مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

(بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) مع كفاية ما تقدم في نفي الخيرية على ذلك.

قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

إخبار عن عواقب الحال وتعليل لكون البخل شرا لهم ببيان ذكر أهم العلل والآثار. و (سَيُطَوَّقُونَ) من الطوق والسين للتأكيد ، والمراد به أن ما بخلوا سيتمثل يوم القيامة كالحمل الثقيل الذي يجعل في عنقهم كالطوق فيزيد في تعبهم وفزعهم فوق ما يحملونه من الأوزار فيكون من طوق التكليف (المشقة) لا من طوق التقليد ومنه قول الشاعر :

(كل امرئ مجاهد بطوقه)

وقد ذكر المفسرون في بيان ذلك وجوها والظاهر انها ترجع إلى امر واحد وهو تصوير الحمل الثقيل في يوم القيامة وهو إما ان يكون طوقا في التكليف اي تكلفوا ان يأتوا بمثل ما بخلوا أو طوقا على وجه التقليد كالثعبان وبه روايات وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من ظلم شبرا من ارض طوقه الله من سبع ارضين» وعلى اي حال فالمراد به ما ذكرناه.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

اي : وهم لا يعلمون انهم عن قريب يتركون ما بخلوا به وما اكتنزوه لأنفسهم فيرثه الله تبارك وتعالى الذي له ميراث السموات والأرض وحده فلا هم ينتفعون به ولا هم ينجون من تبعاته وآثامه يوم القيامة فتبقى الحسرة عليهم والندامة لهم لا تنفك عنهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

تهديد وتوعيد لهم بانه لا يخفى على الله تعالى شيء وهو يعلم

١٢١

ما يعملون فيجازيهم عليه. واظهار اسم الجلالة لبيان المهابة وزيادة في التهديد.

قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ).

بعد أن كان الخطاب عاما يشمل اليهود وغيرهم وبين لهم حقيقة الحال في البخيل وما يزعمه في ما يدخره ويبخل به.

ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة مظهرا آخر من مظاهر سوء الظن بالله العظيم والبعد عنه عزوجل وهو نسبة الفقر الى الله تعالى وهي تنبئ عن ان قائلها لا يعرف الله أصلا ولا يخشاه عزوجل. والقائلون بهذه المقالة هم اليهود بقرينة السياق في تعداد مثالبهم وجرائمهم فهم الذين صدرت عنهم تلك الأقوال البذيئة والأفعال الشنيعة والسبب في صدور هذا القول منهم متعدد فاما ان يكون تهكما بالقرآن الكريم في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) البقرة ـ ٢٤٥ أو استهانة بفقراء المؤمنين وتعريضا بفقرهم وفاقتهم ، أو استهزاء بالإيمان واهله ، فإنهم عرفوا بالاستهزاء والوقاحة والجرأة على الله تعالى والحق. ولا يقدح ان يجتمع جميع تلك الأسباب فيهم كما يأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

وانما ذكر عزوجل السماع دون غيره لبيان شناعة القول وفيه التوعيد والتهديد لقائله فهو سماع علم وتهديد واثبات للعذاب الأليم لهم لا سماع قبول ورضا.

واما وجه القسم فهو تأكيد لشناعة قولهم وصدوره عنهم فإنهم بمقالتهم هذه كأنهم ينكرون السمع لله تعالى أو ينكرون المقال أصلا

١٢٢

فأكده عزوجل بالتأكيد القسمي على السماع وترتب الجزاء على ما سمع.

قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ).

تأكيد آخر. اي : نحفظ ما قالوا ونثبته في صحائف أعمالهم لوصول جزائهم إليهم ، كما أثبتنا قتلهم الأنبياء بغير حق علما منهم بأنهم أنبياء وظلما وعدوانا عليهم.

وانما قرن بين قولهم وفعلهم لتثبيت شناعتهما من كل جهة ولبيان فساد كل واحدة منهما والمراد بالكتابة هو الحفظ لأجل الجزاء عليه والسين للتأكيد والخطاب يدل على عظم ما قالوه.

