زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

أو بالتصرف في متعلقة سعة كقولنا الضيافة من الإكرام ، أو ضيقا.

ثالثها : التخصيص ، وهو عبارة عن إخراج بعض أفراد العام عن تحت الحكم من دون ان يتصرف في عقد الوضع أو عقد الحمل.

رابعها : التخصص وهو ما إذا كان خروج المورد عن تحت دليل الآخر ذاتيا كخروج الجاهل عن عموم اكرم العلماء.

خامسها : التوفيق العرفي ، وسيأتي بيانه كبيان وجه تقدم دليل الحاكم والوارد في أول مبحث التعادل والترجيح إنشاء الله تعالى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم انه قد استدل على ان تقدم الأمارة على الاستصحاب يكون بالورود بوجوه :

الأول : ما أفاده المحقق الخراساني في الكفاية (١) ، والتعليقة (٢) : وحاصله على ما في التعليقة ، ان الشك وان كان باقيا بعد قيام الأمارة ، لكنه ليس أفراد العام هاهنا أي الاستصحاب هو أفراد الشك واليقين ، بل أفراد نقض اليقين بالشك ، وهو المتعلق للنهي ، والدليل المعتبر ، وان لم يكن مزيلا للشك ، إلا انه يكون موجبا لئلا يكون النقض بالشك ، بل بالدليل.

ثم أورد على نفسه بان مقتضى قوله (ع) لكن تنقضه بيقين آخر ، هو النهي عن النقض بغير اليقين ، والدليل المعتبر غير موجب لليقين مطلقا.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢٩.

(٢) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٩١.

٢١

وأجاب عنه بان الدليل موجب لليقين ، لا محالة ، غاية الأمر لا بالعناوين الأولية للأشياء بل بعناوينها الطارئة الثانوية مثل كونه قام على وجوبه خبر العدل أو قامت البينة على ملكيته إلى غير ذلك من العناوين الانتزاعية.

وفي الكفاية أشار في صدر عبارته إلى الوجه الثاني ، وفي ذيل عبارته في الجواب عن وجه ورود الأمارة الموافقة أشار إلى الوجه الأول.

ولكن يرد على الوجه الأول مضافا إلى ما أورده هو على نفسه ، ان المنهي عنه ليس هو نقض اليقين بداعي الشك ، وإلا لزم جواز نقضه باستدعاء المؤمن مثلا ، بل هو النقض به وفي حال الشك.

وبعبارة أخرى : ان المراد بنقض اليقين بالشك ليس إلا رفع اليد عن الحالة السابقة في حال الشك ، وبعد قيام الأمارة لا يخرج المورد عن تحت هذا العنوان غايته كونه نقضا لليقين بالشك بواسطة الدليل.

ويرد على الوجه الثاني : أولا ان المجعول في باب الأمارات عنده ليس هو جعل الحكم المماثل بل المنجزية والمعذرية ، فلا يقين بالحكم بعنوان قيام الأمارة.

وثانيا انه لا ينفع في الأمارة القائمة على الموضوع الخارجي كموت زيد ، فالعمل بها نقض لحياته سابقا بغير اليقين ، بالخلاف.

وثالثا ان الظاهر من الأخبار كون اليقين الناقض هو ما تعلق بما تعلق به السابق وهو الحكم الواقعي الأولى ، دون الظاهري الثابت له بالعنوان الثانوي.

٢٢

الثالث : ما أفاده المحقق اليزدي في درره (١) ، وحاصله ، ان العلم المأخوذ في الموضوع ، قد يؤخذ على وجه الطريقية ، والمراد به ان المعتبر هو الجامع بينه وبين سائر الطرق المعتبرة ، وقد يؤخذ على نحو الصفتية ، أي يلاحظ خصوصيته المختصة به دون سائر الطرق ، وهو الكشف التام المانع عن النقيض ، وكذلك الشك هنا قد يلاحظ بمعنى انه عدم الطريق ، وقد يلاحظ بمعنى صفة التردد القائمة بالنفس ، إذ الشك بمعنى عدم العلم ، فان لوحظ العلم طريقا ، فمعنى الشك الذي في قباله ، هو عدم الطريق ، وان لوحظ صفة فكذلك ، وحيث ان ظاهر أدلة الاستصحاب وسائر الأصول كون العلم مأخوذا فيها طريقا فمفاد قوله (ع) لا تنقض اليقين بالشك ، انه في صورة عدم الطريق إلى الواقع يجب إبقاء ما كان ثابتا بطريق ، وإذا دلَّ دليل على حجية أمارة ، يرتفع موضوع الحكم الذي كان معلقا على عدم الطريق.

