زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

المقبولة وهي من جهة انه لوحظ الشهرة فيها بالاضافة إلى الرواية الظاهر في نقل رأى المعصوم عن حس ، لا عن حدس ورأى ، وغير ذلك من القرائن ، ظاهرة في ارادة الشهرة الروائية.

نعم إذا كانت الفتوى على خلاف القاعدة والاصل ، فحيث ان عدالة الأصحاب تمنع عن الفتوى من غير مستند ، والفرض انه لا مستند غير تلك الرواية ، فلا محالة يستكشف من ذلك استنادهم إليها ، ولعله من هذا الباب حديث على اليد ما اخذت (١).

فانه خبر ضعيف ، وفتوى قدماء الأصحاب على طبقه وان لم يستدلوا به ، ولكنها ترجع إلى الشهرة العملية ، وليست مجرد الشهرة الفتوائية.

الثالث : لا اشكال في ان مخالفة العامة من المرجحات ولا كلام في ذلك إنما الكلام في ان مرجحيتها ، هل تكون من جهة مطلوبية المخالفة لهم في نفسها ، كما هو الظاهر من خبر داود بن الحصين عمن ذكره عن أبي عبد الله (ع) في حديث ، وان من وافقنا خالف عدونا ، ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منا ولا نحن منهم (٢) ، أو من جهة التعبد المحض كما هو الظاهر من ما تضمن الأمر بالاخذ بالمخالف ، كخبر المفضل بن عمر قال الصادق (ع) كذب من

__________________

(١) رواه عوالي اللآلي في غير موضع راجع ج ١ ص ٢٢٤ و ٣٨٩ وفي ج ٢ ص ٣٤٥ وفي ج ٣ ص ٢٤٦ و ٢٥١ / المستدرك ج ١٤ ص ٨ ح ١٥٩٤٤.

(٢) الوسائل ج ٢٧ ص ١١٩ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣٣٦٦.

٣٤١

زعم انه من شعيتنا ، وهو مستمسك بعروة غيرنا (١) ، أو من جهة صدور الموافق تقية ، كما هو المستفاد من جملة من الأخبار كخبر عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق (ع) ما سمعته منى يشبه قول الناس فيه التقية ، الحديث (٢) أو من جهة ان الرشد في خلافهم كما هو ظاهر كثير من النصوص ، لاحظ قوله (ع) دعوا ما وافق القوم فان الرشد في خلافهم (٣). وخبر على بن اسباط عن الإمام الرضا (ع) في حديث ائت فقيه البلد فاستفته من امرك فإذا افتاك بشيء فخذ بخلافه فان الحق فيه (٤) ونحوهما غيرهما ، وجوه :

اظهرها الاخير ، فان ما هو مدرك الوجه الأول ، ظاهر في الموافقة معهم في العقائد الفاسدة كما يشهد به خبر حسين بن خالد عن الإمام الرضا (ع) شيعتنا المسلمون لامرنا الآخذون بقولنا المخالفون لاعدائنا فمن لم يكن كذلك فليس منا ((٥)).

وما يكون مدركا للثاني مع تعدده وكثرته قابل للحمل على الوجه الرابع.

وما يكون مدركا للثالث ظاهر في صورة العلم بالصدور لاحظ خبر عبيد

__________________

(١) الوسائل ج ٢٧ ص ١١٧ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣٣٥٩.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٩٨ باب الخلع والمباراة ... ح ٩ / الوسائل ج ٢٧ ص ١٢٣ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣٣٧٩.

(٣) الوسائل ج ٢٧ ص ١١٢ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣٣٥٢.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٤ باب من الزيادات في القضايا والاحكام ح ٢٧ / الوسائل ج ٢٧ ص ١١٥ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣٣٥٦.

(٥) الوسائل ج ٢٧ ص ١١٦ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣٣٥٨.

٣٤٢

المتقدم.

فإذا المتعين هو الاحتمال الرابع ، ويؤيده جعله مقرونا بالترجيح بموافقة الكتاب في المقبولة ، الظاهر ، في انهما من سنخ واحد ، لا سنخين أحدهما المرجح المضموني والآخر المرجح الجهتي.

سائر ما استدل به على لزوم الترجيح

وقد استدل لوجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه اخر :

منها : دعوى الإجماع على الاخذ بأقوى الدليلين.

