مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣١

سنة حكيمة ولعل من بعض اسرارها أعمار نظام الدنيا الظاهري حتى تظهر دولة الحق فان الله تعالى أراد ان يعمرها بهذا النحو لأجل مصالح كثيرة ، وان الله تعالى ينعم على الكافرين ليميز الخبيث من الطيب ويزيد في درجات المؤمنين أو يرجع الكافر من العصيان الى الطاعة والايمان فإذا اختاروا صرف ما املى به الله تعالى لهم في الطغيان والعصيان فهم في غضب الله تعالى وسخطه ما لم يرجعوا فإذا رجعوا إلى الايمان والطاعة دخلوا في رحمته ورضوانه فالاملاء ليس علة تامة للمعصية بل هي تصدر بعمد الفاعل واختياره.

ولا يختص مضمون هذه الآية الشريفة بالذين كفروا أو بشخص معين بل يجري في النوع وفي كل من يعصى الله تعالى.

ومادة (ملل) تدل على رفع القيد ، ومنه أملى لفرسه إذا أرخى الطول ليرعى كيف شاء ومنه الملأ : الحين الطويل والأرض الواسعة لأنه يرجع إلى رفع القيد والإطالة أيضا ، وإلى هذا يرجع الملوان وهما الليل والنهار لطول تعاقبهما.

والمعنى : لا يحسبن الكافرون إن املاءنا لهم بالإمهال وازالة القيود المانعة عن الاستفادة من أموالهم وأولادهم وشؤونهم خير لأنفسهم لان الإنسان بطبعه يحب الخير لنفسه والشيء انما يكون خيرا إذا صرفه الإنسان في تهذيب نفسه وتزكيتها من مساوي الأخلاق أو كسب به عملا صالحا ينتفع به دائما ولكنهم صرفوها في الخيرية الموقتة الزائلة ولا ريب انه ليس بخير بل الخير ما كان نفعه دائما وابدا.

قوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً).

بيان لإحدى المصالح والحكم التي اقتضت إملاء الله تعالى لهم

١٠١

وهي تعلق ارادة الله تعالى بأن يكون امهالا لهم واستدراجهم إلى زيادة الإثم بسوء اختيارهم وإضرارا بأنفسهم جهلا منهم.

واللام في قوله تعالى : (لِيَزْدادُوا) للعاقبة نظير قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) القصص ـ ٧. والحصر المستفاد من «انما» باعتبار العاقبة لانحصار الحكمة في ذلك فقط.

اي : ليس لهم عاقبة خير ما داموا على الكفر والعصيان كما عرفت.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

بيان لسوء حالهم في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا اي وراء ذلك عذاب معه الهوان جزاء كفرانهم وانما كان عذابا مهينا باعتبار تعززهم وتجبرهم في الدنيا بما املى الله تعالى به لهم من انواع النعم وإطالة الاعمار فاورثتهم ذلك في الآخرة عذابا مهينا لهم.

قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ).

ذكر تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة جملة من القضايا الحقيقة الثابتة في الطبيعة التي هي مسخرة تحت ارادته ومشيته جلّت عظمته وهي من أهم القوانين الجارية في مسير التكامل والاستكمال ، ولا تختص بنوع معين بل هي جارية في جميع الماديات من الجماد والنبات والحيوان والإنسان لان المهم لافراد الإنسان في عالم المادة هو تمييز الخبيث من الطيب لأغراضهم العقلائية ونرى ذلك في الاعشاب والنبات والأثمار والمعادن والأحجار إلى غير ذلك مما لا يحصى وأوكل الله تعالى كل ذلك إلى بني آدم كما في قوله تعالى : (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لقمان ـ ٢٠ على حسب مراتبهم في العقول والأفكار.

واما نفس الإنسان فقد تصدى الباري عزوجل تمييز خبيثهم عن

١٠٢

طيبهم بواسطة أنبيائه ورسله الذين هم ادلة مقاله وتراجمة وحيه ، وكفى بذلك فخرا لهم على غيرهم من الممكنات.

