زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

كان بعد الدخول في الجزء المترتب كالشك في غسل الوجه بعد الدخول في غسل اليد اليسرى في الشك في المحل كما يشهد له ذكر الكبرى الكلية في ذيله :

ان الوضوء بتمامه اعتبر شيئا واحدا ، وإلا لم ينطبق عليه تلك الكبرى الكلية ، ولاوجه لذلك سوى ترتب اثر واحد أو انطباق عنوان واحد عليه على اختلاف المسلكين وهي الطهارة ، وعليه فيلحق به الغسل والتيمم.

وبهذا البيان يظهر عدم صحة ما أورد على هذا الوجه بأنه تخرص بالغيب من دون شاهد.

وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) (١) بان لازم ذلك عدم جريان قاعدة التجاوز في شيء من العبادات حتى الصلاة لترتب اثر واحد على كل واحدة منها.

وفيه : انه فرق واضح بين المسببات التوليدية وما شابهها كالطهارة على المختار التي تكون مأمورا بها وهي متعلقات التكاليف دون محصلاتها ، أو ما تنطبق عليه ، وبين غيرها مما لا يكون كذلك كسائر العبادات.

وحاصله ان نظر المستدل إلى ان المأمور به بالأصالة هو الأمر الواحد البسيط المتحصل من الغسلات والمسحات ، فالامر بها امر تبعي مقدمي ، فهو تابع للأمر بذي المقدمة ، فحيث انه واحد فكذا ما يحصله.

وعليه فلا يرد عليه النقض بسائر العبادات فانه فيها لا يكون المصلحة

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٩٧ بتصرف.

٨١

الداعية إلى الأمر مأمورا بها والامر متعلق بالعبادة.

وبذلك يظهر اندفاع ما أجاب به الأستاذ الأعظم (١) من ان المستفاد من الأدلة كون الغسلتين والمسحتين مأمورا بها لا انها مقدمة للمأمور به ، وعلى فرض تسليم كونها مقدمة فإنما هي مقدمة شرعية وليست عقلية كما لو وجب قتل احد وشك في تحقق بعض مقدماته كي لا يجري فيها القاعدة ، وتكون مورد القاعدة الاحتياط ، حيث ان الشك يرجع إلى الشك في المحصل.

إذ قد عرفت ان نظر المستدل إلى كون العمل مع تعدد اجزائه واحد ، فالشك في بعض اجزائه ما لم يتم العمل شك في المحل لا بعد التجاوز.

فالصحيح ان يورد على هذا الوجه انه على فرض حجية الموثق وعدم طرحه للاعراض لأجل ان الظاهر رجوع الضمير إلى الشيء لا إلى الوضوء ، وتسليم ان الوجه في ادخال الشك في شيء من الوضوء وهو فيه في الشك في المحل ترتب اثر واحد أو انطباقه عليه ، مع ان للمنع عنهما مجالا واسعا ، انه لاوجه للالحاق لان ذلك ليس علة منصوصة بل هو من قبيل حكمة التشريع التي لا يتعدى عنها فلا وجه للالحاق.

الثالث : وهو مختص بالتيمم ، وهو دليل البدلية ، فانه لا ريب في عدم جريانها في الوضوء فكذلك فيما هو بدل عنه.

وفيه : مضافا إلى انه أخص من المدعى ، ما حققناه في الجزء الثالث من فقه

__________________

(١) راجع دراسات في علم الأصول ج ٤ ص ٢٩٠ ـ ٢٩١ حيث اختار جريان قاعدة التجاوز في الغسل والتيمم دون الوضوء للنص.

٨٢

الصادق من عدم عموم يدل على بدلية التيمم عن الطهارة المائية في جميع الخصوصيات والأحكام ، فالأظهر جريان قاعدة التجاوز فيهما لإطلاق الأدلة وعدم المقيد.

واما المورد الثاني : فالأظهر ما هو المشهور على ما نسب إليهم الشيخ الأعظم (١) من الإلحاق : لإطلاق صحيح زرارة المتقدم لا سيما بناءً على ما هو الحق من رجوع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود.

واما الاستدلال له بموثق ابن أبي يعفور المتقدم بعد إرجاع الضمير في" غيره" إلى الوضوء بالتقريب المتقدم ، بدعوى : انه يدل على لزوم الاعتناء بالشك في الوضوء سواء أكان الشك في وجود جزء أو صحته إذا كان ذلك في الاجزاء.

فغير تام إذ مضافا إلى ما تقدم من عدم حجيته للاعراض أو طرحه لمعارضته مع ما هو اشهر منه.

