زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

ويرده ان ذلك قرينة صارفة عن ارادة المعنى الظاهر ، ولكن تعين ارادة المعنى المؤول يحتاج إلى قرينة معينة ، ومع عدمها يحكم بالاجمال.

اللهم إلا في الموردين الذين قلنا ان مورد كلام من التزم بالقاعدة هو ذينك الموردين ـ وهما ـ كون كل من المتعارضين له نص وظاهر ، وما إذا كان لكل منهما مورد متيقن ، فيقال ان تيقن مورده ونصوصيته قرينة معينة للمراد ومحل الكلام في المقام هو الفرض الثاني ، وهو ما لو كانا ظنيي السند.

إذا عرفت هذين الامرين ، فاعلم انه قد استدل لقاعدة الجمع مهما امكن أولى من الطرح بوجوه :

الأول : الإجماع وقد ادعاه ابن أبي جمهور الاحسائي في كتاب عوالي اللئالي (١) ويظهر من غيره.

وفيه : أولا : انه غير ثابت ، بل عن الفريد البهبهاني (٢) دعوى الإجماع على فساد هذه القاعدة.

وثانيا : ان مدرك المجمعين معلوم أو محتمل ومثل هذا الإجماع ليس بحجة.

__________________

(١) عوالي اللآلي ج ٤ ص ١٣٦ قوله : «فإن العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء».

(٢) الفوائد الحائرية ص ٢٣٣ ـ ٢٣٤ (الفائدة الثالثة والعشرون : الجمع بين الخبرين المتعارضين).

٢٨١

الثاني : ما ذكره الشهيد الثاني (ره) (١) وغيره ، وهو ان الأصل في الدليلين الاعمال فيجب الجمع بينهما مهما امكن لاستحالة الترجيح بلا مرجح ، بيانه : ان الأمر يدور بين أمور ثلاثة ، اما طرحهما ، أو الاخذ باحدهما وطرح الآخر ، أو العمل بهما ، والاول مخالف للأصل الثابت بالدليل ، والثاني مخالف للعقل ، فيتعين الثالث.

وفيه : ان الطرح ليس مخالفا للأصل كما مر في تقريب القول بالتساقط فانه ان بنى عليه فإنما يلتزم بتخصيص دليل الحجية فلا يلزم مخالفة الأصل ، مع ان الالتزام بالتخيير بالنحو الذي نبينه شق رابع لا محذور فيه.

اضف إليه ان العمل بهما في تمام مدلولهما غير ممكن ، وبكل منهما في بعض مدلوله يحتاج إلى دليل آخر مفقود.

الثالث : ما عن العلامة (ره) في النهاية (٢) : وهو ان دلالة اللفظ على تمام معناه اصلية وعلى جزئه تبعية ، واهمال الثاني على تقدير الجمع ، أولى من اهمال الأول اللازم على تقدير الطرح.

وفيه : أولا : انه مجرد استحسان لا يصلح مدركا للحكم الشرعي.

وثانيا : انه من الجمع بين المتعارضين يلزم إلغاء أصالة الظهور في كل منهما

__________________

(١) راجع تمهيد القواعد ص ٢٨٣ قاعدة ٩٧. وقد أشار إلى أن الأصل في الدليلين الإعمال في غير موضع كما في المطلق والمقيد والعام والخاص انظر ص ٢٠٩ قاعدة ٧٥ وقاعدة ٨٣ ص ٢٢٣ وقاعدة ٨٤ ص ٢٢٧ ، نشر : مكتب الاعلام الاسلامي.

(٢) حكاه عنه الميرزا الآشتياني في بحر الفوائد ج ٤ ص ١٥.

٢٨٢

ورفع اليد عن حجتين ، ومن الالتزام بالتخيير أو الترجيح يلزم طرح حجة واحدة وهي سند الآخر ، ولا ريب ان الثاني أولى.

وتمام الكلام في رسائل الشيخ (ره)

فالمتحصّل عدم تمامية القاعدة.

وجه حجية احد الخبرين لا بعينه ونقده

القول الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (١) قال التعارض وان كان لا يوجب إلا سقوط احد المتعارضين عن الحجية رأسا حيث لا يوجب إلا العلم بكذب أحدهما ، فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر إلا انه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا إلى ان قال لعدم التعين في الحجة أصلاً انتهى فهو يختار حجية احد الخبرين بلا عنوان.