وأورد عليه صاحب الكفاية (١) بأنه مع مصير مثل الكليني إلى التخيير ، وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء ، قال في ديباجة الكافي (٢) ولا نجد شيئا اوسع ولا احوط من التخيير ، دعوى الإجماع مجازفة.

وفيه : أولا ان الكليني في ديباجة الكتاب (٣) يصرح بلزوم الترجيح بالشهرة ، وموافقة الكتاب ، ومخالفة العامة ، ثم بعد ذلك يبنى على التخيير.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٤٥.

(٢) الكافي ج ١ ص ٩ قوله : «ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (ع) وقبول ما وسعك من الامر فيه بقوله (ع) ... الخ».

(٣) المصدر السابق وقبله بصفحة.

٣٤٣

اللهم إلا ان يكون نظره (قدِّس سره) إلى رد الترجيح بكل مزية ولو لم تكن منصوصة كما هو ظاهر الدليل.

وثانيا : ان مخالفة الكليني وحده مع جلالة قدره لا تضر.

فالحق ان يورد عليه بعدم كون هذا الإجماع تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع) ـ مع ـ انه ليس اجماعيا قوليا ، بل هو عملي ، ووجه العمل غير معلوم ، ولعله يكون من جهة الاحتياط الاستحبابى ، أو اختيار احد فردي التخيير.

ثم انه ربما يورد على الكليني (قدِّس سره) ، بان ما أفاده من انا لا نجد شيئا اوسع ولا احوط من التخيير لا يتم ، فان التخيير وان كان اوسع ، إلا انه ليس احوط قطعا ، لان الترجيح وتقديم ذي المزية لو لم يكن متعينا ، لا اقل من احتمال تعينه ، للنصوص المتقدمة وافتاء المحققين به ، فالاحوط هو الترجيح لا التخيير.

ولكن يمكن ان ينتصر للكليني بان مراده ، ان الاحوط التوقف ، والاوسع التخيير لاحظ قوله ، ولا نجد شيئا احوط ولا اوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (ع) وقبول ما وسع من الأمر فيه الخ ، فان الظاهر كونه بنحو اللف والنشر المرتب ، وليست العبارة بالنحو المذكور في الكفاية.

ومن الوجوه التي ذكروها لوجوب ترجيح ذي المزية : انه لو لم يجب الترجيح بذى المزية ، لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلا ، بل ممتنع قطعا.

٣٤٤

وأورد عليه المحقق الخراساني (١) بقوله ، وفيه انه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع ضرورة إمكان ان تكون تلك المزية بالاضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الإنسان وكان الترجيح بها بلا مرجح وهو قبيح انتهى.

ويرد عليه ان المستفاد من الأدلة ان ملاك حجية الخبر هو إراءته للواقع ، ورجحان صدقه ، فإذا كانت المزيّة موجبة لاقوائية هذا الملاك كيف يمكن دعوى احتمال ان تكون المزية بالاضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الإنسان فيكون الترجيح ، بها بلا مرجح.

فالاولى : ان يجاب عنه ، بأنه لا يعتنى بهذه الاحتمالات والاستدلالات في مقابل اطلاقات التخيير الدالة على ثبوت التخيير حتى مع وجود المزية ، ولكن قد عرفت انها تقيد بأدلة الترجيح ، ولو لا تلك الأدلة كان المتعين البناء على التخيير مطلقا ، ومنها غير ذلك مما هو بين الفساد.

هل التخيير في المسألة الأصولية أو في المسألة الفرعية؟

ثم انه مع عدم المرجح لا اشكال في التخيير كما مر.

وإنما الكلام يقع في موارد :

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٤٥.

٣٤٥

الأول : في ان التخيير ، هل هو في المسألة الأصولية ، أم في المسألة الفرعية؟

الثاني : في انه هل للمجتهد ان يفتى بالتخيير في المسألة الأصولية بناءً على كون التخيير فيها فيختار المقلد غير ما اختاره المجتهد أم لا؟

الثالث : في ان التخيير بدوي أو استمراري.

اما المورد الأول : فالظاهر ان التخيير في المسألة الأصولية لوجوه :

أحدها : ان ظاهر بعض نصوصها كقوله بايهما ، أي بأي الخبرين ، اخذت من باب التسليم وسعك ، ذلك كما لا يخفى.

