مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

أقول : يستفاد من الرواية ان ما أعطته المرأة أعم من ان يكون من صداقها أو من غيره.

وفي الكافي عن عدة من أصحابنا باسناده عن زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته ولا المرأة فيما تهب لزوجها اجيزت أو لم تجز ا ليس الله تبارك وتعالى يقول : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) وقال : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وهذا يدخل في الصداق والهبة».

أقول : يستفاد من هذه الرواية ان الهبة غير المعوضة في الزوج والزوجة لازمة كما ذكرنا في الفقه وان الصداق داخل في الهبة من باب الدخول الحكمي لا الموضوعي.

وفي تفسير العياشي عن زرارة قال : «لا ترجع المرأة فيما تهب لزوجها حيزت أو لم تحز ا ليس الله يقول : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)».

أقول : يستفاد ذلك من روايات كثيرة تقدم بعضها وقد ذكرنا أن الهبة بين الزوج والزوجة لازمة.

وفي تفسير العياشي ايضا باسناده عن سماعة بن مهران عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سألته عن قول الله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) يعنى بذلك أموالهن في أيديهن مما ملكن».

أقول : الرواية تشمل الصداق وغيره مما ملكن.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن القداح عن الصادق عن أبيه (عليهما‌السلام) قال : «جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فقال يا أمير المؤمنين بي وجع في بطني فقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام)

٢٨١

ألك زوجة؟ قال نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فاني سمعت الله يقول في كتابه : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) وقال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) وقال (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) شفيت ان شاء الله تعالى ففعل ذلك فشفى».

أقول : اقتباس حسن لطيف من الآيات المباركة ولعل الشفاء من الآثار الوضعية لما قرره في تلك الآيات الشريفة وقريب منها غيرها.

وفي تفسير علي بن ابراهيم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) فالسفهاء النساء والولد إذا علم الرجل ان امرأته سفيهة مفسدة وولده سفيه مفسد لم ينبغ له ان يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعل الله له قياما يقول : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) المعروف العدة».

أقول : المراد بالعدة الوعد بالإحسان ، وتوصيف السفيه بالمفسد بيان لبعض مراتب السفاهة.

وفي تفسيره ايضا باسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : شارب الخمر لا تصدقوه إذا حدث ولا تزوجوه إذا خطب ولا تعودوه إذا مرض ولا تحضروه إذا مات ، ولا تأتمنوه على امانة ؛ فمن ائتمنه على امانة فأهلكها فليس على الله ان يخلفه عليها ولا ان يأجره عليها لان الله يقول : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) واي سفيه أسفه من شارب الخمر؟!».

أقول : قد ورد في كثير من الاخبار تفسير السفيه بشارب الخمر وهو صحيح من باب ذكر اللازم وارادة الملزوم فان شرب الخمر

٢٨٢

ملازم لزوال العقل وعدم إصلاح المال خصوصا إذا غلب عليه ذلك وصار مدمنا ويمكن الحمل على السفه الواقعي لا ما هو موضوع حكم السفه شرعا وعلى هذا كل من ارتكب المعاصي سفيه من هذه الجهة ولا اختصاص بشرب الخمر لان «العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان» وكل ما كان خلافه فهو سفه.

وفي تفسير علي بن ابراهيم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله ثم قال في بعض حديثه ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السئوال فقيل له يا ابن رسول الله اين هذا من كتاب الله؟ قال ان الله عزوجل يقول (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وقال : (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) وقال : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

أقول : الروايات في ذلك كثيرة وما ذكره (عليه‌السلام) استفادة حسنة من الآيات الشريفة.

وفي تفسير العياشي عن يونس بن يعقوب قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) قال : من لا تثق به».

أقول : المراد من عدم الوثوق عدم تدبيره لأجل خفة في عقله كما مر في التفسير.

وعن علي بن ابراهيم في تفسيره عن علي بن أبى حمزة عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سألته عن قول الله ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال هم اليتامى لا تعطوهم حتى تعرفوا منهم الرشد فقلت فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال إذا كنت أنت الوارث لهم».

٢٨٣

أقول : مفاد الرواية التنزيل بإضافة المال إلى كل من الوارث والمورّث.