وفي هذه الآية الشريفة التفات إلى المؤمنين وإعراض عن خطاب الكافرين الذين بين سبحانه وتعالى حقيقة الأمر بالنسبة إليهم ، وفيها أرشد عزوجل المؤمنين إلى انهم لم يخرجوا عن سنة الابتلاء التي هي من أهم سبل التكميل.

والمراد بقوله تعالى : (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) اي : بما هم عليه من اشتباه الحال واختلاط بعضهم ببعض. وفي الآية الشريفة الوعد بالنسبة إلى المؤمنين والوعيد بالنسبة إلى الكافرين والمنافقين. وقد ذكر المفسرون في المراد من الآية الكريمة اقوالا لا ترجع إلى محصل.

قوله تعالى : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

غاية للنفي السابق اي : ان الله تعالى ما كان يذر المؤمنين على اشتباه الحال واختلاط المخلص في الايمان بغيره حتى يفرق بين الخبيث والطيب فانه لا بد من التمييز لان الأمور لا تستقيم إلا إذا تميز الخبيث من الطيب لان الخبيث لا اهلية له بالاختلاط مع الطيب ولا اهلية له لحمل الأمانة الملقاة على المؤمنين ولا تستقيم حالهم إذا خالطهم الخبيث فانه يعوقهم عن إقامة الحق ويوهن عزائمهم ويعوج لهم الطريق المستقيم فالخبيث بمنزلة المرض الذي يوجب الهلاك والفناء.

والمراد بالخبيث كل من كان منقادا للشيطان وتابعا لهواه ولم يتنور قلبه بنور الايمان فيسرع الى فعل الموبقات وارتكاب الآثام ويسعى إلى البغي والفساد والانقلاب على الأعقاب.

والطيب بخلافه وهو المطيع لله تعالى المخالف لهواه والمتبع للحق.

١٠٣

ويميز ـ بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء ـ فعل مضارع وماضيه ماز ، وقرئ بالتشديد فيكون ماضيه ميّز ، وهما لغتان بمعنى ، كما عن جمع من اللغويين ، وليس التضعيف لتعدي الفعل لأنهما يتعديان إلى مفعول واحد يقال : مرّت الشيء بعضه من بعض أميزه ، وميزته تمييزا وقال بعضهم : مزت الشيء اميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين ، فان كانت أشياء قلت ميزتها تمييزا نظير (فرق) فانه إذا جعلت الواحد شيئين يقال : فرقت بينهما (مخففا). ومنه فرق الشعر وإذا جعلت بين الأشياء يقال فرقت (مشددا) تقريبا. وامتاز القوم اي تميز بعضهم عن بعض وفي الحديث : «من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة».

والطيب والخباثة قد ينسبان إلى الذوات ، وقد ينسبان إلى الأفعال والأعمال والصفات ، ولمشيته تبارك وتعالى وارادته دخل في تمييز الخبيث من الطيب بنحو الاقتضاء كما ان لإرادة العبد أيضا دخلا كذلك ، فإذا اجتمعت جميع مقتضيات الخباثة فإلى النار لا محالة ، كما إذا اجتمعت جميع مقتضيات الطيب فالى الجنة لا محالة ، والمقتضيات في كل واحد منهما كثيرة لا يحصيها الا الله تعالى ، ولعل تعقيب هذه الآية الشريفة بقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) اشارة إلى ذلك.

وطرق تمييز الخبيث من الطيب كثيرة ولا يتعين في طريق خاص فاما الإخبار بالطيبين والخبثاء والاطلاع عليهم بالوحي من دون مقاساة الأهوال والبلايا ولكن ذلك خلاف حكمته تعالى فانه لا يطلع على غيبه احد وما اقتضته السنة الاجتماعية والنظام الأحسن. أو الابتلاء الذي يكشف عن خفايا النفوس وغير ذلك.

١٠٤

وكيف كان فلا بد من تدبير ربوبي ومعية قيومية ولا يمكن ان يقوم به غير الله تعالى وهو من علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به نفسه فلا يطلع عليه احد إلا من اجتبى من رسله فيطلعه على ذلك بالوحي وفي ذلك يقول تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ).