ومحصل ما يستفاد من كلامه في وجه ذلك ، ان المقتضى للحجية في كل منهما وهو احتمال الإصابة موجود في كلا الخبرين ، والمانع وهو العلم بكذب أحدهما لا يكون مانعا عن حجيتهما بل عن حجية أحدهما ، وحيث انه لا يكون مانعا عن حجية أحدهما معينا لتساوي النسبة إلى المقتضيين ، فلا محالة يؤثر احد المقتضيين بلا عنوان في مقتضاه واحدهما بلا عنوان يسقط عن التأثير.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٣٩.

٢٨٣

ويرد عليه أولا ما مر من عدم مانعية العلم الإجمالي حتى عن أحدهما.

وثانيا : ان المردد بالحمل الشائع واحدهما بلا عنوان في الواقع لا تحقق له ولا وجود ولا ماهية فلا شيء حتى يكون معروض الحجية.

وثالثا : ان الحركة على طبق ما ادت إليه الحجة التي هي الأثر المترقب منها نحو المبهم والمردد وغير المتعين غير معقول.

القول الثالث : حجية الموافق منهما للواقع ، وقيل في توجيهها ، ان كلا من الخبرين وان كان في مقام الإثبات حجة ، إلا ان الحجية الفعلية الموجبة لتنجز الواقع شان الخبر الموافق المعلوم ثبوته اجمالا فتندرج المسألة في اشتباه الحجة باللاحجة.

ويندفع : بان حجية أحدهما الموافق للواقع ، ان أريد ما علم بموافقة أحدهما للواقع ، فمضافا إلى انه غير مورد البحث فان محل البحث ما لو علم بعدم حجية أحدهما من دون ان يعلم بالحكم الواقعي لاحتمال كذبهما معا ، انه لو علم بالحكم الواقعي لا مورد للتعبد وجعل الحجية ، وان أريد به ما احتمل فيه ذلك فهو في كل منهما كذلك.

القول الرابع : ما هو المشهور وهو التساقط ، وقد استدل له بوجهين :

الأول : ما قيل من امتناع التخيير وسيمر عليك ما فيه.

الثاني : ما أفاده المحقق اليزدي (ره) (١) ، وهو ان بناء العرف والعقلاء على

__________________

(١) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ٢٧١ ، وفي طبعة مؤسسة النشر الاسلامي ص ٦٤٧.

٢٨٤

ذلك فانا نراهم متوقفين عند تعارض طرقهم المعمول بها عندهم فان من اراد الذهاب إلى بغداد مثلا واختلف قول الثقات في تعيين الطريق إليه يتوقف عند ذلك حتى يتبين له الأمر.

وفيه : انه لا شبهة في ان بناء العرف والعقلاء في صورة انسداد باب العلم ووجود المصلحة الملزمة في المقصد على العمل باحد الطريقين ، ولا يتوقف احد منهم في العمل.

القاعدة تقتضي الحكم بالتخيير

القول الخامس : القول بالتخيير ، وتقريبه ، ان التخيير على اقسام ثلاثة :

الأول : التخيير المجعول ابتداء كما في موارد جملة من الكفارات.

الثاني : التخيير الثابت في مورد التزاحم ، الذي يحكم به العقل ، اما من باب سقوط الخطابين واستكشاف خطاب تخييري من الملاكين ، أو سقوط اطلاقهما ، وثبوت التكليف في كل منهما مشروطا بعدم الإتيان بالآخر على اختلاف المسلكين.

الثالث : التخيير الثابت من جهة الاقتصار على المتيقن في رفع اليد عن ظواهر خطابات المولى ، كما لو ورد عام له إطلاق أحوالي ، كما في" اكرم كل عالم" فان له مع قطع النظر عن عمومه الافرادي ، اطلاقا احواليا ، ويدل على لزوم اكرام كل فرد في كل حال حتى حال اكرام الآخر ، ثم علمنا من الخارج