وعن علي بن ابراهيم قال : أمير المؤمنين (عليه‌السلام) من كان في يده مال بعض اليتامى فلا يجوز له ان يعطيه حتى يبلغ النكاح ويحتلم ، فإذا احتلم وجب عليه الحدود واقامة الفرائض ، ولا يكون مضيعا ولا شارب خمر ولا زانيا فإذا انس منه الرشد دفع اليه المال واشهد عليه وان كانوا لا يعلمون انه قد بلغ فانه يمتحن بريح إبطه ونبت عانته فإذا كان ذلك فقد بلغ فيدفع اليه ماله إذا كان رشيدا ولا يجوز ان يحبس عنه ماله ويعتل عليه بانه لم يكبر بعد».

أقول : يظهر من هذه الرواية ان إتيان كل كبيرة سفه وهو كذلك وان لم يعمل مشهور الفقهاء بذلك وما ورد من الاختبار بريح الإبط مهجور لدى الأصحاب ولم يعمل به احد.

وفي اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى : «وَابْتَلُوا الْيَتامى ـ الآية ـ» نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه وذلك ؛ «ان رفاعة توفى وترك ابنه ثابتا وهو صغير فاتى عم ثابت إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال له : ان ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله؟ ومتى ادفع اليه ماله؟ فانزل الله تعالى هذه الآية».

أقول : الرواية من باب ذكر المصداق والا فالآية الشريفة عامة إلى يوم القيامة.

وفي الفقيه باسناده عن الصادق (عليه‌السلام) : «انه سئل عن قول الله عزوجل : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) قال إيناس الرشد حفظ المال».

أقول : قريب منها ما عن العياشي في تفسيره ومثل هذه الروايات تبين اظهر مصاديق الرشد وآثاره.

٢٨٤

وفي الفقيه ايضا باسناده عن الصادق (عليه‌السلام) في تفسير قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) قال : «إذا رأيتموهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة».

وقال ابن بابويه «ان الحديث غير مخالف لما تقدم وذلك انه إذا أونس منه الرشد وهو حفظ المال دفع اليه ماله وكذلك إذا أونس منه الرشد في قول الحق اخبر به وقد تنزل الآية في شيء وتجرى في غيره».

أقول : قريب منها ما عن العياشي في تفسيره ويظهر من مثل هذه الرواية ان ترك كل كبيرة مأخوذ في معنى الرشد وان رفع الدرجة أخص من دفع المال لهم.

وفي الفقيه أيضا باسناده عن منصور بن حازم عن هشام عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «انقطاع يتم اليتيم الاحتلام وهو أشده وان احتلم ولم يونس منه رشد وكان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله».

أقول : المراد من الضعف ضعف التدبير في أموره وان لم يبلغ مرتبة السفه.

وعن ابن بابويه باسناده عن صفوان عن عيص بن القاسم عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها؟ قال : إذا علمت انها لا تفسد ولا تضيع ، فسألته ان كانت قد تزوجت؟ فقال : إذا تزوجت فقد انقطع ملك الوصي عنها».

أقول : المراد من التزويج الكناية عن بلوغها تسع سنين.

وفي الكافي باسناده عن عثمان بن عيسى عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : «من كان يلي شيئا لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر الحاجة ولا يسرف فان كانت

٢٨٥

ضيعتهم لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يزرأ من أموالهم شيئا».

أقول : ان العامل في مال اليتيم ـ وليا كان أو غيره ـ من يستحق اجرة مثل عمله ان لم يقصد الاباحة المطلقة هذا بحسب القواعد الشرعية وما ورد من الاخبار الدالة على غير ما ذكرنا كما تقدم فهي محمولة على الفضل والفضيلة.

وفي الكافي أيضا باسناده عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : «المعروف هو القوت وانما عنى الوصي أو القيم في أموالهم وما يصلحهم».

أقول : قريب منه ما عن الشيخ في التهذيب والمراد من القوت هو القوت الغالب فتنطبق الرواية على اجرة المثل غالبا.

وفي التهذيب باسناده إلى أبي الصباح الكناني عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : «فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس ان يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فان كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا».

