مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

لا يستأنس الا بإيمانه» فلا بد من الاهتمام بإيتاء حقوقهم والتخلق بأخلاقهم.

الثاني : إذا كانت الماديات لا تتحصل لها صورة نوعية ولا تدخل لها في النظام الأحسن الكياني الا بالترابط بينها بارتباط القوى الفاعلية بالقوى المنفعلة فالمعنويات اولى بذلك فما لم يرتبط من له مقاليد السموات والأرض ومن عنده مفاتح الغيب والمعية القيومية مع الممكنات لا وجه لتحققها في اي مرتبة من مراتب التحقق قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) الحديد ـ ٤ وقال تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ق ـ ١٦ وقال علي (عليه‌السلام) : «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفيه» فلا يمكن تحقق اي امر معنوي إلا بذلك قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لله في ايام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها» وليست تلك النفحات من الجواهر والاعراض أو الوهميات بل هي شوارق غيبية تتدفق من عالم الغيب على القلوب المستعدة ومثله قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في شأن اويس القرني : «اني أشم نفس الرحمن من ناحية اليمن» ففي ارتباطات النفوس المقدسة مع معدن الكبرياء والعظمة تتحقق ينابيع من المعنويات يصفو عندها كل معدن ويهيج. وكيف لا يكون كذلك والإنسان الكامل هو مفخر الاملاك وغاية حركات الأفلاك وطاوس الكبرياء وحمام الملكوت.

الثالث : يصح ان يراد من الخبائث في قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) جميع حرمات الله تعالى سواء كانت من الماديات أو من غيرها مما حرمه الله تعالى فإنها توجب البعد عن ساحته والقرب إلى الشيطان وللخبائث مراتب شدة وضعفا.

والمراد من الطيب ما يوجب القرب إلى ساحته عزوجل وله ايضا مراتب شدة وضعفا كما يكون القرب والبعد كذلك.

٣٠١

والفطرة السليمة تأبى من تبدل الخبيث بالطيب إلا إذا عميت عين البصيرة وعطبت الفطرة المستقيمة بالحجب الغليظة وحينئذ تختار النفس الامارة بالسوء الخبيث على الطيب.

فالآية المباركة تجري في جميع الأقوال والأفعال والحركات بل المعتقدات فان جميعها تتصف بهما وتطبيقهما على المال من باب الكلي على الفرد.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

الآيات الشريفة تشتمل على أهم حكم من الاحكام الاجتماعية التي تبتني على شريعة الحق وهو حكم الإرث ونظرا لأهميته فقد ذكر سبحانه وتعالى من المقدمات تمهيدا وتثبيتا له بعد ما سادت تقاليد وعادات جاهلية.

وقد بين عزوجل ان الجميع رجالا ونساء لهم النصيب من الإرث

٣٠٢

ولا حرمان لأحد إذا ثبتت الولادة أو القرابة. وقد حذر الناس من تحريم الأيتام عما فرض الله تعالى لهم وأكل أموالهم ظلما وعدوانا ، وأوعد سبحانه وتعالى على آكل أموالهم بالخزي وسوء العذاب.

وقد تعرضت الآيات الشريفة لحكم أدبي اجتماعي وهو رزق اولي القربى واليتامى والمساكين ـ إذا حضروا قسمة التركة ـ غير ذوي النصيب منهم.

التفسير

قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ).

النصيب : الحظ والسهم ويجمع على أنصباء وانصبة. والمراد به مطلق السهم سواء كان بالفرض كالسهام الستة المعروفة أم بالقرابة كما في غيرها كالولد إذا انفرد فان المال كله له بالقرابة أو انضم اليه بنت أو بنات فان للذكر مثل حظ الأنثيين.

والمراد من الرجال ايضا مطلق الذكر وان كان صغيرا فان الصغار كالكبار لهم النصيب من التركة. ولعل التعبير بالرجال لبيان ان المناط في تسليم المال كون الوارث بالغا مبلغ الرجال كما ذكره عزوجل في الآية السابقة وهذا وجه آخر من وجوه الارتباط بين هذه الآيات الكريمة.

