مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) قال (ع) : «لم يذق الموت من قتل ، وقال : لا بد من ان يرجع حتى يذوق الموت».

أقول : يستفاد من ذلك أمران : الاول : ان ذات الموت شيء والقتل شيء آخر وان كان القتل سببا له وقد تقدم في الآية الشريفة (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) آل عمران ـ ١٥٨ ما يرتبط بالمقام.

الثاني : الرجعة كما يأتي الكلام فيها مفصلا ان شاء الله تعالى.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) اخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال : «لما توفى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وجاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم يا اهل البيت ورحمة الله وبركاته (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ودركا من كل ما فات ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فان المصاب من حرم الثواب ، فقال علي (عليه‌السلام) : هذا الخضر».

أقول : لا عجب في حضور الخضر للتسلية بعد حضور سادات الملائكة لأجل ذلك.

وفي الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) : «خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم ، ومن خالص الايمان البر بالإخوان والسعي في حوائجهم وان البار بالإخوان ليحبه الرحمن وفي ذلك مرغمة الشيطان وتزحزح عن النيران ودخول الجنان».

أقول : الحديث يبين بعض مصاديق الزحزحة عن النار والدخول في الجنة.

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال :

١٦١

«قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ثم تلا هذه الآية : فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز».

أقول : يبين (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعض مراتب الفوز وإلا فهي غير متناه.

وفي العلل عن الرضا (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) قال (عليه‌السلام) : «في أموالكم بإخراج الزكاة وفي انفسكم بالتوطين على الصبر».

أقول : ما ورد في الحديث من باب ذكر احد المصاديق.

وفي تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قال (عليه‌السلام) : «في محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «لتبيّننه للناس» إذا خرج ولا تكتمونه «فنبذوه وراء ظهورهم» يقول نبذوا عهد الله وراء ظهورهم».

أقول : لا فرق في رجوع الضمير إلى العهد أو الكتاب لتلازم كل منهما مع الآخر.

وفي تفسير القمي أيضا في قوله تعالى : (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «ببعيد من العذاب».

أقول : لا بأس به لان معنى المفازة النجاة من العذاب وهو يحصل بالبعد عنه.

١٦٢

بحث فلسفي

الحياة والموت أمران وجدانيان لكل ذي حياة ولكن الكلام في حقيقة الحياة التي لم تكتشف بعد وان بذل العلماء غاية الجهد في دركها ومعرفة حقيقتها وخصوصياتها مع ان آثارها مشاهدة بالحس ودرك أصلها وجداني لكل ذي حياة.

كذلك حقيقة الموت فانه وان كان معلوما لكل ذي حياة سواء كان الموت نباتيا أو حيوانيا أو انسانيا. نعم الذي تدل عليه الكتب السماوية واقوال المحققين من الفلاسفة ان موت الإنسان ليس انعداما لروحه ، بل هو نقل الروح من عالم إلى عالم آخر يرى فيه نتائج اعماله وآثار أفعاله وأقواله هذا بالنسبة إلى موت الإنسان.

واما بالنسبة إلى موت الحيوان والنبات فهل هو من انتقال الروح إلى عالم آخر من سنخه أو انعدامها كما ينعدم نور السراج باطفائه ، أو من قبيل تبدل صورة إلى صورة اخرى مناسبة جوهرا كانت أو عرضا أو غير ذلك. كل ذلك محتمل ولم يرد في الفلسفة القديمة ولا الحديثة شيء يروي الغليل ويشفي العليل ، ويمكن اختيار الاحتمال الأخير والقول بالتبدل لما عليه من الشواهد النقلية والتجربية بل العقلية أيضا ويأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام ان شاء الله تعالى.