٢٨٥

عدم اكرام زيد وعمرو مثلا معا ، ودار الأمر بين ان يكونا خارجين عنه رأسا فلا يجب اكرامهما أصلاً ، وبين ان يقيد اطلاقه الاحوالي بالنسبة إلى كل منهما فيجب اكرام كل منهما عند ترك اكرام الآخر ، ومن المعلوم ان المتعين هو الثاني : لان الضرورات تتقدر بقدرها فالمقدار المعلوم خروجه عن تحت العام ، هو عدم وجوب اكرامهما معا ، واما الزائد عن ذلك ، فمقتضى عموم العام هو لزوم اكرام كل منهما منفردا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم ان المدعى جريان القسم الثالث في المقام دون الاولين ، بتقريب : ان مقتضى إطلاق أدلة حجية الخبر حجية كل منهما مطلقا ، ووجوب العمل به سواء عمل بالآخر ، أم لم يعمل به ، وقد علمنا من جهة ما تقدم من امتناع حجيتهما معا ، انه لم يجعل الشارع الحجية لهما مطلقا ، فيدور الأمر بين ان يسقطا عن الحجية رأسا ، وبين ان يقيد حجية كل منهما بعدم العمل بالآخر فتثبت الحجية تخييرا ، وقد عرفت ان المتعين هو الثاني : ولعل مراد المحقق الخراساني من حجية أحدهما بلا عنوان ذلك.

وقد أورد عليه بإيرادات :

الأول : انه حيث يستحيل الإطلاق في المقام فيستحيل التقييد : إذ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فإذا لم يمكن الإطلاق ثبوتا كيف يمكن التقييد في مقام الإثبات (١).

وفيه : انه في موارد العدم والملكة امتناع أحدهما لا يستلزم امتناع الآخر ،

__________________

(١) هذا الايراد بحسب الظاهر للمحقق النائيني في فوائد الاصول ج ١ ص ١٤٦.

٢٨٦

بل ربما يكون الآخر ضروريا ، مثلا : الجهل في المبدأ الاعلى محال والعلم ضروري ، والغنى ، في الممكن ممتنع ، والفقر ضروري وهكذا ، واما في الإطلاق والتقييد فإذا امتنع أحدهما لمحذور فيه ، وكان ذلك المحذور في الآخر أيضاً ، كان ممتنعا ، مثلا تقييد وجوب الصلاة بالعاجز ممتنع لقبح التكليف بما لا يطاق ، وهذا المحذور موجود في الإطلاق فهو ممتنع ، ولو لم يكن ذلك المحذور في الآخر ، كما في تخصيص الولاية بالفاسق ، المستلزم لترجيح المرجوح على الراجح ، كان الآخر ضروريا لامتناع الإهمال النفس الامرى ، وفي المقام بما ان المحذور المتقدم إنما يكون في الإطلاق وهو ليس في التقييد فلا يكون محالا.

الثاني : ان المقيد في المقام بما انه ضروري واجمال المقيد الضرورى كالمتصل يسرى إلى العام ، فلا وجه للتمسك باطلاق أدلة الحجية.

وفيه : أولا انه ليس ضروريا كيف وقد التزم جمع كما مر بحجيتهما معا ، وثانيا : ان ذلك المحذور المتقدم لا يكون مجملا بل هو واضح ومختص بصورة الإطلاق.

الثالث : ان لازم الحجية بالنحو المذكور أي المقيدة بعدم العمل بالآخر ، حجيتهما معا عند عدم العمل بهما لتحقق كلا الشرطين ، وقد اقمتم البرهان على امتناع ذلك.

وفيه : ان حجية كل منهما مشروطة ومقيدة حتى بعد وجود الشرط غير الحجية المطلقة ، إذ المانع عن حجيتهما بنحو الإطلاق كان من ناحية عدم إمكان العمل بهما ، واستحالة العقاب على كل من الفعل والترك ، وهذا لا يترتب على حجيتهما بنحو التقييد ، إذ لو عمل باحداهما فقد امتثل ووافقها فلا

٢٨٧

عقاب من ناحيتها ، وتسقط الاخرى عن الحجية لانعدام شرطها ، فلا عقاب لعدم كون ما ادت إليه حينئذ منجزا فلا محذور.

فتحصل ان الاقوى هو التخيير.

نفي الثالث بالمتعارضين

واما المورد الثاني : فقد وقع الكلام في انه إذا تعارض امارتان ، هل يحكم بنفي الثالث ، أم لا؟

وبما ذا ينفى الثالث ، فقد ذهب الشيخ الأعظم (ره) (١) وتبعه المحقق النائيني (ره) (٢) انه ينفى الثالث بهما.