وفي نسبة القتل الى الحاضرين منهم إما لأجل رضائهم بفعل السلف أو لان الامة تستوي في التكافل الاجتماعي وانهم على حد سواء في الأمور العامة التي لا بد من الالتزام بها ومراعاتها ، والاعتراض على من أنكرها ، ومن تلك الأمور الإنكار على فاعل المنكر من افراد تلك الأمة ، والا كانوا متساوين في الجريمة واستحقاق العذاب وقد تقدم في سورة البقرة ما يتعلق بذلك أيضا فراجع وفي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام) : «ان بين القائلين ان الله عهد إلينا ـ وهم الذين قالوا : ان الله فقير ونحن اغنياء ـ وبين القاتلين للأنبياء خمسمائة عام ، فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا».

أقول : لعل التقدير بالخمسمائة من باب المثال للكثرة.

قوله تعالى : (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

الذوق معروف وهو ما يكون باللسان لمعرفة طعم الطعام وأصله في ما يقل تناوله دون ما يكثر ثم اتسع استعماله لإدراك سائر المحسوسات والحالات يقال : ذاق الأمرّين إذا وقع في الشدائد وكابد أحوالها

١٢٣

وقاسى آلامها. وقال بعضهم : إن كلمة (ذق) تستعمل لمن آيس عن العفو ، وهي تؤذن بأن ما هم فيه من العذاب والهوان يعقبه ما هو أشد من ذلك وادهى.

والحريق إما بمعنى المحرق فتكون اضافة العذاب اليه بيانية أو تكون الاضافة للسبب لتنزيله منزلة الفاعل فيقال عذاب الحريق النار أو اللهب.

والانتقام بهذا القول لبيان ان العذاب قد تحقق ووجد ولا يمكن الخلاص منه وهو ينبئ عن كمال الغضب.

وفي الآية الشريفة وجوه تدل على المبالغة في الوعيد والشدة في العذاب ، فقد ذكر فيها القول ، والعذاب ، والحريق ، والذوق.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).

الاسم (ذلك) إشارة الى العذاب الذي نزل منزلة المحسوس المشاهد لتحققه ولتهويل الأمر وتعظيم شأنه في الفظاظة. والباء للسببية.

والمراد بالأيدي الأنفس والأشخاص ، وانما ذكرت لأنها آلة للتقديم غالبا ولبيان ان ذلك مما جنته أيديكم وأنتم تتحملون مسؤوليته فتفيد النسبة إلى يد الفاعل الصاق العمل بعامله وتمام مسؤوليته عليه ما لا يفيد غيرها ذلك.

والمعنى : ان ذلك العذاب انما هو بسبب ما قدمتم من العمل وهو الجزاء المختص لهذه النفوس الآثمة الوقحة على الله تعالى ورسله.

قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

تعليل لجميع ما تقدم اي : ان ذلك العذاب والكتابة والحفظ لأجل ان الله تعالى ليس بظلام للعبيد ، ويستفاد منه انه لو لم يكن ذلك الحفظ والجزاء لكان إهمالا لقانون الجزاء المبني عليه النظام

١٢٤

الأحسن ، ونفي الظلم الكثير حسب تعدد الأعمال والجزاء فيكون ظلاما كما أن نفي الظلم عنه عزوجل يستلزم اثبات العدل فيه فهو عدل في حكمه وفعله وجزائه وعذابه.

وهيئة «ظلام» تأتي اما للنسب كعطار ، أو للمبالغة ، وكلاهما صحيح في المقام اما الاول اي لا ينسب اليه ظلم أصلا لأن من كان على نهاية الكمال والعظمة وكانت كل صفة فيه في أعلى مراتب الكمال لا يعقل الظلم بالنسبة اليه لان الظلم يستلزم النقص والمفروض انتفاؤه فيه جلّ شأنه فلو كان سبحانه وتعالى ظالما كان ظلاما.

واما الثاني فلان المنفي عنه الظلم الكثير فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه اكثر تركا وأشد امتناعا. وتقدم آنفا انه يمكن ان يكون التكثير والمبالغة لأجل تعدد الأعمال والجزاء.

