مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

يَنْظُرُونَ) الزمر ـ ٦٨ والمنساق من الاستثناء خصوص فرد واحد وهو ملك الموت ولكنه يموت بعد ذلك بمشية الهية كما هو مفصل في الحديث.

وقد يقال ان الآية المباركة بعمومها تشمل الباري عزوجل لإطلاق النفس عليه قال تعالى حكاية عن عيسى بن مريم : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) المائدة ـ ١١٦. ولكنه فاسد لاختصاص لفظ النفس بالأجسام ، وان النفس التي تضاف اليه عزوجل ليست النفس الاصطلاحية المعروف فان مثل هذه النفس لا يعقل ذوق الموت بالنسبة إليها بل هي بمعنى الذات ، واطلاق النفس عليه جلت عظمته لحسن المشاكلة ومراعاة الفصاحة والبلاغة.

وذوق النفس للموت باعتبار انفصال تدبيرات النفس عن البدن ومفارقة الروح عنه ولذا عبر سبحانه وتعالى بالذوق لأنه انما يكون عن شعور وهو يختص بالنفس وهي باقية ببقاء الله تعالى إما في زمرة السعداء أو في زمرة الأشقياء ، واما البدن فلا شعور ولا احساس له بعد انفصال الروح عنه بالموت وان كان اصل المادة باقية ، واما الصور فهي تتبدل حسب مرور الدهور والأيام إلى ان يحشر في يوم القيامة.

قوله تعالى : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ).

التوفية العطاء الكامل يقال وافاه اجره اي : أعطاه إياه تماما ولم ينقص منه شيئا وفي الحديث : «انكم وفيتم سبعين امة أنتم خيرها» اي. تمت العدة بكم سبعين.

والمعنى : من ذاق الموت يوفى اجره تاما سعيدا كان أو شقيا لأن كلا منهما يستحق جزاء عمله ويوفى اجره اليه فنتائج الأعمال لا تنفك عن العامل.

١٤١

قوله تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ).

القيامة مصدر ويوم القيامة هو وقت قيام الناس لرب العالمين من القبور والأجداث وانما خصه عزوجل بالذكر لبيان انه مهما نال الإنسان من الأجر فان التوفية انما تكون في ذلك الوقت وللاعلام بأن الأجور فيه هي الأجور الحقيقية التي يستحق الإنسان ان يسعى إليها دون ما يتمتع في الحياة الدنيا فإنها ناقصة فانية ، فيستوفي الجميع أجورهم اما الكفار والمنافقون فيأخذون جزاء أعمالهم وافيا من دون عفو ومغفرة من الله تعالى وأما المؤمنون فإنهم يستوفون جزائهم في الأجر الذي يعطيهم الله تعالى كاملا وأما جزاء السيئات فهو في معرض المسامحة والغفران.

قوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ).

تفصيل لتوفية الأجر بعد الإجمال. والزحزحة تكرير الزح وهو الجذب بعنف وعجلة.

وهذه الآية الشريفة بعبارتها البليغة الموجزة واسلوبها الجذاب لها الأثر العظيم في نفوس المؤمنين والوقع الكبير عليهم فان عندها تسكب العبرات وتحل المخاطر والمهالك وتزل فيها أقدام الرجال وتحط دون الوصول إليها الرحال ويشيب في تصور معناها الصغير ويهرم الكبير ، فهي تبين هول النار وشدتها وانها تجذب الإنسان إليها بعنف فيحتاج الى الجهد الكبير للابتعاد عنها والفك من قيودها ، وتستوقفنا كلمة (زحزح) فإنها تدل على شدة البلاء والجهد الكبير والمشقة العظيمة التي لا بد منها في الابتعاد عن النار ، فكأن لكل فرد جذورا عميقة في النار لا يمكن بسهولة قلعها إلا مع الزحزحة ببذل جهد عظيم ،

١٤٢

والوجه في ذلك معلوم لان الإنسان محفوف بما يجذبه إلى النار من جهات فان جاذبية الشهوات والنفس الامارة بالسوء اللتين تشدان الناس إلى النار شدا. والحجب الظلمانية التي حجبت النفس عن الكمال كل ذلك تسوق إلى النار وتدفعه إليها وهي تجذبه إليها جذبا عنيفا ، وفي الحديث «حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات» فكل فرد من افراد الإنسان فيه الموجبات الكثيرة للدخول في النار قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) مريم ـ ٧٢ بناء على رجوع الضمير إلى النار.