١٦٣

بحث عرفاني

يمكن ان يكون المراد من عن النار في قوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) نار الشهوات المادية الجسمانية التي هي اصل النار الكبرى ومادتها. ويراد بالجنة جنة التفاني في مرضات الله تعالى التي هي أعلى من جنة عدن بمرات كثيرة قال تعالى (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة ـ ٧٢ فانه لا فوز أعظم من ذلك وان جميع الممكنات دونه نزر يسير. فتكون الآية الشريفة في مقام بيان حقيقة اولياء الله تعالى الذين أماتوا أنفسهم بالاختيار ، واستخرجوا النفس الامارة من جحيم الشهوات ففازوا بلقاء الله تعالى وشربوا من عيون الحياة المعنوية واستشرقوا بشوارق الأنوار الازلية ، وجعلوا متاع الغرور تحت اقدامهم فابتهجوا بابتهاجات غير متناهية في المدة والعدة كما ابتهج العرش الأعلى بوجودهم.

والآيات الشريفة المتقدمة من آيات السير والسلوك إلى الله تعالى فإنها ترشد الإنسان إلى الكمال وتبين ان الوصول اليه صعب المنال فلا بد من الصبر والتقوى وخلع النفس الامارة بالسوء التي لها منابت في النار.

كما انها ترشد المؤمنين إلى التحلي بمكارم الأخلاق وتذكرهم فيها ببعض مساوي الأخلاق التي تبعدهم عن الواقع وتوقعهم في المهالك والردى.

١٦٤

بحث اخلاقي

من أحسّ الرذائل النفسانية حب الثناء والمحمدة بل يعتبره علماء الأخلاق أم الفساد واصل المهلكات وقد ورد في ذمه شيء كثير من الأحاديث ففي الحديث «احثوا في وجوه المداحين التراب» لان مدح الناس يوجب الغرور وصرف النفس عن نيل الكمال ، ولذا ورد انه يستحب ان يقول الممدوح عند سماع المدح : «اللهم اجعلني فوق ما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون» هذا إذا كان منشأ المدح موجودا في الإنسان والا فالخطب أعظم والرزء أكبر.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)

١٦٥

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

الآيات الشريفة من جلائل الآيات واعاظمها التي تدعو الناس إلى التفكر والتدبر والتذكر ، وترشد المؤمنين إلى أهم طريق من طرق السير والسلوك وتعلمهم التربية الحقيقية وهي تطبيق المشاعر الايمانية في سلوك عملي وإبرازها في عمل واقعي.

وسياق الآيات المباركة يدل على انها نزلت من العرش العظيم على قلب الرسول الكريم ، وهي تحكي الارتباط التام بين العابد والمعبود وعنايته بالعابد ، فإذا اعترف في مقام عبوديته بالقصور والتقصير والتسليم للمعبود تجلّى له بكل ما يطلبه ويبغيه.

والعناية الظاهرة في قوله جلت عظمته (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) مما لا يمكن ان يظهر بلسان وان جذبات المحبوب لحبيبه في هذه الآيات متوالية ، ولو لم يكن لمقام العبودية إلا هذا المقام لكفاه فخرا وعزا.

وقد مدح عزوجل أولي الألباب الذين يذكرون الله تعالى ويتفكرون في خلقه ويسلّمون أمرهم اليه سبحانه وتعالى ويقرون له بالطاعة والعبودية فهم عباد ربانيون لا يفترون عن ذكر الله تعالى في جميع حالاتهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم يرجون رحمته وما وعدهم الله تعالى على لسان رسله.

١٦٦

وذكر جل شأنه انه لا يضيع عملهم فهو محفوظ لديه وسيكفّر الله تعالى عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنات العظيمة وذلك جزاء ما لاقوه في سبيله عزوجل من الأذى وذلك الجزاء العظيم ينتظرهم يوم الحساب.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

دعوة إلى التفكر في خلق الله تعالى بعد بيان ان جميع خلقه ملك له عزوجل وهو على كل شي قدير ، فان انضمام هذه الآية الشريفة الى الآيات السابقة يثبت الوحدانية الكبرى والربوبية العظمى ولذا ترك العطف بينهما ، فان في خلق السموات والأرض الآيات الدالة على قدرته عزوجل واعتنائه تعالى بخلقهما على ما فيهما من العجائب والبدائع التي ترشد اصناف العباد إلى المبدأ والمعاد وتجذبهم إلى الحي القيوم.

