زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

شيء منهما لما مر في مبحث الاشتغال مفصلا من عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ان لزم منه مخالفة قطعية.

وإلا فان دل دليل من الخارج على عدم جريانهما ، لا يجريان معا.

وهل يجري الاستصحاب في أحدهما ، أم لا؟ وجهان :

المشهور انه لا يجري لان جريانه في أحدهما المعين دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، واحدهما لا بعينه ليس فردا ثالثا ، فلا يجري الاستصحاب في شيء منهما.

ولكن الأظهر هو جريانه في أحدهما تخييرا ، ويظهر ذلك مما ذكرناه مفصلا في أول مبحث الاشتغال.

واجماله : ان مقتضى القاعدة في تعارض الأصول هو القول بالتخيير من جهة ان لكل دليل من الأدلة ، عموم افرادي ، واطلاق أحوالي ، فإذا دل الدليل على تخصيص العموم الأفرادي وانهما لا يجريان معا ، ودار الأمر بين تقييد الإطلاق الاحوالي لكل منهما بان لا يجري مع جريان الآخر ، وبين عدم العمل بالاطلاقين رأسا ، يكون الأول مقدما لان الضرورات تتقدر بقدرها.

وقد مر تفصيل القول في ذلك ، وسيجيء في مبحث التعادل والترجيح من ان مقتضى القاعدة في تعارض الأمارات أيضاً هو القول بالتخيير ، وعليه فالمتعين هو البناء على التخيير.

وان لم يلزم من جريانهما معا مخالفة عملية ، ولم يدل دليل على عدم جريانهما معا ، فان ترتب الأثر على أحدهما ، دون الآخر جرى ذلك خاصة ،

٤١

وإذا ترتب الأثر عليهما ، كما في الماءين المعلوم نجاستهما سابقا إذا علم طهارة أحدهما ، واشتبه أحدهما بالآخر ، فان مقتضى الاستصحاب البناء على نجاسة كل منهما ، ولا يلزم من جريانهما مخالفة عملية قطعية يجريان معا لما مر في مبحث الاشتغال من ان المانع من جريان الأصول في اطراف العلم الإجمالي لزوم المخالفة القطعية العملية ، ومع عدمه لا مانع من جريان الأصول فيها.

وقد استدل لعدم جريان الاستصحاب بالخصوص وان لم يلزم المخالفة العملية بوجهين :

أحدهما : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان جملة من أخبار الاستصحاب مذيلة بقوله (ع) ولكن انقضه بيقين آخر ، وعليه ، فبما ان مورد العلم الإجمالي ، مشمول للصدر والذيل ، ومقتضى الصدر جريانه في كل من الطرفين للشك في بقاء الحالة السابقة فيه ، ومقتضى الذيل وجوب نقض اليقين باحدهما ، فلا يمكن إبقاء كل منهما تحت عمومه لمحذور المناقضة ، ولا إبقاء أحدهما المعين للزوم الترجيح بلا مرجح ، ولا أحدهما المخير لعدم كونه فردا ثالثا فلا مناص عن البناء على عدم جريانه فيهما.

وفيه : أولا : ان أدلة الاستصحاب لا تنحصر بما هو مذيل بما ذكر ، بل هناك مطلقات غير مذيلة ، فعلى فرض اجمال ما هو مذيل بما ذكر ، يرجع إلى إطلاق غيره.

وثانيا : ان الظاهر من الأخبار هو عدم نقض اليقين بالشك المتعلق به ،

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٤٤ وص ٧٤٦ (الدعوى الثانية).

٤٢

ونقضه بيقين آخر متعلق بما تعلق به اليقين السابق ، وفي المفروض في المقام يكون اليقين السابق متعلقا بكل واحد بالخصوص واليقين الإجمالي متعلقا باحدهما غير المعين فلا يكون ذلك ناقضا.

ثانيهما : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان المجعول في باب الاستصحاب هو الجري العملي على طبق الحالة السابقة والأخذ بأحد طرفي الشك على انه هو الواقع ، فيمتنع جعل ذلك في مجموع الطرفين ، لعدم معقولية التنزيل على خلاف العلم الوجداني.