أقول : هذه الرواية وأمثالها محمولة على مراتب الفضل.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن أسباط عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «سمعته يقول ان نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقضي يتمه؟ فكتب اليه اما اليتيم فانقطاع يتمه وهو الاحتلام إلا ان يونس منه رشدا بعد ذلك فيكون سفيها أو ضعيفا فليشد عليه».

أقول : معنى ذيل الرواية اي لا يعطى ماله اليه.

وفي تفسير العياشي باسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ

٢٨٦

بِالْمَعْرُوفِ) فقال هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية ويشغل فيها نفسه فليأكل منه بالمعروف وليس ذلك في الدنانير والدراهم التي عنده موضوعة».

أقول : ان الدراهم والدنانير لو كانتا بنحو الامانة والا فحكمهما حكم غيرهما.

وعن العياشي في تفسيره باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «سألته عن قول الله : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : ذلك إذا حبس نفسه في أموالهم لا يحترث لنفسه فليأكل بالمعروف من أموالهم».

أقول : هذه الرواية محمولة على الفضل والا يجوز له أخذ اجرة المثل وان كان محترثا لنفسه ايضا.

وعن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قوله (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال كان أبي يقول انها منسوخة».

أقول : وفي الدر المنثور : نسختها (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) ـ الآية» والمراد من النسخ الإطلاق والتقييد لا النسخ المصطلح.

وعن زرارة ومحمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) انه قال : «مال اليتيم ان عمل به من وضع على يديه ضمنه ولليتيم ربحه قال قلنا له قوله (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال انما ذلك إذا حبس نفسه عليهم في أموالهم فلم يتجر لنفسه فليأكل بالمعروف من مالهم».

أقول : انها محمولة على الفضل والفضيلة كما تقدم في الروايات السابقة.

وفي مجمع البيان في قوله تعالى : (رُشْداً) قال : «المراد به العقل وإصلاح المال وهو المروي عن الباقر (عليه‌السلام) وقال في قوله

٢٨٧

تعالى : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) معناه من كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة والكفاية على جهة القرض ثم يرد عليه ما أخذ قال وهو المروي عن الباقر (عليه‌السلام)».

أقول : اما الاول فقد تقدم انه من باب ذكر أهم المصاديق والثاني محمول على الفضيلة والا فيجوز له أخذ اجرة عمله كما مر.

بحث قرآني

مقتضى الروايات الواردة ان لكل واحد من الآيات الشريفة القرآنية آثارا وضعية وخواصا واقعية معلومة وهي واضحة لأهل العرفان بالتجربة والاختبار بعد الخلوص والإخلاص ـ وقد تقدم بعضها في البحث الروائي ـ ومن تلك الآثار والخواص شفاء المرضى وقضاء الحاجات وكشف الكربات وكانت الآيات المباركة في مدة من الزمن يستشفي بها في جملة كثيرة من المرضى وذوي الأسقام عند الأخيار ولكن كثرة الحجب الظلمانية منعت عن تلك الآثار ، فعدم الأثر لوجود المانع لا لعدم المقتضي.

ولعل السر في وجود تلك الخواص الأثر المعنوي الموجود في تلك الآيات الكريمة وانها عين الواقع والحقيقة التي لا ريب فيها فهي واقع محض صدر عن واقع محض ومن بيده مقاليد السموات والأرض ومن بيده ملكوت كل شيء ومن عنده مفاتيح الغيب فلا بد من التأثير وتحقق تلك الخواص حينئذ لا محالة.

ولذا لا يختص الأثر في الآيات المباركة بطائفة خاصة ويعم الجميع

٢٨٨

فان رحمته جلت عظمته غير محدودة ولا تختص بطائفة.

نعم تشخيص المورد له اهمية عظمى ورفع الحجب الظلمانية أهم منه بمراتب فعدم الأثر في بعض الموارد اما لعدم التشخيص أو لوجود الحجب (المانع) والا فان المقتضي تام.

ولا فرق في ذلك بين ان يكون الأثر مترتب على نفس الآيات الشريفة كما ذكروه في كتب خواص الآيات الكريمة أو على ما يستفاد منها كما علّمه علي (عليه‌السلام) على ما تقدم في البحث الروائي.

وينبغي ان يعد هذه الآثار والخواص من معجزات الآيات الكريمة وكراماتها الباهرة التي تظهر بعد القرون والدهور.