والآية الشريفة باسلوبها الجذاب ومضمونها الخلاب تدعو الناس إلى النظر والتفكر في الآيات الكونية وتفتح لهم أبواب الفلسفة العلمية والعملية ، فان آثار رحمته عزوجل فيها واضحة ، ودلالات إحاطته تعالى وقيموميته العظمى الكاملة مشهودة.

والمراد بخلق السموات والأرض الآيات الكونية المحسوسة التي ظهرت في جميع موجودات السموات والأرض من الجواهر والاعراض والعرضيات والروحانيين والاملاك والكواكب والأفلاك ، وما في الأرض من الآيات الكثيرة في الإنسان والحيوان والنبات وما في البر والبحر والجو ، فان فيها الآيات التي تبهر منها العقول وقد بذل الإنسان غاية الجهد

١٦٧

في معرفتها ولم يبلغ معشار ما فيها ، وفي كل يوم يبرز علما جديدا ومعرفة مستجدة وما جهله اكثر مما علمه بمراتب.

وانما اتى عزوجل لفظ الأرض مفردا لان الأرض التي يعيش عليها الإنسان ويستفيد منها انما هي واحدة كما دلت عليه الادلة العقلية واما النقلية فسيأتي البحث فيها.

قوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ).

آية من الآيات الكونية التي يحسها كل أحد ومعنى اختلافهما تعاقبهما ومجيء كل واحد منهما عقيب الآخر على حد قوله تعالى : «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فاطر ـ ١٣ واختلاف الليل والنهار يأتي وفق نظام دقيق له آثار كبيرة وخواص عجيبة محسوسة ظاهرة في النباتات والحيوانات وفي الإنسان. والأعجب من الجميع ان هذا النظام المتسق الموزون في العالم الكياني وترتيب الفصول يبتني على ذلك الاختلاف ، فان ذلك يدل على عظمة الصنع الدالة على عظمة الصانع وعلمه وحكمته التامة.

وهذه الآيات الكونية ذات وقع على الحس الانساني لا يمكن لأحد التنصل منها وانما يستفيد كل فرد من افراد الإنسان بمقدار فهمه وجودة فكره.

قوله تعالى : (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

الآيات العلامات والدلالات التي تدل على عظمة الخالق ووحدته عزوجل وكمال علمه وقدرته وحكمته التامة المتعالية.

والآيات جمع قلة لكنه يقوم مقام جمع الكثرة ولعل مجيئه لأجل ان الآيات المحسوسة قليلة في جنب ما خفي منها.

١٦٨

والألباب جمع اللب وهو خالص كل شيء يقال لب يلبّ مثل عضّ يعض وهذه لغة اهل الحجاز واهل نجد يقولون لبّ يلب على وزن فرّ يفر وفي الحديث : «ان الله منع بني مدلج لصلتهم الرحم وطعنهم في الباب الإبل» اي خالص ابلهم وكرائمها. ولب العقل ما خلص عن شوائب الأوهام مطلقا.

وقد ورد لفظ اولي الألباب في القرآن الكريم في ما يقرب من ستة عشر موضعا كلها مقرونة بالمدح والثناء والتعظيم ، فقد عرفهم عزوجل بأنهم اصل الهداية والايمان بالله تعالى ، والتقوى والطاعة ، والخضوع ، والانابة اليه عزوجل ، وهم الذين يتبعون احسن القول وهم اهل الذكر والتذكير والتفكر.

وقد وصفهم تعالى في الآيات التالية بالصفة التي تميزهم ولا يبقى مجال إلى تفسير آخر فهم الذين يذكرون الله تعالى في جميع الحالات لا يفترون عن ذكره وهم عباد ربانيون مرتبطون مع عالم الغيب بكل معنى الارتباط علما وعملا وقولا وفكرا وقلوبهم متعلقة به يرجون رحمته ويخافون عذابه.

وانما خص اولى الألباب لأنهم لا يقصرون نظرهم على الماديات والمظاهر الخارجية فقط ولا يوصدون قلوبهم عن الغوص في أعماق الموجودات بل يتفكرون ويتدبرون ويستفيدون منها ، فهم يلتفتون بقلوبهم وعقولهم إلى ما في ذلك من الوجوه والحكم الدالة على الوحدانية والحكمة والعلم والقدرة.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ).