ومن ذلك يعلم انه لا وجه للاشكال بأن نفي الظلم ابلغ من نفي الاكثرية لان الأخير لا ينفي أصله ، بل ربما يشعر بوجوده. وأنت بعد الاحاطة بما ذكرناه تعلم الجواب عنه فان التعبير بالكثرة لبيان ان ساحته تبارك وتعالى منزهة عن اي ظلم وانه بلغت نزاهته الى حد الكمال ولشدة كماله وتماميته كان الظلم القليل يعد بالنسبة اليه ظلما كثيرا فيصير ظلّاما فكماله المطلق يوجب عدم ثبوته له مطلقا.

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ).

الجملة في موضع خفض بدلا من الذين في الآية الكريمة المتقدمة أو نعتا له. والمراد بالعهد هو الأمر والتوصية.

والآية الشريفة تبين زعما آخر من مزاعم اليهود الفاسدة ، فقد

١٢٥

زعموا أن رفضهم الايمان برسول ـ يدعي برسالة من الله تعالى وهم لا يعترفون برسالته حسب اهوائهم ـ كان بوصية من الله تعالى وإطاعة لأمره عزوجل.

وانما قالوا «لرسول» مداهنة ومغالطة والافهم لا يعترفون برسالة أحد إلا من يعلقون الايمان به على ما قالوه.

قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ).

القربان : فعلان من القربة وهو يأتي اسما كالبرهان والسلطان ومصدرا كالعدوان والخسران وهو كل ما يتقرب به الى الله تعالى من نعم وغيرها. وأكل النار كناية عن إحراق القربان واحالته إلى رماد وكان ذلك معجزة خاصة تدل على صدق المدعي في دعواه.

ويستفاد من الآية الشريفة وذيلها انها كانت شائعة عندهم وفي بعض الأحاديث انها كانت لأنبياء بني إسرائيل وفي قصة ابني آدم دلالة على وقوعها كما حكى الله تعالى ذلك في سورة المائدة آية ٢٧.

وذكر بعض المفسرين ان إحراق القربان كان بفعل أنفسهم وبأيديهم ولم يكن معجزة خارقة للعادة واستشهد ببعض الفقرات من الفصل الاول من سفر اللاويين. ولكن ما ذكره مخالف لظاهر الآية الشريفة بل صريحها في ان إحراق القربان كان بسبب غيبي فهي معجزة دالة على صدق مدعي الرسالة واستشهاده بالتوراة الرائجة غريب جدا فإنها مضافا إلى معلومية تحريفها بحيث لا يبقى مجال للاستشهاد بها معارض بما دل على نزول النار من السماء. وقد كفانا مؤونة الرد عليه شيخنا البلاغي (قدس الله نفسه) فراجع.

وكيف كان فهي معجزة خارقة للعادة وهؤلاء زعموا ان ايمانهم

١٢٦

بالرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) متوقف على مجيء النار لتأكل القربان الذي يقدمونه وما دام الرسول لم يأتهم بذلك فهم لا يؤمنون به إطاعة لأمر الله تعالى لهم فيكون طلبهم لهذه المعجزة على سبيل التعنت لا الاسترشاد ولذا جاء الرد عليهم بالتكذيب.

قوله تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ).

تكذيب لهم في دعواهم على الله تعالى والزام لهم بالإيمان. اي : قل لهم يا رسول الله قد جاءكم رسل من الله تعالى قبلي وجاءكم بالبينات الواضحات الدالة على صدق دعواهم وحقية رسالتهم خصوصا ذلك الذي قلتم وهو القربان الذي تأكله النار.

قوله تعالى : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ).

اي : انكم لم تكتفوا بالعصيان وعدم الايمان بهم بل تجرأتم عليهم فقتلتموهم وهو يدل على خبثهم وجرأتهم على الحق واهله.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

زيادة تقريع لهم بأنهم كاذبون في ما زعموه وما نسبوه الى الله تعالى فكل ما ذكروه هي من مفتعلاتهم التي أرادوا منها الاعراض عن الايمان مع انه قد أمرهم انبياؤهم بالإيمان بالرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ).