يرد عليه ان دلالته على لزوم الاعتناء بالشك في صحة الجزء إذا كان في الأثناء وان كان بعد تجاوز محله ، إنما تكون بالإطلاق ، فيعارض مع عموم ما دل على لزوم إلغاء الشك بعد التجاوز والمضي عن المشكوك فيه ، وحيث ان دلالة معارضه إنما تكون بالعموم فيقدم عليه ، ويحمل الموثق على الشك في المحل أو

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٧١٥ (الموضع السادس) حيث اعتبر ان الشك في صحة الشيء شك في الاتيان بالشيء بل هو هو ، الا انه عاد واستشكل في ذلك واما نسبة الالحاق إلى المشهور فغير واضحة.

٨٣

الشك في وجود الاجزاء المعلوم خروجه عن العموم فيكون الشك في الصحة مشمولا لعموم الدليل فتأمل.

ولكن يمكن ان يقال ان الدليل المخرج للوضوء عن تحت القاعدة الكلية من عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحل ، إنما هو صحيح زرارة ، وهو مختص بالاجزاء التي سماها الله تعالى ، وهي الغسلات ، والمسحات ، وكون ما يتوضأ به ماء : فان الآية الكريمة الآمرة بالوضوء بقرينة ما في ذيلها (وان لم تجدوا ماء) دالة على اعتبار كونه ماء ، واما سائر ما يعتبر في الوضوء كما لو شك في الغسل من الأعلى ، أو الأسفل ، أو الترتيب ، أو الموالاة ، أو المسح ببلة اليمنى دون الماء الخارج ، وما شاكل فمما لم يسم الله تعالى ، فالصحيح لا يشملها ، وحيث يحتمل اختصاص الحكم بما فرضه الله تعالى كما في الشك في الركعات فلا علم بعدم الخصوصية فلا وجه للتعدي فيبقى تحت عموم القاعدة ، ولعله إلى ذلك نظر من ذهب إلى جريان القاعدة عند الشك في الصحة فتدبر فانه حقيق به.

فالأظهر هو الاختصاص في الموردين.

اعتبار الدخول في الغير في جريان القاعدة

الامر السادس : في بيان انه ، هل يعتبر الدخول في الغير في إجراء القاعدة ، أم لا؟ وعلى الأول ، فهل يعتبر الدخول في الغير الخاص ، أم يكفى الدخول في مطلق الغير؟

الأقوى انه في موارد الشك في الوجود كما لو شك في وجود الركوع مثلا

٨٤

يعتبر الدخول في الغير المترتب الشرعي ، لا لأخذ ذلك في دليلها ، بل لان التجاوز المعتبر في جريانها ولو بناءً على المختار من وحدة القاعدتين لا يتحقق في تلك الموارد إلا بالدخول في الغير ، وإلا فلا يصدق التجاوز عنه بعد كون الشك في اصل الوجود ، ففي موارد الشك في اصل الوجود يعتبر الدخول في الغير المترتب الشرعي ، ولازم ذلك هو اعتبار التجاوز عن المحل الذي جعل محلا للشيء شرعا وعدم كفاية التجاوز عما صار محلا للشيء بمقتضى العادة النوعية أو الشخصية.

ولكن في رسائل الشيخ الأعظم (ره) (١) في الموضع الثاني ان المراد بمحل الفعل المشكوك في وجوده هي المرتبة المقررة له بحكم العقل أو بوضع الشارع أو غيره ولو كان نفس المكلف من جهة اعتياده بإتيان ذلك المشكوك في ذلك المحل. ثم قال : هذا كله مما لا اشكال فيه.

إلا الأخير فانه ربما يتخيل انصراف إطلاق الأخبار إلى غيره مع ان فتح هذا الباب بالنسبة إلى العادة يوجب مخالفة اطلاقات كثيرة فمن اعتاد الصلاة في أول وقتها أو مع الجماعة فشك في فعلها بعد ذلك فلا يجب عليه الفعل ، وكذا من اعتاد فعل شيء بعد الفراغ من الصلاة فرأى نفسه فيه وشك في فعل الصلاة وكذا من اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتد به أو قبل دخول الوقت للتهيؤ فشك بعد ذلك في الوضوء إلى غير ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧١٠.