وصف بليغ لأولى الألباب ، وشرح لأحوالهم شرحا وافيا فقد

١٦٩

وصفهم تعالى بأوصاف متعددة وهي :

الاول : انهم اهل الذكر في جميع الحالات لا يفترون عن ذكر الله تعالى ولا يغفلون عنه في حال. والمراد من (عَلى جُنُوبِهِمْ) اي مضطجعين ونظيره قوله تعالى : (دَعانا لِجَنْبِهِ) يونس ـ ١٢ أي دعانا مضطجعا على جنبه.

وهذا الذكر أعم من الذكر اللفظي والذكر العملي وهو الصلاة ، وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على التعميم ، فهم يذكرون الله جلت عظمته مع حضور القلب ، فان الذكر ما كان عن خضوع وخشوع وإنابة والا لا يسمى ذكرا.

وانما خص تعالى هذه الحالات الثلاثة القيام ، والقعود ، وعلى جنوبهم لان الإنسان لا يخلو عن احداها ، فيكون المراد ان معظم حركاتهم وسكناتهم في ذكر الله تعالى وبذكر الله عزوجل وهذا يسير على اولي الألباب لأنهم لا يرون للدنيا قيمة أصلا حتى يجعلوا شيئا للدنيا ، فهم في حال كونهم في الدنيا جعلوا الآخرة نصب أعينهم ، وهذه هي الفلسفة العملية التي اتعب الفلاسفة وعلماء الأخلاق والسير والسلوك أنفسهم فيها وجعلوا لها قواعد واصولا وافردوا لها كتبا مستقلة والله تبارك وتعالى جمعها في جملة واحدة.

قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وصف ثان لأولي الألباب. اي : انهم ينظرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار فيذكرون الله تعالى بل يذكرونه في جميع أحوالهم لا يفترون عن ذكره وقد ملأ الايمان قلوبهم وتفكروا في خلق السموات والأرض مهتدين إلى وحدانيته وحكمته التامة وقدرته

١٧٠

الكاملة وعلمه الأتم فاهتدوا إلى ان الله تعالى لم يخلقها باطلا وعبثا.

والآية المباركة تدل على ان الفكر إذا لم يستند على اللب فلم يهتد بنور الايمان وكان عرضة للضلال ، فكم ضلت عقول الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ويغوصون في عجائبها واسرارها ولكنهم كانوا غافلين عن الخالق العليم المدبر القادر قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ص ـ ٢٧ ولكن أولوا الألباب تفكروا في خلقها واهتدوا إلى ان الله تعالى لم يخلقها باطلا وانها من صنع الإله القادر الحكيم فاكملوا نورانية فكرهم بذلك واعترفوا بأن الخلق بالحق وفي الحق.

والفكر من أهم خصائص الإنسان وبه ينتظم شؤونه ويقوم نظام الدنيا والآخرة ، وقد حثت الكتب الإلهية الناس الى التفكر والتدبر ، ووردت مادة (فكر) في القرآن الكريم في اكثر من ستة عشر موضعا جميعها تدل على عظمة هذه النعمة الربانية والموهبة الإلهية ، وهي من الحقائق المعدودة التي يجهلها الإنسان لحد الآن وان عرف مفهومها فهو من الأمور التي :

مفهومها من اعرف الأشياء وكنهها في غاية الخفاء.

والمعروف بين الفلاسفة انه توجه النفس بمبادئ معلومة ليستنتج منها نتائج مطلوبة تترتب عليها قهرا ، وهل هذا الترتب من قبيل الأسباب التوليدية أو انه من مجرد الاقتضاء كما في جميع المقتضيات ، أو انه عملية كيمياوية كما يدعيها الماديون ، أو انه من مجرد الاتفاق من دون دخل للأسباب في البين ، أو انه من الإفاضات الغيبية حفظا للنظام وتسهيلا على الأنام قال بكل جمع من الفلاسفة وان كان الحق هو الأخير فتكون النتائج الفكرية كالمصابيح الكهربائية التي لا تضيء إلا

١٧١

مع الاتصال باسلاك تربط بالمحل المولد لتلك القوة ، وفي الفكر لا بد من الاتصال بالمبدأ الفياض.