تسلية للرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في تكذيبهم له اي : فان كذبوك يا رسول الله مع ما جئت به من الحجج الباهرة والمعجزات الكثيرة فقد كذّبوا رسلا من قبلك جاءوا بمثل ما جئت به فلا تحزن

١٢٧

لكفرهم فإنهم أبوا الا على العصيان ولا تعجب من فساد أمرهم.

قوله تعالى : (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ).

البينات : هي الحجج الباهرات والمعجزات الواضحات ، والزبر جمع زبور وقد ذكر لمادة (زبر) معان متعددة ولكن يمكن جعلها من متحد المعنى ـ وما ذكروه انما هو من ذكر المصاديق لا الاختلاف في اصل المعنى ـ وهو القطع والفصل يقال : زبرت اي كتبت لان الكتابة تستلزم تقطيع الحروف والكلمات ، ومنه زبر الحديد اي قطعها واجزائها ، ومنه ايضا زبرت الرجل اي : انتهرته وهو يستلزم قطعه عما زبر عنه.

والمراد بها تلك الكتب التي تشمل على الحكم والمواعظ التي تزجر الإنسان عن المعاصي وتمنعه عن ارتكاب الآثام.

والكتاب المنير اي المضيء بشرائعه ومعارفه وأحكامه ، والمراد به جنس الكتاب وهو الكتب المنزلة من السماء لإنارة الطريق وهداية الناس الى الصراط المستقيم : وانما جمع بين الزبر والكتاب وهما بمعنى واحد لاختلاف اصلهما والآثار المترتبة عليهما.

بحوث المقام

بحث ادبي :

خيرا في قوله تعالى : (هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) مفعول ثان ليحسبن ، والمفعول الاول هو البخل المدلول بقوله تعالى (يَبْخَلُونَ)

١٢٨

أو الذي بخلوا به مما آتاهم الله. و «هو» ضمير فصل والفاعل «الذين» هذا بناء على القراءة المشهورة «لا يحسبن» بالياء واما من قرأ بالتاء فالفاعل هو المخاطب إما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو من يستحق الخطاب ، و «الذين» مفعول أول على تقدير حذف مضاف واقامة (الذين) مقامه وهو فاصلة وخيرا مفعول ثان.

والالتفات في قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) الى الخطاب للمبالغة في التهديد لان تهديد العظيم بالمواجهة أشد وقرئ «بما يعملون» بالياء على الغيبة. وانما قال تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) دون (كتبنا ما قالوا) لان الكتابة في الماضي ربما تحتمل العفو فكان الخطاب الاول ابلغ في الوعيد.

ونظير قوله تعالى : (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) قوله عزوجل : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) فاطر ـ ٢٥ ولكن الفرق بينهما من جهتين :

الاولى : انه جعل لفظ الماضي ومبني للمجهول في الشرط مقام لفظ المستقبل في آية آل عمران قال تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) بخلاف الآية الشريفة الواردة في سورة فاطر فان الشرط فيها بلفظ المستقبل والفاعل مذكور مع الفعل.

الثانية : ان الآية المباركة في سورة آل عمران قد ذكر فيها (باء) واحدة (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) إلا في قراءة ابن عامر والآية الشريفة الواردة في سورة فاطر قد ذكر فيها باءات ثلاثة (بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) ولعل الوجه في ذلك انه قد ذكر فيها الشرط بلفظ المستقبل وذكر الفاعل أيضا فاقتضى ذكر الباءات

١٢٩

الثلاثة لبيان ان كل رسول كان من الرسل كان له واحدا من الثلاثة والآية الشريفة الواردة في سورة آل عمران كان الأمر فيها بيان ان الرسل كان من شأنهم إقامة الحجة على أقوالهم وإعطاء المواعظ الزاجرة وإنارة الطريق بالكتب بمعارفها الفاخرة.