ثانيها : ان التخيير في الحكم الفرعي لا يخلو عن وجوه ثلاثة ، كونه واقعيا ، اوليا ، أو واقعيا ثانويا ، أو ظاهريا ، وشيء منها لا يكون معقولا.

اما الأول : فلاستلزامه التصويب ، لان مذهب المخطئة بقاء الواقع على ما هو عليه ، ولو بعد قيام الأمارة ، والواقع على الفرض ، ليس إلا أحدهما المعين ، وهو لا يتغير بقيام الأمارة.

واما الثاني : فلاستلزامه الجمع بين الحكمين ، التعييني والتخييري ، مع انه لو قام احد الخبرين على وجوب الظهر في زمان الغيبة ، والآخر على وجوب الجمعة فيه ، فبمقتضى اخبار التخيير على هذا المسلك يكون الحكم الثانوي هو التخيير بينهما ، وحيث ان الواقعي الأولى باق بحاله ، وهو وجوب أحدهما تعيينا ، والمفروض تعلق العلم بثبوته فيجب بمقتضى هذا العلم الاحتياط بالجمع بينهما ، واخبار التخيير على هذا لا يصلح لرفع وجوب الاحتياط.

واما الثالث : فلان الحكم الظاهري إنما هو في ظرف الشك في الواقع ،

٣٤٦

فيعتبر في صحة جعله احتمال مصادفته للواقع ، ومع القطع بالعدم لا يعقل جعل الحكم الظاهري ، وفي المقام حيث يعلم بان المجعول الواقعي أحدهما المعين فجعل الحكم التخييري غير معقول ، ويكون نظير جعل الاباحة في صورة العلم بان الواقع اما هو الوجوب أو الاستحباب.

ثالثها : انه لو كان مؤدى أحدهما وجوب شيء ، ومؤدى الآخر وجوب شيء آخر يمكن التخيير بينهما ، واما لو كان مؤدى أحدهما وجوب شيء ومؤدى الآخر اباحته لا معنى للتخيير بينهما ، بان يكون مخيرا بين الوجوب والاباحة : إذ التخيير بين الفعل والترك ، أو الفعلين معقول ، واما التخيير بين الحكمين فغير معقول.

فالمتحصّل ان التخيير يكون في المسألة الأصولية.

واما المورد الثاني : فجواز اختيار المقلد غير ما يختاره المجتهد يبتنى على القول بان التقليد في المسألة الأصولية مشمول لادلة التقليد ، فلو كان رأى المجتهد حجية الخبر الموثوق به له ان يفتى بذلك ، فإذا رأى المقلد وثاقة خبر لا يراه المجتهد موثقا له ان يعمل به.

وعليه ففي المقام له ان يختار غير ما يختاره المجتهد ، وقد اشبعنا الكلام في المبنى ، في أول مباحث القطع ، وفي رسالة الاجتهاد والتقليد.

هل التخيير بدوي أو استمراري؟

واما المورد الثالث : فالكلام فيه يقع في جهات :

٣٤٧

الأولى : فيما يقتضيه الأصل الأولى على المختار من انه التخيير.

الثانية : فيما يقتضيه الإجماع المدعى على التخيير مع عدم المرجح.

الثالثة : فيما يقتضيه اطلاقات أدلة التخيير على تقدير تسليم دلالتها عليه.

الرابعة : فيما يقتضيه الاستصحاب مع عدم الدليل على احد الطرفين.

اما الجهة الأولى : فحيث عرفت ان الأصل في الامارتين هو التخيير بتقييد حجية كل منهما بعدم الاخذ بالآخر ، لا بتعلق الحجية والدليلية بالجامع بينهما ، فيكون دليل التخيير دليلا على استمراره ، فالتخيير استمراري إلا ان يمنع عنه مانع خارجي ، وهو العلم الإجمالي.

توضيحه : انه إذا فرضنا قيام خبرين على وجوب فعلين ، كالظهر ، والجمعة ، أو القصر ، والتمام وامثالهما فعلى القول باستمرارية التخيير له ان يختار في الواقعة الثانية ، خلاف ما يختاره في الواقعة الأولى ، فإذا فعل كذلك يحصل له العلم الإجمالي بالمخالفة القطعية العملية وهذا العلم الإجمالي يمنع عن الحكم باستمرارية التخيير.

