مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

اليه ، وهذه الحالة هي غاية آمال المجاهدين والمرتاضين في الحق بالحق ، وقد اسموه بالسفر في النفس بالنفس ، ولا منتهى لهذا السير الا ما أشار اليه سيد الأنبياء بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من رآني فقد رأى الحق» وهذا هو المعراج الروحاني الذي هو العلة التامة لاستكمال النفوس المستعدة.

وإن شئت قلت هو إيجاد تمام العوالم في عالم واحد وهو عالم الانسانية الكبرى بالاختيار ، فتصير النيران تحت ارادته والجنان تحت اقدامه فتخاطبه النار بقولها : «جز يا مؤمن فان نورك يطفئ لهبي» وهذه كلها لمحة يسيرة من سير الإنسان الى الكمال غير المتناهي من كل جهة.

كما انها من تجليات أولي الألباب بعد ما لاقوا أشد المصاعب في هذه الدار الفانية فقد هجروا الأهل والديار وتركوا المعاصي لأجل رب الأرباب وقاتلوا النفس الامارة فقتلوها بالسيطرة عليها وتوجيهها الى ما يرضي خالقها ولأجل ذلك كانت عنايات الله جل شأنه بهم عظيمة لا حد لها لأنهم مظاهر أخلاقه وهم الصور المرئية من العقل الكلي في هذا العالم وفي عالم البرزخ وفي عالم الآخرة وقد أعد لهم جنات عظيمة لا نهاية لعظمتها وهذه الجنات هي جنة الأعمال ، وجنة الرضوان وجنة اللقاء وهي منتهى الغايات وأعلى الكمالات.

الثالث : غلبة ذكر الله تعالى على العبد توجب تجلي عظمة الله جل جلاله عليه فيصير طوع ارادته فلا يعمل الا بما يرتضيه ، ولا يرى ولا يسمع الا ما يشاء الله تعالى ويصبح بذلك مرآة لوحي السماء ولا معنى لأولي الألباب الا ذلك ، فترى انهم يسرعون الى الايمان عند ما يسمعون المنادي ينادي اليه لان النداء جلب مشاعرهم بعد ما

٢٠١

كانت مشغولة بذكر الله تعالى ، وهذا هو السمع الحقيقي الذي يغير العبد عما عليه من الغفلة.

وبعبارة اخرى : هي الجذبة الملكوتية التي تحصل للنفس وكم لأولي الألباب من هذه الجذبات الى رب الأرباب ، ولا بد من الارتباط مع هؤلاء بالمعنى الذي ذكره عزوجل لان العالم خلق لتكميل الانسانية ولا يحصل إلا بذلك وهذا هو غاية دعوة الأنبياء العظام خصوصا سيدهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

بحث فلسفي

تختلف الفلسفة الاسلامية عن غيرها من المذاهب الفلسفية في معالمها ومناهجها واسلوبها في بيان المسائل العقلية وتفصيل ذلك لا يناسب المقام والمهم ما يستفاد من الآيات الشريفة المتقدمة في الفلسفة الاسلامية فإنها من الآيات المعدودة التي وردت في بيان معالم هذه الفلسفة الجامعة لكثير من المعارف والعلوم وأهم ما تمتاز به عن غيرها ذلك الذوق العرفاني وبيان المسائل المتعلقة بما وراء الطبيعة والعمق الفلسفي في البحث والتحقيق.

والمستفاد من الآيات الشريفة ان الفلسفة الاسلامية تتميز بأمور ثلاثة :

الأول : ابتناء هذه الفلسفة على التفكر والتدبر والنظر كسائر المذاهب الا ان الفرق ان الفلسفة في الإسلام تعتمد على التفكر الذي يدعو الى العمل ويتحول الى سلوك ومنهج تطبيقى في الحياة فلا تعتمد على التفكر من حيث هو تفكر فقط كالفلسفة اليونانية التي تعتمد على

٢٠٢

التفكر والتدبر لأجل التفكر والتدبر فقط قال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً).