وفيه : انه لا يجري استصحاب واحد في مجموع الطرفين ، كما انه لا يثبت بالاستصحاب الجاري في كل طرف لازمه ، وهو كون المعلوم بالإجمال في الطرف الآخر ، بل يجري في كل طرف اصل واحد ، ولا يثبت به لازمه ، وعليه فجريانه في كل طرف لا محذور فيه ، فغاية ما يلزم من جريانهما مخالفة التزامية ، وقد مر في مبحث الاشتغال انه لا يكون مانعا عن جريان الأصول في اطراف العلم.

ثم ان الأصحاب مع تسالمهم على تقدم جملة من القواعد على الاستصحاب اختلفوا في وجه التقديم :

منها : قاعدة الفراغ والتجاوز.

ومنها : أصالة الصحة.

__________________

(١) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٠ ، وقد ذكر أنه تعرض لذلك مفصلا في مبحث الظن عند الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي / وحكاه عنه آية الله الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٤٧.

٤٣

ومنها قاعدة اليد.

وحيث أني كتبت سابقا رسالة مستقلة في تلك القواعد الثلاث وطبعت ، وقد استقصيت فيها جهات البحث في تلك القواعد فلذلك أدرجها في المقام تعميما للنفع وتتميما للبحث.

وأيضا من القواعد التي قدَّموها على الاستصحاب القرعة ، وقد كتبت رسالة فيها سابقا ، واذكرها بعد القواعد الثلاث.

* * *

٤٤

الكلام حول قاعدة الفراغ والتجاوز

من القواعد التي لا بدَّ لنا من البحث فيها ، قاعدة الفراغ والتجاوز ، وتنقيح القول فيها يقتضي البحث في أمور.

الامر الأول : ان هذه القاعدة ليست من المسائل الأصولية ، وإنما هي من القواعد الفقهية ، لان المسألة الأصولية هي ما تقع نتيجة البحث فيها في طريق إثبات واستنباط الأحكام الكلية الشرعية.

وبعبارة أخرى : هي ما لو جعلت نتيجة البحث كبرى للقياس ، تكون النتيجة الحكم الكلي المجعول الشرعي.

وهذه القاعدة ليست منها لوجوه :

١ ـ ان المستنتج من القياس الذي جعلت القاعدة نفيا أو إثباتا كبرى له ليس حكما كليا ، بل إنما هي صحة عمل خاص مثلا ، ولذا تكون النتيجة بنفسها قابلة للإلقاء إلى المقلدين.

٢ ـ أنها متكفلة لحكم الشك في الامتثال بعد الفراغ عن ثبوت الأحكام لموضوعاتها في مرحلة الجعل والتشريع من دون تعرض لثبوت حكم أو نفيه.

٣ ـ ان استفادة الحكم منها من باب انطباق مضمونها على مصداقه ، لا من باب إثبات شيء بها.

وقد يقال انه لا تكون القاعدة من القواعد الفقهية المصطلحة ، وهي ما تكون نتيجة البحث حكما كليا تكليفيا أو وضعيا : فانه لا يثبت بها حكم ،

٤٥

وإنما هي تعبد بتحقق الامتثال.

فان قيل ان المجعول فيها هي الصحة ، وهي من الأحكام الوضعية.

توجه عليه ان الصحة ليست حكما مجعولا بل هي تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به فالمتعبد به فيها هي المطابقة وهي ليست من الأحكام الشرعية.

ولكن يمكن ان يقال ان القاعدة الفقهية هي ما يعين وظيفة المكلف اثباتا أو نفيا فتشمل مثل هذه القاعدة.

ما يثبت به هذه القاعدة

الامر الثاني : في بيان الدليل على هذه القاعدة وما تثبت به ، ويشهد بها مضافا إلى انها قاعدة عقلائية وعليها بناء العقلاء ، فانهم يرون المشكوك فيه في موارد جريان القاعدة واقعا في ظرفه ، ولا يعتنون باحتمال عدم الإتيان به ، والشارع الأقدس أمضى هذا البناء :

جملة من النصوص وهي كثيرة ، إلا ان ما يستفاد منها العموم وعدم الاختصاص بباب روايات.