وفيه : ان الظاهر من اخذ العلم في الموضوع كونه طريقا تاما لا يحتمل الخلاف ، وحمله على ارادة الجامع بين الطرق المختلفة بحسب المراتب ، خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة مفقودة في المقام ، بل ظاهر قوله بل ينقضه بيقين آخر ، حصر الناقض في خصوص ذلك الطريق الذي هو أقوى الطرق لا كل طريق.

وبذلك يظهر اندفاع الوجه الرابع : وهو ان الظاهر من اليقين وان كان هو الإحراز التام إلا انه اخذ في الموضوع ، بما انه احد أفراد الكلي ، ويكون من

__________________

(١) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ٢٤٩.

٢٣

قبيل إعطاء الحكم الكلي بالمثال فتمام الموضوع هو الطريق فتقدم الأمارة ، يكون بالورود لأنه طريق.

كما انه مما ذكرناه في سابقه يظهر ضعف ما قيل ان نقض اليقين بالأمارة ليس نقضا له بالشك ، بل نقض له بيقين مثله ، وذلك لان حجية الأمارة إنما تثبت بدليل قطعي وإلا لم تكن حجة ضرورة ان حجية كل ظن لا بد وان تثبت بدليل قطعي ، وإلا لا يكون حجة :

فانه قد عرفت ان الظاهر من الأخبار حصر الناقض في اليقين المتعلق بما تعلق به اليقين الأول.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان الورود لا مورد له في المقام.

والحق ان تقدمها عليه إنما يكون بالحكومة فانه على ما مر في مبحث الظن يكون المجعول في باب الأمارات هو الطريقية التامة ، فهي بمئونة دليل اعتبارها تكون علما تعبديا ، فيوسع دليل الأمارة دائرة موضوع ولكن تنقضه بيقين آخر ، ويضيق دائرة الشك الذي نهى عن نقض اليقين به ، وليست الحكومة إلا ذلك.

فان قيل انه بناءً على كون الموضوع في الأمارات هو الشاك إذ العالم لا تكون الأمارة حجة عليه ، وبناء على كون الاستصحاب أيضاً من الأمارات ، كما تكون الأمارة حاكمة على الاستصحاب ، كذلك الاستصحاب يكون حاكما عليها ، إذ كل منهما يصلح رافعا لموضوع الآخر ، فلا وجه لتقدم أحدهما على الآخر.

٢٤

قلنا انه مضافا إلى انه لا يتم مبنى أمارية الاستصحاب : ان الموضوع في الأمارة هو المكلف من حيث هو ، غاية الأمر : ان العالم وجدانا بالواقع يكون خارجا عن تحت دليل الاعتبار بحكم العقل ، لا بمقيد شرعي ، فان العقل يرى قبح حجية الأمارة لمن هو عالم بالواقع ، ومن الواضح ان القبيح هو التعبد في فرض العلم الوجداني ، دون التعبدي ، واما الموضوع في الاستصحاب فهو مقيد بالشك ، وعدم العلم إنما يستفاد من الدليل الشرعي ، وعليه فالتعبد بكون الأمارة علما رافع لموضوع الاستصحاب ، واما التعبد بعلمية الاستصحاب ، فلا يصلح رافعا لموضوع الأمارة ، فانه مقيد بعدم العلم وجدانا الثابت حتى مع الاستصحاب.

فان قلت ان ذلك بناءً على كون المجعول في باب الأمارات هو العلمية ، ويكون دليل حجيتها متعرضا لحكم الشك ، واما على القول بعدم دلالة دليل الحجية إلا على جعل مدلول الخبر واقعا وإيجاب معاملة الواقع معه ، فلا وجه للحكومة كما أفاده المحقق صاحب الدرر (ره) (١).