الثاني : الاعتماد على التجربة والاستقراء ، ويعتبر الإسلام هو الذي انشأ المنهج التجريبي وسبق الفلسفة المعاصرة والبحث العلمي في في القرون المتأخرة.

الثالث : انها تعتمد على الفلسفة العملية وتجعلها جزء لا يتجزأ عن الفلسفة العلمية وتعتبرهما الأصل في كل كمال انساني في الدنيا والآخرة.

الرابع : ان الفلسفة الاسلامية تمتاز عن غيرها بأنها منهج اخلاقي تطبيقي فهي تعتمد على التخلية وهذه هي أهم معالم الفلسفة الاسلامية التي يمكن استفادتها من الآيات الشريفة المتقدمة التي اشتملت على مضامين عالية في الفلسفة والعرفان.

وحقيق لهذه الآيات المباركة ان تجعل خاتمة سورة الاصطفاء فانه لا اصطفاء إلا من اولي الألباب وتعتبر هذه الآيات الشريفة تفسيرا لمعنى اولي الألباب وتشرح أحوالهم.

والسر اللطيف الذي في هذه الآيات الكريمة انه لم يشر فيها الى شيء من الدنيا بوجه من الوجوه ولعل الوجه في ذلك التباين الكلي بين مقام اولي الألباب والدنيا الفانية فإنها جيفة وطلّابها كلاب كما في الحديث واين ذلك من المقام الرفيع لأولي الألباب والمنزلة العظيمة لهم.

٢٠٣

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى بعض احوال اولي الألباب وبعض صفات الأبرار وأعمالهم الحسنة والجزاء الحسن الذي وعده تبارك وتعالى لهم أشار في هذه الآيات الشريفة الى ما يتعلق بمن يضادهم وينافيهم لما ارتكز في النفوس من ان الأشياء انما تعرف بأضدادها ، والتمييز بين الأبرار والكفار ، ولبيان ما ابتلى به المؤمنون ذلك البلاء الشاق من الهجرة والإخراج من الديار والإيذاء والقتل والقتال انما هو للتمييز والتمحيض الذي هو سنة الهية كما عرفت ، وللاعلام باستحقاقهم ذلك الثواب الجزيل فلا يقاس حالهم بحال الكفار الذين يتمتعون متاعا قليلا ثم لهم سوء العقاب.

وفي هذه الآيات المباركة الموعظة الكبيرة للمؤمنين والنهي عن الاغترار بحال الكفار الذين يتنعمون في نعم ظاهرية بل لا بد ان يجعل الأمر في نظرهم أبعد من ذلك فان لهم الثواب العظيم والنعيم الحقيقي

٢٠٤

التفسير

قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ).

تسلية للنبي الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمؤمنين الذين تحملوا البلاء والأذى في سبيل الحق. والخطاب وان كان موجها الى النبي لكنه خطاب للأمة باعتبار ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واسطة الفيض وانه الوجود الجمعي للأبرار فهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من حيث كونه واسطة الفيض الالهي مبدأ فاعلى لهم ، ومن حيث كونه صاحب المقام المحمود غاية لهم ، ففي وجوده اجتمعت العلة الفاعلية والغائية للأبرار.

ومادة (غرر) تدل على الأثر الظاهر على الشيء سواء كان سببه الغفلة أو امر آخر ومنه غرة الفرس ، وغرار السيف اي حده ، وغر الثوب أثر كسره ، يقال اطوه على غره اي اطوه على طياته الاولي وجمع الغر على غرور ، ويقال : غره خدعه وأطمعه بالباطل فكأنه ذبحه بالغرار.

والتقلب هو التحول من حال الى حال ويستعمل غالبا في الحركات المنطبعة غير الارادية والمراد به كون الكفار في رفاه الحال وشرف الحياة يتقلبون في البلاد آمنين متنعمين بالصحة والامهال ، ولكن مع ذلك فقد وصفهم تبارك وتعالى بأخسّ الأوصاف فقال عزوجل (مَتاعٌ قَلِيلٌ).