واستدل له المحقق النائيني (ره) (٣) ، بان المتعارضين يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية ، وهي وان كانت فرع الدلالة المطابقية وجودا ، ولكنها ليست فرعها في الحجية.

وبعبارة أخرى : الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية أي دلالته على المؤدى ، واما كون المؤدى مرادا فهو مما لا يتوقف عليه الدلالة الالتزامية ، فسقوط المتعارضين عن الحجية في المؤدى ، لا يلازم سقوطهما عن الحجية في نفي الثالث ، لان سقوطهما في المؤدى إنما كان لأجل التعارض غير

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٨٧.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٧٥٥.

(٣) المصدر السابق.

٢٨٨

المتحقق في نفي الثالث.

ثم ان المحقق النائيني (ره) (١) ، استثنى من ذلك ما لو كان التعارض بينهما ناشئا عن العلم الخارجي بكذب أحدهما ، ولم يكن التعارض ذاتيا ، كما في الخبرين الدال أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر ، من جهة ان كلا من الخبرين ليس له دلالة التزامية على عدم وجوب غير المؤدى.

ويرد عليه ان الدلالة الالتزامية كما تكون تابعة للدلالة المطابقية وجودا تابعة لها حجية ، مثلا لو اخبر زيد بفري اوداج عمرو ، فيدل خبره بالدلالة الالتزامية على موته ، أو اخبر باصابة البول ببدنه ، فيدل على نجاسة بدنه بالدلالة الالتزامية فلو علمنا من الخارج خطاء المخبر في المؤدى ، ولكن احتمل موته في المثال الأول ، ونجاسة بدنه في المثال الثاني لسبب آخر ، فهل يتوهم احد ان يكون الخبران ساقطين في مؤداهما عن الحجية واما في مدلولهما الالتزامي فيؤخذ بهما ويحكم بالموت والنجاسة.

والسر في ذلك ان المدلول الالتزامي ليس هو الموت والنجاسة بقول مطلق ، بل الحصة الخاصة من كل منهما الملازمة للمؤدى ، ففي المثال الأول المخبر عنه بالدلالة الالتزامية الموت المستند إلى فري الاوداج لا مطلقه.

وعليه ، ففي المقام لو كان مفاد احد المتعارضين وجوب شيء ومفاد الآخر حرمته يكون المدلول الالتزامي للاول ، عدم الاباحة الملازم للوجوب ، والمدلول الالتزامي للآخر عدم الاباحة الملازم للحرمة ، فكما انه لا يمكن اجتماع

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٧٥٧.

٢٨٩

الوجوب والحرمة كذلك لا يمكن اجتماع عدمي الاباحة الملازمين لهما.

وتوهم انه لا تنافي بين العدمين إلا باعتبار ملزومهما ، وعليه فان أريد التعبد بالملزومين ، أو التعبد باللازمين المقيدين بهما لم يكن ممكنا لفرض التنافي بينهما ، واما لو أريد التعبد بذات اللازمين بحيث يكون التقيد داخلا والقيد خارجا فلا محذور فيه.

مخدوش فان المخبر عنه هو المقيد لا المطلق والتعبد به غير ممكن.

ثم انه قد يتوهم نفي الثالث بالبينتين المتعارضتين في بعض موارد التداعي ، ولكن تنقيح القول في تلك المسائل وبيان انه لا ينفى الثالث بهما موكول إلى محل آخر.

واما المحقق الخراساني (١) فحيث انه يرى حجية أحدهما لا بعينه فهو يرى انه ينفى الثالث بما هو حجة ولكن قد عرفت ضعف المبنى.

واما على المختار من حجيتهما تخييرا فنفي الثالث إنما يكون بهما من دون ان يتوجه محذور.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٣٩ قوله : «نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية ..».

٢٩٠

القاعدة الأولية في المتعارضين على الموضوعية في الأمارات

واما المقام الثاني : وهو بيان مقتضى القاعدة الأولية عند تعارض الامارتين على القول بالسببية ، فالمشهور بين الأصحاب ، انه التخيير ، وملخص القول فيه ، انه بناءً على ما اخترناه من انها تقتضي التخيير حتى بناءً على القول بالطريقية ، فالحكم بالتخيير على هذا المسلك في غاية الوضوح.