منها : صحيح زرارة قلت لأبي عبد الله (ع) رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة قال (ع) يمضى قلت رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر قال (ع) يمضى إلى ان قال في آخره بعنوان الضابط ، يا زرارة إذا خرجت من شيء

٤٦

ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء (١).

ومنها : صحيح إسماعيل بن جابر عن مولانا الصادق (ع) في حديث ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه (٢).

ومنها : موثق محمد بن مسلم عن سيدنا الباقر (ع) كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو (٣).

ومنها : موثق ابن أبي يعفور عن إمامنا الصادق (ع) إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه (٤) فانه بمفهوم الحصر يدل على المطلوب.

ومنها : موثق بكير بن أعين ، قلت له الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال (ع) هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك (٥) ، فانه بعموم العلة يدل على ثبوت القاعدة بنحو الإطلاق.

__________________

(١) التهذيب ج ٢ ص ٣٥٢ باب احكام السهو ح ٤٧ / الوسائل ج ٨ ص ٢٣٧ ح ١٠٥٢٤.

(٢) التهذيب ج ٢ ص ١٥٣ ح ٦٠ / الوسائل ج ٦ ص ٣١٧ باب عدم بطلان الصلاة بالشك في الركوع بعد السجود وعدم وجوب الرجوع للركوع ح ٨٠٧١ وأيضا ص ٣٦٩ ح ٨٢٠٥.

(٣) التهذيب ج ٢ ص ٣٤٤ باب احكام السهو ح ١٤ / الوسائل ج ٨ ص ٢٣٧ باب ٢٣ من ابواب الخلل الواقع في الصلاة ح ١٠٥٢٦.

(٤) التهذيب ج ١ ص ١٠١ باب صفة الوضوء والفرض منه ... ح ١١١ / الوسائل ج ١ ص ٤٦٩ باب ٤٢ من ابواب الوضوء ح ١٢٤٤.

(٥) التهذيب ج ١ ص ١٠١ باب صفة الوضوء والفرض منه ... ح ١١٤ / الوسائل ج ١ ص ٤٧١ باب ٤٢ من ابواب الوضوء ح ١٢٤٩.

٤٧

ومنها : صحيح محمد بن مسلم عن الإمام الصادق (ع) ان شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أثلاثا صلى أم اربعا وكان يقينه حين انصرف انه كان قد أتم ، لم يعد الصلاة وكان حين انصرف اقرب إلى الحق منه بعد ذلك (١).

وتقريب الاستدلال به ما في سابقه.

هذه هي النصوص التي يستفاد منها الكبرى الكلية غير المختصة بباب.

ويؤيد المطلوب النصوص المستفيضة الواردة في موارد خاصة ، فاصل ثبوت القاعدة مما لا ريب فيه.

قاعدة الفراغ والتجاوز من الأمارات

الامر الثالث : في بيان ان هذه القاعدة هل تكون من الأمارات المثبتة لوقوع المشكوك فيه ، أم من الأصول العملية ، وقبل بيان ما هو الحق لا بد من بيان ما به يمتاز الأمارة عن الأصل العملي.

وملخص القول فيه ان الأمارة تتقوم بأمرين :

أحدهما : كون الشيء كاشفا عن الواقع كشفا ناقصا ـ وبعبارة أخرى ـ ثبوت ملاك الطريقية في مقام الثبوت.

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٣٥٢ باب احكام السهو في الصلاة ح ١٠٢٧ / الوسائل ج ٨ ص ٢٤٦ باب ٢٧ من ابواب الخلل الواقع في الصلاة ح ١٠٥٥٢.

٤٨

ثانيهما : إمضاء الشارع إياه بما هو كذلك بتتميم جهة كشفه ، وان شئت قلت مساعدة الدليل على ذلك في مقام الإثبات ، والأصل عبارة عن الحجة الشرعية الفاقدة لأحد هذين القيدين ، أو هما معا.