٨٥

واشكل عليه المحقق اليزدي في درره (١) : بان الأمثلة المذكورة جلها من قبيل العادة الشخصية ، والمراد من محل الشيء ما صار محلا له شرعا أو بمقتضى العادة النوعية ، واما ما صار محلا له بمقتضى العادة الشخصية فلا يشمله لفظ محل الشيء : إذ إضافة المحل إلى الشيء بقول مطلق لا تصح بمجرد تحقق العادة لشخص خاص بخلاف ما لو كانت العادة بحسب النوع.

واما ما أفاده من المخالفة للاطلاقات فيرد عليه انها لا تدل إلى على وجوب إتيان الفعل واما لو شك في انه وجد أم لا فلا تدل على عدم الإيجاد.

نعم قاعدة الاشتغال تقتضي وجوب الإتيان ما لم يقطع بالامتثال ، وكذلك استصحاب عدم الإتيان ، وعلى فرض تمامية نصوص الباب تكون قاعدة التجاوز مقدمة عليهما.

ويتجه على الشيخ الأعظم (ره) ان الأخبار لا تشمل في أنفسها موارد التجاوز عن المحل العادي حتى نلتجئ في إخراجها إلى ما أفاده من مخالفة الإطلاقات إذ ليس الموضوع في شيء من الأخبار التجاوز عن محل الشيء حتى يقال بشموله لذلك.

بل الموضوع فيها هو التجاوز عن الشيء ومضيه والخروج عنه ولكن حيث انه في مورد الشك في اصل الوجود لا معنى لذلك فنلتزم بان المراد التجاوز عن محله.

وبعبارة أخرى : يكون بحيث لو أريد الإتيان به لوقع على غير الوجه المأمور

__________________

(١) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ٢٢٦.

٨٦

به ولا ريب ان ذلك يتوقف على التجاوز عن المحل الشرعي فقط.

وبهذا يظهر ان ما استدل به المحقق اليزدي لما اختاره من كفاية التجاوز عن المحل العادي بحسب النوع من انه ليس في الأدلة ما يدل على التقييد بخصوص المحل الشرعي وان إضافة المحل إلى الشيء بقول مطلق ، تصح مع تحقق العادة النوعية ، ينبغي ان يعد من غرائب الكلام.

واما ما أورده على الشيخ الأعظم ، حيث ذكر ان إجراء القاعدة في الموارد المذكورة مستلزم للمخالفة للاطلاقات الكثيرة ، بان اجرائها مستلزم للمخالفة لقاعدة الاشتغال والاستصحاب لا للاطلاقات.

فيرد عليه ان الظاهر ان مراد الشيخ من هذه الجملة ان الالتزام بكفاية التجاوز عن المحل العادي في جريانها يستلزم تأسيس فقه جديد ، ويوجب الالتزام بمسائل خلاف الإجماع والضرورة ، فلا وجه لدعوى عدم المحذور في جريانها.

فتحصل ان الأظهر اعتبار التجاوز عن المحل الشرعي ، في مورد الشك في اصل الوجود.

واما في مورد الشك في الصحة ، فقد أفاد الشيخ الأعظم (ره) (١) ان مقتضى صحيحي زرارة ، وابن جابر اعتبار الدخول في الغير ومقتضى إطلاق موثق محمد بن مسلم وما شابهه ، كفاية المضي والتجاوز وان لم يدخل في الغير ، فيدور الأمر ، بين حمل المطلق على المقيد ، وبين حمل القيد على الغالب.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧١١.

٨٧

ويقرب الأول ، ان الظاهر من الغير في صحيح ابن جابر بعد قوله ان شك في الركوع بعد ما سجد وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، بملاحظة كونه في مقام التحديد والتوطئة للقاعدة المقررة بقوله بعد ذلك (كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض) (١) كون ، السجود ، والقيام حدا للغير الذي يعتبر الدخول فيه ، وانه لا غير اقرب من الأول بالنسبة إلى الركوع ، ومن الثاني بالنسبة إلى السجود ، إذ لو كان الهوي أو النهوض كافيا قبح في مقام التوطئة للقاعدة التحديد بالسجود والقيام.

ويقرب الثاني ، التعليل المستفاد من قوله (ع) في موثق بكير المتقدم هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك إذ لا فرق فيه بين الدخول في الغير وعدمه ، وكذلك المستفاد من قوله إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه ، وقوله كل ما مضى من صلاتك وطهورك الخبر.

وأورد عليه بأنه على فرض كون النسبة بين الطائفتين عموما مطلقا لا ترديد في حمل المطلق على المقيد ، وما أفاده من المقربات لحمل القيد على الغالب ، غريب : إذ غاية ما هناك كون تلك الروايات أيضاً مطلقة وتعدد المطلق لا يمنع من حمله على المقيد.