والمراد بالكفر في المقام هو الأعم من الكفر الاعتقادي والعملي

٢٠٥

مقابلته للأبرار.

وانما نهى عزوجل عن الغرور بتقلب الذين كفروا لان الحقيقة غير ما هم عليه ، ولا ينبغي ان يكون المظهر سببا للغرور والإغماض عن الحقيقة ، ولعل سبب النهي هو ان المؤمنين لما تحملوا تلك المشقات الكثيرة وذلك الابتلاء العظيم كما حكى عنهم عزوجل في الآية السابقة بينما ان الذين كفروا يتقلبون في البلاد يتحولون من نعمة الى نعمة اخرى مطمئنين آمنين يمكن ان يوسوس لهم الشيطان ان الكفار اولى منهم لأجل اولوية حالهم في الدنيا ، فكانت هذه الآية الشريفة بمنزلة دفع الدخل والتقدير ، ولرفع ذلك الهاجس البشرى وتزيل الاسى في نفوسهم الحاصل من الوسوسة.

قوله تعالى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ).

بيان لعلة النهي عن الغرور. اي : ان تقلبهم في البلاد انما هو متاع قليل لا دوام له ، وهذا من أخس الأوصاف ولا يمكن ان يقابل ذلك الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى للأبرار ، بل ان متاع الأرض كله لا يمكن ان يقابل ذلك لان حركات غير الأبرار لما كانت للدنيا وفي الدنيا ، فان الدنيا وما فيها قليل من جميع الجهات بالنسبة الى الآخرة وفي الحديث : «ما الدنيا في الآخرة الأمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما ذا يرجع». والمتاع يمثل به عن الشيء الحادث الزائل خصوصا إذا اتصف بالقلة.

قوله تعالى : (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

اي : ثم مصيرهم ـ الذي يأوون اليه وقد مهدوه بكفرهم وسوء أعمالهم ـ هو جهنم وهي اسم لدار مجازاة الكفار والمذنبين في الآخرة.

٢٠٦

والمهاد : المكان الممهد كالفراش وانما ذكره عزوجل تهكما بهم اي : ان تلك الدار التي يأوون إليها وذلك المصير مما جنته أيديهم وقد مهدوها لأنفسهم بسوء اختيارهم ويبين هذه الآية قوله تعالى في موضع آخر : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) الشعراء ـ ٢٠٧.

قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ).

بيان لمصير الأبرار وسعادتهم مقابلة لمصير الكفار وشقائهم فانه لا يقاس أحدهما بالآخر لأن حال الطائفة الاولى ابتلاء ومقاساة للأهوال مدة قصيرة ونعيم الخلد في الآخرة وحال الطائفة الثانية متاع قليل ومأواهم جهنم وبئس المهاد.

والكفار وان استمتعوا بملاذ الدنيا ونعيمها لكنهم حرّموا أنفسهم من نعيم الآخرة التي لا نهاية لعظمتها واحلوها دار البوار ، واما الذين اتقوا ربهم وان حرموا من نعيم الدنيا وتحملوا المشاق والأذى في سبيل الله لكن جزاؤهم كبير وعظيم ، فالاستدراك انما هو لأجل طمأنينة قلوب المتقين والأبرار والمجاهدين في سبيل الله تعالى فلا يوهن عزائمهم للجهاد بتمتع الكافرين في الأرض ولا يشغلهم تنعم هؤلاء ورفاههم وتقلبهم في البلاد ولا ينبغي ان يكون سببا لوهن عزائمهم ونشاطهم في سبيل الدين وإعلاء كلمة الله تعالى فان مصيرهم أعظم وأعلى من مصير الكافرين.