ولذلك لا بد من جهاد مرير ومشقة عظيمة للابتعاد عن دائرة جذبها والانفلات من إسارها إلى ان يدخل في الجنة فان ذلك هو الفوز العظيم الذي لا نهاية لعظمته إذ لا اجر في الحقيقة غير ذلك والبقية خسران محض لان فيه السلامة من النار والنجاة منها وقد كاد ان يبقى فيها. والسلامة عن المكروه أهم ما يطلبه المرء في جميع الأحوال ناهيك انه يدخل الجنة ويفوز بنعيمها الدائم في دار الخلود.

وليس الدخول في الجنة قيدا زائدا على الزحزحة عن النار ، فانه لا واسطة بينهما ، فان النجاة من النار ليس الا الدخول في الجنة كما يستفاد من الآيات الشريفة والسنة المباركة.

ولكن الآية الكريمة تبين معنى دقيقا آخر في الخروج من النار الذي هو مطلوب كل فرد والدخول في الجنة الذي لا برفوقه فان التعبير بالمجهول في كل من «زحزح وأدخل» يوحى بأن الإنسان لا يتزحزح من قبل نفسه بل هناك أيد خفية تجذب الإنسان جذبا عنيفا لتزحزحه عن النار وتدخله الجنة ولولاها لبقي في النار وهذه الايدي قد مدت في دار الدنيا لتنقذ عباد الله من المهالك والمخاطر ومن الدخول في النار.

١٤٣

وهي كثيرة كأيدي الرسل والأنبياء (عليهم‌السلام) ، وكتاب الله العظيم ، والاحكام الإلهية ، وايدي الملائكة الذين وكلوا للاستغفار لمن في الأرض واعانتهم ، وأهمها يد الله الرحيمة سبحانه وتعالى التي بسطت على جميع خلقه ، والشفاعة العظمى.

قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

الدنيا مؤنث الأدنى صفة للحياة ، وحياة الدنيا هي الحياة السفلى أو القربى وهي الحياة ما قبل الموت التي نعيش فيها ونتمتع بما فيها من الملذات ، وقد وصفها الله تعالى في القرآن الكريم بأوصاف متعددة جميعها تدل على دنائتها بالنسبة إلى الحياة الآخرة منها انها متاع للغرور لأنها تغرّ صاحبها فيخدع لها فتشغله عن إعداد نفسه إلى الكمال الواقعي.

والمتاع ما يتمتع به الإنسان وينتفع به ، والغرور هو الخداع ، ومتاع الغرور اي المتاع الذي يظهر بمظهر جميل ليغتر به المغترون ، والآية المباركة تبين حقيقة الواقع على ما هو عليه.

والدنيا تضاف تارة الى الله واخرى تلحظ بحسب نفسها ، وثالثة بحسب الأعمال التي تقع فيها.

والاولى : محمودة لأنه لا يصدر من الخير المحض إلا الخير كما هو معلوم وهذه قاعدة فلسفية أسسها الفلاسفة جميعهم ـ الطبيعيون منهم والإلهيون ـ خصوصا بناء على ملاحظة السنخية بين العلة والمعلول ، ولكنا أثبتنا بطلان ذاك بالنسبة إلى الفاعل المختار في احد مباحثنا المتقدمة.

واما الثانية : فهي أيضا حسنة لا نقص فيها لأنها دار عبادة الله تعالى ومحل أوليائه وأنبيائه ، ومهبط نزول الكتب الإلهية ، ومقام إظهار مكارم الأخلاق وتربية الإنسان وإعداد المؤمن نفسه للكمال الذي لا يكون شيء أعز منه في الدارين.

واما الثالثة : فان الأعمال تارة تكون من المؤمنين السعداء وهي

١٤٤

حسنة وتعد من مفاخر الدنيا والآخرة واما من الأشقياء فلا شبهة في مبغوضية أعمالهم السيئة والدنيا من حيث الاضافة إليها مبغوضة أيضا وبتعبير آخر : الدنيا من هذه الجهة اما ان تكون من النعيم الاخروي يظهر في الدنيا بالوجود المناسب لها واما من الجحيم ، ومن هذه الجهة تكون متاع الغرور وبذلك يمكن الجمع بين ما ورد في مدح الدنيا وما ورد في ذمها.

