مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

لصالح الإنسان وهدايته إلى الكمال الذي أعده الله تعالى له.

منهج المرابطة :

بعد ما عرفت ان المرابطة انما تكون في الاحكام الإلهية والمعارف الربوبية والشريعة المقدسة فلا بد وأن يكون منهج المرابطة مستندا إلى وحي مبين يتعلق بما فيه سعادة الناس ونجاحهم في الدنيا والآخرة ويعلم جميع جهات الصلاح فيأمر بها وجميع جوانب الفساد فينهى عنها والا فمع التخلف يكون خطأ محضا بل فيه الإثم والعصيان من كل جهة لفرض ان الموضوع امر اجتماعي ولا تثمر المرابطة في غير ذلك الثمرة المطلوبة منها.

ومن ذلك يعلم ان مأخذ المرابطة لا بد ان يكون الثقل الأكبر اي كتاب الله تعالى والثقل الأصغر اي العترة الشارحة للكتاب وإلى ذلك يشير الحديث المعروف بين المسلمين «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» ـ وان من يقوم به المرابطة انما هو الله تعالى المطلع على الغيب والعالم بجميع الجزئيات ولا يمكن ان يكون نفس المجتمع كل فرد بحسب شخصه وذاته ، أو نفس المجتمع لا بحسب الإفراد بل فردا معينا باعتباره وكيلا عن جميع الإفراد ، لان بطلان الأخير واضح لفرض عدم إحاطة ذلك الفرد بجميع الأمور ، ولا الإفراد الذين يوكلونه في ذلك. وأما بطلان الاول فلاختلاف آراء الإفراد ، كما هو معلوم ، فتكون المرابطة أقرب إلى الفساد منه إلى الصلاح.

٢٢١

وما عن بعض المفسرين من أن الخطابات القرآنية موجهة إلى الإفراد فيكون ذلك حقا لهم. مردود لان تعلق الخطاب بالجماعة انما هو لأجل ان القوانين المجعولة خطابات موجهة إلى الجماعة في مرحلة الجعل والتشريع ، فما ذكره مغالطة بين إنشاء القانون وبين من يتصدى لجعل نفس القانون ولا ربط لأحدهما بالآخر. نعم في القوانين الجعلية القابلة للحل والنقض والإبرام يمكن ان يتجه ما ذكره كما نشاهد ذلك في القوانين الوضعية حيث تجتمع أفراد المجتمع على انتخاب أفراد معينين أو تجتمع الرعية على نصب فرد رئيسا لهم وفي كلتا الصورتين يحق لكل واحد منهما جعل القوانين ، ولكن ذلك خارج عن بحثنا فان كلامنا في القوانين الإلهية والمرابطة فيها.

إن قلت : ان اجتماع الامة على جعل الرئيس وإعطاء الصلاحية له في جعل القوانين يكون بشروط خاصة ، فإذا تخلّف أحدها ينعزل بنفسه بلا احتياج إلى عزل ، كما هو المشهور بين الفقهاء من انه إذا اختلت عدالة الحاكم الشرعي ينعزل بنفسه.

قلت : اطلاق قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) الأحزاب ـ ٣٦ وكذا قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) القصص ـ ٦٨ ينفي ذلك وهو يدل على ان نصب الحاكم انما يكون منحصرا في النصب الالهي ، ويدل على ذلك ما ذكره الفقهاء في الحاكم الشرعي المنصوب من قبل الشرع مثل قولهم (عليهم‌السلام) : «فاني جعلته حاكما» فلو فقد بعض الشروط منه يزول

٢٢٢

الموضوع فيزول الحكم لا محالة واما في غيره فمقتضى الأصل عدم حجية قوله وفعله وآرائه وتفصيل الكلام يطلب من موضعه راجع (مهذب الاحكام) كتاب القضاء هذا موجز ما أردنا ذكره في المرابطة.