قوله تعالى : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

اي : ان مصيرهم الى نعم لا نهاية لبهجتها وسرور ساكنيها وهي جنات تجري من تحتها الأنهار وهذه الجنات تعددت لأنهم قاسوا

٢٠٧

اهوال الدنيا ومرارة العيش فيها ، وهي الجنات التي وعدها الله تعالى لأولي الألباب جزاء جهادهم وكفاحهم في الدنيا ، ويمكن ان تكون الجنات متعددة باعتبار حالات الإفراد وشدة تفانيهم في الله تعالى وضعفه فإنهم متفاوتون في ذلك.

قوله تعالى : (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ).

النزل ـ بضمتين أو بتسكين الزاي ـ ما يهيأ للنزيل أول نزوله من المنزل والزاد والفرس والنزيل هو الضيف قال الشاعر :

نزيل القوم أعظمهم حقوقا

وحق الله من حق النزيل

وخص بعضهم النزل بالزاد مطلقا ويأتي مصدرا وجمعا وهو منصوب على الحال وقيل انه منصوب على التفسير.

وجعل الجنات نزلا لهم فيه الكرامة العظمى للمتقين لا سيما إذا كانت من عند الله تعالى فان فيه الشرف العظيم لهم وفيه اشارة الى عدم تناهي ذلك النزل كمية وكيفية ومدة فانه من عند من لا تناهي له من كل جهة.

قوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ).

نعمة اخرى لا نهاية لها. اي : ان ما عند الله تعالى خير للمتقين الأبرار مما عند الكافرين من المتاع القليل أو خير مما كان المتقون فيه في الدنيا.

والتفنن في النعم لبيان ان الاولى من النعم الجسمانية كالجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، وهذه من النعم المعنوية كالقرب الى الله تعالى والحظوة لديه ولقائه عزوجل ورضوان الله اكبر وهذه النعمة لا يوازيها أية نعمة اخرى من نعم الجنة فهذه كرامة اخرى للأبرار زائدة

٢٠٨

عما كانت للمتقين.

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ).

بيان لمشاركة بعض اهل الكتاب مع المؤمنين في الايمان بالله واجره العظيم ، وعدم اختصاص السعادة الاخروية بطائفة خاصة ولتشجيع اهل الكتاب الى الدخول في الايمان ومتابعة الحق.

وفي ذلك إيماء إلى ان هؤلاء مع ما هم عليه من السعة قد اختاروا ثواب المؤمنين الأبرار وآثروا ما عند الله تعالى على المتاع الدنيوي وان كان المؤمنون في ضيق فانه خير من سعتهم.

وقد وصف سبحانه وتعالى هذه الطائفة بخمس صفات هي الأصل في كل سعادة الاولى : الايمان بالله جلّ شأنه ايمانا صحيحا داعيا إلى العمل الصالح لا يشوبه شرك وفساد.

الثانية : الايمان بما انزل إلى المسلمين وهو القرآن الكريم ، والايمان به يستلزم الايمان بمن انزل عليه وهو الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وانما قال تعالى : (إِلَيْكُمْ) باعتبار ابتداء الدعوة بهم وإلا فان القرآن الكريم منزل لكل البشر وهو المهيمن على سائر الكتب الإلهية يدعو الناس إلى السعادة ودين الحق ولعله لذلك قدم الايمان بالقرآن على الايمان بما انزل إليهم وان كان الأخير مقدما في الوجود ولبيان ان الايمان بما انزل إليهم لا فائدة فيه إذا لم يكن معه ايمان بما انزل إلى المؤمنين.

الثالثة : الايمان بما انزل إليهم وهو ما اوحى الله تعالى إلى أنبيائهم من غير تحريف فانه يدعو إلى الله تعالى وإلى ما انزل إلى المؤمنين وهاتان الصفتان تدعوان اهل الكتاب إلى عدم التفريق بين رسل الله

٢٠٩

تعالى كما ذمهم الله تعالى به في ما تقدم من الآيات.

قوله تعالى : (خاشِعِينَ لِلَّهِ).