وكيف كان فانه يستفاد من الحصر الوارد في الآية الشريفة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ان كل فعل وعمل في هذه الدنيا سواء صدر من الأخيار أو من الفساق الفجار فانه لا محالة محدود لا بقاء له هذا إذا جعلنا عمل الخير من متاع الدنيا ، واما إذا جعلنا من الآخرة في الدنيا كما تقدم آنفا فالحصر مختص بعمل الشر ، فالآية المباركة تبين ان الدنيا لا بد ان لا تغر الإنسان بمظاهرها الخلابة فتمنعه عن ذكر الله تعالى والايمان به والعمل الصالح وتكميل نفسه بمكارم الأخلاق ولا يصح ان يجعل متاع الدنيا غاية تمنعه عن الكمال ، كأنه لا نهاية له بل هي وسيلة لطلب السعادة وزيادة الأجر ، لان الأجر الحقيقي هو ما ذكره عزوجل من الزحزحة عن النار والدخول في الجنة فلا سعادة وراء ذلك ولا بد من السعي إليها ، كما ان الأجر الحقيقي ليس هو أياما في هذه الدنيا يستمتع فيها ثم يزول فيرد على عذاب ابدي لا خلاص منه وذلك هو الخسران المبين.

قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ).

بعد ما ذكر عزوجل جريان سنة البلاء والابتلاء في المؤمنين وما يوجب الوهن في عزيمتهم ، يبين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة

١٤٥

ان ذلك الابتلاء مستمر وسيتكرر من الكافرين والمنافقين وسيلقون منهم الأذى بكل ما يمكنهم ، وانما أعلمهم عزوجل به قبل وقوعه ليوطنوا أنفسهم على احتماله فتستعد نفوسهم ويتقبلوا الابتلاء بصبر وعزيمة ورضى فلا يحزنوا على ما يفوتهم من متاع الدنيا ، فيكون ترتب هذه الآية الشريفة على سابقتها من قبيل ترتب المعلول على العلة أو المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) لان من لوازم متاع الغرور الابتلاء بالنسبة الى من هو مؤمن وليس من اهل الاغترار فلا بد من التمييز واظهار الثابت على الحق والمطيع عن غيرهما ، بل يمكن ان يعد وجود من يهتم بإصلاح نفسه ويطلب وجه الله تعالى والآخرة في دار الغرور ابتلاء وفي الحديث : «ان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» وعلى هذا يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة من قبيل القضايا الحقيقية.

وكيف كان ففي الآية المباركة التسلية للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمؤمنين بعد التسلية بقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ).

والبلاء والابتلاء بمعنى واحد وهو الاختبار بما يصعب تحمله أو فعله ويأتي في الخير والشر قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الأعراف ـ ١٦٨ وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) الأنبياء ـ ٣٥ وقال تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) الفجر ـ ١٦ والابتلاء في الأموال والأنفس هو الوقوع في تكاليف خاصة حسب المصالح ، ومثال الاول هو التكاليف الآمرة ببذل الأموال في الصدقات وقضاء الحوائج وما يتطلبه الدعوة على المؤمن من بذل المال ، وما يفقد

١٤٦

في أثناء الحروب والقتال. والثاني مثل التكليف ببذل النفس ومن يحب من الأهل والأولاد في سبيل الله تعالى ويدخل فيه التسليم للامراض والآفات.

وانما قدم عزوجل الأموال إما لان الابتلاء فيها اكثر من الأنفس أو لأجل ان تحمل الرزايا فيها أصعب وأشد وفي الحديث عن علي (عليه‌السلام) : «ينام الإنسان على الثكل ولا ينام على الحرب» أو على سبيل الترقي إلى الأشرف.

ويدخل في النفس الرزايا في الأولاد والأهل ومن يحبه الإنسان من الأصدقاء. والتأكيد بالقسم المحذوف «لتبلون» للاعلام بان ذلك سنة حتمية لا مفر منها وقد تقدم ما يدل على ذلك في الآيات السابقة.

قوله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً).

ابتلاء آخر بالأقوال بعد الابتلاء بالافعال وقد ذكره بالخصوص لأهميته. وبيان أن الابتلاء بالعدوان صادر من طائفة خاصة وهم الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ـ اليهود والنصارى ـ ومن الذين أشركوا.