وإلى ذلك نظر صاحب المفاتيح (١) حيث استدل لابتدائية التخيير : بان العدول موجب لترك الواجب لا إلى بدل ، وهذا بخلاف التخيير الواقعي في موارده فان جواز العدول فيها لا يلزم المحذور المذكور.

اللهم إلا ان يقال ان المخالفة القطعية في الواقعتين التدريجتين لا قبح فيها

__________________

(١) مفاتيح الأصول ص ٦٨٦ (التنبيه الثاني) الناشر مؤسسة أهل البيت (حجرية).

٣٤٨

أصلاً ، أو انه إذا التزم في كل واقعة بحكم ظاهري من الشارع كما في المقام لا قبح فيها.

ولعله إلى احد هذين نظر العلامة (ره) في النهاية (١) حيث قال ، ليس في العقل ما يدل على خلاف ذلك ولا يستبعد وقوعه كما لو تغير اجتهاده.

ولكن حيث ان ، المبنيين المشار اليهما في الجواب ، غير تامين ، كما يظهر عدم تمامية الأول مما ذكرناه في منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات ، وعدم تمامية الثاني في أول مبحث الظن من عدم مجعولية الحكم في مقام جعل الحجية والدليلية ، فلا يمكن الالتزام بالتخيير الاستمراري في هذا المورد خاصة لمانع ، والمسألة محتاجة إلى تأمل زائد.

واما الجهة الثانية : فحيث ان تسالم الأصحاب على التخيير ليس من قبيل الإجماع على القاعدة ، والاجماع الذي حاله ذلك لا إطلاق له ، بل هو دليل لبى ، فلا بدَّ من الاخذ بالمتيقن ، وهو ثبوت التخيير ابتداء وعدم استمراريته.

واما الجهة الثالثة : أي بناءً على تسليم دلالة الأخبار على التخيير وثبوت الإطلاق لها فقد استدل لكون التخيير ابتدائيا بوجوه.

منها : ما أفاده الشيخ الأعظم (٢) وهو : ان اطلاقات التخيير لا تشمل ما بعد الاخذ باحدهما : لانها مسوقة لبيان حكم المتحير في بادئ الأمر ، فبعد

__________________

(١) نهاية الاحكام للعلامة (قدِّس سره) ج ١ ص ٤٠٢ عند قوله : «ولو أخبره بعد الفراغ لم يلزمه الاعادة وان كان قوله أرجح ... الخ» فراجع.

(٢) فرائد لاصول ج ٢ ص ٧٦٤ (المقام الاول في المتكافئين).

٣٤٩

الاخذ والعمل باحدهما يتبدل الموضوع ، ولا يكون باقيا.

وأورد عليه تارة : بان الموضوع ليس هو المتحير فان الموضوع المأخوذ في الأدلة هو تعارض الخبرين بلا تقييده بقيد التحير.

وأخرى : بأنه لو سلم التقييد بالمتحير ، لكن تقييد المتحير بكونه في بادئ الأمر لم يدل عليه دليل.

وإلى هذين الايرادين نظر المحقق الخراساني في الكفاية (١) حيث قال ، ان التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله ، وبمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلاً انتهى.

ولكن يمكن تقريب ما أفاده الشيخ : بان الموضوع ومن وجه إليه الخطاب في الأخبار ليس كل مكلف ، بل هو المكلف الذي اتاه الحديثان المتعارضان ، فتحير ، ولم يأخذ بواحد منهما ، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى الاخذ.

وان شئت قلت ان المسئول عنه في الأخبار حكم من اتفق له ذلك وتحير فيما هو وظيفته ، فالجواب بأنه مخير في العمل بايهما شاء ، لا يشمل صورة الاخذ باحدهما وعدم تحيره في وظيفته.

وبعبارة ثالثة : انه على القول بان الأصل في تعارض الخبرين هو التساقط ، فمن تعارض الخبران عنده ، لا دليل له على الحكم الواقعي ، والاخبار واردة لبيان حكمه ، ويعين له الدليل فبعد الاخذ وثبوت الدليل عنده ، لا نظر

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٤٦.