قلنا انه لو سلم ذلك يمكن تقرير الحكومة بأنه بما ان لسان دليلها ان المؤدى هو الواقع ، فوصوله بالذات ، وصول للواقع بالعرض ، فيكون دليل الأمارة دالا على وصول الواقع بالخبر.

وان شئت قلت انه بالالتزام يدل على وساطة الخبر لاثبات الواقع عنوانا.

وبعبارة ثالثة ان الموضوع في دليل الاستصحاب هو الشك في الواقع ، وهذا

__________________

(١) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

٢٥

المركب كما يرتفع بجعل العلم كذلك يرتفع بجعل المؤدى واقعا فانه معه لا شك في الواقع فتدبر فانه دقيق.

نعم ، بناءً على مسلك المحقق الخراساني (ره) في جعل الحجية من ان المجعول هو المنجزية والمعذرية ، لاوجه لحكومة الأمارات على الاستصحاب ، بدون التصرف في ظاهر اليقين والشك المأخوذين موضوعا في الاستصحاب ، ولتمام الكلام محل آخر.

ثم ان المحقق الخراساني أورد على الحكومة بإيرادين (١) :

أحدهما : انه لا نظر لدليل الأمارة إلى مدلول دليل الاستصحاب إثباتا ، وان كان لازم التعبد بالأمارة ثبوتا إلغاءه لمنافاة لزوم العمل بها مع العلم به لو كان على خلافها ، كما ان قضية دليله إلغاؤها كذلك ، فان كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة.

وفيه : ان المراد بلزوم كون دليل الحاكم ناظرا إلى دليل المحكوم.

ان كان لزوم كونه مفسرا له ، أو انه بدون دليل المحكوم ، يكون دليل الحاكم لغوا.

فيرده انه لا اختصاص للحكومة بهذين الموردين ، بل هي شاملة لما إذا كان دليل الحاكم متعرضا لبيان الحكم بلسان بيان الموضوع المأخوذ في دليل المحكوم توسعة أو تضييقا كما في المقام على ما عرفت.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢٩ بتصرف.

٢٦

وان كان المراد انه لا تعرض لدليل الأمارة إلى موضوع دليل الاستصحاب.

فيرد عليه انه يتم على مسلكه في جعل الأمارات دون مسلك الشيخ الأعظم وما هو الحق كما مر تفصيله آنفا.

ثانيهما : ان مرجع الحكومة إلى إلغاء احتمال الخلاف ولا احتمال للخلاف في صورة موافقة الأمارة للأصل ، ولا يحتمل التزام القائل بالحكومة باختصاصها بصورة المخالفة.

وفيه : ان مرجع الحكومة إلى إلغاء الاحتمال مطلقا دون خصوص احتمال الخلاف.

فالمتحصّل ان تقدم الأمارات على الاستصحاب وسائر الأصول الشرعية إنما هو من باب الحكومة.

ثم انه على فرض التنزل وتسليم عدم الحكومة يمكن تقرير تقدمها عليه وعلى سائر الأصول : بأنه قل مورد يوجد من موارد الأمارات يكون خاليا عن اصل من الأصول ، ولا اقل من أصالة البراءة سيما على مسلك الحق من صحة جريان استصحاب عدم الجعل ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن أدلة الأمارات وطرحها رأسا ، وبين رفع اليد عن أدلة الأصول في خصوص مادة الاجتماع ، ومن الضروري ان الثاني أولى فتقدم الأمارة وتخصص بدليلها أدلة الأصول.

فالمتحصّل انه لا اشكال في تقديم الأمارات على الأصول منها الاستصحاب.

٢٧

وجه تقدم الاستصحاب على سائر الأصول

الأمر الثالث : المشهور بين الأصحاب ، ان الاستصحاب وان كان مدرك حجيته الأخبار وكان من الأصول العملية ، يكون مقدما على سائر الأصول العملية ، من البراءة ، والتخيير ، والاحتياط ، عقليها ، ونقليها ، وعلل ذلك بأنه من الأصول المحرزة ، والأصل المحرز مقدم على غير المحرز ولكن يبقى السؤال عن وجه تقدم المحرز على غير المحرز ، وان تقديمه عليها ، للورود ، أو الحكومة ، أو التخصيص حيث ان فيه وجوها وأقوالا :

وتنقيح القول ، بالبحث أولا : في وجه تقديمه على الأصول العقلية ، ثم : في وجه تقديمه على الأصول العملية الشرعية.