والتمييز هذا يقترن مع الشدة والجهاد وبذل الأنفس والأموال وفيها مقاساة البلاء ومشاهدة مختلف الأهوال والمتاعب والمشاكل الكثيرة ويحتاج الى الصبر والمثابرة ، فان جميع ذلك مقدمة للسعادة العظمى والفوز الأكبر في الدنيا والعقبى ، بل مقدمة لوصول العاشق المتيم الى المعشوق الحقيقي وليست متاعب هذه المرتبة محدودة بحد خاص ودرجة مخصوصة وقد وصف علي (عليه‌السلام) المؤمنين الممتحنين بالامتحان الربوبي في خطبته المباركة الواردة في وصف المتقين بأحسن وصف.

ولكن لا بد ان يعلم ان التمييز الذي يوجب الحمد واستحقاق عظيم الأجر والثواب انما هو ما كان بالاختيار الحاصل من الايمان بالله تعالى ورسله ، والعمل الصالح والتقوى ، فالطيب والخباثة انما يدوران مدار الأمر الاختياري وهو الايمان والكفر ولذا كانا أمرين اختياريين ، ولعل ذيل الآية الشريفة يرشد إلى ذلك قال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) آل عمران ـ ١٧٩.

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ).

اي ان الله تعالى لا يليق بحكمته وجلالة شأنه ان يطلع أحدا من عباده على الغيب إلا من يجتبي من رسله من يشاء فيطلعه على الغيب بالوحي.

١٠٥

والمراد بالغيب الشريعة وشؤونها وموارد الامتحان وخصوصياته ودرجاته فانه كما عرفت له شأن كبير ليس كل احد أهلا له ، بل قيام كل فرد به اختلال النظام ولأن عالم المادة هو عالم الحجب الظلمانية وعالم الغيب مباين له فكيف يمكن ان يطلع المحجوب بالحجب الظلمانية على الغيب المكنون. نعم لو أمكن لعبد ازالة تلك الحجب باختياره لعلم ما لا يعلمه غيره وهو يختص بمقام الأنبياء والمرسلين حيث أشرقت على نفوسهم المقدسة الشوارق الازلية وكانوا أهلا للكمال فعرجوا بهممهم العالية عن الأمور الدنيئة فتتابعت عليهم الفيوضات الإلهية فصاروا قسيمي الجنة والنار.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ).

اي : ان الطريق الذي اختارته الحكمة الإلهية والذي يكشف به خبايا النفوس ويتميز الطيب من الخبيث هو ان يرسل الله من يجتبيه من رسله ويدعوا الناس الى الايمان بالله ورسله والطاعة له والجهاد في سبيله تعالى والصبر على الايمان فانه الطريق الذي يميز به الخبيث من الطيب. وقد بين سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن الكريم ان الحياة الدنيا هي محل الابتلاء قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الملك ـ ٢.

والاستدراك في الآية المباركة (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) لبيان كيفية وقوع التمييز على سبيل الإجمال واشارة الى امر مهم لا يمكن ان يتصدى له احد الا هو عزوجل وهو الاصطفاء والاجتباء من عباده للانذار والتبشير وتصديه للتمييز بين الخبيث والطيب بأمره تبارك وتعالى ، ولعل في ذكر اسم الجلالة إيماء الى ان تلك الأمور يتصف بها هو عزوجل لكونه الها.

١٠٦

قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ).

أتم بيان للتمييز بين الخبيث والطيب اي : آمنوا مخلصين في ايمانكم بالله ورسله الذين اجتباهم تعالى لهدايتكم. والتفريع باعتبار ان الايمان بالله تعالى والرسل مادة الطيب وروح الحياة الطيبة كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) النحل ـ ٩٧ وهو يدل على ان ثمرة الايمان هي الحياة الطيبة ، والمستفاد من ذلك ان الطيب والخباثة يدوران مدار الايمان والكفر ، وقد امر سبحانه وتعالى باكتساب سبب الطيب ومادته بالاختيار لان الايمان امر اختياري.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

إعلام بأن آثار الحياة الطيبة مترتبة على العمل الصالح والأجر متفرع على الايمان والتقوى بعد بيان أن الايمان روح الحياة الطيبة وهو مادة الطيب فالاجر العظيم المعدّ للمؤمنين انما يكون لمن آمن بالله تعالى ورسله واتقى ما يوجب مخالفته عزوجل وهذا ما يدل عليه جملة كثيرة من الآيات الشريفة. ولذا كرر عزوجل الأمر بالإيمان فان الاول كان لدرك طيب الحياة ، والثاني لدرك الأجر العظيم الذي لا يعرف كنهه وخصوصياته الا الله تعالى لان الابتلاء عظيم وهو شاق على النفوس فيكون أجره عظيما ايضا.