وانما لا تظهر لبعض النفوس لغلظة الحجب الظلمانية عليه ولعله بعد ظهور شمس الحقيقة عن أفق الغيبة ينحصر علاج المرضى بالقرآن وآياته المباركة وانكشاف المهمات وقضاء الحاجات بها ولا بد وان يكون كذلك لان القرآن لم يتجلّ بعد بحقيقته النورانية ولم ينطق به الا الشفاه ولم تلج بها الا الالسنة وكيف يكون مورد التجلي الأعظم في كتابه الكريم بذلك!!.

ويشهد لما تقدم شواهد كثيرة معلومة منها : الدعوات الكثيرة المأثورة عن الائمة الهداة (عليهم‌السلام) لشفاء بعض الأمراض والأسقام الواردة فيها الآيات الكريمة من القرآن.

ومنها : ما تقدم في البحث الروائي وفي تفسير العياشي قال : «اشتكى رجل الى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فقال له : سل من امرأتك درهما من صداقها فاشتر به عسلا فاشربه بماء السماء ففعل ما امر به فبرئ فسأل أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عن ذلك أشيء سمعته من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : لا ولكني سمعت الله

٢٨٩

يقول في كتابه (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وقال : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) وقال : (نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) فاجتمع الهنيء المريء والبركة والشفاء فرجوت بذلك البرء».

ومنها : الروايات الواردة في خواص الآيات الكريمة وآثارها المذكورة في الكتب المعدة لها وبعض التفاسير.

بحث فقهي

يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة احكام :

الاول : ان اطلاق الآية الشريفة (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) يشمل كل يتيم ذكرا كان أو أنثى صغيرا كان أو كبيرا ان كان محجورا عليه.

كما لا فرق بين من عيّن الأب له قيّما أولا. نعم لو كان الجد موجودا فالولاية له.

ولا فرق في مال اليتيم بين ما إذا وصل اليه بإرث أو غير ذلك من الهدايا والمنح فان جميع ذلك ماله فتشمله الآية الكريمة.

الثاني : مقتضى الآية الشريفة وما وردت من الروايات انه يجوز لليتيم التصرف في أمواله مع تحقق الشرائط وهي : ان يكون التصرف باذن الولي ـ شرعيا كان الولي أو تكوينيا. وان يكون فيه المصلحة لليتيم كما فصلناها في كتابنا (مهذب الاحكام) وان يكون التصرف سائغا شرعا كما يجوز للولي التصرف في اموال اليتيم بشرط عدم المفسدة بل مع وجود المصلحة كل ذلك كما فصلناه في الفقه.

٢٩٠

الثالث : لا تختص حرمة تبدل الخبيث بالطيب بأموال اليتامى بل يجري ذلك في تبدل كل مال كذلك ولو كان من الكبير والرشيد مع عدم مجوز شرعي لان ذلك أكل بالباطل وقال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) البقرة ـ ١٨٨ وقال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) المطففين ـ ٣ ولكن في اموال اليتامى تكون الحرمة أشد واكثر تنفرا من غيرها ولذا أكّد النهي فيها.

ولو فعل ذلك احد لا يملك الطيب وتشتغل ذمته برده الى صاحبه ومع التلف ينتقل الى العوض بالمثل أو القيمة.

الرابع : ان قوله تعالى : (أَلَّا تَعُولُوا) عام يشمل النفقة وغيرها والتودد الخارجي بل الميل القلبي أيضا نعم ما كان خارجا عن الاختيار في القسم الأخير فهو معفوّ عنه وان كان تحت الاختيار وترتب عليه الأثر يكون داخلا في احد الأولين.

الخامس : مقتضى اطلاق الآية الشريفة وما ورد من الروايات ان السفيه كما هو محجور عليه في ذمته فلا يصح ان يتعهد مالا أو عملا كذلك لا يصح اقتراضه وضمانه ولا بيعه ولا شراؤه بالذمة ولا تزويجه ، وكذا لا يصح ان يجعل نفسه اجيرا وعاملا للمضاربة والمزارعة والمساقاة وغير ذلك للحجر عليه شرعا.

كما ان المراد من عدم نفوذ تصرفات السفيه هو عدم استقلاله في ذلك فلو كان باذن الولي صح ونفذ.

