زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

وثانيا : انه (قدِّس سره) في تلك المسألة استظهر منه ومن سائر الروايات كون الأمر فيه غير الزامي وكونه دالا على مطلوبية الاحتياط نفسا ، ويؤيده ما في ذيله من التعليل ، مع انه لو لم يكن ظاهرا فيه لا بدَّ من حمله عليه بقرينة سائر الأخبار.

وثالثا : انه يدل على لزوم ترك ما فيه ريب والاخذ بما لا ريب فيه بقول مطلق لاما لا ريب فيه بالاضافة ، مع ان كلا من الخبرين لفرض شمول أدلة حجية الخبر الواحد له في نفسه يكون مما لا ريب فيه.

ثم ان المحقق الخراساني ذكر في الكفاية (١) وجهين لعدم التعدي.

الأول : عدم بيان الإمام (ع) للكلية كي لا يحتاج السائل إلى اعادة السؤال مرارا.

الثاني : امره (ع) بالارجاء بعد فرض التساوى فيما ذكر من المزايا المنصوصة فان عدم البيان ، والامر بالارجاء يوجبان الظهور للروايات في ان المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة.

ثم قال انه بناءً على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظن بذى المزية ولا أقربيته كبعض صفات الراوى مثل الاورعية أو الافقهية ، إذا كان موجبهما مما لا يوجب الظن أو الاقربية كالتورع من الشبهات والجهد في العبادات ، ، وكثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الأصولية فلا وجه للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الاقربية بل إلى

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٤٧ ـ ٤٤٨.

٣٦١

كل مزية ولو لم تكن بموجبة لاحدهما انتهى.

أقول : يرد على الوجه الأول ان الشيخ (قدِّس سره) يدعى انه (ع) بين الكلية غاية الأمر بلسان العلة لا بلسان بيان المجعول ، وكم له نظير في الفقه.

ويرد على الوجه الثاني ان الأمر بالارجاء إنما يكون بعد فرض عدم وجود ما ذكره مرجحا ، ومنه ما بينه بنحو العلة وهو كل ما اوجب الاقربية لا بعد فقد خصوص المرجحات المنصوصة.

واما ما أفاده اخيرا ، فيرده ان الافقهية والاورعية ليستا من مرجحات احدى الروايتين على الاخرى لعدم ذكرهما إلا في المقبولة التي عرفت ان صدرها المتضمن للترجيح بصفات الراوى وارد لبيان ما يكون مرجحا لأحد الحكمين على الآخر ، ولا ربط له بترجيح احد الخبرين على الآخر.

مع ان التورع في غير النقل بما انه يلازم التورع فيه ، فلا محالة يكون خبر الاورع اقرب من غيره ، كما ان الافقهية بما انها دخيلة في بيان ما صدر من الإمام (ع) فيما ينقل من الأخبار بالمعنى ، فلا يكون مرجحا تعبديا ، فالصحيح ما ذكرناه.

فالمتحصّل انه لا يتعدى من المرجحات المنصوصة.

اختصاص الأخبار العلاجية بغير موارد الجمع العرفي

المبحث السادس : قد عرفت سابقا انه لا تعارض بين الخبرين في موارد الجمع العرفي ، ولا يعمها ما يقتضيه الأصل في المتعارضين ، فهل الترجيح أو

٣٦٢

التخيير الثابت بالاخبار العلاجية يختص أيضاً بغير مواردها ، أو يعمها ، المشهور بين الأصحاب الاختصاص ، وعن ظاهر الاستبصار (١) والمحقق القمي (٢) وبعض المحدثين التعميم.

واستدل للاول : بان المستفاد من الأخبار العلاجية ان الترجيح أو التخيير إنما هو في موارد تحير العرف في الوظيفة وعدم فهمهم اياها ، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق العرفي ، فانه من انحاء طرق الاستفادة.

واشكل عليه المحقق الخراساني (٣) بان منشأ الاستظهار المذكور ان كان اختصاص السؤالات بغير مواردها من جهة عدم صحة السؤال بعد فهم المراد بالطريقة العقلائية.