١٠٧

بحوث المقام

بحث ادبي :

قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ) بفتح الياء وضم الزاي ، فان (يحزن) بفتح الياء والزاي للقاصر ، وبضم الزاي للمتعدي وفي المصباح انها لغة قريش وعليها استعمال القرآن الكريم في تسعة موارد منها المقام واسم المفعول (محزون) في العامة من هذه اللغة.

وشيئا في قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) واقع موقع المصدر اي شيئا من الضرر وهو يفيد العموم لوقوعه في حيز النفي اي لا واقعا ولا وهما.

وقوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) عطف على قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ) والفعل مسند الى الموصول و(ان) ومعمولها ساد مسدّ مفعوليه لحصول المقصود وهو تعليق افعال القلوب بنسبة بين المبتدأ والخبر ، وقيل المفعول الثاني محذوف و(ما) إما مصدرية أو موصولة ؛ والضمير في (نملي) محذوف أو التقدير عليه وكان الحق ان تكتب (ما) في الوجهين مفصولة ولكنها كتبت موصولة في المصاحف ، ولعل الوجه هو المشاكلة لما بعده. و «خير» خبر وقرئ «خيرا» بالنصب على ان يكون لأنفسهم هو الخبر. و «لهم» بيان أو حال من «خير» هذا.

وقرئ و «لا تحسبن» بالتاء والخطاب إما للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

١٠٨

أو لكل من يتأتى منه الحسبان فيكون الموصول مفعولا و «انما نملي» بدل اشتمال من «الذين» فيسد مسد المفعولين كما عرفت.

واللام في قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) قيل انها متعلقة بمحذوف هو الخبر والفعل يذر منصوب بأن مضمرة اي : وما كان الله مريدا لان يذر المؤمنين.

وقيل إن اللام مزيدة للتأكيد وناصبة للفعل ، والخبر هو الفعل وأشكل عليه بأن الزائدة كيف تعمل ويجاب عنه بانه لا يقدح زيادتها فان الزائد قد يعمل كما في حروف الجر.

والحق ان اللام لا تكون زائدة بل هي للتأكيد وتنصب الفعل لأنه لا معنى للزيادة في القرآن ولو بحرف واحد كما عرفت.

و «يذر» من يوذر حذفت الواو منها تشبيها لها بيدع وليست العلة التي أوجبت حذفها موجودة في الأخيرة ولكنها موجودة في «يذر» إذ لم تقع بين ياء وكسرة ولا ما هو في تقدير الكسرة بخلاف (يدع) كما هو معلوم.

وانما فتحت الذال تشبيها بيدع فان الدال فيه فتحت لان لامه حرف حلقي مثل يسع ، ويقع ، ولم يستعملوا من «يذر» ماضيا ولا مصدرا ، ولا اسم الفاعل ، استغناء بتصرف مرادفه ، وهو يدع.

ومن في قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ) لتبين الصفة لا التبعيض لان الأنبياء كلهم مجتبون كما في قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) فاطر ـ ٢ ، وكما في قولك : (عندي عشرون من الدراهم) إذا قصد بالدراهم جنسها دون دراهم معينة ، وقد أوضح ذلك الشيخ الرضي في شرح الكافية.

وقيل : إن (من) في المقام لابتداء الغاية وتعميم الاجتباء لسائر

١٠٩

الرسل للدلالة على ان شأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في هذا الباب له اصل اصيل وأمر مبين له وجار على سنة الله تعالى الجارية في جميع الرسل (صلوات الله عليهم أجمعين).