والظرف في (مِمَّا تَرَكَ) متعلق ب (نَصِيبٌ) وقيل متعلق بمحذوف صفة للنكرة. والتركة اسم لكل ما يخلفه الميت وما بقي من ماله كأنه تركه وارتحل.

٣٠٣

قوله تعالى : (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ).

الحكم عام كسابقه لا يختص بوصف معين أو حال والمراد من النساء مطلق الإناث من غير اختصاص بالكبار ، والوجه في التخصيص ما تقدم من ان المناط هو بلوغهن مبلغ الإناث البالغات.

والإظهار في موقع الإضمار لدفع كل لبس واحتمال ، ولبيان ان السبب في التوارث هو الولادة والقرابة وهذا هو اصل من الأصول المهمة في الفقه الاسلامي ، وهذا الأصل بيّن الشريعة الحق في قانون الإرث والعدل الالهي في هذا الحكم والإسلام يرد بذلك على تلك العادات والتقاليد. الجاهلية التي كانت تحرم المرأة وبعض الوارثين عن حقوقهم والإسلام يبين هذا الأصل المبتني على دعائم قوية وهي الاخوة الايمانية والحب في الله والقرابة الشرعية دون العصبية والأهواء الباطلة ولذلك نرى ان المؤمنين تقبلوا هذا الحكم بمجرد التشريع لموافقته للفطرة والعدل.

والآية الشريفة تبين ان الرجال والنساء مشتركون في تركة مورثهم وان لكل واحد منهم نصيبا فيها ، واما توزيع المال الموروث فسيأتي بيانه في الآيات اللاحقة من هذه السورة.

قوله تعالى : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ).

تأكيد للحكم السابق ، وزيادة في التوضيح لأنه يستفاد ذلك من اطلاق قوله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ) ولدفع كل توهم في تحريم بعض الورثة من القليل أو الحقير دون الكثير والعظيم أو بالعكس فإنهم سواء في جميع التركة قليلة كانت أو كثيرة بالنسبة الى اصل الوراثة ، واما الكمية فلها شأن آخر سيأتي بيانها بالتفصيل.

٣٠٤

قوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً).

مفعول مطلق نوعي يبين النصيب المجمل الذي ذكره عزوجل في صدر الآية الشريفة وفيه التأكيد للمعنى السابق ايضا.

اي : ان ذلك النصيب للرجال والنساء مقطوع ومفروض من الله تعالى لا يقبل التغيير والتبديل والاختلاط والإبهام ، ولعل تسمية المواريث بالفرائض لأجل هذه الآية الكريمة.

قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى).

مقتضى السياق أن المراد بالقسمة قسمة التركة والميراث ، ويمكن ارادة التعميم ويكون قسمة التركة من باب المثال لكل قسمة فتشمل قسمة اموال اليتامى بعد البلوغ والرشد ، والحضور عند الميت حين الوصية لان كل ذلك نحو إحسان وصلة لأولي القربى ويوجب التآلف والتعاطف وان كان ظاهر السياق من الآية الكريمة هو الاول.

والمراد باولي القربى هم الفقراء من أقرباء الميت غير الوارث الأقربين ويدل على ذلك ذكر الورثة قبل ذلك وذكر اليتامى والمساكين بعده.

قوله تعالى : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ).

المحتاجون من غير اولي القربى الذين يحضرون حين القسمة.

قوله تعالى : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ).

اي : فأعطوهم شيئا من المال المقسوم المدلول عليه سابقا. وظاهر الخطاب للورثة واولياء الميت الذين يقسمون المال وراثة.

ولم يعين سبحانه وتعالى المقدار إذ المناط تحقق هذا العنوان في اي مقدار تحقق ما لم يكن إجحاف في البين على الورثة ونظير هذه العبارة

٣٠٥

تقدم في قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها) النساء ـ ٥ ولعل الاختلاف في الظرف يرجع إلى استمرار الانفاق من الجماعة التي تولت حفظ اموال اليتامى فان المال لهم ؛ واما في الانفاق من التركة فانه يكون مرة واحدة ينتهي عند قسمة الميراث.