فيرده : انه يصح السؤال ، اما بملاحظة التحير البدوي ، وان كان زائلا بالتأمل ، أو من جهة التحير في الحكم الواقعي ، لان الجمع العرفي لا يوجب رفع التحير في الحكم الواقعي ، أو من جهة احتمال الردع عن الطريقة المألوفة.

__________________

(١) راجع الاستبصار ج ١ ص ٤ قوله : «واذا كان الخبران يمكن العمل بكل واحد منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل ، وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحا او تلويحا لفظا أو دليلا ، وكان الآخر عاريا من ذلك كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد به شيء من الأخبار».

(٢) راجع قوانين الأصول ج ١ ص ٣٠٤ و ٣٠٦ فقد أوضح ذلك في عدة نقاط واشار إلى ان تفصيل ذلك في بحث التعادل والترجيح.

(٣) كفاية الأصول ص ٤٤٩.

٣٦٣

وان كان منشأه اختصاص العناوين المأخوذة في الاسئلة والاجوبة بغير مواردها.

فيرده : ان جلها لو لا كلها تشملها.

ودعوى : ان المتيقن غيرها.

مندفعة : بان المتيقن في غير مقام التخاطب لا يوجب تقييد الاطلاقات.

ثم هو تصدى لبيان وجه الاختصاص وذكر له وجهين.

أحدهما : ان السيرة العقلائية مخصصة لعمومات الأخبار العلاجية.

ثانيهما : ان السيرة تكون قرينة على التخصيص وان موردها ما عدا مورد الجمع العرفي.

ثم قال ، انه لو سلم الاجمال فحيث لم يثبت الردع عن السيرة تكون هي المتبعة.

وفي كلامه (قدِّس سره) مواقع للنظر :

١ ـ ان ما أفاده في وجه صحة السؤال لا يتم : فان السؤال ليس بملاحظة التحير في الحكم الواقعي ، فانه يكون باقيا بعد بيان الوظيفة أي التخيير ، ولا بملاحظة التحير البدوي فانه بعيد غايته ان يسأل انه لو تحيرنا في الحكم ثم علمنا الوظيفة الفعلية بالتأمل ما ذا نصنع ، ولا بملاحظة احتمال الردع إذ احتماله قبل هذا السؤال والجواب ليس وبعده بعيد.

٢ ـ ما ذكره من ان جل العناوين لو لا كلها تشملها :

٣٦٤

فانه يرد عليه ان العناوين المأخوذة ثلاثة ، المتعارضان ، المختلفان ، ويجيء امر ونهى على خلافه.

وشيء منها لا يشمل مورد الجمع العرفي.

اما الأول : فلما تقدم في أول مبحث التعادل والترجيح.

واما الثاني : فلان الاختلاف مساوق للتعارض.

واما الثالث : فلان الظاهر منه وحدة متعلق الأمر والنهي في موضوع واحد ولا يشمل ، ما لو كان متعلق أحدهما اخص من متعلق الآخر ، أو كان موضوعه كذلك.

٣ ـ ما ذكره من تخصيص عموم الأخبار بالسيرة : فانه دورى إذ تخصيصه بها يتوقف على حجيتها ، وحجيتها تتوقف على عدم الردع وهو يتوقف على التخصيص.

٤ ـ ما ذكره (قدِّس سره) من التخصيص.

فانه يرده ما أفاده (قدِّس سره) في أول كلامه.

فالصحيح البناء على عدم الشمول من جهة عدم شمول العناوين لمواردها.

وقد استدل للزوم الرجوع إليها في موارد الجمع العرفي بروايات :

الأولى : التوقيع الشريف كتب إليه الحميرى يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه ان يكبر فان بعض أصحابنا قال لا يجب عليه تكبيرة ويجزيه ان يقول بحول الله وقوته اقوم

٣٦٥

واقعد فكتب (ع) في الجواب عن ذلك حديثان اما أحدهما فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير ، واما الآخر فانه روي انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى ، وبايهما اخذت من باب التسليم كان صوابا (١) حيث انه (ع) حكم بالتخيير مع ان الثاني اخص من الأول.