اما تقديمه على الأصول العقلية فوجهه الورود ، لان موضوعاتها عدم البيان والتحير ، وعدم وجود المؤمن عن احتمال العقاب ، والاستصحاب بعد ورود الدليل على حجيته بيان شرعي ، ومؤمن ، ورافع للتحير.

واما تقدمه على الأصل الشرعي كالبراءة الشرعية الثابتة بمثل قوله كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي (١) ـ فقد استدل له بوجوه.

الأول : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (٢) ، وحاصله ، ان دليل الاستصحاب

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٣١٧ باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ح ٩٣٧ / الوسائل ج ٦ ص ٢٨٩ ح ٧٩٩٧ ، وج ٢٧ ص ١٣٧ ح ٣٣٥٣٠.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٣٤.

٢٨

يوجب تعميم النهي السابق المعلوم بالاضافة إلى زمان الشك ، وحيث ان الرخصة تكون مغيّاة بورود النهي ، ودليل الاستصحاب ، موجب لتعميمه ودوامه ، فيكون حاكما عليه.

وبعبارة أخرى : مجموع الدليلين يدلان على ان كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، وكل نهي وارد في زمان ، فهو باق في زمان احتمال بقائه ، فتكون الرخصة في الشيء واطلاقه مغياة بورود النهي المحكوم عليه بالدوام ، فيكون مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر ، في مورد الشك ، لو لا النهي وهذا معنى الحكومة.

وفيه : ان دلالة مثل قوله (ع) كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي (١) تتوقف على ارادة الوصول من الورود كما مر في محله.

وعليه فمعنى الحديث ان ما لم يعلم حرمته فهو مرخص فيه وبواسطة الاستصحاب لا يعلم بالحرمة ، لعدم كونه حاكيا عن عموم التحريم بحسب الواقع ، بل مفاده كون حكم الشك من سنخ ما كان موجودا في السابق ، وهو التحريم مثلا ، فيعارض مع دليل البراءة الدال على ان ما لم يعلم حرمته الواقعية حكمه الترخيص.

فان قيل ان مورد البراءة ، ما لم يعلم حكمه الواقعي والظاهري ، فلو علم

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٣١٧ باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها .. ح ٩٣٧ / الوسائل ج ٦ ص ٢٨٩ باب ١٩ من ابواب القنوت ح ٧٩٩٧ ، وج ٢٧ ص ١٧٣ باب ١٢ من ابواب صفات القاضي ح ٣٣٥٣٠.

٢٩

حكمه الظاهري بالاستصحاب لا يبقى له مورد.

قلت مضافا إلى انه حينئذ يكون واردا عليها لا حاكما ، انه يجري هذا البيان في الاستصحاب إذ موضوعه الشك من جميع الجهات حتى من ناحية الحكم الظاهري ، فلو علم ذلك بدليل البراءة لا يبقى له مورد.

الثاني : ما أشار إليه المحقق الخراساني في الكفاية (١) واوضحه في الحاشية ، وهو ان موضوع الأصول غير التنزيلية المشكوك فيه من جميع الجهات ، وغايتها العلم ولو بوجه وعنوان ، وعليه فإذا علم حكم المشكوك فيه بعنوان نقض اليقين بالشك المنطبق عليه ، فيما كان له حالة سابقة كان معلوم الحكم بوجه فلا مورد لها.

وفيه : ان المأخوذ في دليل الاستصحاب أيضاً هو الشك ، فأي فارق بينه ، وبين ما اخذ في موضوع سائر الأصول.

وعليه فيقال ان موضوع الاستصحاب المشكوك فيه من جميع الجهات ، وغايته اليقين ولو بوجه ، فما شك في حليته وحرمته مع كون حالته السابقة هي الحرمة ، مقتضى أصالة البراءة وقاعدة الحل العلم بحليته بوجه ، فلا شك من جميع الجهات ، فلا يجري الاستصحاب فكل منهما على هذا يصلح لرفع موضوع الآخر ، فيقع التنافي بينهما.

