مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

للاستجابة وكيفيتها.

قوله تعالى : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى).

بيان لجنس العامل اي : انه لا يفرق عنده تعالى حينئذ بين الذكر والأنثى فالجميع بالنسبة الى سبب الاستجابة على حد سواء وان المناط هو العمل مع الإخلاص سواء كان العامل ذكرا أم أنثى.

قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).

بيان لسبب التساوي بين العاملين الذكور والإناث. وفي الآية الشريفة كمال العناية والتحبب واللطف بهم ، اي : انكم في الثواب والتقرب وسائر الصفات والخصوصيات سواء عندي بعد ان كنتم جميعا من أولي الألباب.

قوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ).

بيان للأعمال التي يثبت فيها الجزاء الموعود ، وتفصيل لما أجمله آنفا بذكر أهم أفراد العمل وأفضلها ولبيان ان المثوبة التي أكد الله تعالى عليها في مواضع متعددة من القرآن الكريم لا يمكن ان ينالها احد الا مع العمل ، فلا يطمعن احد فيها بدونه.

ولما كانت السورة مشتملة على الجهاد في سبيل الله تعالى والمعركة في تثبيت كلمة التوحيد ، وإعلاء شأن دين الله تعالى كانت الامثلة المضروبة للأعمال الصالحة لها ارتباط بهذا المضمار مع المدح والثناء والتعظيم. فمنها الهجرة في سبيل الله تعالى وإيثار الدين الحق سواء كانت الهجرة عن الشرك أو الوطن أو الذنوب فتكون الهجرة أعم من الإخراج من الديار.

١٨١

ومنها إخراج المؤمنين من ديارهم وأوطانهم ظلما وعدوانا لأنهم آمنوا بالله تعالى واعرضوا عن الباطل.

وانما ذكر الهجرة لأنها أشق شيء على النفس فإنها مجبولة على حب الوطن الذي نشأت فيه ، ويمكن ان يكون الإخراج من الديار تغييرا للهجرة وتفصيلا بعد إجمال ولكنه بعيد عن ظاهر الآية المباركة ويحتمل ان يكون لبيان ان ترك الديار انما كان عن ظلم وعدوان وأما الهجرة عن الأوطان فلأجل انهم لم يتمكنوا من اقامة الدين.

والآية الشريفة تبين اهمية الهجرة الى الله تعالى وهو يشمل الهجرة اليه عزوجل كما مر سواء كانت مكانية أو زمانية او عملية فالمهاجر عن المعاصي مهاجر اليه جلت عظمته وكذا ورد في بعض الأحاديث «ان المؤمن مهاجر» لأنه يهجر عن المعاصي.

قوله تعالى : (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي).

اي وتحملوا الأذى في سبيل الله تعالى وهو يشمل كل ما يصيب المؤمن من المشركين وغيرهم قولا وفعلا.

قوله تعالى : (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا).

اي : وقاتلوا الكفار والمشركين واعداء الله تعالى فقتلوا واستشهدوا في سبيل الله تعالى فان من جمع فيه هذه الصفات له المثوبة العظيمة المؤكدة.

قوله تعالى : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ).

اي : من اتصف بتلك الأوصاف لأسترن عليهم سيئاتهم وأمحوها وهي صغائر المعاصي لأنهم تركوا الكبائر وهجروها بالترك أو التوبة.

ويحتمل ان يكون ذلك جوابا عن ما طلبوه من الله تعالى : (وَلا

١٨٢

تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ).

قوله تعالى : (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

أي : وأتفضل عليهم بأن أدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار قد جمعت فيها موجبات البهجة والسرور وهذا هو الذي طلبه الداعون في قولهم «وآتنا ما وعدتنا على رسلك».

قوله تعالى : (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ).

اي : ان جميع ذلك كانت نتائج أعمالهم وهي محفوظة عند الله تعالى.

وإنما قال ذلك عزوجل لأنه أكمل في اللذة وللتنبيه بأنه من عظيم لا نهاية لعظمته.

