سواه وانه العزيز لا يمنعه شيء ، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها وفق ارادة وعلم بجميع الخصوصيات.

الثاني : الاعتقاد بانه لا فاعل في هذا العالم إلا الله تعالى وان ما سواه مربوب له ومقهور تحت قهاريته العظمى ، فهو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

الثالث : الإذعان بأن هذا العالم ينتظم بقانون خاص لا يمكن التخلف فيه ، وان الله تعالى هو الذي جعل هذا القانون وهو قانون

٢٦

الأسباب والمسببات ولا يمكن فيه التغيير والتبديل ولا التخطي عنه.

الرابع : تحصيل الأسباب والمعدات والمقتضيات التي تقع تحت تصرف الإنسان والسعي في تهيئتها واعدادها واما غيرها من الأمور الخفية التي لا يعلمها إلا الله تعالى فلا بد من الرجوع فيها إليه تعالى والتضرع لديه في تحقيقها كما عرفت.

الخامس : حسن الظن بالله تعالى واستسلام القلب له عزوجل والخضوع لديه في رفع الموانع والعوائق في ترتب النتيجة على المقدمات والمسبب على الأسباب.

السادس : ان يكون التوكل على من يكون قادرا على جميع الأمور ومستجمعا لجميع الشرائط وهو ينحصر في الله تعالى قال عزوجل في عدة موارد من كتابه الكريم : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) الأحزاب ـ ٣ وقال تعالى محكيا عن المؤمنين : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران ـ ١٧٣ فينحصر التوكل عليه عزوجل قال سبحانه : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) النساء ـ ٨١.

السابع : تفويض الأمر إلى الله تعالى وتوكيله في جميع الأمور والشؤون فانه القادر على تحقيقها يضعها وفق حكمته المتعالية لأنه العالم بحقائق الأمور وجميع خصوصياتها.

وإذا تحققت جميع هذه الشروط تحصل للإنسان راحة نفسية واطمينان قلبي فتحصل له حالة التوكل عليه عزوجل ويدخل في زمرة المتوكلين الذين يحبهم الله تعالى ، كما ورد في جملة من الآيات الشريفة قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران ـ ١٥٩ وقال عزوجل : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) المائدة ـ ٢٣.

٢٧

درجات التوكل :

للتوكل درجات ومنازل تختلف حسب شدة اليقين وضعفه وحسب كثرة الأمور المتوكل فيها وقلتها وهي :

الاولى : ان يكون المتوكل على درجة كبيرة من اليقين والثبات في العقيدة والخضوع والطاعة لله تعالى بحيث لا يرى شيئا إلا يرى الله تعالى معه يثق بكرمه وعنايته ، ويعبر بعض علماء الأخلاق عن هذه الدرجة بتوكل خاص الخاص ، وفي هذا المنزل يفوض المتوكل جميع أموره إلى الله تعالى ويرضي بحكمه فيكون بين يديه تعالى كالميت الملقى بين يدي الغاسل ، ولعل الآية المباركة تشير إلى هذه الدرجة : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) الطلاق ـ ٣ فان من اتقى الله تعالى ووثق به عزوجل وتوكل في جميع أموره عليه عزوجل اطمأنت نفسه بأن الله ناصره وهو حسبه ، وهذه المرتبة عزيزة الوجود في الناس تختص وبالأنبياء واولياء الله تعالى المخلصين له وقد حكى الله جل شأنه عن الأنبياء والمرسلين في كتابه الكريم ما يشهد لذلك.

الثانية : ان لا يكون على الدرجة من اليقين والثبات في العقيدة والاطمينان بما قسمه الله تعالى لعباده ولكن يعتمد في أموره على الله تبارك وتعالى يفزع اليه ويعتمد عليه ولا يترك الدعاء والتضرع في كل مسألة وامر مثل الصبي الذي يفزع إلى أمه ويتعلق بها وقد فنى في امه ولا يرى غيرها وفي هذه الحالة يفني المتوكل في الموكل عليه

٢٨

ولا يلاحظ الواسطة ، ويعبر بعض علماء الأخلاق عن هذه الدرجة بتوكل الخواص.