ولا فرق بين الوجهين من حيث النتيجة لان الأنبياء في كل من الوجهين يكونون من المجتبين لله تعالى ، ولكن الوجه الأخير من الوحدة في الكثرة باعتبار ان مقام سيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مقام جمع الجمع بخلاف الاول فانه بلحاظ الكثرة بنفسها.

وقيل : ان (من) للتبعيض لان الاطلاع على المغيبات مختص ببعض الرسل بما فضل الله تعالى به بعضهم على بعض لا بأصل الرسالة ولكنه بعيد عن السياق خصوصا بملاحظة التفريع في قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ).

وطلع في قوله تعالى : (لِيُطْلِعَكُمْ) لازم ومتعد يقال : طلعت على كذا ، واطّلعت عليه ، واطلعت عليه غيري فهو لازم ومتعد.

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على امور :

الاول : يدل قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) على ان إعراض الناس عن الايمان موجب لحزن سيد الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ونظير ذلك قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) الكهف ـ ٦ وقوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)

١١٠

فاطر ـ ٨ فهو الحريص على ايمان الناس جميعهم والدخول في رحمة الله عزوجل ولا يبقى بغي وظلم على وجه الأرض.

والآية الشريفة تسلي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن ذلك وترشده الى الحزن لأنه ليس له الا البلاغ قال تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) الرعد ـ ٤٠ ، مضافا الى أن المستفاد من الآية الكريمة أن سبب حزنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هو مسارعتهم في الكفر وخوف الإضرار بالمؤمنين ، ولذا ورد في علة النهي (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً).

الثاني : يدل قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) على كمال عنايته عزوجل بالرسول الكريم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمؤمنين حيث جعل مضرتهم مضرته عزوجل ، وهو يعدهم بأن إضرار الكافرين لا يصل إليهم كما ان اضرارهم لا يصل الى الله تعالى فانه الغني عن العالمين والقادر على أن يغني المؤمنين ويعزهم بعزته ، ويمنحهم الصبر ويجزيهم الجزاء الأوفى ، ويقمع كيد الكافرين ويرده عليهم قال تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)» الزمر ـ ٦٣. ومن مظاهر استيلاء الله تعالى عليهم وعدم إمكان اضرارهم له أن حرمهم الله تعالى من حظ الآخرة الذي هو عظيم امره ، وأوعدهم العذاب العظيم الذي أعده الله تعالى الكافرين جزاء مسارعتهم في الكفر وكانت ارادته تعالى لذلك مستمرة معهم لا تبديل لها وهم اختاروا ذلك.

الثالث : يدل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) ان كل من اعرض عن الايمان سواء كان من المسارعين في الكفر أم من غيرهم لن يضروا الله تعالى والمؤمنين فإنهم معززون بعزته.

١١١

والآية المباركة تدل على كمال غبنهم في هذا التبديل حيث بدّلوا أعز الأشياء وأعظمها وخيرها بأخسّها وأقبحها وشرها وفي هذه الحالة كيف يمكن ان يضروا الله تعالى وهو القيوم والعزيز الذي لا يضام والعظيم الذي لا يدانيه احد.

وهذه الآيات تدل على أعظم الحقائق الواقعية التي غفل عنها جميع اهل الباطل ، فان انغماسهم في المادة وغرورهم في الدنيا وتجبرهم على الحق واهله أوجبت أن يظنوا بالله العظيم الظنون الباطلة التي أوقعتهم في المهلكة والشقاء.

الرابع : يدل قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) على حقيقة وهي ان الخير في الدنيا انما هو امر وهمي لا واقع له ، وانما الخير الواقعي الذي لا بد من طلبه والسعي في ابتغائه هو الذي يبينه عزوجل ويحده القرآن الكريم في مواضع متعددة وهو الايمان والتقوى والعمل الصالح الذي يترتب عليه الحياة الطيبة والسعادة العظمى في العقبى قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) النحل ـ ٩٧ وقال تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت ـ ٦٤ فالخير الذي يظنه الكافرون مما أنعمه الله تعالى عليهم من الأموال والأولاد انما هو في الواقع تسخير إلهي لينساقوا الى حيث لا يبقى لهم حظ وقد سلبهم عن الكمال الواقعي المعد لجميع افراد الإنسان ومن سوء ظنهم انهم اعتبروا ان ذلك الاستدراج لهم من المسارعة لهم في الخيرات ، قال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) المؤمنون ـ ٥٦ وفي ظنهم انهم يوم القيامة

١١٢

يؤتون خيرا مما أوتوه في الدنيا قال تعالى : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) الكهف ـ ٣٦.