وفيه : انه يمكن ان يكون نظر الشيخ (ره) إلى ان الصحيحين إنما هما في مورد الشك في الوجود والدخول في الغير المعتبر في ذلك المورد يمكن ان يكون

__________________

(١) التهذيب ج ٢ ص ١٥٣ ح ٦٠ / الوسائل ج ٦ ص ٣١٧ باب عدم بطلان الصلاة بالشك في الركوع بعد السجود وعدم وجوب الرجوع للركوع ح ٨٠٧١ وأيضا ص ٣٦٩ ح ٨٢٠٥.

٨٨

من جهة انه لا يصدق التجاوز عن المحل المصحح لصدق عنوان التجاوز المأخوذ موضوعا للقاعدة بدونه ، لا لخصوصية فيه فيكون من قبيل عطف تفسير ، على الخروج والتجاوز المأخوذين فيهما ، وعليه ، فلا يدلان على دخل القيد كي يكونان أخص من المطلقات ، ففي الحقيقة تردد الشيخ يكون من جهة الصغرى فتدبر فانه دقيق.

مضافا إلى ما يشير إليه في آخر كلامه من ان المضي والتجاوز حتى في مورد الشك في الصحة ملازم للدخول في مطلق الغير أي الحالة التي هي غير حالة الاشتغال بالعمل لا الغير الوجودي.

وتنقيح القول في المقام انه حيث يكون التجاوز عن المشكوك فيه ملازما للدخول في مطلق الغير ، فيكون مقتضى إطلاق جملة من الروايات منها موثق محمد بن مسلم المعلق للحكم على عنوان التجاوز والمضي كفاية مطلق الغير (١) ولو كان هو السكوت وعدم اعتبار قيد فيه عقلي أو شرعي فمن يدعى اعتبار قيد فيه لا بد وان يذكر له دليل.

وقد يقال ان النصوص لا إطلاق لها والقدر المتيقن منها ذلك وذكروا في توجيه ذلك امورا.

منها : (٢) ان صدق الطبيعة المأخوذة في الدليل على أفرادها إذا كان بنحو

__________________

(١) وهو اختيار المحقق الهمداني في فوائد الرضوية ج ٢ ص ١١٠.

(٢) ذكر هذا الوجه آية الله الخوئي في معرض اشكاله على النائيني بعد نقل كلامه ، راجع مصباح الاصول ج ٣ ص ٢٨٣ ـ ١٨٤.

٨٩

التشكيك ويكون بالقياس إلى بعضها بالظهور وبالقياس إلى الآخر بالخفاء لا يثبت الحكم إلا للأفراد الظاهرة ، ألا ترى ان صدق الحيوان على الإنسان إنما يكون بحسب المتفاهم العرفي بالخفاء ، ولذلك التزمنا بانصراف ما دل على عدم جواز الصلاة في شيء من اجزاء الحيوان الذي لا يؤكل لحمه عن اجزاء الإنسان.

وحيث ان صدق التجاوز والمضي والفراغ بعد الدخول في الغير الوجودي ظاهر بالقياس إلى ما لم يدخل فيه فلا محالة ينصرف الدليل إليه.

وفيه : ان ما ذكر من الضابط إنما يتم بالنسبة إلى الأفراد التي يكون صدق الماهية عليها بالخفاء بحيث لا يراها العرف من مصاديقها وضروري ان الأمر في المقام ليس كذلك غاية الأمر صدق التجاوز مع الدخول في الغير الوجودي اظهر ولكن الاظهرية ليست ملاك الانصراف.

ومنها : (١) ان القدر المتيقن في مقام التخاطب في الأدلة هو خصوص ما إذا تحقق هناك دخول في الغير الوجودي فلا يصح التمسك بالإطلاق مع وجوده.

وفيه أولا : ان القدر المتيقن لو سلم مانعيته عن التمسك بالاطلاق فإنما هو فيما إذا كان القدر المتيقن في مقام التخاطب لا مطلقه ، وفي المقام ليس كذلك غاية الأمر وجود القدر المتيقن من الخارج.

وثانيا : ما حققناه في محله واشرنا إلى وجهه في هذه الرسالة سابقا وهو ان

__________________

(١) ذكر هذا الوجه المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٧١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٢٢.

٩٠

القدر المتيقن في مقام التخاطب أيضاً لا يكون مانعا عن التمسك بالإطلاق.