السادس : لو احرز رشد السفيه سلّم اليه أمواله كما نصت عليه الآية الشريفة وغيرها من الروايات ولو لم يحرز رشده واشتبه حاله يختبر السفيه بما يناسب شأنه بتفويضه البيع والشراء والاجارة وغيرها

٢٩١

مما يناسبه وكذا السفيهة وقد فصلنا ذلك في الفقه ومن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الاحكام).

السابع : يجب دفع اموال السفيه اليه فورا بعد تحقق الرشد وإحرازه لاصالة فورية دفع مال الغير اليه كما أثبتها الفقهاء وذكرناها في الفقه.

الثامن : الاستعفاف لأولياء اليتامى عن التصرف في اموال اليتامى حسن وليس بواجب شرعا لأنه يجوز أخذ اجرة عمله وان كان غنيا كما أثبتناه في الفقه.

وكما ان الاكل بالمعروف كذلك ليس بواجب عليه بل له ان يرفع اليد عن ذلك ويعطى الجميع لليتيم.

بحث فلسفي

من أهم الأصول النظامية التكوينية الثابتة في علم الفلسفة التزاوج بين المادة الفاعلية والمادة المنفعلة بلا فرق في ذلك بين الإنسان والحيوان والنبات كما بينه تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) الحجر ـ ٢٢ فالتزاوج بينهما من الأصول التكوينية التي يقوم بها هذا العالم وله حدود وقيود لا يحيط بها الا الله تعالى وان ظهر بعض منها بالتجربيات في ممر العصور والدهور وبقيت جملة كثيرة اخرى منها في الخفاء والكمون وسيظهر بعد ذلك ان شاء الله تعالى.

ويختص الإنسان من بين الحيوانات في هذا التزاوج والسفاد بمراسم خاصة قررها الشارع بمقتضى ان الإسلام دين الفطرة وعبر عنها في الكتب السماوية بالنكاح وأكد الترغيب اليه قال تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ

٢٩٢

اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) النور ـ ٣٢ وفي السنة المقدسة اخبار متواترة ترغب اليه مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني» وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «تناكحوا وتناسلوا فاني اباهي بكم الأمم» إلى غير ذلك من الروايات.

كما نهى عن النكاح الذي لا يتوفر فيه تلك الشروط وعبر عنه بالزنا وأكد سبحانه وتعالى في النهي عنه كقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) الإسراء ـ ٣٢.

وقد حدد الشارع الأقدس الزواج الدائم باعداد معينة وهي اربع وفي غيرها بقيود اخرى كما تقدم في الآية الشريفة وسيأتي في البحث الآتي وجه التشريع في ذلك.

كما قرر نكاح جميع الملل والنحل فيما بينهم لأنه امر طبيعي بين البشر لا يختص بملة دون اخرى ولا يمكن التخلي عنه الا ان الشارع حدده بقيود لأجل تنظيم النظام وحفظ الأنساب وغيرهما من الحكم.

بحث اجتماعي

الآيات الشريفة المتقدمة تدل على اباحة تعدد الزوجات في الإسلام وهذا الموضوع طالما اعترض اعداء الإسلام عليه واتخذوه نحو قدح فيه ، وقد استنكرت الجاهلية المعاصرة تعدد الزوجات واعتبرته من عوائق التقدم الحضاري ، وان التعدد خلاف المصلحة بل موجب لسلب السعادة. ونحن في هذا البحث نذكر جملة مما ذكره اعداء الإسلام من المناقشات والإشكالات على هذا الموضوع ثم الجواب عنها ثم نعالج الموضوع على ضوء ما ورد في الكتاب في هذا المضمار.

٢٩٣

الإشكالات :

قد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات باشكالات متعددة نحن نذكر المهم منها.

الاول : ان تعدد الزوجات خلاف الطبيعة فان التجربة والإحصاء يدلان على تساوي عدد الذكور والإناث في جميع الأمم والقبائل ويستفاد من ذلك ان الطبيعة اقتضت ان يكون الواحد من الذكور لواحدة من الإناث وخلاف ذلك يكون خلاف الطبيعة.

الثاني : ان حكم تعدد الزوجات ينافي الغرض المنشود من المجتمع الذي لا بد ان يسوده الحب والتعاون والتآلف بين الإفراد وإنه يعكس روح الانتقام في النساء من الرجال الذين أساءوا إليهن.