٣٥٠

للأخبار إلى تعيين الدليل له ، ويمكن ارجاع الوجهين الآخرين الآتيين إلى ذلك ، وإلا فاشكالهما ظاهر.

أحدهما : ان ظاهر التكاليف الوجودية المتعلقة بالطبائع كون المتعلق هو صرف وجود الطبيعة لا جميع الوجودات ، وعليه فالامر بالاخذ باحد الخبرين إنما يكون المطلوب به هو الاخذ مرة واحدة ، لا الاخذ في كل يوم.

وبعبارة أخرى : التكليف متوجه إلى غير الآخذ ، وبعد الاخذ يسقط التكليف.

ثانيهما : ان موضوع التخيير هو الخبرين المتعارضين الجائى أي الواصل وهو إنما يصل مرة واحدة ، وبعد الآن الأول لا يصدق انه وصل ، بل هو الذي وصل أولا ، فإذا اختار أحدهما فقد ارتفع موضوع التخيير فلا يشملهما اخبار التخيير.

وللمحقق النائيني (ره) (١) في المقام كلام ، قال ومنها كون التخيير استمراريا إذا كان التخيير في المسألة الفقهية ، لأنه يكون كالتخيير بين القصر والاتمام في المواطن الاربعة إلى ان قال ، وبدويا إذا كان التخيير في المسألة الأصولية فان معنى كون التخيير في المسألة الأصولية هو التخيير في جعل احد المتعارضين حجة شرعية واخذ أحدهما طريقا محرزا للواقع ، ولازم ذلك وجوب الفتوى بما اختاره أولا وجعل مؤداه هو الحكم الكلي الواقعي المتعلق بافعال المكلفين ، فلا معنى لاختيار الآخر بعد ذلك إلى ان قال ، وادلة التخيير إنما تدل على اختيار

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٧٦٨.

٣٥١

أحدهما حجة ، وبعد اختيار أحدهما حجة يكون المجتهد محرزا للواقع ولا يبقى مجال لاختيار الآخر بعد ذلك حجة شرعية انتهى.

ويرد عليه ان التخيير كان في المسألة الأصولية ، أو الفقهية ، ان كان موضوعه تعارض الخبرين بلا دخل شيء آخر فيه يتعين الالتزام بكونه استمراريا ، وإلا لزم تخلف الحكم عن موضوعه ، وهو كحد تخلف المعلول عن علته كما صرح به ، وان كان موضوعه ذلك مقيدا بوصولهما ، أو كون المخاطب به غير الآخذ تعين الالتزام بكونه بدويا ، وإلا لزم ثبوت الحكم مع انعدام موضوعه ، بلا فرق بين المسلكين.

اما الجهة الرابعة : فعلى المختار من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية الأمر واضح.

واما على القول الآخر ، فقد ذكر الشيخ الأعظم (ره) (١) انه لا يجري استصحاب التخيير من جهة تبدل الموضوع ، فان الحكم إنما ثبت لمن لم يختر فاثباته لمن اختار والتزم ، إثبات للحكم في غير موضوعه الأول.

وأورد عليه بأنه بناءً على ان المعيار في وحدة الموضوع هو نظر العرف كما بنى هو وسائر المحققين عليه لاوجه لما ذكر ، لعدم تبدل الموضوع بنظرهم بتغير هذا القيد وتبدله.

ولكن بناءً على ما ذكرناه في توجيه ما أفاده من عدم شمول إطلاق الأدلة لما بعد الاخذ لا مورد لهذا الإيراد :

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٧٦٤.

٣٥٢

فان التخيير عبارة عن كون الاختيار بيد المكلف في جعل احد المتعارضين حجة بينه وبين ربه حيث لا حجة له لفرض تساقط الحجتين ، وهذا المعنى بعد الاخذ باحد الخبرين يرتفع قطعا ، لأنه بعد الاخذ يكون ذا حجة بينه وبين ربه فيتبدل الموضوع لا محالة.

وقد يقال انه يجري استصحاب التخيير ، ولكن يعارضه استصحاب الحجية الفعلية ، فانه قبل الاخذ باحدهما كان مخيرا في الاخذ بايهما شاء ، وكان لكل منهما حجية شأنية ، فبعد الاخذ باحدهما ، صار ذلك حجة فعلية فاستصحاب التخيير يثبت الحجية الشأنية للمأخوذ ، فهو يعارض الحجية الفعلية فيه.