وصف رابع وهو منصوب على الحال. والخشوع فوق الخضوع وهو نوع انكسار يعرض على القلب وعلى جوارح الإنسان عند الطاعة لله تعالى وقد تقدم في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) البقرة ـ ٤٥ والخشوع انما هو اثر الخشية من الله تعالى والخوف منه وهذا من ثمرة الايمان الصحيح.

قوله تعالى : (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

وصف خامس وهو عدم كتمان الحق والاشتراء بآيات الله تعالى ثمنا قليلا مما ذم الله تعالى به اهل الكتاب والكافرين في مواضع متعددة من القرآن الكريم قال تعالى : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) التوبة ـ ٩ وقال تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) المائدة ـ ٤٤.

وقد نفى عن هؤلاء هذه الخصلة وهي كتمان الحق والاشتراء بآيات الله ثمنا قليلا وهو يدل على صدقهم في الايمان وخلوصهم فيه.

قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

اي : ان أولئك المتصفين بتلك الصفات الحميدة لهم أجرهم المعلوم وهو ثواب طاعتهم. وانما أضاف الأجر إلى الرب الذي رباهم بنعمه في الدنيا للتشريف وكمال العناية بهم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

اي : ان الله يحاسب العباد ويعلم ما لكل احد من الثواب والعقاب

٢١٠

فلا يعقل التأخير بالنسبة اليه عزوجل لإحاطته بجميع جزئيات اعمال عباده فيوفيهم أجورهم بلا امهال وتأخير.

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على امور :

الاول : يدل قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) على ان ما عند الكافرين من الحظوظ الدنيوية مهما بلغت في العظمة في الكم والكيف لا تقابل ما للمؤمنين من الجزاء العظيم الذي أعد الله تعالى لهم في يوم الجزاء مضافا إلى مصير الكافرين السيء الذي هو نتيجة أعمالهم وجهدهم في الدنيا وما كسبته أيديهم وان كان لتقلبهم دخل في نظم البلاد ولكنه حقير ضئيل خصوصا إذا لوحظ بالنسبة إلى النظام الأحسن لو كان الأنبياء والمؤمنون هم الذين يتصدون لنظم الدنيا قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف ـ ٩٦.

الثاني : يدل قوله تعالى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) على دناءة المتاع الذي يتمتعون به وقلته من جميع الجهات فهو قليل في المدة ، وقليل بالقياس إلى مؤونة السعي والجهد الذي يبذلونه في سبيله ، وقليل بالنسبة إلى ما أعد الله تعالى للمؤمنين من الأجر العظيم والثواب الجزيل ، كما دلت عليه الآية السابقة.

الثالث : يدل قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ

٢١١

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) على ان المناط في كل خير ونفع هو التقوى ، وان الدنيا وما فيها انما هي وسيلة إلى النعمة العظيمة الابدية التي لا يمكن نيلها إلا بالتقوى ، فالآية الكريمة رد لمزاعم الكفار والمنافقين في انهم متمتعون والمؤمنون في خسران.

وانما ذكر عزوجل التقوى للدلالة على أن حرمان المؤمنين من بعض حظوظ الدنيا من سبل التقوى ، فلا يتوهم احد بأنه من موجبات شقائهم. وذكر المتقين بعد الكافرين من احسن وجوه البلاغة في بيان الصنفين المختلفين المتضادين.

الرابع : يدل قوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) على ان للأبرار منزلة عظيمة فوق منزلة سائر المؤمنين المتقين وانهم طائفة خاصة من الذين اتقوا ولهم شأن عظيم عند الله تعالى وقد شرفهم الله تعالى بأن حباهم ما هو اكثر وأدوم ، وأعظم ، وأوصلهم الى مقام القرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة قال تعالى : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) المطففين ـ ٢٤.