ولكن لا يمكن لاحد انكار ان بعض الأقسام منها تكويني بديهي الإنتاج وهذا لا ينافي ما ذكرناه ، ففي مثل المقام التفكر في خلق السموات والأرض يورث التذكر والإذعان بأنها حادثة وكل حادث يحتاج إلى مؤثر والمؤثر هو الله تعالى ولان فيها بدائع من النظم العجيب والإبداع الفريد والأسرار والدقائق والرموز والحكمة التي لا يمكن ان تصدر إلا عن عليم حكيم ، فلا بد ان يكون الخالق عليما حكيما متصفا بصفات الجمال والجلال ، وهذا النحو من الاستدلال يسمى عندهم بالبرهان الإني اي العلم من المعلول بالعلة ويقابله البرهان اللمي اي العلم من العلة بالمعلول والقرآن الكريم مشحون بالقسمين ويأتي في قوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابراهيم ـ ١٠ بعض الكلام ان شاء الله تعالى.

وفي كلمات المعصومين الشيء الكثير من ذلك قال علي بن الحسين (عليهما‌السلام) : «بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ولو لا أنت لم أدر ما أنت» وقال (عليه‌السلام) ايضا : «وان الراحل إليك قريب المسافة وانك لا تحتجب عن خلقك إلا ان تحجبهم الأعمال دونك» وسئل عن بعض الأولياء فقيل له : ما قدر المسافة بين العبد ومعرفة الله تعالى؟ قال : «قدمان. قدم يضعها على الممكنات وقدم يضعها في مقام العرفان» وسئل آخر عنها؟ فقال : قدم واحدة يضعها على نية نفسه يتجلّى له ربه فان من عرف نفسه فقد عرف ربه» والبحث في ذلك طويل عقلا ونقلا وعرفانا وشهودا.

ويستفاد من الآية المباركة الترغيب إلى التفكر والتدبر وفي الحديث

١٧٢

عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة» كما ان المستفاد من الادلة الدالة على حسن التفكر والحث عليه ان التفكر الحسن المرغوب اليه لا بد ان لا يكون منهيا عنه شرعا ففي الحديث : «تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في الله تعالى» وفي حديث آخر «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق» فان التفكر في المبدأ تعالى لا بد ان يكون من جهة خلقه وصفاته الفعلية واما التفكر في ذاته المقدسة وصفاته التي هي عين ذاته فلا يفيد إلا تحيرا بل ربما ضلالا وقد ورد في تفسير قوله تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) النجم ـ ٤١ انه «إذا انتهى الكلام الى الله تعالى فأمسكوا» واما النظر والتفكر في ما هو منهي عنه شرعا فلا يكون منتجا بل ان تسميته بالفكر مجاز لأنه في الحقيقة وهم باطل أو النكراء أو الشيطنة أو من ايحاء الشيطان قال تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) الانعام ـ ١٢١ فلا بد للمتفكر ان يتأمل في مقدمات فكره بان لا تبتني على الأوهام والخيالات ، والا فيحرم من الفيض الأقدس الالهي ، ويكون من الذين كان للشيطان عليه سبيلا وكل ما كان الفكر بريئا من الخيال والأوهام وخاليا من الوسوسة كان إلى الواقع اقرب والا فانه يؤدي إلى اختلال القوة الفكرية وانطفاء هذا النور الالهي الذي أودعه الله تعالى في الإنسان ، فلا بد من أن يلتمس سببا صحيحا اليه وهذا من شؤون الأنبياء والمرسلين ومن يقوم مقامهم فإنهم يستنيرون بنور الله تعالى كما في الحديث «اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله».