وأجاب الشيخ (١) عن هذه المعارضة ، في مبحث دوران الأمر بين المحذورين ، بان استصحاب التخيير ، حاكم على الاستصحاب الجاري في الحجية الفعلية ، إذ الشك في الحجية الفعلية بقاءً مسبب عن الشك في بقاء التخيير ، فلو جرى الأصل في السبب ، لا يجري في المسبب.

ولكن يرد عليه ان السببية في المقام لا تكون شرعية ، بل هما متلازمان كما هو واضح ، وقد مر انه يعتبر في تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي على القول به ، ان تكون السببية شرعية ، وعلى ذلك لو فرض جريان استصحاب التخيير ، يعارضه استصحاب الحجية الفعلية في المأخوذ فيتساقطان.

فالمتحصّل مما ذكرناه ، انه بناءً على مسلك المشهور ، من ان الأصل الأولى

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٤٠٠.

٣٥٣

في تعارض الامارتين هو التساقط ، يكون التخيير الثابت في الخبرين المتعارضين بمقتضى الأصل الثانوي بدويا لا استمراريا.

واما على المختار من ان الأصل الأولي في المتعارضين مطلقا هو التخيير ، يكون التخيير الثابت في الخبرين استمراريا لا بدويا.

التعدي عن المرجحات المنصوصة وعدمه

المبحث الخامس : هل يجب الاقتصار على المرجحات المنصوصة على القول بوجوب الترجيح كما قويناه ، أم يجوز التعدي عنها إلى كل ما احتمل كونه مرجحا واقعا وان لم ينص عليه في الروايات ، كما اختاره الشيخ الأعظم (١) حيث ذهب إلى الترجيح بكل ما يوجب اقربية احد المتعارضين إلى الواقع من الآخر وجهان.

مقتضى القاعدة في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية وان كان هو التعيين : للعلم بحجية ذي المزية والشك في حجية ما قابله ، والشك في الحجية ملازم للقطع بعدم الحجية :

إلا انه في خصوص الخبرين المتعارضين الأصل الثانوي يقتضي التخيير كما مر تفصيله في أول المبحث الرابع ، فالتعدي خلاف الأصل يحتاج إلى دليل.

وقد استدل له بوجوه :

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٧٨١.

٣٥٤

الأول : الترجيح بالاصدقية في المقبولة ، والأوثقيه في المرفوعة بتقريب : ان اعتبار هاتين الصفتين ليس إلا لترجيح الاقرب إلى المطابقة للواقع في نظر الناظر في المتعارضين ، من حيث انه اقرب من غير مدخلية خصوصية سبب ، فكل مزية موجبة لاقربية ذيها إلى الواقع تكون موجبة للترجيح.

وفيه : أولا انا لا نتصور معنى صحيحا معقولا للاصدقية : لان بعض الصفات والملكات قابل للشدة والضعف ، وفي امثال ذلك يتصور كون تلك الصفة والعرض والملكة في مورد اكثر واشد من ثبوتها في محل آخر.

وفي الصدق الذي هو بمعنى مطابقة الخبر للواقع ، لا يتصور ذلك فان من اخبر عن شيء ، اما ان يكون صادقا ، أو كاذبا ولا ثالث.

وعليه فلا بدَّ وان يحمل الاصدقية على ارادة ان المتصف به يتكلم بالصدق اكثر من مقابله ، وان كان هو أيضاً صادقا لو تكلم ، لكنه لعدم وجوب كل صدق لا يكون مقيدا بالاخبار بما هو صادق ، بخلاف هذا الشخص مثلا ورد ان أبا ذر اصدق الناس ، وهو إنما يكون لأجل انه كان مقيدا بان يخبر بالاخبار الصادقة وحين ما سأله المشركون عن حمله ، قال النبي (ص) ، مع انه لم يكن يجب عليه ذلك.

وعلى هذا ، فالترجيح بهذه الصفة تعبد محض وليس ذلك لأجل الاقربية إلى الواقع كما هو واضح.