٢٢٣

(٤) سورة النساء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

هذه السورة من جلائل السور التي تضمنت الاحكام الإلهية التي نزلت لصالح الناس وجلب سعادتهم في الدنيا والآخرة فقد اشتملت على معظم احكام الأحوال الشخصية والاحكام الاجتماعية الجارية على حقيقة العدل وناموس الفطرة ومراعاة الحقوق كالزواج وعلاقات افراد الاسرة ، وامور اليتامى واحكام المواريث ، وجملة من احكام المعاملات كالتجارة ونحوها ، وتعرضت لبعض العبادات كالصلاة والجهاد وغيرهما وحثت على التضامن والتكافل والتراحم ، كما ذكر فيها بعض الأمور العامة كالشهادات واحوال اهل الكتاب. ولما كانت الغاية القصوى من تلك الاحكام هي حصول ملكة التقوى في كل نفس واستقامتها في الخفاء والظاهر وهي أساس كل كمال إنساني ولا يمكن تحصيل السعادة بدونها فلأجل ذلك كله امر الله تعالى بها وقدمها على سائر الأمور وابتدأ بها في هذه السورة كما اختتم بها في السورة السابقة.

٢٢٤

ثم ان الحكمة الربانية اقتضت ترويض النفوس التي اعتادت الباطل واستحكم فيها الجور والتعسف على قبول تلك الاحكام الإلهية وإجرائها على الحقيقة ، فقد اقترنت تلك الآيات بالتذكير والموعظة والإرشاد الى جلال الله وعظمته وقدرته وعلمه واطلاعه على خفايا الأمور ومراقبته لاعمال الناس.

وأسلوب هذه السورة ومضامينها تشهدان على انها مدنية نزلت نجوما حسب مقتضيات الظروف والحاجة وتحتوي على موضوعات متعددة كما عرفت تجمعها رابطة واحدة وهي تهذيب النفس ، والتخلق بأخلاق الله تعالى ، وتثبيت العقيدة وتطبيقها في العمل ومعرفة امور الدين وأحكامه.

وابتدأت هذه السورة بخلق الإنسان والإعلان بانه خلق من نفس واحدة تحريضا للتعاون والايتلاف ونبذ الاختلاف وتوطئة لما سيذكره عزوجل من الاحكام كالزواج واحوال اليتامى والمواريث وعلاقات الاسرة والمجتمع وأكد سبحانه على ملازمة التقوى لأنها روح تلك الاحكام والغاية منها.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ).

الآية الشريفة باسلوبها الجذاب تحتوي على رموز وبدائع أهليّتها ان تكون مفتتح هذه السورة.

منها : الاقتران بين العلة المادية والغائية وتقديم الأخيرة على الاولى

٢٢٥

في الذكر لأهمّيّتها وهي التقوى لان خلق الإنسان وإنزال الكتب والاحكام الإلهية لم تكونا إلا لها ولأجلها ، ولأنها هي الأساس الذي يجب ان يقوم عليه كل علاقة سواء بين افراد الاسرة أو بين الزوجين أو بين جميع افراد المجتمع. ثم ذكر تعالى العلة المادية وهي خلق الإنسان من نفس واحدة ، فإنها صارت لجمع افراد الإنسان ودخولهم في نفس واحدة فكأنهم بجميع اشتاتهم أعضاء نفس واحدة تتحكم فيهم روابط قويمة متكاملة.

ومنها : انها تشير إلى الموضوع الرئيسي في هذه السورة وهو العلاقة الزوجية وعلاقات الاسرة والمجتمع ، فكانت توطئة لجميع تلك الاحكام التي وردت في هذه السورة فقد ذكر فيها النفس الواحدة التي وردت في هذه السورة فقد ذكر فيها النفس الواحدة التي خلقت منها زوجها. وذكر الرجال والنساء والأطفال ، وأخيرا الأرحام التي تنشأ من التزاوج بين الرجال والنساء.

ومنها : الإشارة إلى اصل الإنسان والأسس الثابتة التي يرتكز عليها عيشه في هذه الحياة وانه لا يخرج عن ذلك الأصل القويم مهما طال الزمن وتغيرت الحياة وبذلك تبطل نظرية التطور التي لا تجعل للحياة أساسا وقواعد ثابتة فهي تسير في اتجاهات متعددة لا يتحكم فيها ضوابط خاصة بل يحكم عليها التغير والتطور وسيأتي في البحث العلمي ما يتعلق بذلك ان شاء الله تعالى.

ومنها : الدلالة على ان للإنسان ربا يحوطه بالتربية والعناية ، وان من رحمته بهم ان هداهم إلى ما هو الأصلح لهم الذي فيه كمالهم وارشدهم إلى ما يجلب سعادتهم في الدارين.