وتفترق هذه الدرجة عن الدرجة السابقة في ان المتوكل في الاولى لا يرى شيئا إلا الله تعالى قد وثق بكرمه ولطفه وعنايته فربما يترك الدعاء والمسألة وثوقا منه به عزوجل في قضاء الحوائج كما قال ابراهيم الخليل (عليه‌السلام) : «حسبي من سؤالي علمه بحالي» وفي هذه الدرجة لا يترك الدعاء والمسألة والتضرع وإلى هذه الدرجة يشير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران ـ ١٥٩ فقد توكلوا في جميع أمورهم عليه عزوجل وأفنوا جميع حيثياتهم في الله تعالى وقد اعرضوا عن غيره.

الثالثة : ان يكون كثير الاعتناء بالأسباب فيرى للتدبير والاختيار في تهيئة الأمور الأثر الكبير ولكن لا يترك التوكل عليه عزوجل وهو يعتمد على توكله ويلتفت اليه دائما في أموره لا يغض النظر عنه وهذا هو الشغل الصارف عن الموكل اليه ، ولأجل ذلك اختلفت هذه الدرجة عن سابقتها في ان المتوكلين في الدرجة الثانية يعتمدون على المتوكل عليه وحده كما يعتمد على التضرع لديه بالدعاء والابتهال اليه عزوجل. والى هذه الدرجة يشير قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) آل عمران ـ ١٦٠.

وتختلف أيضا عن السابقة في ان هذه الحالة قد تدوم أياما كثيرة أو في جميع الحالات لدى المؤمنين بينما في الدرجة الثانية لا تدوم إلا أياما قليلة.

وقد عبر بعض العلماء (رحمة الله تعالى عليه) عن هذه الدرجة بتوكل العامي ، وربما يكون توكلهم في جميع الأمور وربما يكون في بعضها.

٢٩

وبالجملة : ان درجات التوكل تختلف باختلاف قوة الايمان بالله عزوجل والاعتقاد به تعالى وتفويض الأمور اليه والتسليم بقضائه وقدره والرضا بما قسمه على عباده ، كما انها تختلف باختلاف تفويض جميع الأمور أو بعضها وشدة الاعتماد على الأسباب وقوة الاعتقاد بها.

آثار التوكل :

إذا حصل التوكل على الله تعالى فانه يخلف آثارا كبيرة على المتوكل نحن نذكر بعضا منها :

الاول : التوكل يحقق معنى الايمان ويزيد فيه ويثبت دعائمه في المؤمن ويثبت عقيدة التوحيد في قلبه قال تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) المائدة ـ ٢٣.

الثاني : التوكل سبب إلى النصر والفوز بالمراد قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق ـ ٣.

الثالث : التوكل يفتح أمام صاحبه طريقا إلى الجنة فيدخل ويرزق فيها بغير حساب قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) العنكبوت ـ ٥٩.

الرابع : ان التوكل يورث محبة الله تعالى والرضاء الالهي للمتوكل قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران ـ ١٥٩ وكفى بذلك فخرا.

الخامس : التوكل يجعل كل ما يسوقه الله تعالى الى العبد حسنا طيبا وخيرا.

٣٠

السادس : التوكل يورث الاطمينان في قلب المتوكل والراحة في نفسه.

هذا موجز ما أردنا ان نذكره في هذه الفضيلة الكبيرة وهو غيض من فيض فان كل ما يقال في هذا الخلق الكريم قليل وكفى بذلك داعيا في التخلق بهذه الفضيلة والمسارعة الى هذا الخير العظيم.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

الآيات الشريفة تبين جانبا آخر من الجوانب المتعددة في غزوة أحد فإنها تظهر حقيقة المنافقين وضعفاء الايمان الذين لم يألوا جهدا من النيل من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقد وصموا هذا النبي الأمين بالخيانة ونفى الله تعالى عنه هذه التهمة ووصفه بأحسن الأوصاف وذلك اتباع رضوانه جلّت عظمته الذي هو أهم الغايات ولا يعدوه مؤمن فضلا عن خاتم الأنبياء والمرسلين.