وأجاب الشيخ الأعظم (ره) (٢) في مبحث البراءة عنه بان جوابه (ع) يدل على ان الحديث الأول نقله الإمام (ع) بالمعنى واراد شموله لحالة الانتقال من القعود إلى القيام بحيث لا يمكن ارادة ما عدا هذا الفرد منه ، فأجاب (ع) بالتخيير.

وفيه : ان لازم ذلك الالتزام بما لا يصح لنا الالتزام به بالنسبة إلى فقيه من فقهائنا فضلا عن المعصوم (ع) وهو الخطأ في النقل.

وأجاب عنه المحقق الهمداني (ره) (٣) بان حكمه (ع) بالتخيير لعله يكون من جهة علمه بارادة العموم حقيقة لا استعمالا كي يحمل العام على الخاص.

وفيه : انه مع علمه بذلك يتعين البناء على استحباب التكبيرة على أي

__________________

(١) رواها الطوسي في غيبته ص ٣٧٨ (ذكر اقامة ابي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري أبا القاسم ...) / الإحتجاج ج ٢ ص ٤٨٣ (ذكر طرف مما خرج ايضا عن صاحب الزمان (ع) من المسائل الفقهية ..) / الوسائل ج ٦ ص ٣٦٢ باب ١٣ من ابواب السجود ح ٨١٩٢.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٩٠.

(٣) فوائد الرضوية ج ٢ ص ٣٩ بتصرف.

٣٦٦

حال كما لا يخفى ، مع انه هذا أيضاً كسابقه لا يليق بمقامه السامي إذ لو كان (ع) بصدد بيان تعليم حكم المتعارضين وينقل ما ظاهره عدم التعارض بينهما كان ذلك خلاف مقامه.

وأجاب المحقق الخراساني عنه في حاشيته (١) على الرسائل بان الغرض من بيان الخبرين بيان المقتضي لاستحباب كل منهما ولاجل تزاحم المقتضيين ، وعدم إمكان استيفائهما معا المستفاد من نفى التكبير في الخبر الثاني لوجود المقتضى للحوقلة ، يكون التخيير عقليا.

وفيه : ان المراد من ذكر الخبرين لو كان ذلك ، كان المتعين ان ينقلهما بغير هذا النحو الذي يكون مقتضى الجمع العرفي ، عدم وجود المقتضى للتكبير ، فما ذكره (قدِّس سره) مستلزم لعدم صحة الجمع العرفي.

وبالجملة ما ذكره يكون تقريبا لثبوت التعارض بين العام والخاص فانه لو لا ذلك كان المتعين بحسب ما يستفاد من الأخبار استحبابهما معا فتدبر فانه دقيق.

والحق في الجواب ان يقال :

أولا : ان الخبر لم يعمل به احد سوى المفيد إذ لم يفت احد بمشروعية التكبيرة في القيام بعد القعود سواه على ما في الجواهر (٢) ، واعترض عليه في الذكرى بأنه لم نجد له مأخذا كما في الجواهر (٣).

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند ص ٢٢٩ (الجديدة).

(٢) جواهر الكلام ج ١٠ ص ١٨٨.

(٣) المصدر السابق.

٣٦٧

وثانيا : انه لكون مورده من المستحبات التي يتسامح في ادلتها لا يتعدى عنه ، فانه يمكن ان يكون منشأ محبوبية التكبير مع ان الخاص يستدعى عدمها صرف ظهور العام فيها ، وان كان زائلا لاقوائية الخاص ، ولا يمكن الالتزام بذلك في غير المستحبات كما لا يخفى.

الثانية : ما عن سماعة عن الإمام الصادق (ع) عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في خبرين كلاهما يرويه أحدهما يامره ـ والآخر ينهاه ـ كيف نصنع قال (ع) يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه (١).