والخطاب ب (يا ايها الناس) عام إلى كل فرد من افراد البشر

٢٢٦

وليس للمؤمنين وحدهم كما ذكره بعض المفسرين وذلك لان الخطابات الواقعية لا تختص بطائفة خاصة ، وإذا ورد خطاب يتعلق بالمؤمنين خاصة فلأجل انهم اشرف الإفراد ، كما ان دين الإسلام دين الانسانية وان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) داع الهي مرسل إلى نوع الإنسان بلا استثناء ، وللاشارة إلى ان القضايا التي وردت في هذه السورة هي قضايا فطرية تشمل جميع افراد البشر ، ونزلت لسعادتهم فلا تخص مجتمعا معينا ، وان الخروج عنها خروج عن الصراط السوي والنهج المستقيم.

والناس : اسم لجنس البشر وهو اسم جمع للإنسان يشمل الذكور والإناث على حد سواء وقيل ان أصله (أناس) فحذفت الهمزة عند دخول الالف واللام عليه ، وهو يفيد العموم وهذه قرينة اخرى على تعميم الخطاب.

والمعروف ان خطاب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) لأهل مكة وقد ورد في السور المكية ، وخطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لأهل المدينة كما ورد في السور المدنية. ولكن ذكرنا في احد مباحثنا السابقة ان ذلك مردود لان الخطابات القرآنية خطابات واقعية تشمل جميع افراد الناس ، وخطاب المؤمنين انما هو باعتبار انهم اشرف الإفراد ، مضافا إلى انه قد ورد كثيرا خطاب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) في السور المدنية منها المقام كما ورد الخطاب الثاني في السور المكية.

قوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ).

امر بتحصيل ملكة التقوى التي هي القضية الاولى في القرآن الكريم والأصل الثابت الذي لا يقبل التغيير والتبديل وقد حكم بها عزوجل على جميع افراد البشر من لدن آدم (عليه‌السلام) إلى انقراض العالم

٢٢٧

وقد تقدم الكلام في معنى التقوى مكررا.

وانما خص عزوجل اسم الرب بالذكر لتذكيرهم بانه خالقهم ويدبر أمورهم ويرعى مصالحهم ، فلا بد ان يتقوه.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ).

هذه الآية الشريفة على ايجازها البليغ تتضمن وجوها من الحكم التي لها دخل في تشريع الاحكام وما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة.

الاول : الآية الشريفة تدل على ان للإنسان خالقا قديرا عليما حكيما ، فان الخلق يقتضي ذلك كله فهو الذي خلقهم ويرعى مصالحهم ويرشدهم إلى الكمال فلم يكن خلق الإنسان وليد الصدفة من غير سبق تقدير ، أو يكون خلقه ناشئا من التفاعل في الطبيعة كما يقول به بعض الفلاسفة الطبيعيون حيث ذكروا ان الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها. وبطلان ذلك أوضح من ان يخفى فان الطبيعة العمياء التي لا عقل لها ولا فكر كيف يمكنها ان يخلق هذه المخلوق العجيب وهو الإنسان المفكر العاقل الدارك ، وقد أكد سبحانه وتعالى في مواضع متعددة من القرآن الكريم ان خالق الإنسان هو الله تعالى وبين كيفية خلقه ونفى جميع المحتملات عنه قال تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) الطور ـ ٣٥.

ويستفاد من قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) انه تعالى هو الذي خلقهم والخلق يقتضي الحياة والقدرة والعلم كما تضمن الرب الحكمة والقيمومية والرحمة فكان الخالق مستجمعا لجميع صفات الكمال.

الثاني : ان الآية المباركة تدل على ان الإنسان خلق من نفس واحدة ؛ وهي المادة الاولى لجميع افراد الناس وهذه قضية ثابتة اتفقت

٢٢٨

عليها جميع الأديان السماوية وأثبتت بالأدلة القطعية فيكون للإنسان اصل واحد وهو الحقيقة الانسانية يتحد فيها جميع الإفراد وكل السلالات والأقوام والمجتمعات بلا تفاوت بينها فهم كأعضاء نفس واحدة متفقون في الفطرة ، ومشتركون في القيم والسير التكاملي ، وبذلك ينفي نظرية التطور التي نادى بها بعض الفلاسفة الطبيعيون ، فالإنسان نسيج وحده وهو اصل منفرد قد خلقه الله تعالى ابتداء ومباشرة بنفسه الأقدس وبيّن عزوجل كيفية خلقه في عدة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) السجدة ـ ٨ وقال تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) ص ـ ٧١ ويأتي في البحث العلمي تفصيل ذلك.