ثم ان الخلق في قوله تعالى : (فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إما بمعنى المخلوق فتكون الاضافة إما بمعنى (في) اي يتفكرون في ما خلق في السموات والأرض أو تكون الاضافة بيانية اي : يتفكرون في

١٧٣

المخلوق الذي هو في السموات والأرض. أو يكون بالمعنى المصدري اي : يتفكرون في انشائهما وإبداعهما.

وانما لم يذكر سبحانه وتعالى اختلاف الليل والنهار في المقام إما لأجل اندراج اختلاف الليل والنهار في خلق السموات والأرض فانه من شؤونهما أو لبيان ان اولي الألباب بسبب فكرهم الثاقب بمثابة بحيث إذا تفكروا في بعض الآيات تنسبق الى ذهنهم الآيات الاخرى فتترتب عليها النتيجة لا محالة.

قوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً).

اي : انهم يتفكرون في خلق السموات والأرض فيبهرون من عظمة الخلق ويعترفون بالعجز والتقصير أمام الخالق العظيم فينطلق لسانهم بالثناء والدعاء فيقولون : ربنا ما خلقت هذا المخلوق باطلا لأنك العليم الحكيم.

وانما اهتدوا الى هذه الحقيقة الكبرى لأنهم رأوا آثار عظمة الخالق وحكمته فأذعنوا بأن خلقه تعالى بالحق وفي الحق ولا يمكن ان يكون هذا الصنع العجيب باطلا وبلا غاية ، وهي الرجوع الى الله تعالى وترتب الجزاء إما درجات الجنان التي وعد بها رسوله للصلحاء أو دركات النيران التي هي جزاء الظالمين لأنهم لما اعترفوا بأن خلق الدنيا وما فيها لم يكن عبثا وباطلا فلا بد ان يكون الرجوع الى الله تعالى والحشر اليه عزوجل والحساب على ما تحقق في الحياة الدنيا من الأعمال فهناك الثواب والعقاب قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) المؤمنون ـ ١١٥ والا كان من العبث الذي يتنزه الخالق منه والباطل الذي ينفى عن كل عاقل فضلا عن الحكيم المطلق فانطلق لسانهم بالتنزيه وقد ملئت قلوبهم بالدهشة منه وتعاقب عليها

١٧٤

الخوف والرجاء.

قوله تعالى : (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ).

اي : انهم لما بهرتهم عظمة الخالق قالوا «سبحانك» يعنى تنزيها لك من كل ما لا يليق بك وتقديسا لك من الباطل والعبث وهم يستغيثون به من عذاب النار ويتوسلون اليه بالنجاة منه لأنهم علموا بأن الظالمين سيحشرون اليه فيجازيهم على أعمالهم فطلبوا منه التوفيق الى الأعمال التي تقيهم من عذاب النار.

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ).

توسل منهم الى الله تعالى الذي رباهم ان يجيرهم من النار ومبالغة منهم في استدعاء الوقاية عنها اعترافا منهم بقبح ما يوجب دخول النار وان ذلك هو الخزي المبين.

وانما قالوا ذلك مبالغة في التضرع الى الرب الذي عودهم على الإحسان وعرفوه بالانعام والإكرام على خلقه بعد التفكر في مخلوقاته فان آثار الكرم والنعمة عليها ظاهرة.

وأخزيته من الخزي وهو الافتضاح والإذلال يقال : اخزاه الله اي اذله ومقته والاسم الخزي ويستفاد من الآية المباركة ان الدخول في النار هو أشد انواع الخزي مع قطع النظر عن إحراقه بالنار ، لان دخول النار فيه البعد عن لقاء الله تعالى واحبائه والابتلاء بعذاب الفراق وهو أشد وأقوى من العذاب الجسماني.

قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

بيان للسبب الموجب لدخولهم في النار. اي : ان الذين يخزون

١٧٥

يدخلون في النار لأنهم ظلموا أنفسهم والظالم ليس له ناصر ينصره من النار لأنه حرم نفسه من الفيض الالهي وقطعها عن رحمته بالكفر والعصيان ، وان النصر في يوم الجزاء لا بد أن يكون منه تعالى وهو لا يشمل غير المؤمن به عزوجل. وهذا اعتراف منهم بأن الظلم على النفس من أشد أنحاء الظلم واقرار منهم بأن النصر لا بد ان يكون من الله تعالى ، والظالم قد حرم نفسه منه بسبب ظلمه.