وظاهر الخطاب وان كان يفيد الوجوب في المقام ولكن مقتضى ما ورد في السنة في تفسير الآية الشريفة هو مطلق الرجحان.

قوله تعالى : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

اي : وليقل ارباب المال لهؤلاء المذكورين قولا طيبا دفعا للشحناء والبغضاء وما يوجب الحسد لان المقام يستدعي كل ذلك. فإذا اعطوهم شيئا فلا يمنوا عليهم ويستقلوا ما اعطوهم وإذا لم يعطوهم شيئا فليدعوا لهم ويعتذروا من ذلك.

وظاهر الخطاب الذي ورد مورد الاسترحام والاسترفاق يدل على استحباب مؤداه وعليه اجماع الامامية.

واختلف العلماء والمفسرون في ان الآية الشريفة محكمة أو منسوخة بآية المواريث. ومن المعلوم انه لا نسبة بين هذه الآية وآية المواريث فان الاولى تعين فرائض الورثة ، وهذه الآية تدل على استحباب الانفاق والاسترحام على الوارث فلا موجب للنسخ وسيأتي في البحث الفقهي ما يتعلق بذلك ان شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ).

الخشية : هي خوف خاص فقيل انها خوف مع شائبة تعظيم وإكبار

٣٠٦

وقيل : انها خوف في محل الأمل.

والمستفاد من موارد استعمال هذه الكلمة انها تأثر قلبي لما يخاف نزوله ويرجى منه الأمل.

والضعاف جمع ضعيف وهو يشمل الصغير وغيره ممّن لا يتمكن دفع الضرر عن نفسه كالمعتوهين والنساء الضعيفات ووصف سبحانه الذرية بالضعاف ترغيبا للترحم عليهم. كما ان التصريح بكونهم من خلفهم مبالغة في تهويل الحالة.

والجملة تبين غاية الرحمة والرأفة على الذرية الضعاف الذين لا وليّ لهم يذود عنهم الذل والهوان ولا كافل يتكفل أمرهم ويرعى شؤونهم والآية في مقام التمثيل.

وانها تستلفت الناس إلى الفرض والتقدير لو حلّ ذلك في أيتامهم وما يجرى عليهم من بعد ارتحال آبائهم وفقدان من يكفلهم فإنهم يتألمون ويقدرون له جميع ما يمكن أن يتصور من الحلول ، فالآية المباركة جارية مجرى قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كما تدين تدان» فهي من الأمور الوضعية السارية في كل خلف عن سلف. وهذا الأسلوب من الاساليب المثيرة للاحساس والعواطف ويظهر واقع الحال في مظهر المثال الخارجي الذي له الأثر الكبير على الإنسان.

والآية الشريفة تبين واقع الحال سواء كانوا ذرية أم لا. وتبعث الرحمة والرأفة في النفوس ، وتثير الشفقة والرحمة الكامنة في الإنسان لرعاية شؤون اليتامى والاعتناء بشأنهم وترك ظلمهم واضطهادهم لان كل من يخاف ان يترك الذرية الضعفاء من خلفه لا يريد ذلك بالنسبة الى ذريته فلا بد من تركه من جميع الناس كما تقدم.

ومما زاد في عظمة ذلك وشدة تأثيرها على النفس ان الله تعالى

٣٠٧

لم يأمر فيها بالترحم والعطف بل امر بالخشية والاتقاء منه عزوجل فانه شديد الانتقام وفيه غاية التهديد والتوعيد.

وكيف كان فالآية المباركة تحث على مراعاة حال اليتامى وإصلاح أمورهم وترك ظلمهم وإعطاء حقوقهم وتسوق التهديد لمن لم يتق الله تعالى ويحرم صغار الورثة من حقوقهم فهي متصلة بالآيات السابقة التي تأمر بحفظ اموال اليتامى. والآية التي تبين ان للرجال نصيبا فإنها بعمومها تشمل الأيتام الصغار ، فتكون مؤكدة لمضمون الآيات السابقة وقد ذكر المفسرون في المقام وجوها لم يقم عليها دليل.