والأذى : اسم جمع يأتي بمعنى الضرر والعدوان ومنه الحديث «ادنى الصدقة إماطة الأذى عن الطريق» وهو ما يؤذي فيها كالشوك والحجر والنجاسة وغيرها وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «كل مؤذ في النار» وهو وعيد لمن يؤذي الناس في الدنيا بعقوبة النار في الآخرة.

وما ورد في الآية الشريفة من القضايا الفطرية فان من ذكر فيها هم الأعداء للحق والمؤمنين ، وما يلاقيه كل فرد من عدوه من

١٤٧

الأذى معلوم.

وانما ذكر عزوجل (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تعريضا بهم بأن من أوتي الكتاب لا ينبغي ان يصدر منه ذلك فانه لا بد ان يكون زاجرا له ويؤكد ذلك ذكر (مِنْ قَبْلِكُمْ) وأما ما صدر منهم من الأذى بحق الرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والدين الحق والمؤمنين فهو معلوم ولا يزال يصدر ذلك منهم على مر العصور.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا).

بيان لاهم ما ينتظم به نظام الدين والدنيا وهو الصبر على الشدائد والأهوال وما يرد عليهم من المكاره والآفات في الأنفس والأموال ولو كانت من ناحية التكاليف والمقادير الإلهية.

والتقوى لله تعالى بالطاعة له عزوجل وباجتناب نواهيه وما يوجب سخطه ، وبهما تستعد النفوس لتلقى الأهوال والأذى الكثير والعصمة من الوهن والفشل. كما ان بهما تنال الدرجات العالية والثواب العظيم فلو تجسم الصبر لكان في احسن مثال وأتم حال كما انه لو تجسمت التقوى في الدنيا لكانت في أفضل نعيم الآخرة. وانما قرن عزوجل بين الصبر والتقوى لما ذكرناه ولبيان ان العمل لا بد وان ينبعث عن القلب فيكون من عزم الأمور.

قوله تعالى : (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

عزم مصدر بمعنى المعزوم يقال : عزم الأمر بالنصب على المفعولية وقيل عزمت على الأمر ايضا. وهو يرجع الى عقد القلب ، والجزم في العمل لما فيه من كمال الشرف والمزية. وعزائم الأمور محكماتها ومتقناتها التي لا تصدر الا من ذوى الألباب الذين وصفهم الله تعالى

١٤٨

بأحسن أوصاف. وفي الحديث : «خير الأمور عوازمها» ، وصاحب العزم هو الثابت في الارادة والكمال والفضيلة قد اتصف بالفضل والكمال بحيث نال آخر مقامات الانسانية الكاملة ولو عبر عنه بآخر مقام الوفاء بالعهد وأول مرتبة التفاني في مرضات المعبود لكان حسنا وجديرا ولذا صار الأنبياء العظام من اولي العزم.

والمعنى : ان الصبر والتقوى لهما من الكمال والمزية ما لا يمكن اقتناؤهما بسهولة ويسر بل لا بد من عقد القلب وجزم الارادة عليهما وبصيرة بهما فلا بد من عزيمة لمواجهة كيد الأعداء والمكابرة.

وانما أشار سبحانه وتعالى إليهما بالإشارة البعيدة إيذانا بعلو درجتهما وبعد منزلتهما كما انه عزوجل اتى بالمفرد «ذلك» لبيان انهما متلازمان فلا يتحقق أحدهما بدون الآخر ، فان الصبر في الدين للدين يلازم التقوى كما ان التقوى تلازم الصبر وفي الحديث : «ان الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد».

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ).

رجوع الى اليهود والنصارى. والميثاق ـ كما تقدم ـ هو العهد المؤكد وقد تقدم اشتقاق الكلمة في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) آل عمران ـ ٨١ والمراد من الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى ، ويحتمل ان يكون اليهود ، وانما خصهم بالذكر لأنهم عرفوا بالعناد وكتمان الحق ، وانما ذكر إيتاء الكتاب تقبيحا لأفعالهم وتذكيرا لهم بأنهم أهل الكتاب فلا ينبغي ان يصدر منهم ذلك وقد تقدم ما يتعلق بأخذ الميثاق فراجع.