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على امور :

الاول : يدل قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) على ذم البخل وانه من رذائل الأخلاق بل من مهلكاتها فهو يجلب الشر والشقاء للفرد البخيل ويضر الاجتماع وهو مانع عن الخير والسعادة الفردية والاجتماعية ، ويكفي في بعد صاحب هذه الرذيلة عن الكمال ان الله تعالى أوعد على من يبخل من ما تفضل الله تبارك وتعالى عليه بأن يجعله في شدة وعذاب وسيتمثل ذلك له حملا ثقيلا يكون كالطوق في عنقه مضافا إلى الفزع الأكبر الذي هو فيه ، وقد ترك ما ادخره وما بخل به فلم يأخذوا منه شيئا ويرثه الله تعالى الذي له ميراث السموات والأرض ، فكان ذلك وبالا عليه لم ينتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة.

والبخل تارة يكون عن عدم إعطاء الحقوق الواجبة على الإنسان ـ كالزكاة والخمس ـ وغيرهما. واخرى يكون عن عدم الانفاق في الجهات الراجحة غير الواجبة وثالثة يكون عن عدم الانفاق في الأمور المباحة غير المرجوحة شرعا واطلاق الآية الكريمة يشمل الجميع وسيأتي

١٣٠

في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذه الرذيلة الخلقية ان شاء الله تعالى.

الثاني : يدل قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) على تجسم الأعمال وقد دلت عليه الادلة العقلية والنقلية كما عرفت. ولم يبين سبحانه الطوق الذي يتمثل لهم يوم القيامة في هذه الآية الشريفة لتهويل الأمر ، ولاختلافه باختلاف درجات البخل وكمية ما بخل به وسائر خصوصياته وقد ورد في بعض الأحاديث «يطوق ماله شجاعا اقرع» ولعله في مقام بيان احد المصاديق ،

الثالث : يدل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ان كل ما يعطاه الإنسان من مال وجاه وقوة وفضل وعلم بل كل ما في الأرض والسموات عرض زائل لا يبقى وصاحبه يفنى ولا وجه للبخل به واستبقاء ما هو فان وزائل ، وعليه ان يقرضه الى من يبقى ملكه ويدوم وان يبذله في المواضع اللائقة له وما أمره الله تعالى به وما هو مطلوب منه وبذلك قد أدرك رضاء الله تعالى فيكون محسنا والله يحب المحسنين.

الرابع : يدل قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) على ان القائلين بهذه المقالة قد اجتمع فيهم من صفات السوء وخصال الشر ما لم تجتمع في غيرهم من سوء ادب مع الله تعالى والجرأة عليه وتكذيب الرسل والبخل وقتل الأنبياء ، ومعاندة الحق.

والآية الشريفة تعدد تلك الخصال وتبين جرائمهم وتندد بها وتوعد عليها وتقلل من شأن المتصفين بها في نفوس المؤمنين.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ان الرضا بالمعصية معصية فمن رضي بقتل الأنبياء بغير حق من متأخري اليهود يكون مع المتقدمين الذين وقع القتل على أيديهم على حد سواء

١٣١

في المعصية وهم مشتركون في الجزاء والعذاب الحريق. ويدل عليه قوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) فكأن تلك الأفعال المنكرة قد حصلت منهم جميعا مباشرة مع العمد. ويرشدنا الله تعالى في مثل هذه الآيات إلى النظر في افعال المتقدمين والعبرة منها واستحسان ما استحسنوه وتقبيح ما فعلوه من القبائح والا كانوا شركاء معهم في الإثم.

السادس : يمكن ان يستفاد من قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ان كثرة الظلم انما هو من جهة كثرة ما يجزى على المعاصي الصادرة من العبيد فيكون التعدد والكثرة بحسب تعدد المتعلق وقد تقدم في التفسير وجه آخر فراجع.

ويستفاد منه انه لا يمكن ان ينسب الظلم اليه تعالى لفرض انه الذات المستجمعة لجميع الكمالات الواقعية والادراكية ومسلوب عنه جميع النقائص الواقعية والادراكية والظلم نقص واي نقص أشد منه فيمتنع ان ينسب اليه والا كان خلفا. وهذا البرهان يأتي في كل النقائص الواقعية والادراكية ولا يختص بالظلم فقط.