ويوجب الإهمال والتثاقل في تربية الاسرة والأولاد واشاعة الفساد والخيانة هو مما يوجب انحطاط المجتمع الى الشقاء والغواية.

الثالث : ان تعدد الزوجات استهانة لحرمة النساء في المجتمع فان معادلة الأربع من النساء بالواحد من الرجال تعريض لحقوقهن للخطر وأعراض عن عواطفهن.

الرابع : ان هذا التشريع يوجب ازدياد الشهوة في الرجال وترغيبهم إلى الشره وبالاخرة انه يوجب تقوية هذه القوة في المجتمع.

هذه هي أهم الإشكالات التي أوردوها على هذا التشريع الالهي.

الجواب عن الإشكالات :

ويمكن الجواب عن تلك الإشكالات بوجوه :

٢٩٤

الاول : ان ما ذكروه من ان التشريع خلاف الطبيعة فهو باطل اما أولا فان تساوي عدد الذكور والإناث امر يكذبه الوجدان والإحصاءات المتعددة التي اعلنت وتعلنها الجهات المختصة في مختلف العصور فان الحروب والحوادث وكذا الموت تصيب المجتمعات فتفنى من الرجال اكثر من النساء وهذا امر ثابت بالوجدان.

وثانيا : ان امر الزواج لا يستند على ما ذكروه من ان الطبيعة ساوت بين الرجال والنساء في العدد ، بل ان هناك أمورا اخرى ، فان النساء يختلفن عن الرجال في التهيؤ إلى النكاح وصلاحهن للازدواج والمضاجعة والانجاب ولهذا اعتبر الإسلام سنّ التكليف في النساء بلوغ العشر ، وفي الرجال بلوغ الست عشرة من السنين وذلك لاختلاف الطبائع في الطائفتين وهذا يكشف عن ان الطبيعة تقتضي التعدد كما هو واضح.

الثاني : ان ما ذكروه من ان التعدد يميت عواطف النساء وتخيب آمالهن فهو باطل. لان الإنسان مركب من أمرين التعقل والعواطف والاحساس. والسعيد هو الذي يمسك زمام العواطف والاحساس ويجعلها تحت ادارة التعقل ، والإسلام وسائر الأديان السماوية أرادت من تعاليمها وضع الإنسان في مسير التعقل. وتهيئة المجتمع الانساني على نحو تقرره الحياة التعقلية دون الاحساس والعواطف التي لا تهدي إلى الكمال المنشود ، وعلى هذا فالمرأة التي هذبتها الأخلاق الفاضلة ، وقومتها التعاليم الاسلامية الرشيدة فإنها تجعل التعقل مقام العواطف والنزوات الشهوانية فهي ترى السعادة في ذلك.

وما ذكروه قياس بين المجتمعات الغربية التي هي قائمة على تلك العواطف والشهوات الحيوانية البغيضة والمجتمع الاسلامي الذي قوامه

٢٩٥

التعقل ، ومن ثم نرى ما عليه من التفكك والانحطاط الخلقي وانواع الشر والفساد المتداول بينهم لأنهم خرجوا عن الفطرة التي خلقهم الله تعالى عليها والصراط الذي أعدته التعاليم الإلهية لهم فترى ان المنكر الذي يعترف به العقل يكون معروفا عندهم. وانهم يشرعون القوانين في اباحة الفساد والدمار وهذا لم يكن قبيحا عندهم ولا تجرح العواطف ولكن تعدد الزوجات يمسها ويميت الآمال هذه هي المدنية الحاضرة التي وصلت إلى الطريق المسدود.

الثالث : ان ما ذكروه من ان تعدد الزوجات تضييع لحقوق النساء وعدم الاحترام لعواطفهن باطل ، لما ذكرناه مرارا من ان الإسلام اعطى لكل ذي حق حقه ، وانه احترم النساء وراعى حقوقهن بما لم يكن في ملّة اخرى ويتبين ذلك بوضوح عند معرفة منزلة النساء في المجتمعات الاخرى غير المجتمع الاسلامي. هذا مضافا إلى ان تعدد الزوجات لم يكن تضييعا لحقوق احد فان الإسلام في تشريعه هذا كان ينظر إلى أبعد من ذلك كما ستعرف ان شاء الله تعالى.