قوله تعالى : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ).

اي : فليتقوا الله في جميع أوامره بتنفيذها ونواهيه بتركها والاجتناب عما نهى عنه ، فان تقوى الله أهم الغايات وهي الكمال المطلق.

قوله تعالى : (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

السديد : هو الصواب المستقيم اي : فليكن القول والرأي مطابقا للعمل في السداد والصواب ويتحدان في تثبيت الاحكام ومراعاة حال اليتامى وإصلاح شؤونهم فان المقام يحتاج الى تطابق العمل مع القول في العدل والصواب. ويشمل ذلك كل ما يوجب إرشادهم الى الصلاح والعمل باحكام الشريعة وردعهم عن المنكر والفساد ، فان جميع ذلك يدخل في سداد القول ، والخطاب يرجع إلى تهويل امر اليتامى على الأولياء أو المجتمع الذي له قسط كبير في حفظ اليتامى ومراعاة حالهم وإصلاح شؤونهم.

٣٠٨

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً).

جملة استينافية جيء بها تأكيدا لما ورد في الآية السابقة وتثبيتا لما فصل من احكام اليتامى سابقا.

وظلما حال اي : ظالمين أو تمييز يرفع الإبهام عن محتملات الاكل اي : ان الذين يأكلون اموال اليتامى من غير وجه شرعي فهم ظالمون أو ان أكلهم كان على سبيل الظلم وانما يكون ظلما إذا لم يكن الاكل له سبب شرعي إما بالاقتراض على وجه شرعي أو ما يأخذه بلحاظ اجرة عمله أو على وجه التقدير لاجرة العمل كما تقدم وفي غير ذلك يكون الاكل ظلما.

قوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً).

هذه الجملة كناية عن الإثم العظيم ، وملء البطن النار يدل على تجسم الأعمال فتمثل الواقع الذي يعيش عليه آكل اموال اليتامى ومن هضم حقوقهم وان لم نره بالعيان.

أو ان ما يوجب إلى الغاية المهوّلة المخزية تكون موجبة لاستحقار سائر الغايات فان النار التي تترتب على أكل اموال اليتامى هي غاية عظيمة مهولة يستحقر معها سائر الغايات فكأن الاكل نار محضة ولذا جيء بكلمة الحصر.

وعلى كلا الوجهين يكون الكلام على وجه الحقيقة دون المجاز.

وقيل : ان الكلام على المجاز دون الحقيقة لان المتبادر من (يَأْكُلُونَ) انه للحال دون الاستقبال بقرينة العطف عليه بقوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) المشتمل على حرف الاستقبال ، فلو كان المراد حقيقة الاكل ووقته يوم القيامة لكان الأنسب أن يكون لفظ الآية هكذا (فسيأكلون

٣٠٩

نارا ويصلون سعيرا) فيراد به المعنى المجازي اي انهم في أكلهم مال اليتامى كمن يأكل في بطنه نارا فالأكل عذاب باطن البدن والصلي عذاب ظاهره فهو جزاء اللباس وسائر التصرفات.

ولكن فساد هذا القول ظاهر ، لأنه مخالف لظاهر الآية الشريفة إذ أن المتبادر هو حقيقة الأكل دون المعنى المجازي والنار الفعلية دون النار في المستقبل مضافا إلى انه يوجب خروج الآية المباركة عن مفادها الواقعي وهو تجسم الأعمال.

قوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

الآية الكريمة تشير إلى العذاب الأخروي. والسعير من سعر النار واسعرها إذا أوقدها ، وهو فعيل بمعنى المفعول ويقال في المؤنث ايضا نحو كف خضيب. والنار المستعرة اي الملتهبة المشتعلة وهو من اسماء نار الآخرة ، ويقال صلى النار يصلي صليا وصليا وصلّى وصلى (بالقصر فيهما) هو الاحتراق بالنار ومقاساة حرها وعذابها ، وأصله يرجع إلى التسخن بقرب النار أو مباشرتها ثم توسع فيه واستعمل في الحرق ومقاساة اهوال النار.

والتنكير في السعير للتهويل اي : انهم سيدخلون نارا عظيمة لا يعلم احد وصفها إلا الله تعالى.

٣١٠

بحوث المقام

بحث ادبي :

قال بعضهم ان (نَصِيباً) في قوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) منصوب على الاختصاص اي اعني نصيبا مفروضا. ويرد بأن المنصوب بالاختصاص المصطلح عليه في النحو يشترط فيه ان لا يكون نكرة و (نَصِيباً) في المقام نكرة إلا ان يريد من الاختصاص معنى آخر.

وقيل : انه منصوب على انه مصدر مؤكد مؤول بمعنى العطاء أو القسمة ونحوهما من المعاني المصدرية ، وإلا فهو اسم جامد.

وقيل : انه منصوب على الحالية جيء بها توطئة للوصف بكون النصيب مفروضا ، ومؤكدة لما قبلها.

وقيل : انه منصوب على انه مفعول لفعل محذوف.

والقسمة مفعول مقدم لأنها المبحوث عنها ، ولتعدد الفاعل ، فلو روعي الترتيب لفات تجاذب أطراف الكلام.

و(الذين) في قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) فاعل (لْيَخْشَ) ومفعوله محذوف لدلالة الكلام عليه. و (خافُوا) جواب ل (لَوْ تَرَكُوا) وجملة (لَوْ) صلة للذين ويجوز حذف اللام في جواب (لو). وحذف الالف في (وَلْيَخْشَ) للجزم بلام الأمر.

ثم ان الأسلوب في قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ

٣١١

خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) من الأساليب الفصيحة التي تؤثر في النفوس وتستفزها نحو المطلوب وتصور الفرض والتقدير في لباس الواقع المحسوس لتعميم التعليم وزيادة تأثيره فمن يستمع هذا الخطاب يتصور المضمون ويفرض لنفسه ذرية ضعافا قد أحاط بهم جميع اسباب الذل والهوان ويجعلهم نصب عينيه وهو من الاساليب التعليمية المثيرة.

والسديد في قوله تعالى : (قَوْلاً سَدِيداً) هو العدل والصواب كما عرفت ، والسداد بالفتح هو الاستقامة والصواب ، وبالكسر هو البلغة وما يسد به الحاجة ، ولكن قال ابن السكيت في إصلاح المنطق انه لا فرق بين الفتح والكسر وانهما بمعنى واحد يقال : سداد من عوز وسداد. وكذا حكاه غيره.

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على امور:

الاول : يدل قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) على ان الأصل في التوارث هو الولادة أو القرابة وبذلك يرد القرآن الكريم على العادات والتقاليد التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي فإنهم كانوا يحرمون بعض الورثة ويمنعون حقوقهم عنهم من دون سبب معين سوى العصبية وبعض العواطف الظالمة ، والقرآن في تأسيس هذا الأصل القويم يبين الشريعة الحقة في أهم حكم من الاحكام الاجتماعية الذي طالما كان مورد النزاع والاختلاف في جميع المجتمعات.

وأسس الإسلام قاعدة معروفة هي المرجع في الإرث وهي : قاعدة الاقربية التي تقوم على العلقة النسبية والاقربية في الرحم ، وأكد

٣١٢

سبحانه وتعالى على هذه القاعدة في موارد متفرقة من القرآن الكريم قال تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الأنفال ـ ٧٥ وقال تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) الأحزاب ـ ٦ والآيات التي تقدم تفسيرها تبين جهة الاقربية وهي الولادة ، والنسب ، والقرابة ومن تقديم الولادة يستفاد انها الأصل للقرابة.