بتقريب ان الأمر ظاهر في طلب الفعل ونص في الجواز ، والنهي ظاهر في التحريم ونص في طلب الترك ومقتضى حمل الظاهر على النص الحكم بالكراهة والرخصة في الفعل مع انه (ع) حكم بالتخيير.

وفيه : أولا ، ان مثل هذا الجمع ليس جمعا عرفيا :

إذ الضابط في كون الجمع عرفيا فرض صدور الجملتين من شخص واحد في مجلس واحد ، فان لم ير العرف التنافي بينهما ورأوا احداهما قرينة على الاخرى كان الجمع عرفيا وإلا فلا.

وفي المقام إذا جمعنا الأمر بشيء والنهي عنه صادرين من شخص واحد لا ريب في ان العرف يرونهما متنافيين ولا يرون أحدهما قرينة على الآخر كما لا يخفى.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٦٦ باب اختلاف الحديث ح ٧ / الوسائل ج ٢٧ ص ١٠٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣٣٣٨.

٣٦٨

وثانيا : انه لا شاهد فيه يشهد بان في المورد كان صيغة الأمر وصيغة النهي ، بل ظاهره انه كان هناك حقيقة الأمر والنهي وهما متباينان.

وثالثا : انه ليس جوابه دالا على الحكم بالتخيير بين الاخذ بالخبرين بل يدل على بيان الحكم الواقعي الذي يحكم به العقل مع عدم الحجة على شيء من الطرفين فيعارض مع اخبار التخيير والترجيح.

الثالثة : رواية على بن مهزيار قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (ع) اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله (ع) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم صلهما في المحمل وروى بعضهم لا تصلهما إلا على وجه الارض فاعلمني كيف تصنع انت لاقتدى بك في ذلك فوقع (ع) موسع عليك بأية عملت (١).

بتقريب انه (ع) حكم بالتخيير ، مع ان الأول نص في الجواز والثاني ظاهر في الحرمة ، فالجمع بينهما يقتضي البناء على الكراهة.

وفيه : أولا : ما تقدم في الجواب الأول عن الخبر الثاني.

وثانيا : انها في المستحبات ، فيرد عليها ما اوردناه ثانيا على الخبر الأول.

وثالثا : انه يمكن ان يقال فيها انه لم يسأل عنه (ع) عن حكم الخبرين وإنما سأل عن الحكم الواقعي وكان هو افضلية الصلاة على وجه الارض وجوازها في المحمل وأجاب (ع) بالتوسعة.

__________________

(١) التهذيب ج ٣ ص ٢٢٨ باب الصلاة في السفر .. ح ٩٢ / الوسائل ج ٢٧ ص ١٢٢ باب ١٥ من أبواب القبلة كتاب الصلاة ح ٣٣٣٧٧.

٣٦٩

فتحصل ان الاقوى خروج الموارد الجمع العرفي عن موارد الترجيح والتخيير ، وانه لم يرد من الشارع ما يكون رادعا عن الطريقة المألوفة التي استمرت عليها السيرة من لدن زمان الائمة (ع) إلى اليوم ، بحيث يلزم من عدم العمل على طبقها تأسيس فقه جديد.

وظاهر كلام الشيخ في العدة (١) ، والاستبصار (٢) ، وان كان هو عمله بالمرجحات في تعارض النص والظاهر ، إلا انه يتعين صرفه عن ظاهره ، لما صرح به في محكي العدّة في باب بناء العام على الخاص (٣) ، بان الرجوع إلى التخيير والترجيح إنما هو في تعارض العامين ، دون العام والخاص ، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلاً.

واستدل له بان العمل بالخاص ليس طرحا للعام ، وان العمل بالتخيير والترجيح فرع التعارض الذي لا يجري فيه الجمع العرفي.

__________________

(١) العدة ج ١ ص ١٤٧.

(٢) راجع الاستبصار ج ١ ص ٤ من مقدمة المؤلف.

(٣) راجع العدّة لشيخ الطائفة الطوسي ج ١ ص ٣٩٤ ـ ٣٩٥ (فصل : في ذكر بناء الخاص على العام وحكم العمومين اذا تعارضا) بتصرف.