وانما ذكر اسم الجلالة تنويها بشرفه وكرامته ، وثوابا مصدر مؤكد لما قبله.

وهذه الآية المباركة مبينة لقوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) فان الأعمال محفوظة لديه عزوجل ويثيب عليها الله تعالى.

قوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ).

تأكيد لما سبق ، ولبيان أن الثواب من رحمة الله الواسعة ومن فضله العظيم ، وللاعلام بأن الثواب قد تشرف بحضرته ، وانه محفوظ عنده لا يصيبه الهلاك والفناء.

وقد ذكر عزوجل في هذه الآية المباركة أمورا ثلاثة : الاول محو السيئات وغفران الذنوب وهو الذي طلبوه في قولهم (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) وانما لم يذكر عزوجل غفران الذنوب وقال (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) فقط لأنها غفرت بالهجرة والتوبة.

١٨٣

الثاني : الثواب العظيم وهو الدخول في الجنات التي تجري من تحتها الأنهار وهو الذي طلبوه في قولهم (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ).

الثالث : ان ذلك ثواب من عند الله تعالى لأنه لا يضيع عمل عامل منكم ، فالاعمال محفوظة لديه ويكون الثواب نتائج أعمالهم وهذا الثواب مقرون بالتعظيم والتجليل ويكفي في شرفها انه من عند الله تعالى.

بحوث المقام

بحث ادبي :

انما حذف العطف بين قوله تعالى : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لان الأخير يبين كمال قدرته وعلمه وحكمته في ملكه فهو مؤكد للأول.

والآيات في قوله تعالى : (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) اسم ان وقد دخله اللام لتأخره عن الخبر ، وللتأكيد والتنوين فيه للتفخيم اي : آيات عظيمة.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) في موضع جر نعت لأولي الألباب ويجوز ان يكون في موضع رفع او نصب على المدح.

وقوله تعالى : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) منصوب على الحال في يذكرون أو في موضع الحال.

وقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) انما وضع

١٨٤

الظاهر (النار) موضع المضمر للتهويل.

والخزي : هو الخسران وقيل انه بمعنى الهلاك او الاهانة او الافتضاح ومنه قوله تعالى : (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) هود ـ ٧٨ او الابعاد ولكن جميع ذلك متقاربة.

والنداء : في قوله تعالى (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) لما كان مخصوصا بما يؤدى له ومنتهيا اليه تعدى باللام تارة كما في المقام واخرى ب (الى) فلا حاجة الى صرف اللام عن ظاهرها وجعلها بمعنى الى او غيرها وقال بعضهم ان جملة ينادي مفعول ثان ل (سمع) وقال آخرون ان سمع تعدت الى واحد وينادي صفة له وانما حذف المفعول الصريح في «ينادي» إيذانا بالتعميم.

وقوله تعالى : (أَنْ آمِنُوا) إما تفسير لينادي إذا جعل ان مصدرية أو بأن آمنوا فيكون متعلقا ب (ينادي) وقال بعضهم انه بدل من الايمان ولكنه ليس بشيء.

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور :

الاول : يدل قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) على حقيقة من الحقائق الواقعية التي طالما أكد عليها القرآن الكريم في مواضع متعددة بل انها مراده ، وهي الاستدلال بآيات الله تعالى في مخلوقاته العلوية والسفلية على عبادة الله الواحد الأحد ونبذ الشرك والأنداد وعبادة الآيات الكونية والخوارق

١٨٥

وهذه هي دعوة الأنبياء والرسل.

والآية الشريفة تضمنت المبدأ والمعاد فان قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدعو الى المبدأ المتصف بجميع صفات الكمال من العلم والقدرة والحياة والحكمة والربوبية ، واما قوله تعالى (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) فانه يدل على المعاد لما في هذه الآية من الدلالة على القدرة الإلهية وان اختلاف الليل والنهار لا يخلو من المشابهة للموت والحياة فالليل فيه الإشارة الى الخمود والسكون والنهار اشارة الى الحركة والظهور والنشور ، والموت خمود وسكون والحياة ظهور وحركة. كما ان اختلاف الليل والنهار سنة الهية طبيعية والموت والحياة سنة إلهية كذلك.