ولم يذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية مقدار النصيب لما سيأتي في الآيات التالية ذكره وبيان سائر خصوصياته.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) اشتراك النساء مع الرجال في الإرث وأكد عزوجل ذلك بالتصريح والتعميم والإظهار في مقام الإضمار ونص عليه نصا قاطعا بقوله تعالى : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) فانه يدل على كون السهام مقطوعة لا إبهام فيها ولا خلط ، وهذه الآية الشريفة تعطى للنساء حقوقهن قبل ان يطالبن بها ، فان شريعة الحق والعدل الرباني يثبتان الحقوق لأهلها قبل المطالبة بها ، وسيأتي في الآيات الكريمة التالية الكلام في مقدار حق المرأة في الإرث وبيان السبب في التفاضل بين الرجال والنساء فيه.

الثالث : يدل عموم قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) على شمول الحكم لجميع افراد الإنسان بلا استثناء فيدخل فيه تركة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الا إذا قام دليل معتبر على التخصيص وهو مفقود كما ستعرف في الموضع المناسب ان شاء الله تعالى ، كما ان عموم الآية

٣١٣

الشريفة يدل على بطلان التعصيب ايضا.

الرابع : يدل قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) على حكم ادبي تجتمع فيه الرحمة والرأفة في حال يكون أقرباء الميت أحوج إليهما من غيرهم ، فانه إذا قسنا هذا الحكم مع ما كانت عليه الحال في الجاهلية ، وما كان يقتضيه المقام من التعسف والظلم بحقوق الآخرين يتجلى عظمة هذا الحكم الالهي الذي يثير العطف والشفقة في قلوب الأولياء لا سيما بالنسبة إلى فقراء القربى واليتامى والمساكين والإحسان إليهم ومد يد العون إليهم فاجتمع في هذا الحكم الجانب الاخلاقي والاجتماعي والتربوي وهذا هو شأن الاحكام الإلهية التي لا تقتصر على جانب معين.

الخامس : يدل قوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) على ان النصيب يدخل في ملك الوارث قهرا بقرينة سياق الآيات الشريفة المشتملة على لفظ «اللام» الظاهر في الاختصاص ولعل ما ذكره الفقهاء من ان الإرث من النواقل القهرية غير الاختيارية مستفاد من مثل هذه الآيات المباركة والروايات الواردة في السنة المقدسة.

السادس : اطلاق قوله تعالى : (أُولُوا الْقُرْبى) يشمل قرابة الميت الأغنياء منهم والفقراء ، وقيده بعضهم بالفقراء ولكنه خلاف الظاهر نعم لا ريب في اولوية الفقير.

السابع : يدل قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) على حقيقة من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن الكريم وأكد عليها في مواضع متعددة وهي ارتباط الحوادث الخارجية مع الأعمال سواء كانت حسنة أو سيئة. ومن مصاديق هذه الحقيقة ما ورد في الآية

٣١٤

الشريفة التي تقدم تفسيرها فإنها تبين ان الآثار الوضعية لظلم الأيتام سيعود إلى الظالم ولو على أعقابه ويؤكد هذا قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزال ـ ٨ وإطلاقه يشمل عود الجزاء إلى نفس العامل أو إلى ذريته وأعقابه وفي بعض الروايات «يؤثر العمل السيء ولو إلى سبعين بطنا» وعلى هذا فربما يكون ما يصيب الإنسان من خير أو شر من انعكاس اعمال آبائه عليه.

ويمكن ان يقام الدليل العقلي على ذلك ايضا فان الذي يحسن إلى غيره انما يفعل ذلك لأجل انه رضي بالإحسان وارتضاه لنفسه ، فإذا احسن للأيتام فهو قد رضي ذلك لذريته ايضا وبالعكس اي إذا ظلم احد فإنما طلب ذلك لنفسه ورضي وما يرتضيه لنفسه يتعلق بأولاده وأعقابه ايضا ان لم يتدارك. نعم هناك اسباب وعوامل قد تمنع انعكاس العمل على النفس والذرية لا يعلمها إلا الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الشورى ـ ٣٠ وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام ان شاء الله تعالى.