٣٧٠

تعارض العموم والإطلاق

المبحث السابع : قد عرفت انه إذا كان احد الخبرين قرينة على الآخر لا يعامل معهما معاملة المتعارضين ، وقد يشتبه الأمر صغرويا ، وقد ذكر الشيخ الأعظم (١) لتمييز القرينة وذى القرينة عن المتعارضين في موارد الاشتباه ضوابط ، ذكر المحقق الخراساني (٢) منها اثنين.

احدهما : ما إذ تعارض الإطلاق والعموم كما لو قال ، اكرم العالم ، ولا تكرم الفساق حيث انه يدور الأمر ، بين تقييد إطلاق الأول بغير الفاسق ، وبين تخصيص عموم الثاني ، بغير العالم ، حيث قيل ان شمول العام لمورد الاجتماع اظهر من شمول المطلق له ، وقد ذكر في وجه الاظهرية والتقديم امران ، كل منهما على مسلك.

الأول : ان التقييد كثير والتخصيص قليل ، وقد ذكر الشيخ (ره) (٣) ذلك بناءً على القول بان التقييد مجاز ، وقد ذكره المحقق الخراساني (٤) بنحو الإطلاق.

وفيه : ان الصغرى والكبرى ممنوعتان :

اما الأولى : فلعدم الدليل على اكثرية التقييد عن التخصيص ، لو لم يكن

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٩٢.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٥٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) كفاية الأصول ص ٤٥١.

٣٧١

الثاني اكثر حتى قيل ما من عام إلا وقد خص.

واما الثانية : فلان الاكثرية لا تكون منشئا لذلك بعد كون العام قابلا للتخصيص أيضاً.

الثاني : انه على فرض عدم كون التقييد مجازا ، حيث ان ظهور العام في العموم يكون بالوضع وظهور المطلق في الشمول بمقدمات الحكمة يقدم الأول.

وذلك : لان سراية الحكم إلى جميع الأفراد في موارد العموم الوضعي لا يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة ، بل اداة العموم بنفسها كاشفة عن ذلك ، وان المدخول غير مقيد بقيد ، وهذا بخلاف سراية الحكم إلى جميع الأفراد ، في موارد الإطلاق ، فانها بمقدمات الحكمة ، وهذا هو المراد من كون دلالة العام تنجيزية ، ودلالة المطلق تعليقية.

وعليه فدلالة العام على حكم المجمع لا تتوقف على شيء ، وهذا بخلاف دلالة المطلق ، فانها متوقفة على جريان مقدمات الحكمة ، ومنها عدم البيان ، والعام يصلح للبيانية ، فمع وجوده لا تتم المقدمات ، فلا يثبت الإطلاق للمطلق ولا ينعقد له ظهور فيه.

ولا يمكن ان يقال ، ان العام إنما يكون حجة في العموم لو لا المخصص ، والمطلق يصلح لذلك :

فان تخصيصه به دورى فانه متوقف على حجية المطلق في اطلاقه وانعقاده المتوقفة على عدم حجية العام في عمومه المتوقف على مخصصية المطلق وهذا دور واضح.

٣٧٢

والحق في الجواب عن ذلك ان عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة إنما هو عدم البيان ببيان القيد متصلا بكلامه لا عدم بيان القيد ولو منفصلا ، فانه مانع عن دلالة الكلام على المراد الجدى ، لا المراد الاستعمالى.

توضيح ذلك : ان لكل جملة دلالتين :

احداهما : دلالتها على ان المتكلم اراد بها تفهيم معناها ويعبر عنها بالدلالة التصديقية فيما قال :

ثانيتهما : دلالتها على ان المراد الجدى مطابق للمراد الاستعمالى بل هذه ليست في الحقيقة من دلالة اللفظ في شيء ، بل بناء العقلاء جار على ذلك ، وبيان القيد المتصل يمنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق ، واما بيان القيد المنفصل فهو لا يمنع عن ذلك ، بل يوجب تقييد المراد الجدى ، وعليه فالعام لا يصلح بيانا لما هو مانع عن انعقاد الإطلاق.