ومن الآية الشريفة يستفاد بطلان فلسفة اليهود والنصارى واشتمالها على امور لا تطابق العقل وفسادها أوضح من أن يخفى مع ان الفلسفة الاسلامية قد فتحت عليهم ابوابا من المعارف والحقائق ولكنهم اعرضوا عنها وحرفوا الكلم عن مواضعه.

السابع : يدل قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) على كمال الحفظ لما فيه من أمن النسيان ، وفيه من التوعيد ما لا يكون في غيره. وقد شاع استعمال لفظ الكتابة في التوعيد على الذنب وارادة العقوبة عليه.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) ان الرسل انما بعثوا بهذه الأمور الثلاثة : البينات

١٣٢

وهي الدلائل الواضحات التي تدل على صدق دعواهم وإثباتها مقابل كيد الكافرين وأباطيلهم. والزبر وهي المواعظ المشتملة على مكارم الأخلاق وفضائلها وما يكون موجبا لتهذيب النفس وتطهيرها من الرذائل والمفاسد. والكتاب المنير المشتمل على اصول المعارف والاحكام الإلهية التي تهدي الإنسان الى الكمال المنشود والسعادة في الدارين وهو اسم جنس يشمل جميع الكتب السماوية كما تقدم.

وانما ذكرها عزوجل لبيان شدة التنكير وقبح العمل فان الذين كذبوا الرسل انما حرموا أنفسهم من السعادة وما هو الصالح ، وللاعلام بأن جميع المعارف الإلهية والاحكام الشرعية والأصول الاعتقادية لا بد وان تنتهي الى وحي السماء.

بحث روائي

في الكافي عن الصادقين (عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال (عليه‌السلام) : «ما من احد يمنع من زكاة ماله شيئا الا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوقا في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب وهو قول الله عزوجل (سَيُطَوَّقُونَ) ـ الآية ـ».

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ما من ذي مال نخل ولا زرع ولا كرم يمنع زكاة ماله إلا قلدت ارضه في سبع ارضين يطوق بها الى يوم القيامة».

١٣٣

أقول : الأحاديث في مضمون ذلك كثيرة مروية في كتب الفريقين وقد ذكرنا انها من باب المثال لكل ثقل يطوق به في عنق الذي بخل بما تفضل الله عليه وذكر الزكاة والمال انما هو من ذكر أهم المصاديق وإلا فالآية المباركة عامة تشمل مطلق ما تفضل الله تعالى على الإنسان ولا بعد في تقليد الأرض في عنق مانع الحق لان تقليل الكثير وتكثير القليل واقعان تحت قدرته فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وفي الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا) قال : «ذكر انها نزلت في حيي بن اخطب لما نزل (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) قال : يستقرضنا ربنا انما يستقرض الفقير الغني».

أقول : الروايات في مضمون ذلك كثيرة وفي بعضها ان الذي قال ذلك رجل من اليهود ويقال له فنحاص وكان من علمائهم ؛ وفي آخر ان الذي قاله هم اليهود لما أتت الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) قال : «والله ما رأوا الله حتى يعلموا انه فقير ولكنهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا : لو كان غنيا لا غنى أولياءه وفخروا على الله بالغنى».

أقول : مثله ما رواه القمي في تفسيره ويستفاد منه ان الأسباب لهذه المقالة متعددة ومقصود اليهود من ذلك معروف وهو تطميع المؤمنين بالمال والإيحاء إليهم بأنهم هم الأغنياء والمال عندهم فقط فلا ينفعهم الايمان ، ويدل على ما ذكرناه ما ورد في المناقب عن الباقر (عليه

١٣٤

السلام) قال : «هم الذين يزعمون أن الامام يحتاج الى ما يحملونه اليه» فلو كان الامام ـ الذي هو من باب المثال ـ يحتاج الى مال اليهود فكيف بالمؤمنين وهذا هو أسلوب من الاساليب الخبيثة التي اتبعها اليهود عبر التاريخ لصد الناس عن الايمان بالرسل والأنبياء. وقد أبطل سبحانه وتعالى مزاعمهم بأحسن وجه وابلغ أسلوب ، وكل ذلك يدل على عدم فهمهم للكنايات ولوازم الكلمات.