واما على ما هو المشهور من الحكم بالتساقط ، فيقع الكلام فيما يقتضيه الأصل على القول بالسببية في الأمارات.

وملخص القول فيه ، ان السببية في الأمارات تطلق على معان.

أحدها : انه مع قطع النظر عن قيام الأمارة ، لا مصلحة ، ولا مفسدة ، ولا حكم ، في الواقع ، وإنما الملاك والحكم تابعان لقيام الأمارة ومع قطع النظر عنها لا حكم في الواقع وهو منسوب إلى الاشاعرة.

ثانيها : ما نسب إلى المعتزلة وهو ان قيام الأمارة على وجوب شيء أو حرمته سبب لحدوث مصلحة ، أو مفسدة في المؤدى غالبة على المصلحة أو المفسدة الواقعية (على فرض وجودها) المقتضية لجعل الوجوب أو الحرمة ، وجامع القسمين كون مؤديات الأمارات أحكام واقعية وليست وراءها أحكام ، وهذان القسمان من التصويب الباطل عندنا بالاجماع.

ثالثها : اقتضاء الأمارة بقيامها على وجوب فعل أو حرمته لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى يقتضي وجوبه أو حرمته ظاهرا في المرتبة المتأخرة عن

٢٩١

الشك في الواقع مع بقاء الحكم الواقعي الناشئ عن المصلحة أو المفسدة الواقعية القائمة بذات الفعل في المرتبة السابقة على الشك على حاله من الفعلية بلا مضادة بينهما وهذه هي السببية التي يقول بها جمع من المخطئة.

رابعها : ان قيام الأمارة لا يكون سببا لحدوث المصلحة أو المفسدة في المؤدى تقتضي وجوبه أو حرمته ولو ظاهرا ولكن في سلوك الأمارة والتطرق بها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من الواقع.

ومحل الكلام في المقام إنما هو السببية بالمعنيين الاخيرين ، وظاهر كلام الشيخ الأعظم ان محل كلامه هو السببية بالمعنى الثالث :

قال : (١) هذا كله على تقدير ان يكون العمل بالخبر من باب السببية بان يكون قيام الخبر على وجوب شيء واقعا سببا شرعيا لوجوبه ظاهرا على المكلف انتهى.

وقد اختار الشيخ (٢) ان الأصل على هذا المبنى هو التخيير نظير التخيير في المتزاحمين ، وأجاب عما استدل به على التساقط ، بان العمل بالخبرين معا ممتنع لفرض التعارض ، وباحدهما تعيينا ترجيح بلا مرجح ، وباحدهما لا بعينه لا واقع له ، وباحدهما التخييري لا يدل الكلام عليه إذ لا يجوز ارادة الوجوب التعييني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٦١ ـ ٧٦٢.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٦٢ ـ ٧٦٣.

٢٩٢

بما حاصله ان الدليل إنما يدل على وجوب العمل بكل منهما مشروطا بالقدرة ، وحيث ان العمل بكل منهما مع العمل بالآخر غير مقدور فيخرج عن تحت الدليل ، والعمل به بدون العمل بالآخر مقدور فيكون واجبا ، ونتيجة ذلك وجوب العمل بكل منهما في فرض عدم العمل بالآخر ، وهذا هو التخيير ، وهو ليس من استعمال اللفظ ، في معنيين في شيء.

وأورد عليه المحقق الخراساني (١) بما حاصله : ان دليل حجية الخبر مثلا الموجب لحدوث الملاك وجعل الحكم ظاهرا على المؤدى إنما يدل في مورد ثبوت الطريق والحجة ، والحجية إنما تكون مجعولة للخبر الذي يحتمل الصدق والكذب ، وحيث يعلم بعدم مطابقة احد الخبرين للواقع ، فيعلم انه لا يكون هناك حجتان وطريقان فلا يحدث ملاكان ولا حكمان ، بل أحدهما طريق والمجعول ظاهرا حكم واحد فليس من باب التزاحم في شيء.

وبعبارة أخرى : ان دليل حجية الخبر ، اما بناء العقلاء ، أو الآيات ، والروايات ، والمتيقن من بناء العقلاء غير المتعارضين ، وظاهر الآيات والروايات لو لم نقل حجية الخبر الذي يظن بموافقته للواقع ، هو الخبر الذي لم يعلم اجمالا أو تفصيلا بعدم مطابقته للواقع ، وعلى هذا فلا مقتضى للسببية فيهما ، فالتمانع بين الحكمين في مقام الجعل لا في مقام الامتثال فلا يكون من باب التزاحم.