وثانيا : انه لم يعلل الترجيح بهما بالاقربية إلى الواقع ، ولعله في اقربية الاصدقية والأوثقية خصوصية في الترجيح ، كما في الظن الحاصل من خبر الواحد : فانه لا يتعدى منه إلى كل ما يوجب الظن.

٣٥٥

وثالثا : ان الاصدقية إنما ذكرت في المقبولة ولم تذكر في خبر معتبر ، وقد مر ان الصفات المرجحة المذكورة في المقبولة إنما هي من مرجحات احد الحكمين لا من مرجحات الرواية فتدبر.

الوجه الثاني : التعليل للترجيح بالشهرة : بان المجمع عليه لا ريب فيه ، بتقريب ان الظاهر ان العلة هو عدم الريب فيه بالاضافة إلى الآخر ولو كان فيه الف ريب ، فانه لو كان المراد عدم الريب فيه بقول مطلق ، لم يكن وجه لفرض كليهما مشهورين ولكان معارضه مما لا ريب في غيه لا داخلا في الشبهات وقد ادخله الإمام فيها ، فمقتضى عموم العلة ان كل معارض كان لا ريب فيه بالاضافة إلى معارضه يكون هو الحجة.

وبعبارة أخرى : يكون مقدما عند التعارض ذكره الشيخ الأعظم (١).

وأورد عليه جمع من الاساطين منهم المحقق الخراساني (٢) : بان الشهرة في الصدر الأول بين الرواة واصحاب الائمة (ع) موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها بحيث يصح ان يقال : انه مما لا ريب فيه ، ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الاطمينان والوثوق بصدوره لا إلى كل مزية ولو لم توجب إلا اقربية ذي المزية إلى الواقع من المعارض الفاقد لها.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٨١.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٤٧ (وأما الثاني).

٣٥٦

وايده بعضهم (١) بان المراد بالمشهور هو معناه اللغوى وهو الظاهر والواضح.

والمشهورية بهذا المعنى لا تلازم الاطمينان بعدم صدور الآخر بعد ما يوجد التعارض في مقطوعي الصدور.

نعم لو اطمئن بان الحكم الواقعي هو ما ادى إليه هذا الخبر يطمئن بعدم كون ما ادى إليه الآخر هو حكم الله تعالى.

وبه يظهر انه يمكن فرضهما مشهورين.

أقول : ان الشيخ الأعظم في استدلاله بعموم العلة لا يدعي ان المراد من لا ريب فيه ، لا ريب فيه بالاضافة كي يرد عليه ما ذكر.

بل يدعي انه وان كان ظاهر التعليل هو نفي الريب فيه بقول مطلق من جميع الجهات ، ولكن بقرينة فرض السائل الخبرين مشهورين ، وارجاعه (ع) إلى صفات القاضي قبل ملاحظة الشهرة والحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجحات الأخر ، يتعين ارادة نفي الريب فيه من جهة من الجهات ، فيكون مفاد التعليل ان في الشاذ احتمالا لا يوجد في المشهور.

ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة ، وجوب الترجيح بكل ما يوجب كون احد الخبرين اقل احتمالا من الآخر.

__________________

(١) وهو المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ٢ ص ١٠٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ١٧٤ في مبحث الشهرة الفتوائية.

٣٥٧

ولكن يرد على الشيخ (ره) انه بعد فرض عدم ارادة لا ريب فيه من جميع الجهات ، يدور الأمر بين ارادة لا ريب فيه بقول مطلق من حيث الصدور ، فلا يتعدى إلا إلى ما يوجب الاطمئنان بالصدور ، وبين ارادة لا ريب فيه بقول مطلق من جهة من الجهات بلا دخل لجهة الصدور في ذلك ، ولازمه التعدي إلى كل ما كان الاحتمال فيه اقل من الآخر ، ولو لم ندع ظهوره في الأول من جهة خصوصية المورد ومناسبة الحكم والموضوع ، فلا اقل من الاجمال وعدم ظهوره في الثاني فلا وجه للتعدى فتدبر فانه دقيق.

الوجه الثالث : تعليله (ع) لتقديم الخبر المخالف للعامة ، بان الرشد في خلافهم. فانه يدل على لزوم تقديم كل خبر اقرب إلى الواقع ، وذلك لأنه لا ريب في ان كل ما خالف العامة لا يكون موافقا للواقع ، وكل ما وافقهم لا يكون باطلا ضرورة ان الأحكام المتفق عليها بين الفريقين كثيرة وهي موافقة للواقع.