١٤٩

قوله تعالى : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ).

النبذ : الطرح والنبذ وراء الظهر كناية عن الإهمال وعدم الاعتناء لترك العمل ، بل هو أشد من الكتمان ، وضده «نصب العين» الذي يكنى به عن الاعتناء بالشيء والاهتمام به.

وانما نبذوه قضاء لأطماعهم الشريرة ونواياهم الفاسدة وليكونوا مطلقي العنان في فعلهم وكيدهم فلا يقاومهم احد ولا يستنكر عليهم فلذلك كتموه واهملوه لئلا يحكم به عليهم.

قوله تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

لأنهم آثروا الحياة الدنيا فباعوا الحياة الآخرة بها فهي ممن قليل بالنسبة الى الجزاء الذي أعد لمن بين الكتاب والحق. وفيه من الذم والتوعيد ما لا يخفى.

والضمير في (به) يرجع الى الحق الذي وجب بيانه.

قوله تعالى : (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ).

تقبيح لهم وتسفيه لعقولهم فإنهم جعلوا الفاني الزائل بدلا عن النعيم الدائم الباقي ، وقد ذكر سبحانه وتعالى في عدة مواضع من القرآن الكريم كتمان الحق وتبديله بالثمن القليل.

قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا).

بيان لبعض الصفات الذميمة التي اتصف بها الذين ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة وهي الفرح بما فعلوه من التحريف والتدليس وكتمان الحق والظن السوء بأن ذلك شرف لهم وقد من الله به عليهم وهو من الفرح

١٥٠

بالباطل ، فانه يكشف عن استحكام رذيلة العجب في نفوسهم والغرور بالفعل ، وانما حكى عزوجل هذه الخصلة الباطلة لتحذير المؤمنين منها فإنهم عرضة لذلك.

قوله تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا).

صفة اخرى من صفاتهم الذميمة اي : انهم يحبون ان يمدحهم الناس على الذي لم يفعلوه وهو الوفاء بالميثاق واظهار الحق فإنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك وانما فعلوا نقيضه من كتمان الحق وتحريف الكتاب بما يوافق أهواءهم الباطلة.

وهذه الصفة اكثر ما تكون في العلماء غير العاملين بعلمهم كالرهبان وحفاظ الكتاب فإنهم يحبون ان يحمدوا بالدين والفضل وحفظ الكتاب ولكنهم في الحقيقة مراءون ولم يفعلوا شيئا مما يرضي الله تعالى.

ويستفاد من الآية الشريفة ان حب المحمدة بما لم يفعل باطل ومن الصفات الذميمة فانه يكشف عن الغرور والعجب والرياء وسوء الأخلاق. وأما إذا كان بالحق فهو خلق حسن بل من الأمور الفطرية فان الإنسان يحب المحمدة على الفعل النافع وقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك قال تعالى محكيا عن نوح : (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الأعراف ـ ٦٢. وقال تعالى حكاية عن هود : (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) الأعراف ـ ٦٨.

وفي هذه الآية الشريفة استعمل لفظ الحمد في غير الله تعالى ، وهذا هو المورد الوحيد في القرآن الكريم ، وقد ذكرنا في سورة الفاتحة

١٥١

انه لم يرد استعمال مادة الحمد في غيره عزوجل إلا في هذا الموضع وتقدم الجواب عن ذلك فراجع.

ونزيد هنا انه يمكن ان يكون لأجل انهم جعلوا أنفسهم حفاظ الشريعة والقائمين بأمور الدين وورثة الأنبياء فأحبوا لأنفسهم حمد الناس وهذا من مجرد الزعم الباطل وقد ذمهم الله تعالى على ذلك حيث لم يصدر منهم فعل الله تعالى حتى يستحقوا المدح والثناء.

وفي الآية المباركة التنبيه العجيب للعلماء وإنذار لهم بالاحتراز عما يوجب انطباق مضمون هذه الآية عليهم.

قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ).

بيان لسوء عاقبتهم بعد بيان خستهم في الدنيا ، وانما أعاد عزوجل كلمة (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) للتأكيد.

والمفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز والنجاة والتاء ليست للوحدة وسمي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل. واحتمل بعضهم ان يكون المفازة اسم مكان اي محل فوز فيكون (مِنَ الْعَذابِ) صفة له لان اسم المكان لا يعمل فيقدر المتعلق خاصا أو عاما. ولكنه بعيد.