ولو شك في كون شيء أمارة أو أصلاً تكون النتيجة مع كونه أصلاً ، فان الأصل والأمارة يشتركان في الحجية بالنسبة إلى المدلول المطابقي.

ويمتاز الأصل بعدم حجيته في اللوازم والملزومات والملازمات ، والأمارة بحجيتها فيها ، فما علم كونه أمارة أو أصلاً يعلم بحجيته في المدلول المطابقي ويشك في حجيته بالنسبة إلى غيره ، وحيث ان الأصل فيما شك في حجيته البناء على عدم الحجية فيبنى عليه فيختص حجيته بالمدلول المطابقي.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الظاهر كون القاعدة من الأمارات لثبوت كلا الامرين فيها.

اما الأول : فلان المريد لامتثال الأمر بالمركب لا يترك الجزء أو الشرط عمدا فلو تركه لا محالة يكون عن غفلة ونسيان ، وحيث ان الإرادة المتعلقة بمركب ارادة كلية ينبعث منها ارادات جزئية تدريجية متعلقة بكل جزء وشرط متدرجا ، ولا يتصور الغفلة بعد تلك الارادات الجزئية التي هي الاسباب لتحقق الفعل الخارجي : لانها متقومة بالالتفات والجزء الاخير للعلة التامة غير المتصور انفكاكها عن الفعل ، وإنما المتصور عروض الغفلة بعد تلك الارادة الكلية وقبل الارادة الجزئية ، وهو إنما يكون على خلاف العادة فان تلك الارادة الكلية تلازم عادة الارادات الجزئية ، فلذا يظن عادة بفعل الجزء المشكوك فيه بارادته المنبعثة عن تلك الارادة ، فيكون لها الطريقية.

٤٩

وعلى الجملة المريد لعمل مركب إذا كان بصدد الإتيان به ، طبعه الأولي ، وارادته المتعلقة به أولا يقتضي إتيان كل جزء في محله ، واحتمال الترك العمدي ، مخالف لتعلق ارادته المتعلقة به أولا يقتضي إتيان كل جزء في محله ، واحتمال الترك العمدي ، مخالف لتعلق ارادته بالامتثال ، واحتمال الغفلة مناف لظهور الحال والغلبة فملاك الطريقية موجود.

وان شئت قلت ان الغالب ان من اشتغل بمركب يكون التفاته إلى الخصوصيات والاتيان بكل شيء في محله ولو بالالتفات والقصد الإجمالي الارتكازي أقوى من بعد ذلك والفراغ من عمله ، فمن لم يتعمد الترك واراد الامتثال حيث انه على الفرض ملتفت إلى جميع الاجزاء والشرائط ومقتضى الطبع والعادة بقائه على ذكره والتفاته إلى آخر العمل فعروض الغفلة على خلاف الطبع والعادة.

وإلى ما ذكرناه أشار (ع) بقوله : (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) (١) وبقوله (هو حين ينصرف اقرب إلى الحق من بعد ذلك) (٢)

وقد ظهر مما ذكرناه اندفاع ما قيل من عدم الطريقية لان الشك ليس له الطريقية والمرآتية.

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ١٠١ باب صفة الوضوء والفرض منه ... ح ١١٤ / الوسائل ج ١ ص ٤٧١ باب ٤٢ من ابواب الوضوء ح ١٢٤٩.

(٢) الفقيه ج ١ ص ٣٥٢ باب احكام السهو في الصلاة ح ١٠٢٧ / الوسائل ج ٨ ص ٢٤٦ باب ٢٧ من ابواب الخلل الواقع في الصلاة ح ١٠٥٥٢.

٥٠

وجه الاندفاع ان المدعى انه لحال المكلف حين العمل الطريقية والامارية ، فلو كانت القاعدة مجعولة بلحاظ حال العمل يكون لها الامارية والطريقية.

واما الأمر الثاني : وهو مساعدة الدليل على الطريقية فالظاهر هو ذلك : إذ الظاهر ان بناء العقلاء على تحقق المشكوك فيه إنما هو من جهة الطريقية والكاشفية ، لا ادعى انه لا يعقل البناء من العقلاء إلا من جهة الكاشفية : فان ذلك فاسد كما سيأتي تحقيقه في قاعدة اليد : بل ادعى ان الظاهر ان هذا البناء إنما هو للطريقية والكاشفية نظير البناء على العمل بخبر الثقة : إذ ليس شيء آخر يصلح ان يكون ملاكا لهذا البناء.