لا يقال ان المطلق وان انعقد له الظهور في الإطلاق مع عدم بيان القيد متصلا إلا انه يكون مراعى بعدم البيان ولو منفصلا.

فانه يقال ان الشيخ الأعظم (ره) وان التزم بذلك في مبحث المطلق والمقيد ، وعليه يتم ما ذكره (ره) في المقام ، إلا انا قد حققنا في ذلك المبحث خلافه وان القيد المنفصل لا يوجب انثلام ظهور المطلق في الإطلاق.

لا يقال : ان ما ذكر يتم فيما إذا ورد العام بعد المطلق ، واما إذا ورد قبله فلا يتم فانه في حكم البيان المتصل.

فانه يقال : مجرد ذكره قبله لا يجدي فانه عند العرف لا يعد قرينة متصلة ما

٣٧٣

لم يكن ذلك القيد من المرتكزات الذهنية.

لا يقال : انه بناءً على ما اعترف به من توقف دلالته على المراد الجدى على عدم بيان القيد ولو منفصلا لا يكون للمطلق دلالة عليه في الفرض إذ العام يصلح لذلك ، ومع عدمها لا يكون حجة.

فانه يقال : من هذه الجهة ، لا فرق بين العام والمطلق ، فان مدرك هذه الدلالة هو بناء العقلاء وليست دلالة لفظية ، وعليه فلا مزية لاحدهما على الآخر.

فالاظهر عدم تمامية هذا الضابط ، ومما ذكرناه يظهر الخدشة في كثير مما قيل في المقام.

دوران الأمر بين النسخ والتخصيص

ثانيها : ما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ ، كما إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، حيث يدور الأمر بين كون الخاص مخصصا للعام ، أو كون العام ناسخا للخاص ، أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، حيث يدور الأمر بين كون الخاص ناسخا للعام ، أو مخصصا له ، قد يقال بتعين النسخ ، واستدل له بوجهين :

أحدهما : ان الالتزام بالتخصيص مستلزم لتاخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح.

٣٧٤

وأجاب عنه صاحب الكفاية (١) في مبحث العام والخاص ، بما هو ، وايراد المحقق النائيني (ره) (٢) ، وإيرادنا عليهما ، مذكورة في ذلك المبحث مفصلا فراجع.

والحق في الجواب انه ربما تكون المصلحة في تأخير البيان مع القاء الحجة على خلاف الواقع أو المفسدة في تقديمه ، وفي مثل ذلك لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة : إذ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إنما يكون من جهة قبح تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة ، ومع وجود المصلحة في التاخير أو المفسدة في التقديم لا يكون ذلك قبيحا.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (٣) في المقام وحاصله ان دلالة الخاص أو العام على الاستمرار والدوام ، إنما هو بالإطلاق لا بالوضع ، فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد على التخصيص كان اللازم في هذا الدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضاً.

وملخص القول في المقام بالبحث في موردين :

١ ـ في ان بقاء الحكم في عمود الزمان وعدم نسخه لاى شيء يكون ، هل هو الإطلاق ، أو العموم ، أو الاستصحاب ، أو الأدلة الخارجية غير دليل الحكم من قبيل ما دل على ان حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة (٤).

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٣٧.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٥٠٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٩٦ وما بعدها.

(٣) كفاية الأصول ص ٤٥١.

(٤) بصائر الدرجات ص ١٤٨ ح ٧ / الكافي ج ١ ص ٥٨ باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

٣٧٥

٢ ـ في تقديم التخصيص على النسخ ، أو تقديم النسخ عليه ، أو عدم تقديم أحدهما على الآخر.

اما الأول : فلا ينبغي التوقف في ان عدم النسخ ليس من جهة إطلاق دليل الحكم : لان الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى المجعول ممكن نظير إنشاء الزوجية فانه يمكن إنشاء الزوجية الدائمة كما يمكن إنشاء الزوجية المقيدة الانقطاعية.