وثالثا : ان الأدلة لا تنحصر في المطلقات بل فيها العمومات وقد تقدم ان أداة العموم ما كان منها من قبيل" كل" و" أي" بأنفسها متكفلة لتسرية الحكم إلى جميع أفراد ما يصلح ان ينطبق عليه مدخولها من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة في المدخول.

ومنها : (١) ان غلبة وجود الشك في الصحة في خصوص ما إذا كان داخلا في الغير الوجودي تمنع عن التمسك بالإطلاق في غيره.

وفيه : أولا : ان الغلبة لا توجب الانصراف.

وثانيا : لا ينحصر الدليل بالمطلقات.

فتحصل ان المطلقات والعمومات تقتضي عدم اعتبار هذا القيد.

وعن المحقق النائيني (ره) (٢) اعتبار الدخول في الغير الوجودي وانه لا يكتفى بالسكوت المجرد ، واستدل له : بان مقتضى إطلاق الروايات وان كان عدم اعتبار الدخول في الغير إلا ان ظاهر جملة من النصوص ، كموثق ابن أبي يعفور وغيره هو اعتبار الدخول في الغير لان الظاهر من قوله (ع) " وقد صرت في حالة أخرى" ، وقوله (ع) " دخلت في غيره" ونحو ذلك مما ورد في الأخبار هو الاشتغال بأمر وجودي مغاير لحال الاشتغال بالمركب فلا بدَّ من حمل المطلق على المقيد.

__________________

(١) كما في أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٧١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٢٢.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٧١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٢١ ـ ٢٢٢ بتصرف.

٩١

ويرد عليه ان غاية ما يستفاد من المقيدات اعتبار الدخول في مطلق الغير الذي عرفت انه ملازم لصدق عنوان التجاوز ، والمضي ، والفراغ وظهورها في اعتبار الدخول في امر وجودي ممنوع ، فإذاً لا تنافي بين المطلقات والمقيدات ، ومفاد الجميع واحد ، وهو كفاية الدخول في مطلق الغير.

وبذلك ظهر انه لا تنافي بين صدر موثق ابن أبي يعفور الدال على اعتبار الدخول في الغير وبين ذيله المقتصر على مجرد التجاوز : لتلازم العنوانين.

ثم انه قد استدل بوجوه أخر ، تارة لهذا القول وأخرى للقول باعتبار الدخول في الغير الذي يكون مستقلا بالتبويب كالسجود والركوع والقيام وما شاكل.

الوجه الأول : قوله (ع) في صحيح زرارة (١) ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها : فانه يدل على اعتبار الدخول في عبادة مترتبة على الوضوء مثل الصلاة وغيرها.

وفيه : أولا ان الصحيح مختص بالوضوء والتعدي يحتاج إلى دليل ، وعدم الفصل غير ثابت لا سيما بعد ملاحظة عدم جريان القاعدة في أثنائه وجريانها في أثناء غيره.

وثانيا : ان هذه الشرطية معارضة مع الشرطية الأولى المذكورة في صدره وهي قوله (ع): " إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ١٠٠ باب صفة الوضوء والفرض منه والسنة والفضيلة فيه ح ١١٠ / الوسائل ج ١ ص ٤٦٩ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ح ١٢٤٣.

٩٢

فاعد عليهما" إلى ان قال" ما دمت في حال الوضوء" ، والظاهر ولا اقل من المحتمل كون الثانية تصريحا بمفهوم الأولى.

وبعبارة أخرى : في صدر الصحيح علق الاعتناء بالشك على الاشتغال بالوضوء : فإما يؤخذ بمفهوم الصدر إذ التصرف في الذيل أولى من التصرف في الصدر. أو يتعارضان فيحكم بالإجمال والرجوع إلى العمومات والمطلقات.

وثالثا : ان قوله (ع) " في حال أخرى" أريد به بحسب الظاهر مطلق غير حال الوضوء ، ويؤيده قوله (ع) " من الصلاة أو غيرها" إذ لو كان المراد هو الحال المخصوصة ، كان الأولى ان يقال أو نحوها بدل أو غيرها.

الوجه الثاني : (١) وقوع التعليق على الدخول في الغير في صحيحي إسماعيل وزرارة المتقدمتين والمنساق إلى الذهن من الغير في أمثال المقام ارادة فعل آخر من أفعال الصلاة مما له استقلال بالملاحظة لا مطلق الغير.

ويؤيد ذلك وقوع التمثيل في صدر الصحيح بالشك في الركوع بعد ما سجد وفي السجود بعد ما قام ، فلو كان الهوي إلى السجود والنهوض إلى القيام كافيين ، لكانا أولى بالتمثيل ، فيستكشف من ذلك ان المراد بالغير المذكور في الذيل ليس مطلقه بل ما كان من هذا القبيل.