وقد بين عزوجل في موضع آخر ان هذا الاستدراج من كيده المتين ، قال تعالى : «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» الأعراف ـ ١٨٣ فاعتبر عزوجل أن ذلك الاستدراج من جزاء الكيد الذي اراده الكافرون لله وللمؤمنين فهو يسوقهم به الى ازدياد الإثم الموجب لاستحقاق العذاب المهين ولا يخرج جميع ذلك عن سنة متقنة جارية في الحياة وهي سنة التكميل وابتلاء المؤمنين وتمييز الخبيث من الطيب ، قال تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) آل عمران ـ ١٨٦ هذه هي الحقيقة في استدراج الكافرين وبيان الواقع في إملاء الله تعالى لهم في الأموال والأولاد.

الخامس : يستفاد من التفنن في وصف العذاب في المواضع الثلاثة ـ بين عظيم واليم ومهين ـ ان كل وصف يناسب مضمون الآية التي ورد فيها الوصف ، ففي المسارعة في الكفر يكون العذاب عظيما لان الكفر قد خلب لبهم واستولى على جميع احاسيسهم ، واشتد تسرعهم فيه ، فكان ذلك عظيما وكان الجزاء كذلك ايضا.

وفي اشتراء الكفر بالإيمان يكون العذاب أليما لأنهم تركوا الإيمان ورغبوا في الكفر بسوء اختيارهم فإنهم بعد معرفتهم حقيقة الحال لا بد من تألمهم كما يتألم المشتري المغبون إذا عرف مقدار الغبن الكبير ولا محيص عن دفعه عنه.

وفي الإملاء للكافرين يكون العذاب مهينا فإنهم كانوا يتجبرون بما

١١٣

املاهم الله تعالى لهم ويطلبون بذلك العز والكرامة فآتاهم الله عزوجل العذاب المهين وكل ذلك من دقائق الأمور التي لا يعلمها إلا الله جلت عظمته.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) ان التكميل والابتلاء في طريقه وتوارد الآلام والمحن في ابتغائه مما لا بد منه ولا محيص عنه فان من أراد ان يسلك في سلك الطيبين فلا بد له من تحمل البلاء والصبر عليه.

وتدل الآية الشريفة على ان التمييز بين الخبيث والطيب في الإنسان منحصر في الايمان بالله تعالى والتقوى والعمل الصالح ، فالدخول في الطيبين طريقه منحصر في الايمان بالله تعالى ولكن ذلك لا يكفي في نيل الأجر العظيم بل لا بد من البقاء والاستمرار عليه وحفظ طيبه وهو منحصر في العمل الصالح والتقوى.

وبالجملة : ان من كان مؤمنا بنحو ما اراده الله تعالى من العبد فهو من الطيب فإذا وافق العمل الاعتقاد كان طيبا بالذات وبالفعل ، ويستتبع ذلك سعادة الدنيا والآخرة. ومن كان غير ذلك فهو خبيث إما اعتقادا أو عملا أو هما معا.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) انهما أمران اختياريان لأنهما يدوران مدار الايمان والكفر وهذه حقيقة قرآنية ويترتب عليها امور مهمة منها جزاء الأعمال ، ومنها تكشف اسرار التوحيد ولعلنا نتعرض لذلك في موضع مناسب ان شاء الله تعالى.

الثامن : يدل تكرار لفظ الجلالة ـ في قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما

١١٤

كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) ، مع ان الثلاثة الأخيرة من وضع الظاهر موضع المضمر ـ على ان الله تعالى هو مصدر الجلال والجمال ، وان تلك الأمور التي في الآية الشريفة من مختصات الإله الواحد المتصف بالالوهية وان الرسل وسائط الفيض.