واما بالنسبة إلى الجعل ، فهو بمعنى الإنشاء وإبراز المعنى باللفظ ، ينعدم بعد وجوده بلا فصل ، وبالمعنى الاعتباري الذي يعبر عنه ببقاء القانون في العرفيات ، يكون الإنشاء والجعل بالنسبة إليه بمنزلة الموضوع للحكم فلا يعقل تضمن ما دل على ثبوت الحكم لبقائه بهذا المعنى.

وبالجملة ، دوام الحكم واستمراره إنما يكون من أحكامه المتفرعة عليه ، فكيف يمكن إثبات الدوام بنفس ما يتكفل لاثبات الحكم بل لا بدَّ له من دليل آخر.

فان قلت : ان الإطلاق في الموضوع يلازم الإطلاق في الجعل ، وذلك : لأنه إذا وجب الحج مثلا لمن يأتي بعد الف سنة فبعد تلك المدة يجب عليه الحج ، وهذا يلازم لبقاء الجعل إلى ذلك الوقت وإلا لما كان واجبا عليه.

قلت : ان جعل الحكم عليه إنما يكون من أول زمان الجعل ، واما فعليته له فهي تتوقف على بقاء الجعل ، واثباته بها دورى.

وليس وجهه استصحاب عدم النسخ لما تقدم في التنبيه السادس مفصلا.

بل البناء على عدم النسخ إنما هو لأجل الأدلة الخارجية من قبيل حلال

٣٧٦

محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة (١) ، وما شاكل ، وعليه فلو كان تعارض فإنما هو بين عموم هذه الأدلة واصالة العموم.

واما الثاني : فالحق انه يقدم التخصيص ويبنى عليه ، وان كان مدرك بقاء الحكم في عمود الزمان هو الاستصحاب.

وذلك : لان النصوص الصادرة عن المعصومين (ع) بما أنها متضمنة للاحكام الثابتة في الاسلام من أول ظهوره إلى الابد وهي كاشفة عنها ، فالروايات الصادرة عنهم بمنزلة الصادرة عن شخص واحد ، فالمتقدم والمتأخر منها بمنزلة المقارن.

وبعبارة أخرى : ان التقدم والتاخر إنما هو في الكاشف ، واما المنكشف فلا تقدم ولا تأخر فيه وهو المعيار ، وقد تقدم ان تقدم الخاص على العام إنما هو بالورود ولا يصلح العام لان يكون ناسخا عن الخاص ، فلو صدر من النبي (ص) خاص ، ومن الإمام الصادق (ع) عام يفرض انهما صدرا من شخص واحد في مجلس واحد ، ويبنى على تخصيص العام بالخاص ، لا ناسخية العام للخاص.

نعم لو كان مفاد العام ثبوت الحكم من حين صدوره ، لا من الأول ، كان لما أفاده المحقق الخراساني وجه ، ولكنه عرفت انه بمراحل عن الواقع.

ثم ان الأقوال في المخصصات الصادرة عن الائمة عليهم‌السلام بالنسبة إلى الكتاب المجيد ، ثلاثة :

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ١٤٨ ح ٧ / الكافي ج ١ ص ٥٨ باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

٣٧٧

١ ـ الالتزام بالنسخ. ٢ ـ الالتزام بالتخصيص ، وان النبي (ص) بيَّنها من الأول ، ولكنها خفيت على الناس إلى ان بينها الائمة (ع). ٣ ـ الالتزام بالتخصيص من حين صدورها.

لا سبيل إلى الأول ، لا لما قيل من انقطاع الوحى بعد النبي (ص) ، لأنه يمكن ان يكون من العلوم المستودعة عندهم ، بل لأنه من المستبعد جدا الالتزام بالنسخ في اكثر الأحكام الشرعية ، اضف إليه ما تقدم في المسألة المتقدمة ، وبه يظهر ان المتعين هو القول الثالث.

حول انقلاب النسبة في التعارض بين اكثر من دليلين

المبحث الثامن : قد عرفت انه إذا كان احد الدليلين قرينة عرفية على الآخر ، يقدم عليه ، من دون ان تلاحظ المرجحات ، وان لم يكن كذلك يرجع إلى اخبار الترجيح والتخيير على تفصيل تقدم.