مضافا إلى دلالة بعض النصوص عليه مثل قوله (ع) في صحيح محمد بن مسلم ، وكان حين انصرف اقرب إلى الحق منه بعد ذلك (١).

وقوله (ع) في موثق بكير هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك (٢).

وقوله (ع) في صحيح الفضيل فيمن شك في الركوع بعد الانتصاب بلى قد ركعت فامض في صلاتك (٣). وقوله (ع) في مصحح عبد الرحمن في رجل

__________________

(١) المصدر السابق في الفقيه والوسائل.

(٢) المصدر السابق في التهذيب والوسائل

(٣) التهذيب ج ٢ ص ١٥١ باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة ... ح ٥٠ / الوسائل ج ٦ ص ٣١٧ باب ١٣ من ابواب الركوع ح ٨٠٧٠.

٥١

اهوى إلى السجود ولم يدر ركع أم لم يركع ، قد ركع (١).

فان الأخبار عن تحقق الركوع ظاهر في الامارية.

وقد يقال كما عن المحقق العراقي (٢) ان المستفاد من الأخبار المأخوذ في موضوعها الشك كقوله (ع) إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء ، خلاف ذلك ، بل هي تدل على إلغاء جهة الكشف المزبور لظهورها في عدم جعل الشك الموجود مانعا عن المضي في العمل ، لا في إلغاء الشك وتتميم كشفها ، ثم قال فما ورد من التعليل بالاذكرية في بعض النصوص حينئذ محمول على بيان حكمة التشريع والجعل لمكان اظهرية تلك النصوص.

وفيه : أولا : فرق بين ترتيب الأثر والحكم على الشك كما في الأصل وبين الحكم بعدم الاعتناء بالشك بقوله فشكك ليس بشيء ، وما يدل على إلغاء جهة الكشف هو الأول والموجود في الأخبار هو الثاني ، بل يمكن ان يقال ان قوله فشكك ليس بشيء ، إنما ينفى الشيئية والشكية عن الشك وهذا عين جعل الأمارة.

وثانيا : ان ظهور ما في بعض النصوص المتضمن للتعليل بالاذكرية أقوى من ظهور ما أشار إليه : لأنه من قبيل القرينة وظهور القرينة مقدم على ظهور

__________________

(١) التهذيب ج ٢ ص ١٥١ باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة ... ح ٥٤ / الوسائل ج ٦ ص ٣١٨ باب ١٣ من ابواب الركوع ح ٨٠٧٣.

(٢) نهاية الافكار ج ٥ ص ٣٦.

٥٢

ذي القرينة.

وثالثا : انه لو قدم ما ظاهره ترتب الحكم على الشك لزم منه طرح ما هو من قبيل التعليل لا حمله على حكمة الجعل فان الحكمة عبارة عما هو موجود في بعض الموارد دون جميعها ، والحكم يكون ثابتا في جميع الموارد وغير دائر مدارها ، واما في مثل المقام مما لا يكون ذلك ولو في مورد فلا معنى لحمله على الحكمة فتدبر فانه دقيق.

فالمتحصّل ان قاعدة الفراغ والتجاوز من الأمارات لا من الأصول العملية.

عدم حجية القاعدة في المثبتات

فان قلت انه بناءً على ذلك لا بدَّ من الالتزام بحجية القاعدة في مثبتاتها كما هو شأن كل أمارة فلو شك في ايقاع صلاة الظهر مع الطهارة وجرت القاعدة وحكم بوقوعها معها واقترانها بها ، لا بدَّ من البناء على صحة الإتيان بالعصر مع هذه الحال وعدم لزوم تجديد الطهارة مع انه لم يلتزم بذلك احد من الأصحاب فيستكشف من ذلك عدم كونها من الأمارات.