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ) ان طريق الإنسان الى العلم بالحقائق إنما هو منحصر بالاستدلال ، والحاصل من نصيب العلامات واقامة البراهين ، وانه لا مطمع لاحد في الاطلاع على الغيب فانه منحصر بالله تعالى وبمن يجتبيهم عزوجل.

وتعقيب هذه الآية الكريمة بقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ) يدل على فضل الرسل ومزيتهم على سائر الخلق وقصور رتبة غيرهم عن الاطلاع على الغيب والوقوف على خفايا الأمور والأسرار التي لا بد من إصدارها عن طريق الوحي.

العاشر : الآية الشريفة لا تبين طرق التمييز بين الخبيث والطيب وإنما تدل على انه من الأمور التي تختص بالله تعالى وقد بين عزوجل في مواضع اخرى من القرآن الكريم تلك الطرق ولعل ذكر اجتباء الرسل بعد ذلك فيه الدلالة على ان جميع مجاهدات الأنبياء وغزواتهم وحروبهم ليس الا للتمييز بين الخبيث والطيب ، فتكون هذه الآية الكريمة بمنزلة العلة لجميع ما ذكر في غزوة أحد وسائر الغزوات والله تعالى هو العالم بما مضى وبما هو آت.

الحادي عشر : يدل قوله تعالى : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) على ان الايمان لا يكمل الا بالتقوى وان الأجر انما يكون على حسب الايمان المقترن بالتقوى والعمل الصالح.

١١٥

بحث روائي

في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «قلت له : أخبرني عن الكافر الموت خير له أم الحياة؟ فقال (ع) : الموت خير للمؤمن والكافر قلت : ولم؟ قال لان الله تعالى يقول : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ويقول : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

أقول : روي قريبا منه في الدر المنثور عن ابن مسعود ، وحيث انه ذكر الأبرار في مقابل الذين كفروا صح ان يراد به مطلق المؤمنين لا طائفة خاصة ، ويشهد لذلك جملة من الآيات والاخبار التي وردت في بيان درجات الجنة للمؤمنين.

وفي اسباب النزول للواحدي قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «عرضت عليّ امتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر ، فبلغ ذلك المنافقين ، فاستهزأوا ، وقالوا يزعم محمد انه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ، ونحن معه ولا يعرفنا فانزل الله تعالى هذه الآية (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

أقول : على فرض صحة الحديث لا بعد فيه بحسب القواعد العقلية لان المستفيض قابل لجميع أنحاء الاستفاضة والمفيض بالنسبة اليه لاحد لإفاضته ، فعرض صور الامة عليه يكون كعرض أعمالها عليه في كل يوم الاثنين والخميس كما نطقت به الأحاديث.

١١٦

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

تضمنت الآيات الشريفة المتقدمة ما يتعلق ببذل النفس في الجهاد في سبيل الله تعالى وقد ذكر جلت عظمته فيها ما يرتبط بغزوة احد وما لاقاه المؤمنون المجاهدون في سبيله عزوجل من البلاء والمحن وما صدر عنهم فيها من الفشل والجبن والمخالفة وما ترتب على ذلك من اللوم والعتاب والآثار الكبيرة وبيّن سبحانه وتعالى جميع الجهات التي تعلقت

١١٧

بها ، فكانت غزوة أحد درسا عظيما للمؤمنين وفيها من العبر المهمة لهم وحث جلّ شأنه على الرجوع الى الحق وبذل النفس والصبر والمثابرة ووعدهم الجزاء العظيم ، وذكر الكافرين والمنافقين وبيّن حقيقة الحال فيهم. ثم ذكر تعالى ان إملائه للكافرين ليس إلا استدراجا لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين.