لكن تعيين ذلك فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين في جملة من موارده لا يخلو من صعوبة ولذلك اصبحت المسألة معركة للآراء.

وحيث ان موارد ذلك في الفقه كثيرة ، فلا بدَّ من بيان ضابط به يتضح الحال في كل مورد.

وتنقيح القول بالبحث في كل صورة من صور المسألة وهي خمس :

الصورة الأولى : ما لو ورد عام ومخصصان متباينان ، كما لو دل دليل على استحباب اكرام العلماء ، ودل دليل آخر على عدم استحباب اكرام الكوفيين

٣٧٨

منهم ، ودل دليل ثالث على عدم استحباب اكرام الحليين منهم ، فان النسبة بين العام ، وكل من الخاصين عموم مطلق ، والنسبة بين الخاصين التباين ، فان لم يلزم من تخصيص العام بهما محذور كما في المثال فيخصص العام بهما ، من دون لزوم انقلاب النسبة.

وان لزم منه ذلك كما لو لزم عدم بقاء المورد للعام من تخصيصه بهما ، أو لزم التخصيص المستهجن ، كما لو ورد يجب اكرام العلماء ، ودل دليل ثان على استحباب اكرام العدول منهم ، ودل دليل ثالث على حرمة اكرام الفساق منهم ، فله موردان :

١ ـ ما إذا كان كل من الخاصين منفصلا.

٢ ـ ما إذا كان أحدهما متصلا والآخر منفصلا.

فالكلام في موردين.

اما الأول : فعن المحقق النراقي (ره) (١) انه يخصص العام أولا باحدهما ، إذا كان ذلك هو الإجماع ونحوه ، ثم يلاحظ النسبة بين العام المخصص والخاص الآخر ، وليست النسبة حينئذ هو العموم المطلق كما هو واضح.

وأورد عليه المحقق الخراساني (٢) بان النسبة إنما تلاحظ بملاحظة الظهورات وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره وان انثلم به حجيته.

__________________

(١) عوائد الايام ص ١٢١ بتصرف.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٥٢.

٣٧٩

وفيه : ان التعارض إنما يكون بين الحجج ، واما ما ليس بحجة فلا معنى لتعارضه مع الحجة : إذ ما ليس بحجة كيف يمكن ان يعارض مع الحجة ، فالمعارض لا بد وان يكون حجة لو لا المعارضة.

ولكن يرد على المحقق النراقي (ره) ان الإجماع أو نحوه ليس من قبيل القرينة المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور العام في العموم فلا فرق بينه وبين المخصص اللفظي ، ولاوجه لملاحظة النسبة بينه وبين العام أولا لقبح الترجيح بلا مرجح.

وعليه فهل تلاحظ النسبة بين العام وبين مجموع الخاصين ثم بين الخاصين كما اختاره المحقق الخراساني وغيره من الاساطين ، أم تلاحظ النسبة بين جميع الأدلة؟ وجهان.

قد استدل للاول ، بان نسبة العام إلى الخاصين على حد سواء فتخصيصه باحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، وبهما معا يلزم المحذور المتقدم ، فيعامل مع الخاصين والعام معاملة المتعارضين ، فان قدم الخاصان ، فهو ومعه لا مجال للعمل بالعام أصلاً ، وان قدم العام فلا يطرح من الخاصين إلا خصوص ما لم يلزم مع طرحه المحذور ، فان التباين إنما كان بينه وبين مجموعها لا جميعها ، فحينئذ ربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحا أو تخييرا.

أقول : لا اشكال في ان دلالة العام على بعض الأفراد في الجملة إنما تكون بالنصوصية ، وبوضع المادة لذلك ، وتقدم الخاص عليه إنما يكون فيما لم يصادم مع هذه الدلالة ، ودلالته على جميع الأفراد إنما تكون بالظهور ، وباصالة العموم ،

٣٨٠