وفيه : انه لاوجه لدعوى الانسباق المزبور إلا احد أمرين :

__________________

(١) وقد نسب هذا الوجه إلى المشهور كما قاله أوثق الوسائل ص ٥٤٩ وهو ظاهر اختيار الشهيد الثاني في المسالك ج ١ ص ٢٩٣ (المسألة الثانية من الشك ..) وقواه المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٧٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٢٦.

٩٣

أحدهما : انصراف لفظ الشيء في قوله كل شيء شك فيه في بادئ النظر إلى ما يكون له عنوان مستقل فينسبق إلى الذهن من لفظ الغير بقرينة المقابلة ما يماثله.

ثانيهما : التمثيل بالسجود والقيام ، وشيء منهما لا يصلح لذلك.

اما الأول : فلأنه انصراف بدوي يزول بعد الالتفات إلى عدم قصور لفظ الشيء عن الشمول لأبعاض الاجزاء ، وبالجملة مقتضى عموم لفظ الغير شموله لمطلق ما يغاير المشكوك فيه ، ودعوى الانصراف لا تسمع.

واما الثاني : فلان التمثيل بهما وعدم التمثيل بالهوي والنهوض ، إنما يكون لأجل عدم كونهما من اجزاء الصلاة ، واعتبار الدخول في الغير المترتب الشرعي في مورد الشك في اصل الوجود كما تقدم ، أو لأجل ان الغالب حصول الشك في هذه الحال وهذا لا يوجب تقييد إطلاق ما في ذيلهما من الضابطة الكلية.

الوجه الثالث : (١) وقوع العطف ب" ثم" الظاهرة في التراخي ، في صحيح زرارة" إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره" إذ لو كان الدخول في مطلق الغير كافيا لكان ذلك من لوازم الخروج فلم يكن العطف ب" ثم" مناسبا.

وفيه : انه ان أريد بذلك ان العطف ب" ثم" ظاهر في ارادة قسم خاص من الغير وهو ما يكون منفصلا عن المشكوك فيه.

__________________

(١) هذا الوجه ذكره أوثق الوسائل ص ٥٤٩ في معرض الحديث عن اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز.

٩٤

فيرد عليه : انه لا فاصل بين التكبيرة والقراءة اللتين وقع التصريح بهما في صدر الصحيح.

وان أريد به اعتبار المباينة الذاتية وهذا كما يشمل الغير الذي له عنوان مستقل كذلك يشمل غيره كما لا يخفى.

والظاهر كونه عطف تفسير ولعله المتبادر إلى الذهن بعد الالتفات إلى ان الدخول في الغير من مقومات صدق مضى المشكوك فيه.

فتحصل انه ليس شيء يدل على اعتبار امر زائد على صدق عنوان التجاوز وهو في موارد الشك في الوجود لا يصدق إلا بعد الدخول في الغير المترتب الشرعي وفي موارد الشك في الصحة يصدق بالدخول في مطلق الغير وهذا الاختلاف إنما نشأ من اختلاف المصاديق وإلا فالمفهوم المعلق عليه الحكم واحد.

ومن ذلك يظهر جريان قاعدة الفراغ في مورد الشك في صحة الجزء أيضاً ولا يختص بمورد الشك في صحة المركب على ما هو صريح المحقق النائيني (ره) ، فلو شك في صحة التكبيرة بعد الفراغ منها وقبل الدخول في القراءة تجرى القاعدة فيها ولا يتوقف جريانها على الدخول في القراءة.

هل تجرى القاعدة لو دخل في جزء مستحب

الامر السابع : هل يعتبر في الغير الذي لا بدَّ من الدخول فيه في عدم الاعتناء بالشك عند الشك في الوجود ، ان يكون من الاجزاء الواجبة ، أم هو

٩٥

اعم منها ومن الاجزاء المستحبة كالقنوت ، وعلى الأول فهل يعتبر ان يكون جزءا مستقلا ، أم يشمل جزء الجزء ، فلو شك في الحمد وهو في السورة لا يعتنى بشكه على الثاني دون الأول) فالكلام في مقامين.

المقام الأول : في كفاية الدخول في الجزء المستحب وعدمه ، فلو شك في القراءة وهو في القنوت أو شك في التكبيرة وهو في الاستعاذة ، أو في التسبيحات الأربع وهو مستغفر فهل تجرى القاعدة ولا يعتنى بشكه كما هو المنسوب إلى المشهور (١) ، أم لا تجرى ويجب الاعتناء به كما عن الشهيدين (٢) والأستاذ المحقق الخوئي (٣) وجهان : يشهد للأول إطلاق الأدلة.