ومن ذلك يعرف السر في تقديم الليل على النهار فان الموت اسبق على الحياة فإنها الإيجاد من العدم.

الثاني : يستفاد من ذكر اختلاف الليل والنهار بعد خلق السموات والأرض ان اختلاف الليل والنهار من شؤون خلق السموات والأرض وتابع له.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) المنزلة العظيمة لأولي الألباب فهم الذين ينظرون في الآيات ويتعمقون فيها ويدركون تلك الآيات الكونية ويستفيدون منها ويعتبرون بها واما سائر الناس فلا حظ لهم منها إلا المناظر البديعة وما فيها من الحسن والروعة والبهجة دون التعمق والاعتبار.

الرابع : يدل قوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ان ذكر الله تعالى له الأثر الكبير في استفادة ذوي الألباب من آيات الله تعالى وله المنزلة العظيمة في الاهتداء به الى

١٨٦

الحقيقة فقد ملأ الذكر جميع مشاعرهم وتمام حالاتهم فلا يغفلون عن الله تعالى لأنهم شاهدوا آثار عظمته في خلقه وأيقنوا أن ما سواه من فيض رحمته فاستغرقت سرائرهم في مراقبته فلا يشاهدون حالا من الأحوال في الآفاق وفي الأنفس الا وهم يعاينون شأنا من شؤونه ومظهرا من مظاهره تعالى.

واطلاق الذكر يشمل جميع انحائه من حيث الذات أو الصفات أو الأفعال فكانوا في طاعة الله تعالى دائما مما أوجب استعداد أنفسهم لقبول الفيض الالهي.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ان التفكر الصحيح انما يكون بعد تهذيب الروح وتطهير النفس من الرذائل وذكر الله تعالى إنما يقوم بتلك الوظيفة ؛ ولذا قدمه عزوجل على التفكر في خلق السموات والأرض وهو يعد النفس لهذه الموهبة ، ويستفاد من الآية المباركة اختصاص التفكير في السموات والأرض دون الذات المقدسة لعدم الوصول الى كنه ذاته وقد ورد النهي عن التفكر في الذات ، يضاف الى ذلك ان ذكر الله تعالى يغني عن التفكر في الذات ، وهذه الآية المباركة ترشد الناس إلى التفكر في أفعاله تبارك وتعالى.

السادس : يمكن ان يراد بالقيام في قوله تعالى : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) مطلق القيام بالوظائف العبودية لا خصوص القيام حال الصلاة ، فكل من سعى في قضاء حوائج المؤمنين أو في تعظيم شعائر الله تعالى ، أو في معاش العيال ونحو ذلك مما هو كثير داخل في الآية الشريفة لقوله (عليه‌السلام) : «الكاد لعياله مجاهد في سبيل الله» وقوله (عليه‌السلام) : «الكاسب حبيب الله» وقوله (عليه‌السلام)

١٨٧

«جهاد المرأة حسن التبعل» وقوله (عليه‌السلام) : «من سعى في قضاء حاجة كان له اجر الشهيد» ، كما يمكن ان يراد بالقعود : القعود عن كل ما لا يرتضيه الله تعالى وعدم الحركة فيه أصلا وان يراد بالجنوب الحالات الحاصلة للعبد عند التوجه الى القهار العظيم :