وقد أعلن سبحانه وتعالى انه من اتهم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وخالفه

٣١

فقد باء بسخط من الله تعالى كما بين عزوجل ان من يتبع رضوان الله تعالى في درجة ومن باء بسخط من الله في درجة اخرى.

ثم ذكر سبحانه انه من على المؤمنين بموهبة عظيمة وهو النبي العظيم الذي اتصف بمكارم الأخلاق بل انه المنة الكبرى والنعمة العظمى وقد جعله أمينا على وحيه ومبلغا لأحكامه لينقلهم من الضلال الذي كانوا فيه إلى الهداية ويطّهرهم من دنس الشرك والمعصية ويخرجهم من الجهالة الى المعرفة ويعلمهم الكتاب والحكمة ومثل هذا النبي العظيم الأمين كيف يمكن ان يتصف بالخيانة!! والآيات الشريفة مرتبطة بما قبلها من الآيات كما هو معلوم.

التفسير

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ).

مادة غلل تدل على الخروج عن الحد المقرر أو الدخول في شيء من غير حل سواء كان في المال أو العقيدة أو غيرهما ، وفي حديث صلح الحديبية : «لا إغلال ولا إسلال». والأغلال : السرقة الخفية ، والإسلال سل البعير في جوف الليل. وفي حديث أبى ذر : «غللتم والله» اي : خنتم في القول والعمل ولم تصدقوا. والتجاوز إذا كان في الفيء والمغنم تكون خيانة.

وقيل : ان غل يختص بالأخذ خفية وان كان في ما يضمره الناس في صدورهم يقال رجل غلّ صدره إذا كان ذا غش أو حقد أو ضغن ويقال رجل غل (مجهولا) اشتد عطشه أو كان في جوفه حرارة. وتغلل في الشيء دخل فيه واختفى في باطنه. والغلول والغل

٣٢

(بالفتح) هو السرقة والأخذ خفية سمي بذلك ، لأنها تجري في الملك خفية. وقيل : انها تختص بالمغنم والفيء.

والمعنى : حاشا لنبي من أنبياء الله تعالى ان تقع منه خيانة مطلقا سواء كانت في ما يتعلق باحكام الله تعالى أو ما يتعلق بشئون الناس فان الخيانة معهم خيانة مع الله أيضا لأنه ليس من شأنهم ذلك ولا يصح منهم.

والخطاب ينزه ساحة الأنبياء عن الخيانة بأبلغ وجه وأبدع أسلوب ، لأنه يتضمن حكما مع دليل متين فهو ينفي الوقوع بنفي الشأن والصحة ، ولان الأنبياء معصومون وهم أمناء الله تعالى في ارضه وقد تقدم نظير هذا الخطاب في قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي) آل عمران ـ ٧٩ ومر الكلام فراجع. وذكر العلماء في شأن نزول هذه الآية بعض الروايات لا يخلو عن ضعف سيأتي في البحث الروائي نقلها.

وقد ذكر بعض المفسرين ان الغل انما هو في الوحي وكتمانه عن الناس لا الخيانة في المغنم. ولكن ظاهر الآية المباركة التعميم لا الاختصاص ، ومما يهون الخطب ان الآية الشريفة تنزه ساحة الأنبياء عن الخيانة وتطهرهم عنها وعن كل سوء وفحشاء وقد ذكرنا ان الخيانة مع الناس خيانة مع الله تعالى أيضا.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

جملة حالية تبين الجزاء المترتب على الفعل والخيانة اي : ان الخائن يلقى ربه بخيانته يوم القيامة وهو يوم ظهور حقائق الأعمال للناس فيفضحه الله تعالى من حين حشره.