والآية الشريفة قد جعل فيها الأمر التكويني محور التشريعات السماوية وان جميع الاحكام الإلهية تدور على هذا الأصل وهو الاتفاق في اصل الحقيقة وان البشر لهم وحدة نوعية منبثقة من نفس واحدة يستوي فيها الرجل والمرأة الصغير والكبير والضعيف والقوي وغيرها ولأجل ذلك كان الخطاب موجها لجميع الناس دون المؤمنين خاصة.

الثالث : الآية المباركة تتضمن العلة التي أوجبت الأمر بالتقوى وإنزال الاحكام الإلهية وهي تهذيب الناس وتكميلهم اي ان الذي خلق الإنسان ورباه وأنعم عليه بأنواع النعم الظاهرية والباطنية ، وتكفل امره بالتربية والتكميل لجدير بأن يتقى ويطاع ولا يخالف له امر.

ومن ذلك يظهر السر في تعليق التقوى بربهم دون غيره من أسمائه المقدسة فان هذا الوصف يعم جميع الناس من غير اختصاص بطائفة خاصة.

ثم ان المراد بالنفس هي تلك الحقيقة التي يمتاز بها الإنسان عن غيره وما به يكون الإنسان إنسانا وهو الذي تعلق به الخلق كما ان

٢٢٩

المراد بالوحدة الوحدة الفردية الشخصية وهي آدم (عليه‌السلام) أبو البشر الذي ورد اسمه وكيفية خلقه في القرآن الكريم مكررا ، لا الوحدة النوعية كما ذكرها بعض المفسرين لكونها خلاف ظواهر الآيات الكريمة والسنة المقدسة الشارحة لها ، وحينئذ لا بد ان يراد بالخلق في قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) الخلق التقديري لا الفعلي من كل جهة لفرض كون الخلق قبل خلق الروح ، فيصير المعنى انكم تنتهون إلى نفس واحدة كانتهاء الصور الكثيرة إلى المادة الأولية والهيولى الاولى. وفي ذلك الامتنان والتذكير بالقدرة ، ونوع استعطاف للناس بعضهم على بعض بما بينهم من النسب والرحم ، ووجوب قيام العلاقات بينهم.

وانما لم يقل تبارك وتعالى من أب واحد لفرض عدم تحقق الأبوة بعد مضافا إلى ان الآية المباركة في مقام بيان اتحاد افراد الإنسان في الحقيقة وانهم تشعبوا من اصل واحد ، وهناك اقوال اخرى في تفسير هذه الآية الشريفة بعيدة عن الصواب ، بل بعضها لا يليق بكرامة القرآن الكريم ولذلك أعرضنا عنها.

قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها).

الزوج اسم لكل واحد من القرينين سواء كانا من الحيوانات المتزاوجة ، أو ما يقترن بآخر مماثلا أو مضادا. والمراد بها هنا.

اي : وخلق من تلك النفس الواحدة زوجها وهي منشأها فتفيدانها من نوع تلك النفس الواحدة وجنسها وان الزوجين متماثلان في اصل الانسانية وقيمها ومتحدان في العبودية لله تعالى وجميع الاحكام إلا ما يختص طبع كل جنس ببعض الحقوق والواجبات.

ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ

٢٣٠

ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) الزمر ـ ٦ وعلى هذا لا فرق بين ان يكون (من) نشوية أو تبعيضية فان كل واحدة منهما ترجع إلى الأخرى.

ثم إن خلق الزوج من النفس الواحدة يحتمل وجوها : الاول ان يكون خلق الزوج بعد تمامية خلق آدم (عليه‌السلام) وتعلق الروح به بأن يكون قد انفصل جزء من الحي فصار إنسانا آخر.

الثاني : ان يكون الخلق بمعني التقدير بأن يكون المعنى : خلق من نوعها وعلى طبعها زوجها ولو بعد حين فلا يكون انفصالا.