ثم قال لو سلمنا وجود المقتضى للسببية فيهما وكونهما سببين لجعل

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٤٠ بتصرف.

٢٩٣

حكمين ظاهريين ، فإنما هو فيما إذا قاما على حكمين إلزاميين ، كوجوب ضدين ، ووجوب فعل وحرمته ، واما إذا قام أحدهما على حكم الزامي والآخر على حكم غير الزامي لا يكون من باب التزاحم ، إذ ما لا اقتضاء فيه لا يصلح ان يزاحم ما فيه الاقتضاء.

وان قيل ان الحكم غير الالزامي الثابت بالأمارة ظاهرا إنما هو حكم غير الزامي ناش عن الاقتضاء له لا عن اللااقتضائية فيزاحم حينئذ الحكم الالزامي.

اجبنا عنه بأنه حينئذ يحكم فعلا بغير الالزامي لكفاية عدم تمامية الالزامي للحكم بغير الالزامي ، نعم لو قلنا بوجوب الالتزام بما يؤدى إليه من الأحكام كان الخبران الدالان على حكم الزامي وحكم غير الزامي من قبيل المتزاحمين بالنسبة إلى وجوب الالتزام لكنه لا دليل عليه.

ولكن يرد على المحقق الخراساني ، ما تقدم من ان العلم الإجمالي ، لا يصلح مانعا ، فانه لا يوجب معلومية كذب أحدهما المعين ، فكل منهما محتمل للصدق والكذب ، فيشمله دليل الحجية ، وليسا هما معا موضوعا واحدا للحجية كي يقال نعلم بعدم مطابقة ما يجعل له الحجية ، للواقع ، فراجع ما ذكرناه.

فالصحيح ان يقال ، انه بناءً على القول بالسببية بالمعنى الثالث.

فتارة : تكون الأمارتان ، مؤديتين إلى وجوب الضدين ، بان تكون احداهما دالة على وجوب احد الضدين ، والاخرى مؤدية إلى وجوب الضد الآخر.

وأخرى : تكون احداهما مؤدية إلى حكم الزامي كالوجوب والاخرى مؤدية

٢٩٤

إلى حكم الزامي آخر ضده كالحرمة.

وثالثة : تكون احداهما مؤدية إلى وجوب شيء والاخرى مؤدية إلى وجوب شيء آخر ، وعلمنا من الخارج عدم وجوبهما معا.

ورابعة : تكون احداهما مؤدية إلى حكم الزامي ، والاخرى مؤدية إلى عدمه ونقيضه.

اما في الصورة الأولى : فحيث ان المكلف لا يتمكن من امتثالهما فيحصل له علم اجمالي ، بعدم ثبوت أحدهما ، ولكن هذا العلم لا يوجب ازيد من احتمال مخالفة كل من الخبرين في نفسه للواقع ، فكل منهما واجد للمصلحة فيجرى فيهما ما يجري في سائر موارد التزاحم من التخيير.

ودعوى : انه مع العلم الإجمالي بكذب أحدهما يكون أحدهما بلا مصلحة ، لان ما فيه المصلحة هو الخبر المحتمل للصدق والكذب.

مندفعة : بان العلم الإجمالي لا يوجب معلومية الكذب في أحدهما المعين فكل منهما محتمل للصدق والكذب فيشمله دليل الحجية.

ودعوى : انه مع العلم الإجمالي المشار إليه يعلم بان الثابت في الواقع احد الحكمين فمن اين يستكشف المصلحة في كل منهما.

مندفعة : بان طريق استكشافها طريق استكشاف الملاك في سائر المتزاحمين ، وهو إطلاق المادة.

واما في الصورة الثانية : فالاظهر سقوط الحكمين والحكم بالاباحة فان مقتضى الاطلاقات ثبوت المصلحة أو المفسدة في مؤدى كل منهما فيقع التزاحم

٢٩٥

بين الملاكين في التأثير ، فلا محالة يتساقطان : لان المنشأ للوجوب هي المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة ، كما ان منشأ الحرمة هي المفسدة غير المزاحمة بالمصلحة فمع وجودهما معا يسقطان ولا يؤثر شيء منهما في الالزام فيحكم بالاباحة.