الثامن : يمكن ان تكون من احد بطون قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) الإشارة إلى كيفية المعاشرة مع اولياء الله تعالى إماما كان أو عالما عاملا هاديا ، فان ترك المعاشرة معهم أو سوئها يؤثر في الذرية والأعقاب وقد ادعي التجربة في ذلك فحينئذ يكون المراد من قوله تعالى : (قَوْلاً سَدِيداً) اي قولا مطابقا مع العمل بما يرشدون اليه فإنهم واسطة الفيوضات المعنوية.

التاسع : يدل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) على تجسم الأعمال وهو صحيح ـ ويستفاد

٣١٥

ذلك من قوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) وان أكل اموال اليتامى سبب تام للدخول في النار ـ لان الحقيقة الواحدة يمكن اختلافها باختلاف العوالم وخصوصيات الإدراكات ـ مثلا ـ لو رأى احد في المنام انه يشرب اللبن يعبر عنه بالعلم بمناسبة ان اللبن مادة الحياة الجسمانية والعلم مادة الحياة المعنوية فأكل مال اليتيم حقيقة واحدة هي في عين وحدة تلك الحقيقة متعددة بحسب العوالم والمدركات فهي أكل للمال عند ذوي البصائر المستورة بالحجب الظلمانية الغليظة وعند ارتفاعها تعرف البصائر تلك النار وتظهر في النشأة الآخرة ولذا قال سيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا» وقال مولانا الرضا (عليه‌السلام) : «كلما هناك لا يعلم إلا بما هاهنا» فكما ان آثار الدنيا تظهر في الآخرة بما يناسب ذلك العالم فلا بد ان تكون تلك الآثار ظاهرة في هذه الدنيا بما يناسبها لكن لأهل البصائر لا لكل احد والامثلة والشواهد كثيرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة لعل الله تعالى يوفقنا لبيانها.

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى : «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ـ الآية» قال : «هي منسوخة بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ).

أقول : ليس المراد به النسخ المصطلح في علم الأصول بل المراد الإجمال والتفصيل كما عرفت.

٣١٦

وعن الطبرسي : اختلف الناس في هذه الآية على قولين أحدهما انها محكمة غير منسوخة وهو الصحيح.

أقول : ما ذكره مطابق للأصل وعليه اجماع الامامية.

وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) قال : نزلت في أم كلثوم وابنة أم كحلة (كجة) أو أم كحلة وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الأنصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها يا رسول الله لا تركب فرسا ، ولا تنكى عدوا ويكسب عليها ولا تكتسب فنزلت الآية».

أقول : روى قريبا منه الواحدي في اسباب النزول وفي بعض الروايات عن ابن عباس : «انها نزلت في رجل من الأنصار مات وترك ابنتين فجاء ابنا عمه وهما عصبته فقالت امرأته : تزوجا بهما ـ وكان بهما دمامة ـ فأبيا فرفعت الأمر الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فنزلت آيات المواريث ـ الرواية».

أقول : يمكن تعدد منشأ النزول ولا تنافي بينهما.

وفي تفسير العياشي عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى ـ الآية ـ» قال : «نسختها آية الفرائض».

وفي المجمع في الآية : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) : «اختلف الناس في هذه الآية على قولين أحدهما انها محكمة غير منسوخة قال وهو المروي عن الباقر (عليه‌السلام).

أقول : تقدم ما يتعلق بذلك في التفسير ، ويأتي في البحث الفقهي

٣١٧

تتمة الكلام.

وفي الكافي عن سماعة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) : «أوعد الله تبارك وتعالى في مال اليتيم بعقوبتين إحداهما عقوبة الآخرة النار ، وأما عقوبة الدنيا فيقول عزوجل : «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ـ الآية ـ» يعني : ليخش أن اخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى».