الثالث : انها خلقت من الطينة الزائدة التي خلق منها آدم (عليه‌السلام) قبل تعلق الروح بهما فيكون آدم (عليه‌السلام) وحواء موجودين مختلفين ولكنهما متحدان في اصل الطينة.

والأولان لا وجه لهما كما يأتي فيتعين الأخير ، ويشهد لذلك امور :

منها : تكرار كلمة الخلق في الآية المباركة (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وهو يدل على تفاوت الخلقين.

ومنها. التراخي في قوله تعالى في سورة الزمر : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) ـ ٦.

ومنها : الأحاديث الكثيرة المعتبرة التي تنص على ان حواء (عليها‌السلام) خلقت من فاضل طينة آدم (عليه‌السلام) واما ما نقل من ان حواء خلقت من الضلع الأيسر من آدم (عليه‌السلام) فهو مما لا دليل له يصح الاعتماد عليه اللهم إلا ان يراد من ذلك ان الطينة الفاضلة من خلق آدم (عليه‌السلام) لو جعلت في بدن آدم (عليه‌السلام) لكان موضعها الضلع الأيسر.

ومما ذكرنا يظهر ان هذه الآية الكريمة لا ربط لها بالآيات الكثيرة التي تدل على كون الزوج من انفسكم لإثارة المودة والمحبة قال تعالى :

٢٣١

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) الروم ـ ٢١ وغيرها من الآيات الشريفة فان ذكر «انفسكم» فيها لبيان التماثل وإثارة المحبة والرأفة نظير قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) آل عمران ـ ١٦٤ فيكون المراد من النفس السنخية النوعية لا الانفصال الحقيقي من النفس.

قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

البث هو النشر والتفرق بالإثارة والسعة قال تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) لقمان ـ ١٠ وقال تعالى في وصف الناس في يوم الحشر انهم (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) القارعة ـ ٤ وقال تعالى حكاية عن يعقوب : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) يوسف ٨٦ فان الحزن بنفسه مبثوث يظهره الإنسان عند القادر على كشفه ورفعه.

وانما قدم الرجال على النساء لتقدمهم عليهن في الكتاب والسنة قال تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) النساء ـ ٣٤ بل في التكوين أيضا لأنهم الأصل في نشو الإنسان وان كانت النساء لهن الدخل الكبير فيه.

وتوصيف الرجال بالكثرة ليس من باب الخصوصية والاحتراز بل الوصف لهما ولكن حذف الوصف من النساء لدلالة الاول عليه.

والمعنى : اتقوا ربكم الذي نشر النسل الانساني بكثرة من آدم وزوجته.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ).

أمر آخر بالتقوى وفي تكرارها دلالة على الحث عليها. والمراد بالتساؤل سؤال الناس به بعضهم بعضا ـ والإقسام ـ بالله تعالى في مهمات

٢٣٢

الأمور كما يقال : بالله اسألك ان تفعل كذا وكذا. وهذا يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه لما في المسئول به من العظمة والجلال والكبرياء والعزة ما ليس في غيره حتى عند المشركين والكفار ولذا يقسم ويتساءل به.

وانما خص التساؤل به تعالى لعموم جريانه في المجتمع وان المسئول به كامل من جميع الجهات ومن هو كذلك يستحق التقوى عن مخالفة أوامره ونواهيه.

والأرحام جمع رحم وهو مستودع الجنين في المرأة ومحل نمو النطفة قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) آل عمران ـ ٦ واطلق على من يمس الإنسان بالقرابة لانتهائه ومآله الى رحم واحد وانها عطف على لفظ الجلالة.

والمعنى : اتقوا مخالفة أوامر الله الذي له من العظمة والجلال والعزة على حد تتساءلون به واتقوا قطيعة الأرحام وظلمها.

والآية المباركة تدل على عظمة صلة الرحم وحقها ورفع شأنها على حد قارن تقوى الأرحام بتقوى نفسه فكما ان لله تعالى حقوقا لا بد من مراعاتها كذلك للرحم حقوق لا بد من مراعاتها قال تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) لقمان ـ ١٤ وقال تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) محمد ـ ٢٢.