الثالث : ما ذكره المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان المجعول في الاستصحاب هو

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٣١ مع حاشية رقم (١) بتصرف.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ٥٩٦.

٣٠

البناء على احد طرفي الشك ، على انه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر في عالم التشريع فيرتفع الشك الذي هو الموضوع لسائر الأصول.

وفيه : انه لا نظر للاستصحاب إلى إلغاء احتمال الخلاف ، وإلا لكان من الأمارات فمع فرض اخذ الشك في موضوعه لا يعقل كونه معدما للشك وإلا لزم من وجوده عدمه.

الرابع : ان المأخوذ غاية في أدلة الأصول وان كان هو العلم ، إلا ان المراد به مطلق الحجة ، والاستصحاب من أفراد الحجة فيكون واردا على أدلة الأصول.

وفيه : ان حمل العلم على ارادة الحجة خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا مع القرينة المفقودة في المقام.

الخامس : ما نسب إلى المحقق العراقي (ره) (١) وهو الالتزام بالتخصيص على تقدير كون دليل الاستصحاب ناظرا إلى المتيقن بإثبات كونه هو الواقع ولو بتوسط اليقين بجعله في القضية مرآة إليه.

وفيه : ان النسبة بينه وبينها عموم من وجه لجريانه في موارد كما لو علم بملكية شيء أو زوجية امرأة ، أو شبه ذلك ، وشك في بقائها ، ولا مورد للأصول فيها ، فلا وجه للالتزام بالتخصيص.

فالصحيح ان يقال انه بناءً على كون المجعول في باب الاستصحاب بقاء

__________________

(١) مقالات الأصول ج ٢ ص ٤٥٢ عند قوله : «وعلى أي حال ظاهر مثل تلك الروايات كون القاعدتين ... الخ».

٣١

اليقين السابق بالتقريب المتقدم يكون دليل الاستصحاب حاكما على أدلة الأصول غير التنزيلية : فان لسان الاستصحاب بما انه إبقاء اليقين وعدم الاعتناء بالشك.

وبعبارة أخرى : لزوم معاملة اليقين ، مع هذا الشك ، فيكون موضوع سائر الأصول مرتفعا بجريانه تعبدا وليس معنى الحكومة إلا ذلك ، وأما بناءً على كون المجعول هو الحكم المماثل أو التنجيز والتعذير أو غيرهما فلا وجه للتقديم أصلاً.

تعارض الاستصحابين

الأمر الرابع : في تعارض الاستصحابين ، وتمييز موارد تقديم أحدهما على الآخر عن غيرها ، وتنقيح القول فيه بالبحث في مقامين :

الأول : في بيان أقسام التنافي بين الاستصحابين.

الثاني : في بيان حكم كل قسم منها.

اما الأول : فالتنافي بينهما ، قد يكون لأجل عدم إمكان العمل بهما معا من دون ان يعلم بانتقاض الحالة السابقة ، كما في استصحاب وجوب أمرين ، لا يتمكن المكلف في زمان الشك من العمل بهما.

وقد يكون من جهة العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما.

والثاني على قسمين : إذ ربما يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر ، ويكون المشكوك فيه في أحدهما من آثار المشكوك فيه في الآخر.

٣٢

وربما يكون الشك في كل منهما مسببا عن امر ثالث وهو العلم الإجمالي الموجود في البين ، ولا ثالث لهما.

وما توهم من انه يمكن ان يكون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر كما في العامين من وجه ، فان الشك في ارادة العموم من كل منهما مسبب عن الشك في ارادة الآخر.

فاسد فان علة الشيء لا يعقل ان تكون معلولة له ، وبعبارة أخرى : الشك في ارادة العموم من كل منهما مسبب عن العلم بعدم ارادة العموم في أحدهما.

وعلى الأول : قد يكون ترتب المشكوك فيه في أحدهما على المشكوك فيه في الآخر عقليا ، وبعبارة أخرى : تكون السببية عقلية كترتب بقاء الكلي على بقاء الفرد.

وقد يكون شرعيا كترتب طهارة الثوب ، على طهارة الماء المغسول به.

والثاني : له أقسام : إذ تارة يلزم من العمل بهما مخالفة عملية للتكليف الإلزامي المعلوم ، وأخرى لا يلزم.