بل المراد ان ما خالفهم اقرب إلى الواقع من الموافق واحتمال الرشد فيه أقوى ، فيتعدى إلى كل ما فيه أمارة الرشد ويكون اقرب إلى الواقع.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (١) بجوابين :

أحدهما : انه يحتمل ان يكون الرشد في نفس المخالفة لحسنها.

وفيه : ما تقدم في ذيل نصوص الترجيح من ان الظاهر من الروايات ان الترجيح بمخالفة العامة ، إنما هو من جهة غلبة مخالفة احكامهم للواقع لا لحسن

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٤٧. (الثالث).

٣٥٨

المخالفة نفسها.

مع انه ليس في الأخبار ما يتوهم دلالته على حسن المخالفة نفسها ، إلا هذه الجملة (فان الرشد في خلافهم) وهذه لم ترد في النصوص وإنما ذكره الكليني في ديباجة الكافي (١) في مقام نقل مضمون النصوص ، والموجود فيها (ما خالف العامة ففيه الرشاد) (٢).

ظهوره فيما ذكرناه ظاهر.

ثانيهما : انه لو سلم انه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف لا شبهة في حصول الوثوق بان الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله.

وفيه : انه كيف يكون الخبر الموافق لهم موثوقا عدم صدوره أو عدم صدوره لبيان حكم الله الواقعي ، مع انه لو كان وحده وبلا معارض كان يعمل به بلا ريب.

والحق في الجواب ان يقال ان العلة المنصوصة هي ما يمكن القائه إلى المكلف وفي المقام لا يمكن ذلك : لان المراد بالرشد ليس هو الرشد الجزمى ، إذ لا ريب في ان كثيرا من الأخبار الموافقة لهم موافقة للواقع ، ولذا عند التعارض يكون الخبر الموافق الذي يكون مشهورا مقدما على المخالف لهم بل المخالفة من

__________________

(١) راج مقدمة الكافي ج ١ ص ٨ حيث قال : «دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم».

(٢) راجع رواية عمر بن حنظلة ، الكافي ج ١ ص ٦٧ باب اختلاف الحديث ح ١٠ / الوسائل ج ٢٧ ص ١٠٦ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣٣٣٤. ورواها التهذيب والفقيه.

٣٥٩

المرجحات بعد فقد جملة منها ، فيدور الأمر بين حمله على ارادة الرشد الغالبى ، أو الاضافي ، أو الظني ، ولو لم يكن الأول اظهر لا ريب في انه محتمل ، ومعه لا يمكن القاء ذلك إلى المكلف ليكون ضابطا ويتعدى عنه ، لعدم الطريق له إلى إحراز كون صنف خاص غالب الإصابة كما هو واضح.

الوجه الرابع : مما ذكره الشيخ للتعدي (١) ، قوله (ع) دع ما يريبك إلى ما لا يريبك : بدعوى انه يدل على انه إذا دار الأمر بين الامرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الاخذ به ، وعليه فإذا فرض احد المتعارضين منقولا بلفظه والآخر منقولا بالمعنى ، وجب الاخذ بالاول لان احتمال الخطاء في النقل بالمعنى منفى فيه.

وفيه أولا : انه ضعيف السند لأنه رواه الشهيد في الذكرى مرسلا (٢) ورواه الكراجكي كذلك في كنز الفوائد صفحه ١٦٤ مذيلا بقوله ، فانك لن تجد فقد شيء تركته لله عزوجل ، وقد اعترف الشيخ (٣) بذلك في مسألة وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية ، وإنما استفاد قوة السند من اقتصار المحقق في المعارج (٤) على الجواب عنه ، بأنه لا يعتمد على خبر الواحد في المسألة الأصولية ، وان الزام المكلف بالأثقل فيه مظنة الريبة ، وهو كما ترى.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٨١.

(٢) الذكرى ص ١٨٣ (حجرية ١٢٧٢ ه‍. ق).

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ٣٤٩.

(٤) راجع معارج الأصول ص ٢١٧ (المسألة الثالثة).

٣٦٠