وقيل ان الأرحام معطوف على محل الضمير في قوله تعالى (بِهِ) فهي مجرور فيكون المعنى واتقوا الله الذي تتساءلون به وبالأرحام كما كان شايعا عند الناس بقولهم «بالله أسألك وبالرحم ان تفعل كذا وكذا».

ولكن سياق الآية الشريفة يأبى ذلك لأنها في مقام رفع شأن صلة الأرحام ومقارنتها بشأن نفسه تعالى مع ان ذلك مخالف للقواعد

٢٣٣

المرعية في الأدب لأنه يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وهو بغير اعادة الجار لا يجوز لأنه بمنزلة الحرف ولا يجوز العطف عليه عند الأكثر. وعلى اي حال فالآية الكريمة تدل على عظمة مقام الرحم سواء كان معطوفا على اسم الجلالة أو على الضمير وان كان المتعين هو الاول.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

الجملة في موضع التعليل للأمر بالتقوى وهي تتضمن التهديد والتوعيد لمن تمرد وعصى وخالف.

والرقيب : هو المتفوق المطلع على الأعمال والحركات عن كتب وعناية بخلاف الحارس.

والإتيان بلفظ الجلالة بعد ذكر الرب في الآية الشريفة للدلالة على القدرة الكاملة وللتحذير والتهديد عن المخالفة لأنها توجب التفرق في الوحدة الاجتماعية الانسانية وبث الفساد فيها وهدم كيانها فالمخالفة عظيمة تستلزم غاية التحذير وكمال التهديد.

والمعنى : اتقوا الله الذي تعظمونه وتهيبونه فانه القادر الذي لا يخفى عليه شيء ولا يفوته ويحاسبكم ويجازيكم في امر الأرحام.

بحوث المقام

بحث ادبي :

الناس : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) اسم جمع للإنسان كما مر وهو

٢٣٤

يشمل كل بشر على الأرض واللام فيه لام التعريف يفيد العموم والاستغراق.

والتنكير في قوله تعالى : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) لأجل تعظيم الأمر وتجليل مقام آدم أبي البشر (عليه‌السلام) والتقييد بواحدة للاحتراز.

والزوج يطلق على كل واحد من القرينين كما تقدم وان قال الراغب أن اطلاق الزوجة عليه رديّ.

وكثيرا في قوله تعالى : (رِجالاً كَثِيراً) صفة تؤكد لما يتضمنه التكثير من العدد أو غيره في الموصوف وقيل انه نعت لمحذوف اي بثا كثيرا.

وتسائلون أصله تتساءلون حذف احدى التائين للتخفيف وهذا مطرد عند العرب وهو من باب التفاعل ويرد بمعنى الفعل إذا تعدد فاعله وانه منسلخ عن التقوم بالطرفين لو اعتبرنا ذلك في باب المفاعلة مع ان هذه الدعوى أيضا لا دليل عليها كما تقدم في احد مباحثنا السابقة.

وخلق منها زوجها : إما عطف على محذوف اي خلقكم من نفس واحدة انشأها من تراب وخلق منها زوجها وانما حذف لدلالة المعنى عليه وإما عطف على الخلق وعلى اي منهما يكون المعنى واحدا.

وإتيان الفعل ماضيا في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) للتأكيد والاستمرار الدائمي في المراقبة.

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على امور :

الاول : تعليل الأمر بالتقوى بكونه تعالى خالقا لهم يدل على

٢٣٥

مطلوبية التقوى من جميع الناس لان العلة إذا كانت عامة فالحكم يكون كذلك لأنه يدور مدارها.

الثاني : التعبير بالرب في قوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) للدلالة على تربيته للعباد والإحسان إليهم وانه خالقهم ومالك أمورهم والرءوف بهم والمنفق عليهم ومن كان كذلك يجب الاتقاء منه كما تقدم ؛ فالامر الاول بالتقوى للترغيب كما يدل عليه لفظ الرب والأمر الثاني بها للترهيب كما يدل عليه لفظ الجلالة.

الثالث : تقديم خلق الناس على خلق الزوجة للدلالة على اظهار القدرة والعظمة وانه تعالى هو المنظم للخليقة وتفخيما لشأن أدم (ع) وانه الأصل في انحدار النسل منه.