وعلى الثاني : ربما يقوم دليل من الخارج على عدم إمكان الجمع بين المستصحبين كتتميم الماء النجس كرا بطاهر حيث قام الإجماع على اتحاد حكم الماءين المجتمعين ، وربما لا يقوم دليل على ذلك.

وعلى الثاني : قد يكون لبقاء كل من المستصحبين اثر شرعي كما في الوضوء بالمائع المردد بين النجس والطاهر.

٣٣

وقد يكون لاحدهما الأثر دون الآخر ، كما في دعوى الموكل التوكيل في شراء العبد ، ودعوى الوكيل ، التوكيل في شراء الجارية.

اما القسم الأول : وهو ما إذا كان التنافي لعدم إمكان العمل بهما ، فحيث انه لا تعارض بينهما ، ولا تكاذب ، وإنما لا يجريان معا لعدم قدرة المكلف على امتثالهما ، فلا مناص عن الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم ، فان علم أهمية أحدهما أو احتمل ذلك ، يقدم ، وإلا فيتخير بينهما.

فان قيل ان الدليل الواحد كيف يكون احد مصاديقه اهم من الآخر ، والأهمية إنما تكون في المتيقن لا في المستصحب.

وبعبارة أخرى : عنوان نقض اليقين بالشك عنوان واحد له ملاك واحد فلا يحتمل الاهمية.

قلنا : ان الاستصحاب تابع للمتيقن ، فكل ما كان المتيقن عليه يستصحب ، ويكون باقيا بعينه ، ولذا لو كان مستحبا يستصحب استحبابه ، ولا يحكم بالوجوب ، وكذا العكس.

وان شئت قلت : ان حكم الاستصحاب حكم طريقي ، لا نفسي منبعث عن مصلحة في نفس هذا العنوان.

واما القسم الثاني : فان كان أحدهما مسببا عن الآخر مع كون السببية غير شرعية ، فلا يقدم أحدهما على الآخر ، ويلحقه ما سنذكره في القسم الثالث.

٣٤

حول الأصل السببي والمسببي

وان كانت السببية شرعية ، فلا كلام بينهم في تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي.

وقد ذكر المحقق النائيني (ره) (١) للتقديم شرطا ، وهو ان يكون الأصل الجاري في السبب رافعا لموضوع الأصل المسببي ، فلو لم يكن رافعا له ـ كما إذا شك في جواز الصلاة في وبر حيوان شك في كونه محلل الأكل : فان أصالة الإباحة في ذلك الحيوان لا ترفع الشك في جواز الصلاة فانه رتب في الأدلة على العناوين الخاصة كالغنم ، والبقر ، وما شاكل في قبال العناوين المحرمة كالأرنب وما شابه ، وأصالة الإباحة لا تثبت العنوان المحلل ـ يكون خارجا عن محل الكلام.

وفيه : ان جواز الصلاة لو كان مترتبا على ما يحل أكله فعلا فيترتب على أصالة الإباحة ، ولا اشكال فيه ، ولو كان مترتبا على العناوين الخاصة المحللة ، لا الحلال الفعلي لا يكون هناك ترتب شرعي بين جواز الصلاة والحلية وعليه فهذا ليس قيدا زائدا على اعتبار كون الترتب شرعيا ، وكيف كان فقد استدل لتقديم الأصل السببي بوجوه :

الأول : الإجماع على ذلك في موارد لا تحصى فانه لا يحتمل الخلاف في تقديم الاستصحابات في الملزومات الشرعية ، كالطهارة من الحدث والخبث ،

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٩٥ (التنبيه الخامس) ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٦٢ (الامر السادس).

٣٥

وكرية الماء ، واطلاقه ، وحياة المفقود ، وما شابه ذلك ، على استصحاب عدم لوازمها الشرعية.

وفيه : ان مدرك المجمعين معلوم ، فلا يكون إجماعا تعبديا ، فلا يستند إليه ، أضف إليه مخالفة جماعة (١) في ذلك كالشيخ (٢) ، والمحقق (٣) ، والعلامة في بعض كتبه (٤).