والمعنى : انهم ليسوا بناجين من العذاب بل ليس لهم عذاب محدود. وانما لم يبين عزوجل نوع العذاب لأنه اما ان يكون بما يطابق سجاياهم الفاسدة وملكاتهم الخسيسة او يكون عذابا إليها ناشئا عن سخطه عزوجل لأنه لا ولاية للحق عليهم بعد ما تعلقت نفوسهم بالباطل وفسدت أخلاقهم.

١٥٢

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

تأكيد في التوعيد بالعذاب في الآخرة جزاء كفرهم وعنادهم للحق والتنكير في العذاب ووصفه بكونه أليما ، لبيان انه لا أمد له ولا نهاية لشدته.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

تعليل لجميع ما ورد في الآيات السابقة ، واحتجاج على من عاند الحق ونسب الفقر اليه تبارك وتعالى.

أي : له تعالى وحده ملك جميع العالم ـ ما سواه ـ يتصرف فيه بما يشاء ويريد إيجادا وافناء ، ورحمة وعذابا ، وهو الذي يملك امر عباده فيدبرهم وفق حكمته المتعالية.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

فلا يعجزه شيء ، ولا يقهره احد. ومن قدرته انه يجازي كل انسان حسب عمله ويعذب الظالمين بظلمهم.

بحوث المقام

بحث ادبي :

كل نفس في قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) مبتدأ ، والابتداء بالنكرة جائز هنا لما فيه العموم ، و (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) خبر. و «كل»

١٥٣

إذا أضيف الى نكرة كان الحكم في الخبر والإضمار لتلك النكرة ، كقوله تعالى (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ، وقوله عزوجل (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) الطور ـ ٢١ ، وقوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الإسراء ـ ٧١. وكل رجلين قاما ، وكل امرأتين قامتا ، فالتذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع بحسب النكرة التي أضيف إليها كل.

وقرئ (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بالتنوين ونصب الموت على الأصل وقرئ (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بطرح التنوين مع النصب.

وعزم الأمور في قوله تعالى : (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) من اضافة المصدر الى فاعله.

وانما لم يؤكد (وَلا تَكْتُمُونَهُ) بالنون كما في «لتبيننه» للاكتفاء بالتأكيد في الاول.

وقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) الفاعل هو الضمير المخاطب سواء كان الرسول الكريم أو من له أهلية الخطاب. و (الَّذِينَ) المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف لتهويل الأمر ، فيقدره المخاطب بما يليق بهم من العذاب والذم لدلالة مفعولي «تحسبنهم» الآتي عليه.

وأما قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) فقد ذكر فيه المفعول الثاني فالأول (الهاء والميم) ، والثاني هو «بمفازة» لبيان نوع العذاب الذي حذف في الاول فيكون الفاء للتفريع.

١٥٤

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الاول : يدل قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) على تجرد النفس وانها غير البدن فهي لا تموت بموته لان الذوق لا يكون الا عن شعور.

وفي ذكر هذه الآية الشريفة بعد حكاية احوال المنافقين والكافرين والمشركين وتكذيبهم للرسل وأذاهم في الفعل والقول التسلية العظيمة وللإرشاد الى تذكر الموت مما يزيل الهموم والأشجان الدنيوية ولذا أمرنا بزيارة القبور إذا غلبت علينا الغفلة قال تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) التكاثر ـ ٢. وفي الحديث «أكثروا ذكر هادم اللذات فانه ما ذكر في كثير إلا قلله ولا في قليل الا كثره» فان ذكر الموت والتفكر فيه يهون كل خطب.

الثاني : عموم قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) يدل على ان كل ذي نفس لا بد لها من ذوق الموت سواء كانت النفس حيوانية أو نباتية أو من الملائكة ، فكل حي لا بد ان يموت إلا الله تعالى فانه حي لا يموت وهو الأول والآخر.

وهذه الآية الشريفة وردت في القرآن الكريم في مواضع متعددة قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) الأنبياء ـ ٣٥. وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) العنكبوت ـ ٥٧. وتختلف الآية الكريمة التي تقدم

١٥٥

تفسيرها عن الآيات الاخرى في انها قد ذكر فيها توفية الأجر ونوعه وكيفيته فتكون كالتفسير لتلك الآيات المباركة لأنه عزوجل اكتفى بكونه مرجعا للعباد فقال (إِلَيْنا تُرْجَعُونَ).