الخامس : يدل قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) على ان الوحدة الجامعة لجميع الأديان الإلهية هي الايمان بالله تعالى وما انزل الى المؤمنين وما انزل إليهم ما لم تمسه يد التحريف والتزوير ، والخشوع لله تعالى وعدم كتمان الحق فمن كان من اهل الكتاب متصفا بهذه الصفات الحميدة كان له الأجر العظيم المحفوظ عند ربهم الذي يرعى شؤونهم ومصالحهم ، ومن تخلف كان

٢١٢

الله سريع الحساب فهو الذي يعلم الأسرار ومن هو مطيع خاشع له تعالى وغيره ، ويعلم خصوصيات الثواب والعقاب.

بحث روائي

روى الواقدي في أسباب النزول في قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) انهم كانوا في رجاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : ان اعداء الله تعالى في ما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت هذه الآية».

أقول : روي غير ذلك في شأن نزول الآية الشريفة وعلى فرض اعتبارها تكون من باب التطبيق لا التخصيص.

وفي الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ان الآية «نزلت في النجاشي ونفر من أصحابه لما مات هو فصلى عليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو في المدينة فطعن فيه بعض المنافقين انه يصلي على من ليس في دينه فانزل الله تعالى : «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية ـ».

وقيل انها نزلت في أربعين رجلا من اهل نجران من بني الحارث ابن كعب إثنين وثلاثين من ارض الحبشة وثمانية من الروم كانوا جميعا على دين عيسى (عليه‌السلام) فآمنوا بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

٢١٣

أقول : انها على فرض اعتبارها من باب التطبيق أيضا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

الآية الشريفة خاتمة لجميع الوصايا والكلمات والحقائق التي تضمنتها هذه السورة وهي تدعو الى المحافظة عليها ومراعاتها وهي مع ايجازها تشمل على أهم الوصايا والكمالات الانسانية وهي الصبر والمصابرة والمرابطة في سبيل الله تعالى في إقامة جميع احكام الله تعالى والتقوى فان ذلك يعد الإنسان اعدادا علميا وعمليا لنيل الفلاح والسعادة في الدارين.

وهذه الآية المباركة خلاصة ما ورد في هذه السورة العظيمة تبين السر في النجاح والفلاح فهي أعظم آية وردت لبيان نظامي التكوين والتشريع.

وقد بدأت هذه السورة بالتوحيد وذكر فيها آية الاصطفاء وختم سبحانه وتعالى السورة بهذه الآية المباركة للاعلام بأن الاصطفاء لا يتحقق الا بالصبر والمصابرة والمرابطة وان المرابطة لا يمكن الا بالتوحيد الخالص.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا).

أمر بأهم ما يعتمد عليه المؤمن عند طاعته لربه وإرشاد الى أهم الأسس في نجاح الإنسان في كفاحه وعيشه في حياته وبيان لحقيقة من الحقائق الواقعية من ان كل فلاح وسعادة سواء في الدنيا أم في الآخرة إنما تعتمد على الصبر والمصابرة.

٢١٤

ثم إن الصبر فضيلة سامية ، وخصلة حميدة ، وخلق كريم ، بل هو أم الفضائل ولا يستقيم سائرها الا به ، فله منزلة عالية ومقام رفيع بينها ، وقدم في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) البقرة ـ ٤٥ ما يتعلق به فراجع.

وانما اطلق سبحانه الأمر ليشمل جميع أقسام الصبر وهي الصبر على الشدائد ، والصبر على طاعة الله تعالى ، والصبر عن المعصية» ولبيان ان موضوع الصبر يرجع تحديده الى المؤمنين فالصبر انما يكون على ما يحمد عليه الصبر وفي ما يحمد مطلقا ، والأمر بالصبر لأجل ان جميع ما ورد في هذه السورة من الحقائق والكمالات والدروس والعبر لا يمكن تحصيلها الا بالصبر ولذا قدمه عزوجل في الآية الشريفة على غيره.

قوله تعالى : (وَصابِرُوا).

المصابرة من باب المفاعلة وهي المغالبة في الصبر ، ويلزم ذلك مقابلة الصبر بالصبر وتضاعف تأثيره وتقوى الحال به. وانما يظهر هذه الخصلة الحميدة في الجماعة في حال الاجتماع والتعاون.