والظلم هنا أعم من الكفر والمعاصي التي توجب الدخول في النار.

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ).

بعد ما استجاروا بالله تعالى من النار ، وطلبوا منه الوقاية عن عذابها لما رأوا آثار عظمة الخالق في خلقه فاعترفوا بالتقصير.

وفي هذه الآية الشريفة يطلبون منه العون والتوفيق لما يؤهلهم في الدخول في الجنة بعد إقرارهم بالاستجابة لمنادي الايمان ذلك النداء الغيبي الذي يدعو الى الايمان بالله تعالى ، والمنادي هو الفطرة والعقل ومظهرهما الأنبياء والرسل ومن يقوم مقامهم وسائر آيات الله الداعية اليه عزوجل.

وهذا النداء ليس تشريعيا محضا بل له دخل في نظام التكوين وهو تربية الإنسان تربية حقيقية كاملة التي لم يخلق العالم الا لأجلها ، فأولو الألباب هم الذين يقرون بغاية الخليقة وتربيب الخالق الكريم لها.

قوله تعالى : (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا).

بيان للنداء اي : ان المنادي نادى بالإيمان بالرب فسمعنا وأسرعنا إلى الايمان واطعنا وقولهم «آمنا» إقرار منهم بالإيمان والعبودية للحي القيوم الذي لاحد لعظمته وعنايته.

١٧٦

وإنما أكدوا ايمانهم بإيراد لفظ الايمان ومشتقاته ثلاث مرات ليؤهلهم الى الفيض الربوبي ، ولبيان ان الايمان شغلهم الشاغل وانهم احبوه وقد ملأ مشاعرهم.

وذكرهم للرب حثا منهم له عزوجل بالعطف عليهم لأنهم عبيد مربوبون له عزوجل.

وانما اسرعوا الى الايمان بمجرد ان سمعوا المنادي ينادي للايمان بالله تعالى لأنهم رأوا آثار عظمته في الخلق بعد النظر والتفكر.

قوله تعالى : (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا).

زيادة في التضرع وتوجه منهم الى الله تعالى بالدعاء لطلب المغفرة والتكفير للسيئات لأنهم آمنوا بالله تعالى ورسله الذين يخبرون عن الله عزوجل بما يوجب سعادتهم ويحذرونهم عن ما يوجب سخطه وعقابه وشقائهم فاعترفوا بالقصور والتقصير والرهبة مما يصدر منهم من الذنوب داعين ـ عند من لا يعقل حد لعظمته ورحمته ـ المغفرة للذنوب والتكفير للسيئات.

والغفران للذنوب يحصل بالتوبة والاستغفار عنهما بخلاف التكفير للسيئات فانه ربما يحصل بإتيان الحسنات قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) هود ـ ١١٤ أو باجتناب الكبائر قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) النساء ـ ٣١ فيكون التكفير للسيئات أعم من الاستغفار لها.

والمعنى وفقنا للتوبة عن الذنوب والسيئات إما بالاستغفار أو بفعل ما يوجب التكفير عن السيئات.

١٧٧

قوله تعالى : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ).

اي : اجعلنا عند أخذك لنا من هذه الدنيا وانتقالنا من هذا العالم في زمرة الأبرار وفي صحبتهم. والأبرار جمع بار وقيل جمع بر وقد تقدم معناه في الآيات السابقة وللأبرار شأن خاص ومنزلة رفيعة عند الله تعالى.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ).

زيادة ترغيب في التقرب الى الله تعالى بعد ما أبدوه من الرهبة من المعاصي والذنوب التي تستوجب النار ودعاء بالثبات والاستقامة على الايمان فان الثواب مشروط بالموافاة على الايمان.

والمعنى : ربنا واعطنا ما وعدتنا وما أنزلته من التبشيرات على رسلك ، وفي الحقيقة انهم سألوا الله تعالى التوفيق للايمان والتقوى والعمل الصالح ليكونوا أهلا لوفاء الوعد لهم وهو الجزاء الحسن الذي أوحاه عزوجل الى رسله.