٣٣

والآية الكريمة تدل على تجسم الأعمال في يوم الجزاء ، والمراد بإتيان الله تعالى بما غل هو الحضور لديه عزوجل وظهوره للناس وإيجاد تلك الحالة في ذلك العالم بما يناسبه.

قوله تعالى : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ).

اي : إذا احضر الغال للجزاء والحساب فيوفى وينال جزاء ما كسب غلا كان أو غيره كما توفى كل نفس وفاء تاما بما كسبت ان خيرا فخير وان شرا فكذلك.

والآية الشريفة تدل على ان الغال كما ينال جزاء فعله ينال المغلول منه حقه فان ذلك هو الوفاء التام الذي يعطى لكل نفس يوم الجزاء.

وفي ذكر «ثم» لبيان التفاوت بين يوم عرض الأعمال ويوم الجزاء.

قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

بيان لتمامية الوفاء من كل جهة اي : والحال انهم المحسنون والمسيئون لا يظلمون في جزائهم فلا يظلم المسيء بأن يجازي بغير ما كسب كما لا يظلم المحسن بنقصان جزائه ولا يعاقب العاصي بأكثر ولا ينقص ثواب المحسن.

قوله تعالى : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ).

هذه الآية الشريفة من جلائل الآيات القرآنية الراجعة إلى تهذيب الإنسان وتربيته ـ علمية وعملية ـ وهي تبين اختلاف الناس في الهداية والضلال والدخول في رضوان الله تعالى واختيار سخطه على رضوانه تبعا لاختلاف الطينات والاستعدادات فان هذا الاختلاف مما لا يسع لاحد إنكاره إلا ان ذلك هل هو امر ذاتي غير قابل للتغيير والتبديل ، أو هو اقتضائي

٣٤

فقط قابل لهما والأفعال انما تنبعث عن كل واحد منهما حين تثبت الغالبية أو المغلوبية لكل واحد منهما؟ والحق هو الثاني لأدلة كثيرة يأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها والقول بالأول يستلزم بطلان الثواب والعقاب ومحاذير كثيرة لا يقبلها العقل.

والآية الكريمة صريحة في المطلوب فإنها تدعو الناس إلى ابتغاء رضوان الله عزوجل في الأعمال والأقوال والاعتقادات وأطاعته عزوجل والاهتداء بهدى الداعين إلى الصلاح من الأنبياء والمرسلين واولياء الله الصالحين ولا بد رسوخ هذا الأمر الاقتضائي الذي يدعو الى رضوان الله تعالى في النفس ليغلب على الطرف الآخر الذي يدعو إلى سخط الله تعالى وان لم يوجب زواله بالكلية ولا يتحقق ذلك إلا بازالة الحجب والموانع عن النفس وما تدعو اليه الفطرة وما يرشد إلى الهداية وهذا من أهم الطرق التي اتبعها الأنبياء في تربية النفوس الانسانية وبها يقوم النظام الأحسن الانساني.

ويمكن ان يقال : ان ذلك لا يختص بالتربية الإلهية بل تجرى في غيرها من الأمور الشرعية والعقلية فان في الإنسان الفطرة المستقيمة ونور العقل وركيزة الجهل وحياة العزم والخيال ، والعالم قائم بذلك كله.

والرضوان : مصدر كالرضا مصدر رضي والصحيح انه اسم مصدر فان معناه أوفر من الرضا وفيه من المزية ما لا توجد في مجرد الرضا قال تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الحشر ـ ٨ وقال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة ـ ٧٢.

والآية المباركة تدعو الناس إلى جعل رضوان الله تعالى مقصودهم في جميع أمورهم وشؤونهم فانه السعادة العظمى والصراط المستقيم وهو لا يتحقق الا بمطابقة ما يصدر من الإنسان مع دين الحق وشريعة الله

٣٥

عزوجل واسباب الفوز بالرضوان كثيرة وقد ذكر سبحانه وتعالى في كتابه الكريم جملة منها كما ورد في السنة الشريفة جميعها.