في تفسير القمي في قوله تعالى : (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قال : «كان عند بني إسرائيل طست كانوا يقربون القربان فيضعونه في الطست فتجيء نار فتقع فيه فتحرقه فقالوا لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لن نؤمن لك حتى تأتينا بقربان تأكله النار كما كان لنبي إسرائيل فقال الله تعالى : قل ـ لهم يا محمد ـ (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

أقول : الوارد في جملة من كتب التواريخ ان محل قبول القربان كان في بيت المقدس ولعل ذكر الطست مثال لذلك المحل الخاص.

وفي الكافي في قوله تعالى : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) عن الصادق (عليه‌السلام) : «أما والله ما قتلوهم بأسيافهم ولكن أذاعوا أمرهم وأفشوا عليهم فقتلوا».

أقول إذاعة اسرار أنبياء الله تعالى أسرع في التسبب الى قتلهم من المباشرة في القتل ولعل ذلك هو السر في بيان الامام (عليه‌السلام) له.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) قال أبو جعفر

١٣٥

(عليه‌السلام) الزبر هو كتب الأنبياء ، والكتاب المنير الحلال والحرام».

أقول : يمكن ان يكون ذلك بيانا لبعض المصاديق فلا ينافي ما تقدم في التفسير.

بحث فقهي

الآية الشريفة «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ـ الآية ـ» تدل على حرمة البخل وقبح جمع المال وادخاره ، ولكن المستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الكتاب والسنة ان جمع المال وادخاره ينقسم حسب الاحكام الخمسة التكليفية.

الأول : ما إذا كان واجبا وهو ما إذا جمعه الإنسان لأن يصرفه في النفقات الواجبة ـ خالقية كانت او خلقية ـ وهي كثيرة كالانفاق على الأولاد أو إعطاء الدين وغيرهما مما ذكر في الكتب الفقهية.

الثاني : ما إذا كان مندوبا وهو الجمع للصرف في الخيرات والمبرات الراجحة شرعا.

الثالث : ما إذا كان مكروها وهو الجمع والادخار للإنفاق في الأغراض المرجوحة شرعا غير البالغة حد الحرمة كجملة من الانفاقات التي تنفق لأجل التفاخر بين الناس والمراءاة معهم.

الرابع : ما إذا كان محرما وهو الجمع للصرف في الأغراض المحرمة شرعا.

الخامس : ما إذا كان مباحا وهو ما إذا لم يترتب عليه أية جهة راجحة أو مرجوحة لو لم نقل بأن جمع المال من حيث هو مرجوح

١٣٦

شرعا كما يستفاد من جملة من الأخبار كقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله). «الدنيا جيفة وطلابها كلاب» وقول مولانا الصادق (عليه‌السلام) : «والله ما تناولت من دنياكم إلا ما اضطررت إليها» : الى غير ذلك مما روي عن المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين).

بحث عرفاني

جمع المال بلا شوق ومحبة اليه غير ممكن لما ثبت في محله ان كل فعل معلول الشوق والمحبة وبدونهما يكون المعلول بلا علة وهو باطل بالضرورة ولا ريب في انه ينافي محبة الله تعالى والشوق اليه وهو من أهم الموانع التي تصد الإنسان عن ذكر الله تعالى والقيام بوظائفه الشرعية ، وهو من العوائق التي تعيق عن الاستكمال والتخلق بأخلاق الله عزوجل اللهم الا ان يكون الجمع لأجل الانفاق في ما يرتضيه الله تعالى فيرجع الى حب الله تعالى.

ومن ذلك يظهر السر في ما ورد في القرآن الكريم من الانفاق في سبيل الله تعالى فانه الطريق الأمثل للوصول الى أعلى المقامات والتنزه عن جملة من الرذائل كرذيلة الشح والبخل ونحوهما.

ولكن مع ذلك جمع المال بنفسه من المبعدات عن حظيرة القدس وساحة الرحمن ولعل السر في كثرة تنزه الأنبياء (عليهم‌السلام) والأولياء عن الدنيا هو ذلك.