ومن ترتيب التفكر على ما ذكر في هذه الآية الشريفة يستفادان التفكر الصحيح المنتج انما يكون بعد العمل الصالح ويدل عليه قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) البقرة ـ ٢٨٢ ولكن الإنسان غفل عن ذلك كله فجعل نفسه مقيدة بأمور اصطنعها فما أقبح ذلك منه.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) ان الرب الذي خلق الخلق بهذا النظم العجيب ودبر أمورهم هو حق ولا يصدر منه الا الحق وهو منزه عن الباطل وانى للعقول ان يحيطوا بآثار حكمته ، وان الخلق مهما تفكروا في مخلوقاته فلن يعرفوا حقيقتها وليس لهم الا الإذعان بانه لم يخلقها باطلا لأنه منزه عنه وهو الحق ولا يصدر منه الا الحق ، فان لم يدرك العقل آثار الحكمة والعظمة لا يمكنه انكار هذا الأمر وهو انه لم يخلقه باطلا ويستفاد منه ادب الدعاء والمناجاة مع الله تعالى وفيه تعليم المؤمنين كيفية المخاطبة مع الله تعالى فلا بد من الثناء والتنزيه والدعاء والابتهال.

الثامن : يستفاد من سياق قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) العلية والمعلولية اي : ان دخول النار لا يكون الا لأجل ظلم الإنسان على نفسه ولا ناصر للظالم على النفس فيترتب الخزي لا محالة : أما ان دخول النار لا يكون إلا لأجل الظلم فهو معلوم لأنه مترتب على المعصية والطغيان ، واما انه لا ناصر للظالم على النفس فلانة منحصر في الله تعالى لأنه إما الشفاعة أو التوبة والمفروض عدم

١٨٨

تحققهما فلا محالة يترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) ان ايمانهم مبني على أمرين أحدهما الدليل العقلي الذي اعتمد على التفكر في خلق الله تعالى والادلة القطعية والثاني الدليل السمعي عند ما سمعوا المنادي يناديهم الى الايمان بالله تعالى وهم بعد تأملهم في هذا الدليل السمعي وقعت منهم الاجابة بلا فاصلة وفتور.

ويمكن ان يكون المراد بالسمع هنا الاجابة الحقيقية كما في قول «سمع الله لمن حمده» فالمنادى داع الى الله تعالى وشاهد على تحقق الدعوة الحقة وبعد فناء العالم ينتفي موضوع الدعوة وتبقى موضوع الشهادة.

وهذه الآية الشريفة على اختصارها تبين المبدأ والمعاد واستدل على الاول بالمعلول على وجود العلة وتسمى هذه الطريقة في الاصطلاح بالبرهان الاني واستدل على الثاني مع قطع النظر عن الملازمة بينهما بالإقرار والاعتراف الذي هو من أقوى الادلة في القوانين الجزائية.

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) ان مقام الأبرار من أعلى المقامات الذي لا مقام أعلى وارفع عند الله تعالى منه قال جل شأنه : «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ... يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» المطففين ـ ١٨ وقال تعالى : «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ... يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» المطففين ـ ٢٢ ويكفي في عظمة شأنهم ان هؤلاء الداعين مع علو شأنهم يطلبون من الله تعالى ان يتوفاهم مع الأبرار ويجعلهم معهم. فتكون حالاتهم من سنخ حالات الأبرار ، وان تكون عوالمهم كعوالمهم.

والحاصل : ان هذه الآية الكريمة تبين ان اولي الألباب هم الذين يكونون مع الأبرار في جميع النشآت وفي مرضاة الله تعالى والأبرار

١٨٩

هم شهداء الخلق وقادة أهل الجنة.

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) ان الجامع بين الجميع ـ الذكور والإناث ـ كونهم من اولي الألباب وهو بمنزلة المادة الواحدة التي تجمع الجميع والخصوصيات الفردية بمنزلة الصور المتعددة ، فتكون (من) نشوية حينئذ اي : ان منشأهم واحد وهو كونهم أولي الألباب وهذه الخصوصية هي التي أوجبت اشتراك النساء مع الرجال في هذا الأمر المهم ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة ـ ٧١ وإذا انتفت هذه الخصوصية كان الآمر على خلاف ما اراده الله عزوجل وكذا الأمر في ضد المؤمنين وهم المنافقون كما في قوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) التوبة ـ ٦٧.