قلت انه لم يدل دليل عقلي أو نقلى على حجية الأمارات في مثبتاتها ، وإنما نلتزم بذلك مع وجود قيدين :

أحدهما كون ذلك الأمر كاشفا عن اللوازم والملزومات والملازمات ككشفه عن ذلك الشيء نفسه ، نظير الخبر الحاكى عن امر واقعى كشرب زيد ما في

٥٣

الكاس المعين الخارجي ، فانه كاشف عن شربه بالمطابقة ، وعن موته إذا كان ذلك في الواقع سما بالالتزام.

ثانيهما : ثبوت الإطلاق لدليل اعتباره من جميع الجهات كما في أدلة حجية الخبر الواحد على ما حقق في محله.

ومع فقد احد القيدين أو كليهما لا يكون ذلك الأمر حجة في مثبتاته.

وفي الأصول يكون القيد الأول مفقودا مطلقا فلذا لا تكون حجة في مثبتاتها.

وفي بعض الأمارات يكون القيد الثاني مفقودا كما في الظن بالقبلة حيث انه حجة من باب الطريقية ومع ذلك لا يكون حجة في مثبتاته ولا يثبت به لازمه وهو دخول الوقت ، فان قوله (ع) في صحيح زرارة : " يجزئ التحري ابداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة" (١) لا يدل على ازيد من حجية الظن الحاصل بالاجتهاد في القبلة خاصة كما هو واضح.

وتمام الكلام في ذلك وفي عدم تمامية ما ذكره المحققان الخراساني والنائيني (ره) في وجه الفرق بين الأمارات والأصول وانه لم لا تكون الأصول حجة في مثبتاتها والامارات حجة فيها موكول إلى محله ، وقد اشبعنا الكلام في ذلك في تنبيهات الاستصحاب.

وعلى ذلك فقاعدة الفراغ والتجاوز وان كانت من الأمارات إلا انها

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٢٨٥ باب وقت الصلاة في يوم الغيم والريح ومن صلى لغير القبلة ح ٧ / الوسائل ج ٤ ص ٣٠٧ باب ٦ من ابواب القبلة ح ٥٢٢٧ ، وص ٣١١ باب ٨ ح ٥٢٣٦.

٥٤

ليست حجة في مثبتاتها لعدم الإطلاق لادلتها كما لا يخفى على من تدبر فيها.

وجه تقدمها على الأصول

الامر الرابع : في وجه تقدمها على الاستصحاب ، بناءً على ما اخترناه من كونها من الأمارات يكون وجه تقدمها عليه ، هي الحكومة كما هو الوجه في تقدم سائر الأمارات عليه.

واما بناءً على كونها من الأصول فإنما تقدم على الاستصحاب لاخصية دليلها عن دليله كما هو واضح.

وعن الشيخ الأعظم (ره) (١) حكومة القاعدة على الاستصحاب حتى بناءً على كونها من الأصول العملية.

وقد قرب الحكومة بوجوه :

١ ـ ما وجهها المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان موضوع الاستصحاب إنما هو الشك في بقاء الحالة السابقة وهو إنما يكون مسببا عن الشك في حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة ، وقاعدة الفراغ والتجاوز إنما يكون مؤداها حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة فتكون رافعة لموضوع الاستصحاب.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٠٨ (المسألة الثانية : في أن اصالة الصحة في العمل بعد الفراغ عنه لا يعارض بها الاستصحاب).

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٦١٩.

٥٥

وبعبارة أخرى : القاعدة تجرى في الشك السببي ، والاستصحاب يجري في الشك المسببي فلا محالة تكون حاكمة عليه.

وفيه : ان الشك قوامه بالطرفين وفي المقام شك واحد احد طرفيه رفع الحالة السابقة والآخر بقائها ، لا ان هناك شكين أحدهما مسبب عن الآخر.