ويذكر عزوجل في هذه الآيات المباركة بعض اقسام الإملاء والاستدراج وهو الإملاء في جمع المال وضرب مثلا في الذي يبخل عن إنفاقه في سبيل الله تعالى فكان حاله حال إملاء الكافرين وأرشده سبحانه إلى الواقع وبين أشد انواع الوعيد بالنسبة اليه ثم عطف الكلام الى اليهود الذين كانوا مع النصارى موضوع الحوار في هذه السورة وبين خطيئة اليهود وانهم جمعوا كثيرا من صفات السوء والشر ما لم تجتمع في غيرهم فقد أساءوا الظن بالله تعالى وكذبوا بآياته عزوجل ونسبوا الفقر اليه وعادوا أنبياء الله وكذبوهم وكتموا الحق والميثاق الذي أخذ منهم وقد أمروا ببيانه ، وأوعدهم الله تعالى العذاب جزاء اعتقادهم وأعمالهم.

والآيات المباركة خاتمة الآيات الكريمة التي وردت في غزوة أحد وهي تأمر بالصبر والثبات وتستنهض الناس الى متابعة الحق والجهاد في سبيل الله وتحرضهم على الانفاق في سبيل الله تعالى والحذر من كيد اليهود ، وتسلّي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والمؤمنين من تكذيبهم.

١١٨

التفسير

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ).

تحريض على بذل المال في سبيل الله تعالى بعد التحريض على بذل النفس في الجهاد ، وتوكيد لما ذكره عزوجل آنفا من إملاء الكافرين ببيان اظهر مصاديقه وهو الإملاء بالمال ، فيكون حال الذين يبخلون بالمال وعدم إنفاقه في سبيل الله تعالى كحال الذين املى لهم الله تعالى وكلا الفريقين يعيش في الوهم والخيال وواقع في أعظم الشر في الحقيقة وبيان لحال البخيل وسوء عاقبته وتخطئة لما يتوهمه هو واهله من دعوى الخيرية ببيان حال الدنيا ، وهي ان جملة من معتقداتهم التي يهتمون بها ويرتبون الآثار عليها تكون وزرا عليهم ووبالا في دار القرار ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) البقرة ـ ٢١٦ فالبخيل عن انفاق المال في سبيل الله تعالى وان كان يجمع المال وهو خير بحسب الظاهر له ولكنه طوق ثقيل يحمله الإنسان في عنقه في الواقع ويظهر ذلك يوم ظهور الحقائق قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) التوبة ـ ٣٥.

الآيات الشريفة المتقدمة صريحة في تجسم الأعمال كما دلت

١١٩

عليه الادلة العقلية والنقلية ، والتجسيم يحصل بعمل نفس الإنسان وإعداده له كما تدل عليه هذه الآية. على ان الغنى والمال انما هو من فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء من عباده وفعل المكلف في ذلك انما يكون مقتضيا فيترتب عليه اثر فعله لا اثر فضله جلت عظمته.

قوله تعالى : (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

فيه كمال الاحتجاج على الباخلين ، وفيه التوبيخ والذم لهم فان ما يبخلون به إنما هو من عطاء الله تعالى وفضله ، والآية الكريمة لا تختص بنوع معين فان عموم قوله تعالى : (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يشمل المال والعلم والجاه وكل فضل من الله تعالى يمكن ان ينتفع به الناس فان الامتناع عن بذله والبخل به يكون مرجوحا وتشمله الآية المباركة وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من سئل عن علم فكتمه ألجم من نار».

قوله تعالى : (هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ).

بيان لواقع الحال في ان ما توهموه خيرا انما هو في الحقيقة شر لان ما زعموه في وجه الخيرية في البخل هو حفظ المال لمنافعهم وشؤونهم وهذا في مقابل الشر العظيم المترتب على ذلك عدم محض ، وهو يكشف عن رذيلة خلقية وهي رذيلة الشح وسوء الظن بالله العظيم ، وينبئ عن فسق صاحبه لان فيه خسة المعصية وبعده عن مكارم الأخلاق لأنه يخسر فضيلة الطاعة وحسن السماحة والرحمة ، والإعانة للضعيف ، والتكافل الاجتماعي ، مضافا إلى انه موجب للحرمان عن الثواب الجزيل المترتب على البذل والعطاء في سبيل الله تعالى ولعله لأجل ذلك جاء النص على كونه شرا مبالغة فيه ودفعا لكل توهم في قوله تعالى :

١٢٠