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) ان اولي الألباب لم يبلغوا تلك المقامات العالية ولم يتصفوا بتلك الصفات الكريمة الا لأنهم تحملوا الأذى في سبيل الله تعالى وهجروا المعاصي والملذات والأهل والعيال والديار ليقيموا دين الحق ، وجعلوا أنفسهم وفقا لمرضاة الله عزوجل فعند ما طلب منهم الشهادة لم يتوانوا في ذلك فقدموها اليه عزوجل وأذعنوا ان سعادتهم انما هي بإقامة دين الحق.

الثالث عشر : انما لم يذكر سبحانه وتعالى اسماء هذه الطائفة في

١٩٠

الآيات واقتصر جل شأنه على ذكر حالاتهم وصفاتهم وابتهالاتهم لأجل انهم القدوة والأسوة بعملهم وسيرتهم وانهم ينيرون لنا الطريق وان حالاتهم وابتهالهم هي طريق السير والسلوك الى الله تعالى :

بحث روائي

الآيات الشريفة من جلائل الآيات القرآنية وقد تضمنت مضامين عالية في التوحيد والعرفان واعتبرها علماء السير والسلوك من أهم الآيات التي وردت في هذا الطريق ونحن نذكر ما وردت في فضلها من الروايات ثم ما وردت في تفسير المفردات منها.

فضل الآيات :

في المجمع عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انه لما نزلت هذه الآيات قال : (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل ما فيها».

وفي تفسير البرهان عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «ويل لمن قرأ الآية ثم مسح بها شبكته» اي تجاوز عنها من غير فكر فيه وذم المعرضين عنها.

وفي التهذيب عن معاوية بن وهب قال : «سمعت أبا عبد الله (ع) يقول في صلاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كان يؤتى بطهور

١٩١

فيخمر عند رأسه ، ويوضع سواكه تحت فراشه ثم ينام ما شاء الله فإذا استيقظ جلس ثم قلب بصره في السماء ثم تلا الآيات من آل عمران : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ثم يستن ويتطهر ، ثم يقوم الى المسجد فيركع اربع ركعات على قدر قراءة ركوعه وسجوده على قدر ركوعه ، ويركع حتى يقال متى يرفع رأسه ويسجد حتى يقال متى يرفع رأسه ثم يعود الى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ فيجلس فيتلوا الآيات من آل عمران ويقلب بصره في السماء ثم يستن ويتطهر ويقوم الى المسجد ويصلي الأربع ركعات كما ركع قبل ذلك ثم يعود الى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ ويجلس ويتلو الآيات من آل عمران ويقلب بصره في السماء ثم يستن ويتطهر ويقوم الى المسجد فيوتر ويصلي الركعتين ثم يخرج الى الصلاة».

أقول يستفاد من الرواية فضل الآيات المباركة واهميتها لأنه (ص) كان يكرر قراءتها ويواظب عليها.

وفي الدر المنثور اخرج ابن حيان في صحيحه وابن عساكر وغيرهما عن عطاء قال : «قلت لعائشة اخبرني بأعجب ما رأيت من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قالت : وأي شأنه لم يكن عجبا؟!! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال : ذريني أتعبد لربي ، فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ، ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقال يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ا فلا أكون عبدا شكورا ولم لا افعل؟ وقد انزل الله تعالى عليّ في

١٩٢

هذه الليلة : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ثم قال : (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».

وفي الدر المنثور أيضا عن علي (عليه‌السلام) : «انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا قام تسوك ثم ينظر الى السماء ثم يقول «ان في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب».

واخرج الشيخان ، وأبو داود ، والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : «بت عند خالتي ميمونة فنام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حتى انتصف الليل أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ثم استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم».

أقول : الروايات متفقة المضمون على جلالة هذه الآيات والاهتمام بشأنها وكثرة التدبر في مضامينها والحث في الإتيان بها في أهم الأوقات وهو السحر الذي يكون الدعاء فيه اقرب الى الاستجابة والقبول.

تفسير مفردات الآيات :

في الكافي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «أفضل العبادة إدمان التفكير في الله تعالى وفي قدرته».