الرابع : التقييد بالوحدة في قوله تعالى : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) للدلالة على أمرين :

الاول : ان خلق جميع الذرية وبثها لا يكون عند الله تعالى الا كخلق نفس واحدة كما يدل عليه قوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) لقمان ـ ٢٨ ، فيصح ان يراد من البث البث الدنيوي والبث الاخروي وهو الحشر والمعاد فهما متلازمان.

الثاني : ان المراد بالوحدة هي الشخصية الفردية فيصير المقام من الكثرة في الوحدة التي أثبتها الفلاسفة بقسميهم وقوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) من الوحدة في الكثرة التي أثبتها الفلاسفة بقسميهم ايضا فيكون بث الوحدة في الكثرة وانطماس الكثرة في الوحدة نظير اتحاد الهيولى الاولى مع الصور الكثيرة غير المتناهية واتحاد الوجود المطلق في الإفراد الشخصية الفردية ، فتدل الآية الشريفة على الوحدة الاعتبارية بل الحقيقية في أدم (عليه‌السلام) ونسله من أول هبوطه

٢٣٦

إلى آخر فنائه ، فكما ان الجميع نوع واحد حقيقة فهذا النوع الواحد. له افراد يكون بمنزلة الأعضاء للبعض الآخر فلا بد بينهم من الترابط والعناية الخاصة في جميع شئون الآدمية الحقيقية.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) لطيفة خاصة وهي ان الزوجة بمنزلة الجزء من الزوج فيحن الجزء الى الكل ويتقوم الكل بالجزء فالكل بدون الجزء ناقص والجزء بدون الكل لا حيثية له فما أعلى شأن الزوجة في نظام التكوين.

السادس : يصح ان يراد من الرجال والنساء في قوله تعالى : (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ذرية خاصة من نسل آدم (عليه‌السلام) وهم ـ الذين ناسبوا مقام ابوة أدم (عليه‌السلام) الذي هو مسجود الاملاك ـ يعني الأنبياء والذين تابعوهم من الصالحين والصالحات ويشهد لذلك ذكر التقوى في صدر الآية الشريفة ، فيكون المراد من البث البث الظاهري والمعنوي وهم كثيرون في أنفسهم وان كانوا قليلين بالنسبة إلى اصل الذرية وهم الذين حازوا مقام الانسانية الكبرى فصار من دونهم كالأنعام.

السابع : الوجه في تكرار التقوى في الآية المباركة هو : ان التقوى الاولى لأجل انعامه بالخلق وبث الذرية والتقوى الثانية لأجل انه تعالى سبب التعاطف والتراحم بالتسائل بعض مع بعض.

الثامن : ان التسائل الوارد في الآية الكريمة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أعم من تساؤل بعض مع بعض كما تقدم والتسائل النفسي ـ اي ايقاظ الشعور الانساني الذي يسكن في كيان كل بشر فيهيج به لدواعي التطلع إلى الله العلي القدير والمسائلة فيما بينه وبين نفسه في ذاته تعالى وصفاته ـ فهو موجود في الفطرة ويدل عليه قوله تعالى : (وَآتاكُمْ

٢٣٧

مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) ابراهيم ـ ٣٤.

التاسع : تدل الآية الشريفة على ان تقوى الأرحام من تقوى الله تعالى فيجب مراعاة حقوقها وان جميع البشر من أبوين وان بعضهم من بعض فهم كأسرة واحدة لا عنصرية ولا عصبية بينهم لأنهم من نسل واحد ويرجعون إلى أب واحد وهذا هو منهج الإسلام والفطرة السليمة.

بحث علمي

اتفقت الأديان السماوية ومحققوا الفلاسفة من المسلمين وغيرهم على ان الإنسان بجوهره وصورته الفعلية خلقه الله تعالى وانه من صنع الفاعل العليم المختار ـ وهو من اشرف الخليقة ـ وليس وليد التطور والنشوء وقد انتشر النسل البشري على هذه الكرة الارضية من آدم وحواء وهو الذي اتفقت عليه كلمة الأنبياء وشرحه القرآن شرحا وافيا.

وليس وجوده وتكوّنه من مجرد الصدفة والاتفاق من دون فاعل ارادي مختار لما أثبتوه في الفلسفة ببراهين كثيرة من بطلان الصدفة والاتفاق وتدل على البطلان الفطرة العقلية مع قطع النظر عن الكتب السماوية ومقتضيات نفس الطبيعة.