الثاني : انه لو لم يلتزم بتقديم الأصل السببي على الأصل المسببي كان الاستصحاب قليل الفائدة ، إذ المقصود منه غالبا ترتيب الآثار الثابتة للمستصحب وتلك الآثار ان كانت موجودة سابقا أغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها ، فتنحصر الفائدة في الآثار التي كانت معدومة فإذا فرض معارضة الاستصحاب في الملزوم ، باستصحاب عدم تلك اللوازم والمعاملة معهما معاملة المتعارضين لغى الاستصحاب في الملزوم.

وفيه : أولا ان الاستصحاب لو فرضنا جريانه في تلك الآثار الموجودة سابقا

__________________

(١) كما حكاه عنهم الشيخ الأعظم في فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٤٠ ، وفي طبعة مجمع الفكر الاسلامي ج ٣ ص ٤٠٠ ـ ٤٠١.

(٢) المبسوط ج ١ ص ٢٣٩ كتاب الفطرة حيث قال في مسألة العبد : «وان لم يعلم حياته فلا يلزمه خراج فطرته».

(٣) استحسن المحقق كلام الشيخ في عدم وجوب اخراج زكاة الفطرة عن العبد الذي لا يعلم حياته ، راجع المعتبر ج ٢ ص ٥٩٨ (الخامس) نشر مؤسسة سيد الشهداء (ع) قم.

(٤) تحرير الاحكام ج ١ ص ٦ ، وفي الطبعة الجديدة ص ٥٥ حيث حكم بطهارة الماء القليل الذي وقع فيه صيد محلل مع اشتباه الموت وحرمة الحيوان.

٣٦

كفى ذلك في فائدة الاستصحاب.

وثانيا : ان إجراء الاستصحاب فيها لا يغنى عن استصحاب ملزومها لتوقفه على إحراز الموضوع لها ، وهو مشكوك فيه ، فلا بدَّ من استصحاب الموضوع لذلك فتأمل.

الثالث : ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان المستفاد من الأخبار ذلك حيث انه (ع) في صحيح زرارة ، علل وجوب البناء على الوضوء السابق المستلزم لجواز الدخول في الصلاة بمجرد الاستصحاب ، ومن المعلوم ان مقتضى استصحاب الاشتغال بالصلاة عدم براءة الذمة بهذه الصلاة ولو لا تقدم الاستصحاب الأول وانحصار الاستصحاب في المقام باستصحاب الطهارة لما صح تعليل المضي على الطهارة بنفس الاستصحاب.

وفيه : ان هذا المثال غير مربوط بالشك السببي والمسببي ، إذ الاشتغال بالصلاة ، والامر بها ليس وراء الأمر بالاجزاء والشرائط شيء ، فإذا ثبت احد الاجزاء والشرائط بالاستصحاب ، والبقية بالوجدان فبضم الوجدان إلى الأصل يحرز وجود المأمور به في الخارج ، فلا مورد للاستصحاب ، نعم : لو كانت الصلاة المأمور بها لها وجود حاصل من هذه الاجزاء والشرائط كان ما ذكره متينا.

بل الصحيح ينافى ما بنوا عليه من تقديم الأصل السببي على المسببي مطلقا ، حتى فيما إذا توافقا لان الشك في بقاء الطهارة في الفرض مسبب عن

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٤٠.

٣٧

الشك في تحقق النوم ، فلو كان الأصل السببي مقدما وحاكما على الأصل المسببي ، كان المتعين التعليل باستصحاب عدم النوم.

الرابع : ما أفاده المحقق النائيني (١) تبعا للشيخ الأعظم (٢) وهو ان ارتفاع نجاسة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، من آثار طهارة الماء شرعا فالتعبد بطهارة الماء بنفسه يقتضي التعبد بطهارة الثوب إذ لا معنى لطهارة الماء إلا كونه مزيلا للحدث والخبث فيرتفع الشك في المسبب وهو نجاسة الثوب ومع ارتفاع الشك في المسبب لا مجال لإجراء الأصل فيه إذ الحكم لا يعقل ان يكون متكفلا لوجود موضوعه ، واما الأصل الجاري في المسبب كنجاسة الثوب فحيث انه لا يترتب عليه السبب وهو نجاسة الماء لعدم كونها من آثارها فهو لا يصلح لرفع موضوع الأصل السببي.