ومن ذلك يعلم الجواب عن ما ذكره بعضهم من انه كيف يسألون الله تعالى شيئا قد وعد به وهم يعلمون انه لا يخلف الميعاد.

وهذا الدعاء منهم يدل على نهاية الخضوع وعدم الاعتماد على النفس والاعتراف بالتقصير وعدم الثقة بالثبات الا بتوفيق منه عزوجل.

وعموم الآية المباركة يشمل الدعاء لتنجيز كل ما وعده عزوجل للمؤمنين سواء في الدنيا أو في الآخرة قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة ـ ٧٢ وقال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ

١٧٨

فِي الْأَرْضِ) النور ـ ٥٥ وقال تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) محمد ـ ٧ وغير ذلك من الآيات الشريفة التي تضمنت الوعد والبشرى للمؤمنين.

وانما ذكر عزوجل (عَلى رُسُلِكَ) لبيان ان ذلك وحي منزل من الله تعالى على الرسل وقد تناقله أنبياؤه الكرام (عليهم‌السلام) خلفا عن سلف وهم شاهدون على ذلك مع ضمانهم لذلك عليه عزوجل.

قوله تعالى : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ).

مبالغة في الدعاء والإلحاح فيه بما استولى عليهم الرهبة.

والمراد بالخزي في المقام هو عدم وفاء الوعد الموعود به المؤمنون بقرينة ذيل الآية المباركة فيستلزم الهلاك والوقوع في البلية.

وانما خصوا ذلك بيوم القيامة لما فيه من الأهوال العظيمة فطلبوا النجاة منها وعدم الخزي على رؤوس الخلائق فما أشد على من يخال نفسه من المؤمنين في الدنيا وهو في القيامة من المفضوحين يستحيي مما ورد عليه من الذل والهوان فهذه الفقرة من الدعاء تأكيد للدعاء المتقدم وطلب للنجاة من الخزي والفضيحة يوم القيامة الذي تظهر نتائج الأعمال فيه.

قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ).

ثناء جميل وتمجيد لله تعالى وتقديس منهم له بما هو حقه ، وقد ختموا به دعاءهم ليكونوا على اطمينان بالاجابة فان الدعاء الذي يتضمن التقديس والتمجيد لله تعالى أقرب الى الاستجابة.

١٧٩

قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ).

الفاء للترتيب وما بعده مترتب على السابق ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة وتدل عليه هيئة الماضي الدالة على تحقق الاستجابة وتقررها وذيل الآية المباركة (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) تقرير لقولهم (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ).

والاستجابة هي الجواب مع حصول المقصود والمراد ، بخلاف الاجابة فإنها تطلق على مجرد الجواب بالرد ايضا. وهذه الاستجابة تكوينية ذكرها عزوجل لإبراز العناية بالداعين والتلطف معهم. بل ان أولى الألباب بذواتهم القدسية مراتب استجابة الله تعالى بجميع أطوارهم وشؤونهم في أي عالم ورد عليهم.

وفي ذكر الرب مضافا إليهم دلالة على كمال العطف بهم واختصاصهم بالرحمة الإلهية.

قوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ).

زيادة تلطف في الكلام ، وكمال تحبب معهم ، والاعتناء بشأنهم وتشريف الداعين بشرف الخطاب ولذلك جاء الالتفات في الكلام بقوله تعالى (اني) للتكلم والخطاب بقوله جل شأنه (منكم).

والضياع : بمعنى الهلاك والابطال اي : اني احفظ لكم أعمالكم واستجب لكم بشرط العمل الصالح.

والآية المباركة تدل على ان الاستجابة لم تكن الا لأجل العمل فهو المدار فيها ، فلم تكن تلك المشاعر الايمانية الصادقة التي لازمت الدعاء كافية في الاستجابة حتى تتحول الى العمل فكانت الاستجابة بالنسبة الى العاملين هي توفية جزاء أعمالهم فتكون هذه الآية الشريفة بيانا

١٨٠