الرابع : ان ما ذكروه من ان تعدد الزوجات يزيد في شره الرجال والترغيب إلى الشهوة فهو مغالطة واضحة فان التربية الاسلامية الحقيقية تضع الرجال والنساء في هذا الموضوع في احسن تقويم فان النساء اللائي لا تقل شهوتهن عن شهوة الرجال لو اثرت التربية الواقعية فيهن جميعا فإنهن يضعن تلك الشهوة الغريزية في الطريق المستقيم الذي حدده الإسلام فتراه يعطي لهذه الحاجة الغريزية حقها ويفتح لها سبل معالجتها والحد من سورتها ويمنع الكبت والحرمان ولكنه يحرم الفجور والفحشاء والاسترسال في الأهواء الباطلة وكل ما يوجب إثارة الشهوة ، فهو قد وضع هذه الغريزة الجامحة تحت سيطرة التعقل فلا يمنعها حتى يوجب

٢٩٦

الكبت والحرمان ولا يطلقها ويبسطها كل البسط ليزيد الفحشاء والفجور فكان هذا التشريع الجديد من أهم السبل في تحديد هذا الغرض.

يضاف إلى ذلك ان الإسلام لم ينظر إلى النكاح بانه مجرد قضاء حاجة وقتية بل كان نظره إلى انه من سبل التربية الحقيقية فقد تحقق فيه جميع أساليب التربية الخلقية والنفسية وهذا ما يمتاز به هذا الدين القويم عن سائر الأديان الإلهية. وسيأتي في الموضع المناسب بيان ذلك ان شاء الله تعالى.

وعلى هذا يكون التشريع مشتملا على وجوه الحكمة والصواب فانه أباح ذلك حفظا للمجتمع الانساني وتكثيرا للنسل والأولاد ومراعاة للحقوق من الضياع ومدرسة للتربية الواقعية وغير ذلك مما اعترف به الخصم وأقرت به بعض الجمعيات التي رأت في تشريع تعدد الزوجات الخير والسعادة.

ومما ذكرنا يظهر الوجه في ادعاء بعض من اننا نرى ان الذي تزوج بزوجتين أو اكثر في شقاء دائم وصراع مستمر بين الضرتين أو الضرائر مما يسلب الهناء من العيش والصلاح من الحياة وربما يبلغ من شدة الحال انه يكون الأمر على خلاف المرجو من هذا التشريع فان ذلك مغالطة بين الواقع والخيال.

وبتعبير آخر : انه خلط بين التشريع والتطبيق فان الإسلام راعى في هذا التشريع المصالح العامة واما إذا اصطدمت هذه المصالح مع العادات والنزوات الشخصية فان الاحكام الشرعية تتبع المصالح والمفاسد الواقعية واما مرحلة العمل والتطبيق فإنها راجعة إلى المكلف نفسه فان اللازم على المكلف ان يراعي جميع ما اعتبر في التكليف والتطبيق بين ما اراده الشارع المقدس وعمل المكلف وفي هذه الحالة يؤثر التشريع اثره المطلوب والا فان الأثر السيء الذي يقع خارجا يكون

٢٩٧

نتيجة عمل المكلف وسوء تربيته وهذا الوجه جار في جميع التشريعات الإلهية بل التشريعات الوضعية أيضا ، وليس لاحد العذر في انها لم تؤثر أثرها لان الناس لم يراعوا حقها ولم يعملوا بها على ما اراده المشرع فمرحلة العمل والتطبيق امر يرجع إلى الناس ومرحلة التشريع امر آخر فانه يرجع إلى الشارع الذي يلاحظ المصالح العامة.

نظر الإسلام في هذا التشريع :

الآية الشريفة المتقدمة التي تضمنت خطابا موجها للعموم كسائر الخطابات القرآنية التي تكفلت تربية الناس تربية حقيقية واقعية فإنها تجعل الاباحة أو الترخيص أصلا ثم تورد القيود على هذا الأصل على حد يكون موجبا لتضييق مجالها إلى الحد الذي تستقيم به الحياة ويتحقق الكمال المنشود وهذا الأسلوب من أهم الاساليب التربوية التي تؤثر في النفس وتستلفت النظر الى المضمون ، فقد جعلت هذه الآية الشريفة اباحة التعدد وجوازه هو الأصل ثم أوردت القيد الذي يضيق هذا الأصل الى الحد الذي يتحقق به الكمال وينتظم به الحياة ، وهو العدل بين الزوجات وانه لا يتحقق ولن يتحقق إذا لم يترب الفرد بالتربية الإلهية ولم يقم بالوظائف الشرعية فيكون هذا التشريع جامعا لمكارم الأخلاق وأهم الاحكام الاجتماعية وأعظم الأسس التربوية.