وفيه : ان مجرد ترتب أحدهما على الآخر وعدمه ، لا يوجب حكومته عليه التي مناطها ارتفاع موضوع المحكوم تعبدا.

نعم ، لازم ذلك تعارض المدلول المطابقي للأصل المسببي ، وهو استصحاب نجاسة الثوب مع المدلول الالتزامي للأصل السببي ، وهو استصحاب طهارة الماء الذي لازمه طهارة الثوب ، ولا يكون الأصل السببي من هذه الجهة نافيا لموضوع الأصل المسببي حتى يكون حاكما عليه

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٦٨٣ ـ ٦٨٤ بتصرف.

(٢) كما في فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٣٨ (القسم الاول : ما اذا كان الشك في مستصحب أحدهما مسبب عن الشك في الآخر).

٣٨

وان شئت قلت ان الاستصحاب لا يكون أمارة كي يكون رافعا لموضوع الأصل المسببي ، وهو الشك ، بل المجعول فيه تطبيق العمل على احد طرفي الشك فلا وجه لدعوى حكومته عليه برفع موضوعه.

الخامس : ما ذكره المحقق صاحب الدرر (ره) (١) وهو ان الشك المسببي ، معلول للشك السببي ففي رتبة وجود الثاني ، لا يكون الأول موجودا ، وإنما هو في رتبة الحكم المترتب على الأول ، فالأول في مرتبة وجوده ، ليس له معارض أصلاً ، فيحرز الحكم من دون معارض ، وإذا ثبت الحكم للأول لا يبقى للثاني موضوع.

وفيه : ان فعلية الأحكام تتوقف على وجود موضوعاتها خارجا ولا تكون مترتبة على الرتبة ، بل هي أحكام للزمان كما هو واضح ، مع : انه قد تقدم تعارض الاصلين في التدريجيات أيضاً فراجع.

والصحيح ان يقال في وجه تقدم الأصل السببي أمران :

أحدهما : حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي بالحكومة الحكمية لا بالحكومة الموضوعية وكونه رافعا لموضوعه.

توضيح ذلك انه سيأتي في أول مبحث التعادل والترجيح انه لا تختص الحكومة بما إذا كان احد الدليلين ناظرا إلى موضوع دليل الآخر ، بل لو كان ناظرا إلى حكمه وموجبا لتلونه بلون خاص كما في دليل لا ضرر بالنسبة إلى أدلة الأحكام الأولية ، حيث يكون مبينا للمراد من تلك الأدلة ويكون قرينة

__________________

(١) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ٢٥٨ (السابعة في تعارض الاستصحابين).

٣٩

عليها ، يكون حاكما عليه.

وفي المقام كذلك ، حيث ان الأصل الجاري في السبب كقاعدة الطهارة الجارية في الماء المتعبد بطهارته ، بضميمة ما دل على ان اثر طهارة الماء إزالة الخبث ، والنجاسة عن المغسول به ، يكون ناظرا إلى الحكم في الأصل المسببي ويدل على زوال نجاسته بغسله بهذا الماء ، فيكون مقدما عليه بالحكومة الحكمية.

الثاني : انه مع الإغماض عما ذكرناه وتسليم عدم الحكومة ، انه بعد تعارضهما وعدم إمكان جريانهما معا ، شمول دليل الاستصحاب للشك المسببي دوري لتوقفه ، على عدم جريان الأصل في السبب ، المتوقف على جريانه في المسبب إذ لا مانع عنه سوى ذلك ، وهذا بخلاف شموله للشك السببي ، فان موضوعه غير متوقف على شيء بل يشمله على كل تقدير ، وعليه ، فلا يجري في المسبب ، لان ما يلزم منه المحال محال.

نعم ، إذا توافقا يجريان مع عدم التنافي بين شمول الدليل للسببي والمسببي معا كما لا يخفى.

وبذلك يندفع الإشكال عن الصحيح الذي أوردناه في ذيل الجواب عن الوجه الثالث ، من ان الحديث ينافى مع ما بنوا عليه من تقديم الأصل السببي على المسببي.

جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي

واما القسم الثالث : فان لزم من جريانهما معا مخالفة قطعية عملية لا يجري

٤٠