واما انه وليد التطور والنشوء ـ فلا يكون منتسبا إلى الخلق بل ان صورته الفعلية حصلت من إبراد الأنواع في الخارج بالتحول كاقتضاء التكوين من بعض الحشرات السماوية ثم الارضية عند اقتضاء اسبابها ـ كما نسب إلى بعض علماء الغرب بابتنائه على قانون الوراثة التي هي الأساس لهذه النظرية ـ وان كان قانون التنازع وبقاء الأصلح لهما المساس فيها الا ان الأصل والأساس هو قانون الوراثة ـ وهي : ان

٢٣٨

الصفات التي حدثت في الحيوان من اثر البيئة أو الاجتماع أو أواسط المعيشة أو غيرها قبل آلاف السنين صفات بسيطة كانت في الطبقة العليا ثم انتقلت إلى الطبقات اللاحقة لكنها اشتدت وتحولت على نحو تسببت نوعية خاصة في الحيوان وهي الإنسان فهو وليد تلك الصفات بالتحول والنشو.

وهو باطل من أساسه لان الصفات وان كانت في هذا العالم موروثة الا انها لا تتمكن من انقلاب العرض إلى الجوهر (نوع) الا بتعدد العوالم ـ عالم الدنيا والآخرة كما مر في البحث عن تجسم الأعمال ـ لان الجواهر أو الأنواع متباينة مع الاعراض وان مواليد الطبيعة ومتكوناتها في هذا العالم لا بد ان تكون من سنخ نفس مقتضياتها ومثل هذا الخلق البديع والصنع العجيب كيف يعقل ان يكون من ملوّثات ودنيّاتها التي لا علم لها ولا شعور.

مع ان انقلاب النوع إلى نوع آخر بعد تحصّل النوعية غير ممكن إلا بالاستحالة والأدوار حتى يصلح للمنقلب اليه. وهناك وجوه اخرى تثبت بطلان هذه النظرية لعلنا نتعرض لها في الآيات المناسبة ان شاء الله تعالى.

فالنظرية الواقعية الحقيقية هي ما تقدم من ان الإنسان مخلوق وان البشرية انتشرت من نفس واحدة وهي آدم الذي هو من صنع الفاعل العليم القهار الغني بالذات.

بحث قرآني

الخطابات الواردة في القرآن الكريم المتضمنة ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ)

٢٣٩

خطاب إلى الكثرة والجمع وهذه الكثرة والجمع لا يعقل لها حد ولا نهاية فتكون الخطاب عام لجميع البشر من زمان صدور الخطاب ـ بل من زمان الهبوط ـ إلى زمان الخلود فهي نوع لاحد لأفراده وقد أثبتنا في علم الأصول ان الخطابات المشتملة على النداء لا يعتبر فيها وجود المنادى خارجا بل يكفي فيها الوجود العلمي الاعتباري.

والمراد من النفس المتصف بالوحدة الواردة في الآية الشريفة هو آدم (عليه‌السلام) كما هو معلوم من الآيات التي وردت في كيفية خلق أدم (عليه‌السلام) وشرح حالاته فما عن بعض المفسرين من التشكيك في ذلك غير صحيح ولا ينبغي ان يعتني به.

ولا شك ان القرآن وغيره من الادلة تثبت ان النسل الاول من الإنسان انحدر من أدم (عليه‌السلام) ولكن في تكثر الذرية من بعدهما وفي أولادهما يتصور وجوه :

الاول : ان يكون التناسل والتكاثر من نكاح كل ولد ذكر مع امه.

الثاني : ان يكون ذلك بتزويج كل ذكر مع أخته.

الثالث : ان يكون ذلك بتزويج كل ذكر بروحاني متجسّد. ولا يتصور اكثر من ذلك.

والاول باطل بالضرورة للاستقباح الفطري عند كل ذي شعور حتى الحيوانات. وكذا الثاني لان نكاح الاخت من المحرمات النظامية التي لا يختص بشريعة دون اخرى كقبح السرقة وقبح شرب الخمر وغيرهما مع ما كشفه العلم الحديث من ان نكاح المحارم يستعقب مفاسد كثيرة في النسل فيكون قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) النساء ـ ٢٣ قضية حقيقية تكوينية أبرزها الله تعالى على صورة التشريع كقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ

٢٤٠