وفي الآية الشريفة رد على مزاعمهم وابطال لدعواهم في نسبة الخيانة إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فان الذي يتبع رضوان الله تعالى في جميع أموره ولا يعدو عن رضا ربه كيف يتحقق فيه الخيانة لان الخائن قد باء بسخط من الله تعالى.

قوله تعالى : (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ).

باء بمعنى رجع واستقر وفي الحديث : «من طلب علما ليباهي به العلماء فليتبوّأ مقعده في النار» اي لينزل ويستقر فيها.

والسخط : هو الغضب العظيم والمراد من سخط الله تعالى هو الدخول في ما يوجب غضبه كالمعاصي والموبقات وما نهاه عزوجل ويجمعها متابعة الشيطان والنفس الامارة.

والمعنى : ليس من اتبع رضوان الله تعالى في اعتقاده وأفعاله وأقواله كمن دخل في سخط الله عزوجل بسبب أفعاله وأقواله واعتقاده وخروجه عن النهج القويم والصراط المستقيم واستوجب السخط والعقاب بفعل المعاصي والموبقات.

والآية الكريمة ترجع الأمر الى الفطرة التي تحكم بالفرق بينهما ، وان قياس أحدهما على الآخر قياس باطل بل هو جائر ونظير ذلك قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) السجدة ـ ١٨.

وانما لم يقل سبحانه وتعالى كمن اتبع سخط الله كما قال في رضوان الله ، لان ترك متابعته يستلزم الدخول في سخط الله تعالى لأنهما من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما مضافا إلى ان اسباب الرضوان هي

٣٦

الصراط المستقيم واعلام الهداية وهي مما يحكم العقل باتباعه بخلاف اسباب السخط فإنها شرور وقبائح فلا وجه لاتباعها.

قوله تعالى : (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

بيان لحال من باء بسخط من الله تعالى. اي : ان المأوى الذي يريد ان يأوى اليه ليستريح فيه انما هي جهنم وقد ساء ذلك المصير الذي يصار اليه.

وانما عبر عزوجل بالمصير لان المكان الذي يصار اليه هو أسوأ حالا إذا قيس بالمكان الذي هو عليه في الدنيا ، ولان الرجوع الى سخط الله يكون مصيره التكويني النار ، فالآية المباركة من قبيل القضايا التي قياساتها معها.

وقد قال بعض العلماء الفرق بين المصير والمرجع ان الاول يستعمل في مورد يقتضي مخالفة ما صار اليه على ما كان عليه في الدنيا بخلاف المرجع فانه يقتضي انقلاب الشيء الى حال قد كان عليها.

وهو مردود لاستعمال كل واحد منهما في الآخر قال تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الأنفال ـ ٤٤ وقال تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) يونس ـ ٤ إلا ان يريد اختلاف الجهات والحيثيات.

ولم يذكر سبحانه وتعالى جزاء من اتبع رضوان الله لعظمته وليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن فان رضوان الله اكبر وهو يستلزم كل نعيم وهو غير متناه من كل جهة.

قوله تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ).

مدح بليغ لمن ابتغى رضوان الله تعالى وبيان لمقاماتهم العالية ومآلهم الحميد الذي يرجعون اليه.

٣٧

والضمير «هم» عائد الى الموصول الاول وهو (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) واما الطائفة الثانية وهي من باء بسخط من الله تعالى فقد ذكر سبحانه حكمها وحالها في يوم الجزاء في قوله عزوجل (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مع ان سياق لفظ الدرجات ظاهر في الاختصاص.

وانما أتى عزوجل بضمير الجماعة العائد إلى ذوي العقول لبيان ان درجات الرضوان عند الله تعالى لها حياة ابدية ومن اشرف انواع العقول وان كانوا متفاوتين في ما بينهم ولا يعلم احد خصوصيات ذلك وجهاته إلا الله عزوجل قال تعالى في شأن الأنبياء العظام : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) البقرة ـ ٢٥٣.