أقول : المراد بالتفكر في الله تعالى التفكر في خلقه وصفاته لا

١٩٣

التفكر في الذات فانه منهي عنه ولا يوجب الا التحير قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه ـ ١١٠ وعن علي (عليه‌السلام) : «تاهت العقول في كنه معرفته» واما التفكر في الصفات والأفعال فقد ورد في الأمثال الكثيرة والسنة الشريفة الحث عليه قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الحشر ـ ٢١.

وفي الكافي ايضا عن معمر بن خلاد قال : «سمعت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) يقول ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم إنما العبادة التفكر في امر الله عزوجل».

أقول : الحديث شاهد على ما ذكرناه أيضا.

وفيه أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) قال امير المؤمنين (ع) : «التفكر يدعو الى البر والعمل به».

أقول : لان الفكر الصحيح المنتج يوجب تهييج النفس وتحرك القوى الارادية الى العمل.

وفي الدر المنثور اخرج ابو الشيخ في العظمة عن ابي هريرة قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة».

أقول في بعض الروايات عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «تفكر ساعة خير من قيام ليلة» وفي رواية اخرى من عبادة سنة وهي المروية من طرق الامامية ويمكن حمل الاختلاف على مراتب اختلاف الفكر وقربه وبعده نحو اصابة الواقع.

وفي الدر المنثور ايضا عن ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله».

أقول : قد تقدم في التفسير ما يبين ذلك لان التفكر في الله تعالى

١٩٤

لا يزيد إلا تحيرا فانه لا يمكن ان يحيط احد به علما.

وفي الكافي عن الحسن الصيقل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في حديث قال : «سألته كيف يتفكر؟ قال (عليه‌السلام) يمر بالخربة ، أو بالدار فيقول اين ساكنوك؟ اين ساكنوك؟ مالك لا تتكلمين».

أقول : هذا بيان لبعض مصاديق الفكر الممكنة لعامة الناس والا فللتفكر مراتب كثيرة حسب درجات المتفكرين من العرفاء.

وفي تفسير العياشي عن ابي حمزة الثمالي عن ابى جعفر (عليه‌السلام) قال : «لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله إن كان قائما أو جالسا أو مضطجعا لان الله تعالى يقول (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ).

أقول هذا محمول على مراتب قدرة الذاكر لله تعالى على ما يأتي في البحث الفقهي.

وفي تفسير العياشي عن ابي جعفر (عليه‌السلام) قال : «الموت خير للمؤمن ان الله تعالى يقول : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ).

أقول : في جملة من الاخبار انه خير للمؤمن والكافر أما المؤمن فلاستراحته عن همّ الدنيا وغمها ووروده الى رحمة الله تعالى. واما الكافر فلاستراحة الناس منه فتكون الخيرية باعتبار عدم زيادة عقوباته في الآخرة.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) قالت أم سلمة : «يا رسول الله لا اسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فانزل الله تعالى الآية».

وفي الأمالي في قوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا

١٩٥

فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) نزلت الآية في علي (عليه‌السلام) لما هاجر ومعه الفواطم : فاطمة بنت اسد. وفاطمة بنت محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفاطمة بنت الزبير ، ثم لحق بهم في ضجنان أم ايمن ، ونفر من ضعفاء المؤمنين فساروا وهم يذكرون الله في جميع أحوالهم حتى لحقوا بالنبي وقد نزلت الآيات».

أقول : ورد من طرق الجمهور انها نزلت في المهاجرين وكيف كان فالآية المباركة عامة الى يوم القيامة وما ورد في شأن النزول بيان لبعض المصاديق.

بحث قرآني

مما أكد عليه القرآن الكريم واهتم به اهتماما بليغا الدعاء والتضرع الى الله تعالى والاستمداد منه في قضاء الحوائج ، وقد ذكرنا في أحد مباحثنا ما يتعلق بهذا الموضوع المهم الذي يمس الإنسان من جميع جهاته الدنيوية والاخروية بل دخيل في سعادته الابدية وبيّنا الجوانب المتعددة فيه وفي المقام نذكر ما يستفاد من الآيات الشريفة المتقدمة في هذا الأمر فإنها اشتملت على امور مهمة تكشف عن بعض الجهات المقومة للدعاء وتبين ادب الدعاء.