واستدل الشهيد الثاني (ره) (٤) للثاني : بمفهوم قوله (ع) في صحيح زرارة المتقدم (قلت شك في القراءة وقد ركع قال (ع) يمضى) فان مفهومه انه لو لم يكن ركع يعود فيدخل فيه ، لو كان قانتا.

وبخبر عبد الرحمن الآتي : فان العود إلى الفعل مع الشروع في واجب وهو

__________________

(١) كما نسبه اليهم آية الله السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٤ ص ٢٩٩ حيث قال : «اما الدخول في الجزء المستحب كالقنوت فالمعروف انه موجب لصدق عنوان التجاوز بل لم نعثر على مخالف في ذلك ، الا انه قابل للمناقشة .. الخ».

(٢) راجع الذكرى للشهيد الاول (الطبعة الحجرية) ص ٢٢٤ عند قوله : «لو شك في القراءة وقد ركع ... وكذا لو شك في الفاتحة أو في السورة وهو قانت .. الخ» حيث التزم بالرجوع ، وسيظهر اختيار الشهيد الثاني فيما يأتي.

(٣) دراسات في علم الأصول ص ٣٠٠.

(٤) راجع روض الجنان للشهيد الثاني ص ٣٥٠ ، نشر مؤسسة اهل البيت (ع) ، قم ١٤٠٤.

٩٦

النهوض وان لم يكن مقصودا بالذات قد يقتضي العود مع الشروع في المندوب بطريق أولى.

وبان القنوت ليس من أفعال الصلاة المعهودة فلا يدخل في الأخبار.

وفيه : ان صحيح زرارة لا مفهوم له من جهة عدم الشرط مع انه لو كان بنحو القضية الشرطية لما كان دالا على المفهوم لكون الشرط مسوقا لبيان تحقق الموضوع ، أضف إليه كونه في كلام السائل لا الإمام (ع) والأولوية ممنوعة فان القنوت مما امر به الشارع والنهوض غير مأمور به ، وعدم كون القنوت من أفعال الصلاة المعهودة لا يوجب الانصراف فإذاً لا مقيد لإطلاق الروايات.

واستدل الأستاذ الأعظم (١) لما اختاره ، بعد بيان ان الجزء المستحب ، هو ما يوجب زيادة فضيلة من دون ان يكون دخيلا في ماهية الواجب :

بان الدخول فيه لا يوجب مضى محل الجزء فانه إنما يتحقق إذا كان ترتب المدخول فيه معتبرا في صحة الجزء ، ومن الظاهر ان ترتب الجزء المستحب غير معتبر في صحة الاجزاء السابقة عليه ، ضرورة ان القراءة تصح وان لم يتعقبها قنوت أصلاً.

وفيه : ان مضى المحل إنما يتحقق بإتيان ما امر به الشارع مترتبا على المشكوك فيه ، الذي لو أتى به قبل المشكوك فيه كان على غير الوجه المأمور به كان الأمر به استحبابياً أو وجوبيا ، ومن الضروري ان الجزء المستحب كذلك.

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ص ٣٠٠.

٩٧

وان شئت فقل ان الأمر به وان كان استحبابيا إلا ان المكلف ليس مختارا في محله بل ملزم بالإتيان به بعد القراءة مثلا ، وهذا يوجب صدق عنوان مضى محل ما شك فيه.

فالأظهر جريان قاعدة التجاوز بالدخول فيه.

حول جريان القاعدة في الاجزاء غير المستقلة

المقام الثاني : في كفاية الدخول في جزء الجزء لإجراء القاعدة في الجزء السابق كما لو شك في الحمد وهو في السورة ، وعدمها ، فالمنسوب إلى المشهور (١) عدم الاكتفاء به فيعتني بشكه ويأتي بالحمد.

وعن الشيخ المفيد (٢) ، والحلي (٣) ، والمحقق (٤) ، والفاضل الخراساني (٥) ، والمحقق

__________________

(١) نقل الحكاية عن المشهور صاحب جواهر الكلام ج ١٢ ص ٣١٩.

(٢) حكاه عنه المحقق السبزواري (الفاضل الخراساني) في ذخيرة المعاد ج ٢ ص ٣٧٥ نقلا عن ابن ادريس الذي حكاه عن الشيخ المفيد في رسالة الغري.