وظهر مما ذكرناه انه لا حاجة إلى ما قاله جمع من المفسرين : من ان الآية الشريفة على سبيل الاستعارة بأن شبههم بالدرج في تفاوتهم علوا وسفلا ، أو انها على سبيل المبالغة في جعلهم نفس الدرجات فيكون تشبيها بليغا بحذف الأداة كقولهم زيد عدل ، أو زيد أسد ، أو انه على تقدير المضاف اي : ذووا درجات. وقال بعضهم : بأن الآية المباركة تشمل الطائفتين الا ان فيها تغليب الدرجات على الدركات فان الاول لمن اتبع رضوان الله تعالى والثاني لمن باء بسخط من الله.

والجميع كما ترى فان ظاهر الآية المباركة على خلاف ذلك كما قلنا.

ويستفاد من قوله تعالى : (عِنْدَ اللهِ) عناية خاصة بهم لا تستفاد من غير هذا اللفظ فان ما عند من هو غير متناه لا يعقل ان يكون متناهيا ؛ كما لا يعقل ان يكون محدودا بحد خاص من الكمال والجلال والعظمة والكبرياء.

والآية الكريمة مطلقة تشمل الدرجات في الدنيا والآخرة ، اما الدرجات في الدنيا فقد قال تعالى فيها (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ

٣٨

قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الزخرف ـ ٣٢ وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) الانعام ـ ١٦٥ واما في الآخرة فالآيات فيها كثيرة قال تعالى : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) طه ـ ٧٦ وقال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة ـ ١١ واما قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) الإسراء ـ ٢١ فانه يشمل درجات الآخرة قال تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) النساء ـ ٩٦ والآيات في سياق ذلك كثيرة وهي تبين بعض اسباب رفع الدرجات وموجبات نيلها.

قوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).

بيان بأن نيل تلك الدرجات لا يكون على التمني والوهم والخيال وانما هو على الحقيقة والأعمال ، فان الله تعالى لا يغيب عنه شيء ولا يفوت عنه الحقير من خير أو شر فهو عليم بما في الضمائر والنيات ودقائق الأمور والأعمال فيجازى بحسبها.

قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

ذكر لأفضل افراد من اتبع رضوان الله تعالى وبيان لأهم سبيل من سبل الدخول في رضوانه عزوجل.

٣٩

والمنة : وهي النعمة العظيمة التي تفاجئ الإنسان من دون سبق سؤال ومن صفات الله العليا : «يا من مننه ابتداء وعطيته فضل» ومن أسمائه جلت عظمته «المنان» اي المنعم المعطي.

ولا خير في الممكنات مطلقا أعلى وأكمل واشمل من تكميل النفوس الناقصة المستعدة فهو الخير المطلق في الدنيا والآخرة ، بل لا آخرة إلا بذلك فيكون أعظم صنع الله تعالى ولم يخلق ما سواه الا لأجله ، ولذا أجمل سبحانه هذه المنة العظيمة في المقام وأهملها فان أنبياء الله تعالى وان خلقوا في هذا العالم لكنهم (صلوات الله عليهم أجمعين) شوارق غيب يستمدون من الفيض الرباني غير المتناهي ويفيضون على الأعيان المستعدة فهم بوجودهم الجمعي ليسوا الا العقل الكلي المجرد يظهر تارة في صورة خليل الله تعالى ابراهيم واخرى في صورة حبيب الله احمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فالحقيقة واحدة والشوارق مختلفة ، ومن ذلك يظهر السر في أقوالهم (عليهم‌السلام) : «من لا عقل له لا ايمان له ومن لا ايمان له لا عقل له» والآيات الشريفة ناصة في هذا التلازم كما ستعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

ان قلت : ان ما ذكر من ان إفاضة الخير من دون سبق سؤال تسمى منة مخالفة لظاهر قوله تعالى حكاية عن ابراهيم (عليه‌السلام) (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) البقرة ـ ١٢٩ وقول سيد الأنبياء «انا دعوة أبي ابراهيم».

قلت : ان المراد من دون سبق سؤال من نفس المفاض عليه لا ممن يكون من طرق الفيض وفي سلسة الافاضة.

٤٠