والمستفاد من الآية الشريفة أن الاول كان بلحاظ حال الانفراد ، والثاني انما هو بلحاظ حال الجمع والاجتماع ، والأمر بالمصابرة لأجل وقوف الجماعة امام المشاكل الاجتماعية والتعاون في حلها وتحمل الأذى في إعلاء كلمة الحق واقامة احكام الله تعالى. والمصابرة في ميدان القتال مقابلة الأعداء الذين يريدون اطفاء نور الله تعالى وخذلان الحق والغلبة على المؤمنين.

٢١٥

قوله تعالى : (وَرابِطُوا).

المرابطة الملازمة والثبات والمواظبة اي : واظبوا على تكميل انفسكم بالكمالات الواقعية ، واثبتوا في تنفيذ احكام الله تعالى ، ولازموا الحق في جميع حالاتكم في الشدة والرخاء.

وهذه الخصلة الحميدة تبين كيفية استمرار السعادة وتثبيتها بعد اصل ثبوتها فإنها لا تحصل إلا بالمرابطة. والأمر ايضا مطلق ليشمل جميع أنحاء المرابطة ومنها المرابطة في سبيل الله تعالى في ثغور الإسلام ومباراة الأعداء والترصد للغزو.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ).

اشارة الى ان كل ذلك إنما تحصل بالتقوى المنبث على جميع ذلك بحسب الحالات والظروف والخصوصيات ، فالتقوى قوام الصبر والمصابرة والمرابطة وان السعادة الحقيقة لا تحصل الا بها.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

اي ان جميع ذلك من اسباب الفلاح بل لا فلاح إلّا بذلك. وانما ذكر «لعل» بداعي الترغيب الى ذلك بحسب أذهان المخاطبين.

بحث روائي

في الكافي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) قال (عليه‌السلام) : «اصبروا على

٢١٦

الفرائض وصابروا على المصائب ورابطوا على الائمة».

أقول : الروايات في هذا المضمون كثيرة من الفريقين ، وقد ذكرنا معنى المرابطة وهي الالتزام بما يشرحون به كتاب الله تعالى مطلقا.

وفي الغنية عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) قال : «اصبروا على أداء الفرائض وصابروا عدوكم ورابطوا إمامكم المنتظر».

أقول : هذا من أحد المصاديق لمعنى المرابطة والا فكل من دعا الى الحق في الحق لا بد من المرابطة معه في اي زمان كان.

وفي المعاني عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) قال (ع) : «اصبروا على المصائب ، وصابروهم على الفتنة ، ورابطوا على من تقتدون به».

أقول : المراد من المصابرة على الفتنة التقية مع الأعداء واجتناب مضلات الفتن.

وفي تفسير القمي عن الرضا (عليه‌السلام) : «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الصابرون؟ فيقوم فئام ـ جماعة ـ من الناس ثم ينادي أين المتصبرون فيقوم فئام من الناس. قلت : جعلت فداك وما الصابرون؟ قال (ع) : على أداء الفرائض والمتصبرون على اجتناب المحارم».

أقول : هذا الحديث قرينة على أن المراد من الفتنة في الحديث السابق المحارم وكل ما يسخط الله تعالى.

وفي المجمع عن علي (عليه‌السلام) : «رابطوا الصلوات اي انتظروها لان المرابطة لم تكن حينئذ».

أقول : الحديث يفسر المعنى الأعم من المرابطة الخاصة.

٢١٧

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن حيان عن جابر بن عبد الله قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ألا أدلكم على على ما يمحو الله به الخطايا ، ويكفر به الذنوب قلنا بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء مع المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط».

أقول : الحديث كسابقه يبين المعنى العام للمرابطة.