الثالث : انما عبر سبحانه وتعالى بالذوق في قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) لبيان ان الموت يسري في جميع البدن كما يسري المذوقات فيه كما إذا شرب سما ، وللكناية عن الاحساس بمرارة خروج الروح ، وللاعلام بان ذوق الموت شيء وذات الموت شيء آخر ، ولذا ورد في بعض الاخبار ان المقتول يرجع ليذوق الموت وقد تقدم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) آل عمران ـ ١٥٦.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) على إيجازه البليغ المعجز ان لكل نفس جزاء معينا إما خيرا أو شرا. ونوعية الجزاء وانها إما الجنة أو النار ، وكيفيته وهي هول النار وشدتها ، وراحة الجنة والنجاة فيها.

وانما ذكر عزوجل ذلك عقيب ذلك الحكم الكلي العام المقضي في حق كل نفس للاعلام بأن وراء الموت حياة اخرى يتميز فيها المحسن عن المسيء ويرى كل منهما جزاء عمله ، فان العلم بذلك يهون كل خطب ويسهل كل صعب.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) ثبوت حياة البرزخ وان الأرواح فيها إما ان تكون معذبة أو متنعمة

١٥٦

فان التوفية انما تكون في ما إذا سبق بعض العطاء ، وان في يوم القيامة العطاء الوافي الكامل وفي الحديث : «القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران».

السادس : يدل قوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) على عظمة الموقف وشدة الهول ، فان لكل انسان موقفا في النار لا يمكن إزاحته عنه إلا بعد الزحزحة ومقاساة الشدائد والأهوال والصبر عليها حتى يتحقق الفوز والدخول بالجنة.

وحذف المتعلق في الفوز يفيد العظمة والتعميم ، فانه فوز عن كل مكروه وسلامة من كل شدة ونجاة من النار ، كما انه الفوز بالمحبوب والدخول في الجنة وان فيها النعيم الدائم.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) على خسة هذه الحياة في مقابل الحياة الاخرى ، وان في هذه الحياة يتعين مصير الإنسان في العقبى ، ففي هذه الحياة تتحقق الزحزحة عن النار والدخول في الجنة ، وفي الآية الشريفة الترغيب الى العمل الذي يوجب ذلك والاعراض عن زخارف الدنيا ومباهجها التي تبعد الإنسان عن كل خير وسعادة فإنها تغره وتلقيه في الشقاء والخسران.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ان الزحزحة عن النار والفوز بالجنة والنعيم الدائم لا يتحققان إلا بالبلاء والابتلاء والصبر على البلايا والرزايا والأذى الكثير وتقوى الله تعالى وأن في الصبر والتقوى النجاة فتعتبر هذه الآية الشريفة كالعلة بالنسبة الى الآية السابقة مضافا الى ان الآية المباركة ترغب المؤمنين الى الصبر والتقوى ، فإنهما الأساس لكل سعادة.

التاسع : يدل قوله تعالى : (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) على

١٥٧

ان عزائم الأمور هي التي تنجي الإنسان وتهيئه لنيل السعادة والفوز بالأجر العظيم وقد اهتم سبحانه وتعالى بها فذكرها في مواضع متعددة من القرآن الكريم وجعلها من صفات الأنبياء العظام ، فلهذه الأمور التي لا بد فيها العزم منزلة عظيمة وشأن كبير. وقد رغب القرآن الكريم إليها وهي من أهم السبل الى سعادة الإنسان.

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) ان بيان الحق وما أنزله الله تعالى في الكتب الإلهية مما أخذ الله عليه الميثاق بلا اختصاص له بقوم خاص وملة معينة وفي الحديث عن علي (عليه‌السلام) : «ما أخذ الله على اهل الجهل ان يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم ان يعلموا» وبمضمون ذلك وردت أحاديث كثيرة.

وانما أكد سبحانه وتعالى على وجوب البيان بعدم الكتمان لرفع كل التباس من البين ، فتشمل الآية الشريفة كل شبهة وتحريف ونفاق ، وتزييف فانه قد يتصور متصور انه من البيان للكتاب إذا كان فيه تحريف وتزييف ؛ ولكن الآية الشريفة تضع الحد الفاصل في جميع ذلك وتعتبر ان البيان واظهار الكتاب لا بد ان يكون واضحا وجليا من دون التباس وتحريف.