ومن توجه الخطاب إلى العموم (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) يستفاد ان التعدد لا بد ان يحدث في المجتمع الذي يسوده العدل بحيث يتزوج رجل واحد عدة نساء في ظل العدل والإنصاف يسودهم الإخاء والمحبة فإذا توفرت تلك الشروط جاز التعدد والا كانت الوحدة أفضل

٢٩٨

فيستفاد من الآية المباركة ان الوحدة هي المطلوبة وان كان التعدد مباحا بلا ريب ولا اشكال وإذا تحققت القيود التي ذكرها الشارع كانت الحياة معها أفضل واهنأ.

تعدد ازواج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله):

بعد ما عرفت الوجه في تشريع تعدد الزوجات في الإسلام والحكمة فيه يتضح لك الوجه في تعدد زوجات الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقد كان (ص) المتفرد بامتثال هذا التكليف الالهي بأكمل وجه فصار أسوة في هذا المجال حتى عد من مختصاته المعروفة حسن المعاشرة مع نسائه ورعاية حقوقهن والعدل بينهن وكفى به حجة على اعداء الإسلام الذين اعترضوا على هذا الترخيص الالهي ومع ذلك فقد اعترض بعضهم على تعدد زوجات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بانه لا يخلو عن الشره والانقياد لداعي الشهوة ، مع انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يقنع بما شرعه لامته فتعدى منه إلى الازدواج بالتسع من النسوة.

ولكن المتأمل في حياة هذا الرجل العظيم الذي يعتبر بحق انه مثال للكمال المطلق والذي مدحه الجليل الأعلى بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم ـ ٤ انه بعيد عن ما نسبوه اليه كل البعد ولم يظهر اي أثر من آثار الشره والانقياد إلى الشهوة عليه في تمام مدة حياته وفي معاشرته مع النساء وهو الذي امره الله تعالى بان يخير أزواجه بين التمتيع والطلاق ان كن يردن الدنيا وزينتها على ما نزل عليه في كتابه المجيد من امره له فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ

٢٩٩

كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) الأحزاب ـ ٢٩ وكيف ينطبق عليه وقد زهد عن الدنيا وزخارفها واعرض عن كل ما يلهيه عن ذكر الله تعالى.

ومن ذلك كله يستفاد انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أراد من زواجه بهن غير الذي ذكروه فهو قد أراد إماتة العادات الجاهلية أولا ، واظهار منزلة النساء التي أهملوها عندهم ثانيا ، وبيان كيفية المعاشرة معهن ثالثا ، وليعطي الاهداف الخاصة في زواج كل واحدة منهن رابعا. هذا موجز الكلام وسيأتي في الموضع المناسب تفصيله.

بحوث عرفانية

الاول : يصح ان يراد باليتيم في الآية المباركة كل ذي حق واجب لا بد في نظام التكوين والتشريع مراعاة ذلك الحق وان لم يكن من اليتم اللغوي كالأنبياء والائمة المعصومين (عليهم‌السلام) والعلماء العاملين بعلمهم والتاركين للهوى مطلقا فإنهم بين الورى محرومون لا يعرف حقهم ولا يتخلقون بأخلاقهم ، وهم يعيشون منفردين في مجتمع لا يهتمون إلا بالماديات الصرفة والظواهر الحسية ولا يعرفون من وراء ذلك شيئا ويدل عليه قول أبى جعفر الباقر (عليه‌السلام) «نحن اليتيم» فهم أيتام بهذا المعنى ويتيمة جميع العوالم الامكانية. وكل من يرشد الى الحق بالحق في الخلق يتيم بين الخلق الذين هم لا يعرفونه حق معرفته وغرباء في بلدهم كما في الحديث «المؤمن غريب في بلده

٣٠٠