ويستفاد من تلك الآيات المباركة ان الدعاء داخل في صميم حياة أولي الألباب ولا يهملونه في حالة من الحالات ، ويعتبرونه من أهم الأسباب في نيل المطلوب ونجح المقصود ، والآيات الشريفة قد اشتملت على دقايق ورموز تكون دخيلة في استجابة الدعاء التي قلما توجد في

١٩٦

آيات أخرى ، ونحن نذكر جملة منها في المقام. والأمر المهم هو ان الدعاء هنا صدر عن قلوب مؤمنة صادقة في إيمانها تفكرت وتدبرت وتذكرت واهتدت الى الحق فتوجهت الى الله تعالى بمشاعر ايمانية خالصة ، وتوسلت اليه عزوجل وجعلت إيمانها وسيلة لقبول دعائهم وهذا الدعاء الحار الذي صدر منهم يدل على كمال العرفان الالهي فيهم ونراهم انهم يكررون لفظ «ربنا» خمس مرات في دعواتهم على سبيل الاستعطاف وطلب رحمته وقد ذكروا هذا الاسم لما فيه من الأثر العظيم في استجابة الدعاء.

وقد تكرر هذا الاسم المبارك كثيرا في دعوات الأنبياء والمرسلين وذلك لأن في هذا الاسم الدلالة النفسية على حرارة التوجه وصدق الرغبة في التكرار لدلالته على الإلحاح في المسألة وكثرة الطلب من الله سبحانه وتعالى ، فهم لا يزالون يلحون في الدعاء ويقولون «ربنا» حتى استجاب لهم ربهم وعطف عليهم ورحمهم ثم إنهم دخلوا في هذا الميدان بعد تطهير أنفسهم من الذنوب والآثام والاشتغال بذكر الله تعالى وملأوا مشاعرهم من عظمته وقد كرروا لفظ الايمان ومشتقاته لتوكيد ايمانهم وتقديمه امام طلبهم لما فيه الأثر في الاستجابة.

وقد اشتمل دعاؤهم على كمال الخضوع والخشوع وشدة التوجه اليه عزوجل. فقدموا الثناء على الطلب والدعاء ثم طلبوا الوقاية من النار فإنها أهم مطلب لأولي الألباب لما علموا من تقصيرهم وما يصدر عنهم مما يوجب سلب التوفيق والخزي فالتمسوا منه عزوجل العناية والتوفيق والسلامة من كل خزي وطلبوا منه النصرة ثم أكدوا على طلب غفران الذنوب وتكفير السيئات بعد ما قدموا ما يؤهلهم للاستجابة وهو الايمان ثم لم يقتصر دعاؤهم على خصوص الدنيا بل

١٩٧

طلبوا منه عزوجل ان يجعلهم مع الأبرار الذين لهم المقام المعلوم والمنزلة العظيمة.

وأخيرا طلبوا منه عزوجل أن يوفيهم ما وعده لهم وهو لا يخلف الميعاد.

وقد اشتمل دعاؤهم على الأدب المعهود بين الله تعالى وعباده المخلصين وما تضمنه دعاؤهم على الثناء والتنزيه والإلحاح في الطلب وموجبات الاستجابة فاستجاب لهم ربهم لان فيهم ما يوجب ذلك وهو العمل الصالح الذي هو العمدة في ذلك هذا فيض من غيض ما تشتمل عليه الآيات المتقدمة من الرموز والدقائق وأدب الدعاء ولا بد لكل داع ان يجعل ما في هذه الآيات نصب عينيه ويجعلها منهاجا لكل دعواته لتحصل له الاستجابة.