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) ذم الفرحين بأفعالهم التي لا تطابق الواقع مع بعدهم عن الحق ويدل على انه رذيلة تنطوي تحتها مساوئ من الأخلاق ، فان الفرح الذي لا يكون عن حق وفي حق ينبئ عن الغرور والعجب والتجري على المولى وكل ذلك مذموم بل من المهالك.

وأما إذا كان الفرح عن حق فلا ذم فيه ، ففي الحديث : «من

١٥٨

سرته حسنة وسائته سيئة فهو مؤمن» والآية الشريفة لا تختص بطائفة خاصة بل هي تشمل كل من كان فعله مخالفا للواقع إذا فرح بما فعل.

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ان حب محمدة الناس أمر فطري لا يسع لاحد إنكاره ، وان المذموم منها هو ما إذا لم يكن عن سبب ومنشأ صحيح عقلائي في البين فانه يكشف عن غرور صاحبه وجهله بالواقع واعتماده على النفس الامارة ، ويستفاد من قوله تعالى : (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ان كل فعل إذا لم يكن مرضيا لله تعالى ولم يكن مطابقا لقواعد الشرع ، فلا أثر يرجى منه ولا فائدة فيه. فلا موجب للمحمدة بالنسبة اليه فما يصدر من الكافرين والمنافقين وأصحاب الأهواء الباطلة وغيرهم من الأفعال ولم تكن مطابقة للشريعة المطهرة ومرضية عند الله تعالى فان حب المحمدة من الناس عليها باطل ولا وجه لها ، لأنه لم يصدر منهم شيء يستحق عليه المحمدة وأما إذا كان ذلك بالحق وفي الحق ، فلا ذم فيه. وفي الحديث : «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق» وهو يدل على ان مطلق الثناء على الأفعال الحسنة ممدوح بل هو من حمد الله تعالى ، ويمكن ان يكون هذا وجها آخر في استعمال لفظ الحمد في المقام حيث اعتبروا حمدهم من حمد الله تعالى وهو عزوجل أبطل مزاعمهم وبيّن انه إذا كان بالحق وفي الحق فانه من حمده عزوجل.

الثالث عشر : يدل قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) على ان الخصال المذمومة والملكات الرذيلة سبب للدخول في العذاب وعدم نجاتهم منه فلا بد للإنسان من السعي لتهذيب النفس عنها وجعلها مرآة لمكارم الأخلاق لتجلى اخلاق الله تعالى فيها فان في ذلك الفوز والسعادة.

١٥٩

بحث روائي

في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) انه قال : «يموت اهل الأرض حتى لا يبقى احد ثم يموت اهل السماء حتى لا يبقى أحد إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرائيل وميكائيل قال : فيجيء ملك الموت حتى يقوم بين يدي الله عزوجل فيقال له من بقي ـ وهو اعلم ـ فيقول يا رب لم يبق إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرائيل وميكائيل ، فيقال له قل لجبرائيل وميكائيل فليموتا ، فيقول الملائكة عند ذلك يا رب رسولاك واميناك فيقول : إني قد قضيت على كل نفس فيها الروح الموت ، ثم يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي الله عزوجل فيقال له : من بقي ـ وهو اعلم ـ فيقول يا رب لم يبق إلا ملك الموت وحملة العرش فيقول : لحملة العرش فليموتوا ثم قال يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقال له من بقي ـ وهو اعلم ـ فيقول يا رب لم يبق إلا ملك الموت فيقال له : مت يا ملك الموت فيموت ثم يأخذ الأرض بيمينه ، ويقول : اين الذين كانوا يدعون معي شريكا؟ أين الذين كانوا يجعلون معي إلها آخر».

أقول : مثل هذا الحديث كثير وهي تدل على ان كل كائن حي لا بد وان تنقضي حياته في دار الإمكان لأنه كتب الفناء على الجميع بل لا معنى للإمكان إلا ذلك فتنحصر الحياة في ما هو حي بالذات ، وعموم الآية الشريفة (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) يدل على ذلك أيضا.

وفي تفسير العياشي عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) في

١٦٠