(٣) السرائر ج ١ ص ٢٤٨ ، نشر جامعة المدرسين ، قم ١٤١٠ ه‍. ق.

(٤) راجع المعتبر ج ٢ ص ٣٩٠ فبعد نقله لكلام الشيخ الطوسي في وجوب الاعادة قال : «وظاهر تلك الاخبار يُسقط هذا الاعتبار» ، مؤسسة سيد الشهداء ، قم.

(٥) وهو المولى محمد باقر السبزواري صاحب ذخيرة المعاد في شرح الارشاد ، وكفاية الاحكام وغالبا ما يعبر عنه بالفاضل الخراساني ، وقد اختار جريان القاعدة فيما نحن فيه في كتابه الذخيرة ج ٢ ص ٣٧٥ (حجري) وانظر ايضا كفاية الاحكام ص ٦ (حجري).

٩٨

الأردبيلي (١) ، وجماعة من المحققين من متأخري المتأخرين (٢) ، جريان القاعدة وانه لا يعتني بشكه.

مدرك القول الثاني : إطلاق الأدلة ضرورة انه يصدق الخروج عن الجزء السابق والدخول في الجزء اللاحق الذي هو غيره.

وبذلك يظهر جريان القاعدة في الشك في آية بعد الدخول في الآية اللاحقة كما صرح به المحقق الأردبيلي ، والفاضل الخراساني ، ونفى عنه البعد المجلسي (٣) واختاره جمع من محققي متأخري المتأخرين.

واستدل لما هو المشهور بوجوه :

١ ـ ان القراءة الشاملة لكل من الفاتحة والسورة امر واحد.

وقيل (٤) في توجيهه انه يستفاد ذلك من تعلق الأمر الواحد بها الكاشف ذلك عن لحاظ مجموعها شيئا واحدا فلا يصدق المضي مع عدم تماميتها.

وفيه : ان كون اجزاء الجزء الواحد التي هي متعددة في الوجود التكويني ، وكل واحد منها مغاير مع الآخر بالذات عملا واحدا ، يتوقف على اعتبار

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ج ٣ ص ١٦٩.

(٢) راجع جواهر الكلام ج ١٢ ص ٣١٨ ـ ٣١٩.

(٣) راجع بحار الانوار ج ٨٥ ص ١٥٨.

(٤) حكاه غير واحد من الاعلام راجع بحار الانوار (المصدر السابق) / المعتبر ج ٢ ص ٣٩٠ / مجمع الفائدة والبرهان ج ٣ ص ١٦٩ / الشيخ الأعظم في كتابه أحكام الخلل في الصلاة ص ٨٩.

٩٩

الشارع إياها كذلك ومجرد امر ضمني متعلق بها لا يصلح لذلك ، وإلا كانت الصلاة مثلا عملا واحدا وحيث انه لا دليل على ذلك الاعتبار ، فلا وجه لدعوى عدم صدق المضي.

٢ ـ مفهوم قوله (ع) في صحيح زرارة" شك في القراءة وقد ركع" فانه بمفهومه يدل على عدم المضي لو شك في القراءة الشاملة للحمد ما لم يركع ، وان كان دخل في السورة.

وفيه : ان صحيح زرارة لا مفهوم له لعدم كونه متضمنا لقضية شرطية ، والقيد لا مفهوم له ، أضف إليه انه لو كان بنحو القضية الشرطية لم يكن له مفهوم لكون الشرط على فرض وجوده مسوقا لبيان تحقق الموضوع مع انه في كلام السائل دون الإمام.

٣ ـ ان ذكر الأفعال المعدودة في صدر الخبر توطئة لبيان الضابطة الكلية في ذيله ، دال على ان الغير الذي يجب المضي بالدخول فيه ما كان من قبيل الاجزاء المستقلة بالتبويب ولا يشمل جزء الجزء.

وفيه : ان ما ذكر في صدر الخبر إنما هو الأسئلة الخاصة ولم يذكرها الإمام (ع) ابتداءً كي يجري فيه ما ذكر ، مع انه لو كان ذلك في كلامه (ع) لما كان ما أفيد تاما ، لان ذكر المورد لا يكون منافيا لظهور الكبرى في العموم كما مر.

٤ ـ ما استدل المحقق النائيني (ره) (١) له بان قاعدة التجاوز مختصة بباب الصلاة إذ إطلاق الأدلة وعمومها بعد ما لم يمكن شمولهما للأجزاء وللمركبات

__________________

(١) كما مرّ في فوائد الأصول ج ٤ ص ٦٢٦.

١٠٠