٢ ـ ما في تقريرات الأستاذ الأعظم (١) ناسبا إياه إلى المحقق النائيني ، وحاصله ان دليل القاعدة ناظر إلى إثبات حكم مخالف للحالة السابقة بنفسها ، فهو ناظر إلى سقوط الاستصحاب وعدم بقاء الحالة السابقة واما الاستصحاب فهو غير ناظر إلى سقوط القاعدة إلا بالملازمة ، إذ الحكم ببقاء الحالة السابقة في مورد القاعدة تلازم عقلا عدم جريان القاعدة ، والاستصحاب مع قطع النظر عن عدم إثباته للّوازم في حد نفسه يكون محكوما للقاعدة إذ إثباته للّوازم فرع إثباته لملزومها والقاعدة مانعة عنه باثبات خلافه ، ففي المرتبة التي تكون القاعدة مانعة عن جريان الاستصحاب لا يكون الاستصحاب مانعا عنها ، فلا محالة تكون هي حاكمة عليه.

وفيه : ان المتعبد به ، في القاعدة ، وفي الاستصحاب من النقيضين المحفوظين في مرتبة واحدة وكل منهما بنفسه يطارد الآخر بلا تفاوت بينهما فتقدم مرتبة أحدهما على الآخر لاوجه له.

٣ ـ ان القاعدة إنما تنفى الشك وانه ليس بشيء لاحظ صحيح زرارة

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٦٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢١٠ ـ ٢١١.

٥٦

المتقدم (إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء) (١) ومن المعلوم ان الدليل النافي لموضوع الآخر يكون حاكما عليه كما حقق في محله ، وهذا هو الحق.

قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة

الأمر الخامس : في بيان ان قاعدة الفراغ ، هل هي غير قاعدة التجاوز ، أم هما قاعدة واحدة ، وان المجعول الشرعي شيء واحد.

وقد اختلفت كلماتهم في ذلك ، فعن الشيخ الأعظم (٢) اختيار الثاني وتبعه جمع من الاساطين (٣) ، وعن المحقق الخراساني (٤) استظهار الأول وتبعه المحقق الهمداني (٥) وجماعة (٦).

__________________

(١) التهذيب ج ٢ ص ٣٥٢ باب احكام السهو ح ٤٧ / الوسائل ج ٨ ص ٢٣٧ ح ١٠٥٢٤.

(٢) وهو الظاهر من عدم الفرق بينهما كما في فرائد الأصول ج ٢ ص ٧١٥ (الموضع السادس).

(٣) وهو ظاهر اوثق الوسائل ص ٥٥٤.

(٤) كفاية الأصول ص ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٥) الفوائد الرضوية ج ٢ ص ١٠٨.

(٦) منهم آية الله الخوئي في مصباح الأصول حيث اختار امكانية كونهما قاعدة واحدة في عالم الثبوت ، الا انهما قاعدتين في عالم الاثبات ، راجع ج ٣ ص ٢٧٩ / دراسات في علم الأصول ج ٤ ص ٢٨٣.

٥٧

والكلام يقع في موردين ، الأول : في مقام الثبوت.

الثاني : في مقام الإثبات.

اما المورد الأول : فقد استدل لامتناع كونهما قاعدة واحدة بوجوه :

منها : ان متعلق الشك في قاعدة الفراغ إنما هو صحة الموجود بعد مفروغية اصل الوجود ، وهي المتعبد بها ، فالتعبد فيها إنما هو بمفاد كان الناقصة ، ومتعلق الشك في قاعدة التجاوز اصل الوجود ، وهو المتعبد به ، ويكون التعبد فيها بمفاد كان التامة ولا جامع بينهما ولا يعقل اندراجهما في كبرى واحدة : إذ كيف يمكن ان يكون الوجود مفروغا عنه في دليل مع فرض تعلق التعبد به.

وافاد المحقق الأصفهاني (ره) (١) انه ليس المحذور كون التعبد في مورد قاعدة التجاوز بنحو مفاد كان الناقصة ، وفي مورد قاعدة الفراغ بنحو مفاد كان التامة : فانه يمكن ان يقال انه في مورد قاعدة التجاوز المتعبد به صحة العمل بنحو مفاد كان التامة ، بل المحذور ان المتعبد به في مورد قاعدة التجاوز هو صحة العمل ، فاصل وجوده مفروغ عنه ومفروض الوجود ، وفي مورد قاعدة الفراغ المتعبد به اصل الوجود ، وهما امران متغايران لا يجمعهما شيء واحد.