بحث فقهي

من المسلمات في الفقه ان التكاليف تتنزل على مراتب القدرة والاستطاعة فليس تكليف العاجز والمضطر في الصلاة ـ مثلا ـ تكليف القادر المختار ، واستدلوا على ذلك بحكم العقل المقرر بالكتاب والسنة قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) البقرة ـ ٢٨٦ وقال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج ـ ٧٨ الى غير ذلك من الآيات الشريفة وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «إذا امرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» وقد تقدم في احد مباحثنا السابقة تفصيل الكلام فيه.

١٩٨

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) حسب ما ورد في تفسيرها من السنة الشريفة من ادلة توسعة التكليف تبين مراتب التكليف تبعا لأحوال المصلين فالصحيح يصلي قائما والمريض يصلي جالسا ، ومن لا يقدر على الجلوس يصلي على جنبه ، ففي الكافي عن ابي حمزة الثمالي عن ابي جعفر (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) قال (عليه‌السلام) : «الصحيح يصلي قائما وقعودا والمريض يصلي جالسا ؛ وعلى جنوبهم الذين يكون الأضعف من المريض الذي يصلي جالسا».

أقول : المراد من قوله (عليه‌السلام) «قياما وقعودا» بالنسبة الى صلاة النافلة فان المكلف مخير في إتيانها قائما أو قعودا واما الصلاة الواجبة فانه يتعين فيها القيام ان كان صحيحا.

وفي تفسير العياشي عن ابي جعفر (عليه‌السلام) : «في قول الله عزوجل : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) الأصحاء «وقعودا» يعنى المرضى «وعلى جنوبهم» قال (عليه‌السلام) : اعلّ ممن يصلي جالسا وأوجع».

أقول : الروايات في ذلك كثيرة قد فصلنا القول في كتابنا (مهذب الاحكام) فراجع.

بحوث عرفانية

الآيات الشريفة المتقدمة تشتمل على مضامين عالية في السير والسلوك

١٩٩

ويعتبرها اهل الذوق والعرفان دستورا ومنهاجا لهم في عروجهم العرفاني ونحن نشير الى بعض ما تقتضيه الحال :

الأول تتضمن الآيات الشريفة على مخاطبة المربوب مع الرب ومثل هذه المخاطبة تستلزم الحضور اي حضور المخاطب لدى المتكلم وهو من طرف مخاطبة الله تعالى مع عباده وخلقه صحيح لا ريب فيه لأنه حضور احاطي فعلي من كل جهة وأما من طرف المربوب مع الرب فهو حضور وجداني وهو من أعظم مراتب تجليات الرب العظيم على القلوب والضمائر ويبين مثل هذا الحضور الوجداني قول ابي عبد الله الحسين (عليه‌السلام) في بعض حالاته الانقطاعية مع ربه «سيدي ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك» ويشير الى ذلك قول علي (ع) في الدعاء المعروف «الهي صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك» وهذه هي الرابطة الاختيارية للعباد مع معبودهم الحقيقي.

ولعل من أعظم أسمائه الحسنى تأثيرا على القلوب وأشدها حضورا عند المخاطب اسم (الرب) ولذا نرى ان الأنبياء العظام يتوسلون بهذا الاسم المبارك في دعواتهم الشريفة وحالاتهم الانقطاعية ، وهو يدل على كمال الخضوع والخشوع لربهم ويستميلون عطفه وعنايته عزوجل الذي خلقهم ورباهم ومنّ عليهم بجميع النعم الظاهرية والمعنوية.

الثاني : يستفاد من الآيات المباركة ان اولي الألباب هم الذين وهبوا وجودهم وجميع حيثياتهم الى خالقهم فقد نصبوا أنفسهم على الجهاد والمثابرة والصبر على البلايا والأذى في سبيل الله تعالى فصاروا بذلك مظاهر حقيقة لقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) سورة البقرة ـ ١٥٦ والالتفات الى هذه الحالة وترتيب الأثر عليها من أهم الطرق التي سلكها الأنبياء (عليهم‌السلام) والأولياء في السفر الى الله تعالى والسير

٢٠٠