١٣٧

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

رجوع إلى استنهاض الناس إلى الجهاد في سبيل الله تعالى والصبر والمثابرة في ميدان القتال وان المعركة مع اعداء الله تعالى حتمية لا بد منها واثبات كلمة التوحيد مما لا يمكن التخلّي عنه والموت الذي يصيب كل ذي حياة لا يمكن الفرار منه فلا بد ان لا يخاف منه ولا يكون حائلا عن تطبيق ذلك الهدف الأسمى والله جلت عظمته يوفي الأجور في يوم يحتاج إليها الإنسان وليست الدنيا محلها فإنها المتاع الذي يستمتع به الإنسان في ايام قلائل ثم يزول عنها ، فهذه الآيات الشريفة تحرض

١٣٨

المؤمنين الى الجهاد بأبلغ أسلوب.

ثم ذكر سبحانه وتعالى ان السنة في هذه الحياة الفانية هي التمحيص والتمييز والابتلاء ولا يمكن لاحد التخطي عن هذا الامتحان الالهي وهي سنة حتمية لا يمكن الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة ونيل الأجر الحقيقي والعبودية الكاملة الا مع العبور على هذه القنطرة والدخول في تلك السنة الربانية.

وقد ذكر عزوجل من الابتلاء ما يناله المؤمنون من اعداء الله تعالى من الأذى قولا والعدوان فعلا ثم وعدهم الحسنى ان هم صبروا واتقوا وهما من عزائم الأمور التي يحتاج إليها كل فرد في مواجهة المشاكل والمكايد.

وأخيرا بين سبحانه وتعالى مفاسد اخلاق اهل الكتاب الذين أمرهم الله جلت عظمته ببيان الحق وأخذ عليه الميثاق منهم ولكنهم خالفوه وعاندوه فكتموه وحرفوه وأوعدهم النار وسوء العذاب.

كما بين سبحانه وتعالى ان ما سواه عزوجل هو ملك له يتصرف فيه بما يريد جلت عظمته وبما يشاء وهو على كل شيء قدير لا يمنعه عن ارادته احد.

التفسير

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ).

قضية حقيقية طبيعية وجدانية ، فان بناء هذا العالم على تجدد الأمثال وتبدل الأحوال ، وان دار الدنيا دار الكون والفساد ومقتضى ذلك ان

١٣٩

التبدل والموت والفناء من مقومات حقيقة هذا العالم ولذا بدأ بالحكم العام المقضي له في حق كل ذي حياة ولا يستثنى من ذلك احد فاصل القضية وجداني لكل ذي حياة. نعم عامة الناس محرومون عن ترتيب الأثر على هذا الأمر الوجداني قال تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الأنبياء ـ ١ وفي الحديث : «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا».

والآية الشريفة تنبه الناس الى المصير المحتوم ، وتزجرهم عن ما هم عليه من الغفلة والذهول ، وتحرض المؤمنين الى القتال مع اعداء الله تعالى ، وتبين أن هذه المعركة حتمية فلا ينبغي الخوف لان كل نفس ذائقة الموت ، فمن يقعد عن القتال لا ينجو من الموت فلا عذر في القعود ، ثم هي توعد الكافرين والمنافقين الذين قعدوا عن القتال فان الموت لا بد منه وهو ملاقيهم ولا مفر منه قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجمعة ـ ٩ وليست الدنيا إلا متاعا يستمتع به الإنسان ثم يزول مهما طال الزمن فهم لا بد لهم من الورود على الله عزوجل الذي يجازيهم على أعمالهم ، فالآية المباركة تتضمن الوعد للمصدق والوعيد للمكذب.

وهي تسلي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمؤمنين بأن حياة الظالمين منتهية لا محالة وسينتهي ما يلاقونه منهم من البلاء والعذاب ، وليس عليكم من أوزارهم شيئا.

والمراد بالنفس ما به الحياة وعمومها يشمل كل ذي حياة من الإنسان والحيوان والنبات والملائكة قال تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ

١٤٠