أقول : روى مثله العياشي عن الصادق وابي الحسن (عليهما‌السلام) وفي المعاني عن الباقر (عليه‌السلام) أيضا والآيات والروايات الدالة على وجود الآثار الوضعية في المعاصي كثيرة جدا وهذه من احدى مصاديقها ، ويستفاد منها عظمة المعصية.

وفي تفسير العياشي عن عبد الأعلى مولى آل سام قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) مبتدءا : «من ظلم سلط الله عليه من يظلمه أو على عقبه وعقب عقبه فذكرت في نفسي. فقلت : يظلم وهو يتسلط على عقبه وعقب عقبه؟!! فقال لي قبل ان أتكلم ان الله يقول (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)».

أقول : هذه الرواية منقولة متواترة من ان للظلم آثارا وضعية دنيوية واخروية ولا بد من ظهورها في الدنيا سواء على الظالم أم على عقبه ومثل ذلك قولهم (عليهم‌السلام) : «قطيعة الرحم واليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع من أهلها».

وفي الكافي عن الباقر (عليه‌السلام) : «ان آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهب النار من فيه يعرفه اهل الجمع إنه آكل مال اليتيم».

٣١٨

وفي تفسير القمي عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما اسري بي الى السماء رأيت قوما تقذف في أجوافهم النار وتخرج من ادبارهم فقلت من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال هؤلاء الذين يأكلون اموال اليتامى».

أقول : وجه ذلك انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اسري الى عالم كشف الحقائق وظهور السرائر والضمائر ولا بد ان يرى الأشياء على ما هي عليه ، وقد يحصل له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تلك الحالة في هذا العالم من دون ان يسرى به الى السماء وكذلك يحصل عند بعض أولياء الله تعالى.

وفي الدر المنثور اخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : «ذكر لنا ان نبي الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «اتقوا في الضعيفين : اليتيم والمرأة ايتمه ثم اوصى به ، وابتلاه وابتلى به».

أقول : ونظير ذلك ما عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «دخلت الجنة ورأيت اكثر أهلها النساء علم الله ضعفهن فرحمهن» وهو محمول على المؤمنات الصالحات.

بحث فقهي

الآية الشريفة : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) تبين وجه الإرث والسبب فيه وانه الولادة والاقربية ، واستفاد الفقهاء من مثل هذه الآية الشريفة الأصل الاول في الإرث

٣١٩

الذي هو النسب وهو يبتني على أمرين الولادة والاقربية في الرحم ، والآية المباركة تدل على ان الرجال والنساء مشتركان في حصة من الميراث على الإجمال ويرثان النوعان معا إذا كانا متساويين في الدرجة والقرابة والا فالأقرب يمنع الا بعد.

ومن ذلك يظهر بطلان التعصيب فان الله تعالى فرض للنساء كما فرض للرجال في التركة وشرك بينهما واختصاص بعض الورثة بها وحرمان الآخر عما زاد من الفرض خلاف مقتضى الآية الشريفة.

كما ان مقتضى قوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) ان الإرث من النواقل القهرية ودخول النصيب في ملك الوارث يكون بغير الاختيار فلا يخرج عنه الا بسبب شرعي ؛

ثم ان ظاهر قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ان الأمر بالرزق محمول على الندب لا على الوجوب كما في الأمر بالقول السديد ايضا لقرائن متعددة في الآية الشريفة وما وردت في السنة من الروايات.

والمعروف بين الامامية انها غير منسوخة وادعى الإجماع عليه ولكن في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) انه قال : «نسختها آية الفرائض» والظاهر انه لا منافاة بين آية الفرائض وهذه الآية الشريفة بعد ظهورها في الندب.

وعلى فرض الوجوب ان آية الفرائض تدل على تحديد الفرائض وتعيين السهام وهذه الآية الكريمة تدل على القسمة على الإجمال من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ.

ويمكن ان يكون المراد من النسخ في الحديث مطلق الرفع في الروايات لا النسخ المصطلح في علم الأصول فحينئذ تصح الرواية ولا

٣٢٠