بحث قرآني

المرابطة : من أهم الموضوعات في الإسلام وهي تؤمن بقاء الشريعة والحفاظ عليها بعد حدوثها ، وتحدد المسؤولية الاجتماعية والفردية اتجاه الحق واحكام الله تعالى ، ولا بد من بيان معنى المرابطة في الإسلام وحدودها وآثارها في المجتمع الاسلامي اجمالا.

معنى المرابطة :

المرابطة المأمور بها في الكتاب والسنة : هي الالتزام العملي بالحفاظ على الشريعة ودوام العمل بها وتحديد مسؤولية كل فرد بالنسبة إلى الاجتماع وهي التي تقوي الروابط بين الفرد والمجتمع وتوجب اشتراك كل واحد منهما في الهدف وسائر الشؤون والخصوصيات ، ولذا نرى ان الإسلام يهتم بالمجتمع كاهتمامه بالفرد فهما في نظره على حد سواء

٢١٨

من الأهمية. ويعتبر أحدهما مكملا للآخر فلا يمكن استغناء أحدهما عن الآخر وان كليهما ينشدان الكمال المشترك بينهما وهي السعادة الحقيقية والقرب الى الله تعالى والحظوة لديه ، والمرابطة من أهم الأسباب التي تؤمن هذه السعادة والغرض ، فهي روح المجتمع الاسلامي وبدونها يتبعد الفرد والاجتماع عن الصراط المستقيم.

اهمية المرابطة :

المرابطة بمعناها العام من الأمور النظامية الاجتماعية بين افراد الإنسان وبدونها يختل النظام ولا يمكن تحصيل السعادة والفلاح وهي المراد من قول قدماء الفلاسفة : ان الإنسان مدني بالطبع بحسب التعاون والتعاضد ويسعى الى الكمال ، فهي المدينة الفاضلة ـ كما عبر بها بعض الفلاسفة ـ التي اهتم بها الإنسان من بدء الخليقة وقد دعت الكتب السماوية والشرائع الإلهية إلى المرابطة واهتمت بها من جهات شتّى وبينت جميع خصوصياتها ، وقد تكفلت الشريعة المقدسة الاسلامية شرح المرابطة وبيان مقوماتها وخصوصياتها المطلوبة وان القرآن الكريم والسنة الشريفة مشحونان بذلك.

متعلق المرابطة :

ذكرنا ان المرابطة من أهم الواجبات النظامية بل لا يتحقق النظام إلا بالمرابطة ولا يظهر أثرها إلا في المجتمع فهي من أهم الأمور

٢١٩

التكوينية في الاجتماع فلا اجتماع إلا بالمرابطة ، ولا مرابطة إلا فيه فهما متلازمان حدوثا وبقاءا وارتفاعا ، وقد تقدم ان الإسلام يهتم بالمجتمع ، كما يهتم بالفرد ويعتبر أحدهما مكملا للآخر ، ويدل على ذلك القرآن الكريم والسنة المقدسة ، وشواهد من الادلة العقلية قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) آل عمران ـ ١٠٣ ، وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) الحجرات ـ ١٠ إلى غير ذلك من الآيات التي تأمر ببناء المجتمع الاسلامي على الاتحاد والتعاون والتكافل وتأمر بالاهتمام بإتيان الاحكام الإلهية ومراعاة الشريعة فان في ذلك الصلاح والفلاح ، قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف ـ ٩٦ وهو يدل على ان سعادة العيش انما تكون بالاجتماع دون الانفراد.

ما فيه المرابطة :

المرابطة انما تكون في ما فيه الخير والصلاح للأمة والإفراد وما يجلب السعادة لهما فتشمل المرابطة جميع جوانب الحياة وما يتعلق بالدنيا والآخرة ، فتكون المرابطة في ما يتعلق بالفرد مع خالقه فتشمل العبادات كالصلاة والصيام وغيرهما كما تشمل المعاملات بين الإفراد والعلاقات الفردية واحكام الزواج وغير ذلك فان جميع ذلك انما أنزلها الله تعالى

٢٢٠