وفيه : ان وجود العرض في نفسه وجود في الغير وعين وجوده لموضوعه ، وعليه فان اخذ وجود العرض في الموضوع بما هو شيء في نفسه ولم يلاحظ

__________________

(١) راجع خاتمة نهاية الدراية (الطبعة الحجرية) ص ٢٩٦ حيث الحقت قاعدة الفراغ والتجاوز ، وأصالة الصحة وقاعدة اليد في نهاية هذه الطبعة ولم تطبع في الطبعات الجديدة.

٥٨

كونه في الغير ووصفا له ، يلزم الالتزام بترتب الأثر وان كان العرض موجودا في غير هذا الموضوع وهو خلف الفرض ، وان اخذ بما هو قائم بالذات وعرض فلا محالة يعتبر العرض نعتا ، ففي ترتب الحكم لا بدَّ من إحراز اتصاف الموضوع بالعرض زائدا على إحراز وجود الموضوع والعرض.

وعلى الجملة : الصحة التي يترتب عليها الأثر هي صحة الموجود لا مطلق الصحة ، فالشك في صحة العمل بعد كونها من الاوصاف ووجودها في نفسها عين وجودها في غيرها لا محالة يكون هو الشك في كون العمل صحيحا الذي هو مفاد كان الناقصة.

وأجاب : عن اصل الإشكال الشيخ الأعظم (ره) (١) بقوله ، السادس ان الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الإتيان ، بل هو هو : لان مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح.

وأورد عليه المحققان ، الخراساني (٢) ، والنائيني (٣) ، بان المتعبد به في قاعدة الفراغ ليس هو الوجود الصحيح بل صحة الموجود.

وذلك : لان قاعدة الفراغ لا تختص بباب التكاليف حتى يقال ان هم العقل هو الخروج عن التكليف بوجود متعلقه خارجا فلا حاجة إلى إحراز

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧١٥ (الموضع السادس).

(٢) راجع درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٩٥. وهو ظاهر كلامه في كفاية الأصول ص ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٣) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٦٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢١٢.

٥٩

صحة الموجود الخارجي بل تعم الوضعيات والمهم فيها إثبات صحة الموجود : إذ الأثر مترتب على صحة العقد الصادر من المتعاقدين ولا اثر لوجود العقد الصحيح بمفاد كان التامة ، واثبات صحة الموجود الخارجي بوجود الصحيح يكون من الأصل المثبت.

ويرد عليهما ، أولا : انا وان بنينا على عدم حجية القاعدة في مثبتاتها حتى على الامارية ، إلا ان هذا المقدار من اللوازم ، كصحة الموجود الملازمة لوجود الصحيح ، لا ينفك في التعبد عن التعبد بملزومه عرفا ، ألا ترى انه لا يشك احد في ان التعبد بوجود التكبيرة لو شك فيها بعد الدخول في القراءة ، مستلزم للتعبد بصحة الصلاة الخارجية التي بيده ، مع ان انطباق المأمور بها عليها مشكوك فيه ، وليس ذلك إلا من جهة الملازمة بين التعبدين عرفا وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ، وعلى ذلك فيكفى في الحكم بصحة الموجود الخارجي التعبد بوجود الصحيح.

وثانيا : ان الأثر في باب الوضعيات أيضاً مترتب على الوجود الصحيح في الخارج فإذا حكم الشارع بتحقق بيع صحيح خارجا ، فلا محالة يحكم بتحقق النقل والانتقال بلا حاجة إلى إثبات صحة الموجود الخارجي.

ولكن الذي يرد على الشيخ ، ان العمل الذي يتعبد به حيث لا يعقل فيه الإهمال ، فمن حيث وصف الصحة.

اما ان يؤخذ بنحو اللابشرط القسمي ومطلقا ، الذي هو بمعنى رفض القيود ، فلا تعبد بالصحة فتختص القاعدة بموارد قاعدة التجاوز.

أو يؤخذ بنحو بشرط شيء ، أي العمل بوصف الصحة فتختص بمورد

٦٠