واما في الصورة الثالثة : فيستكشف من العلم بعدم ثبوت المؤديين حتى بهذا العنوان ، ان المصلحتين الحادثتين بسبب قيام الامارتين بنحو لا يمكن استيفائهما معا ، فلا محالة يقع التزاحم بين الحكمين فيحكم بالتخيير.

واما في الصورة الرابعة : فان قلنا بان الحكم غير الالزامي حتى الاباحة ناشئ عن مصلحة مقتضية لجعله فلا محالة يقع التزاحم بين المقتضيين والنتيجة هو عدم الالزام.

وان قلنا بان الاباحة مثلا ناشئة عن عدم الاقتضاء فيكون مقتضى القاعدة الحكم بالالزام إذ لا يزاحم عدم المقتضي مع المقتضي.

ولكن الاظهر هو الأول إذ لو كان الحكم الواقعي هو الوجوب ، وقامت الأمارة على الاستحباب يتبدل الوجوب إليه ، فيعلم من ذلك ان مقتضى الاستحباب الموجود بسبب قيام الأمارة إنما يكون مقتضيا لعدم الوجوب ، ولذا يمنع عن تأثير مقتضى الوجوب فيه ، وإلا لا يعقل مانعيته عن تأثيره كما لا يخفى.

وعليه فلو قامت الأمارة على وجوب شيء ، وامارة أخرى على استحبابه بما ان مقتضى الاستحباب له اثران :

أحدهما : الحد الضعيف الوجودي.

٢٩٦

ثانيهما : عدم مرتبة الفوق فبالنسبة إلى ذلك الحد والمرتبة الفوقانية يتعارضان ويتمانعان ، وحيث لا مانع عن تأثير مقتضى الاستحباب في اثره الأول فيؤثر فيه ، ويحكم بالاستحباب ، إذ يكفى في الحكم به عدم الاقتضاء للمرتبة الفوقانية فتدبر فانه دقيق.

وبه يظهر ما في الإشكال الثاني الذي ذكره المحقق الخراساني (ره).

واما على القول بالسببية بالمعنى الرابع ، فان قلنا بان المصلحة إنما هي في الاستناد إلى الحجة بما هي حجة فعلا ، فيكون حكمهما حكم الامارتين المتعارضتين على الطريقية ، إذ بعد فرض المعارضة وعدم إمكان فعلية الحجية فيهما لا يمكن الاستناد اليهما حتى تكون المصلحة فيهما.

واما لو قلنا بان المصلحة في الاستناد إلى ذات الحجة فيكون حالهما حال التعارض على فرض السببية بالمعنى الأول ، لان كل واحدة منهما على الفرض ذات مصلحة.

حول مقتضى الأصل الثانوي في تعارض الخبرين

المبحث الثالث : لا يخفى ان ما ذكرناه من مقتضى القاعدة في الامارتين المتعارضتين ، إنما هو في غير الخبرين المتعارضين.

واما فيهما فقد اتفقت كلمات القوم واستفاضت الأخبار على عدم سقوطهما بالتعارض ، وانه يجب الاخذ باحدهما تخييرا أو تعيينا.

٢٩٧

وتنقيح القول في المقام يقتضي البحث هنا في انه إذا لم ينهض حجة على التعيين ولا على التخيير ودار الأمر بينهما ، فهل الأصل هو التعيين أو التخيير ، ثم يبحث في المبحث الآتى فيما يستفاد من الأخبار.

والكلام هنا في موردين : الأول : بناءً على ان الأصل الأولى في تعارض الامارتين هو التساقط ، الثاني : بناءً على ما هو المختار من ان الأصل هو التخيير.

اما الأول : فقد يقال ان الأصل الثانوي هو التخيير.

واستدل له بوجهين :

أحدهما : ان الشك في حجية الراجح تعيينا أو حجية المرجوح تخييرا ، مسبب عن الشك في اعتبار المزية شرعا ، فتجرى أصالة العدم في السبب ويترتب عليه عدم حجية الراجح تعيينا ، وحجية المرجوح تخييرا فلا يجري في المسبب.

وفيه : ان معنى اعتبار المزية شرعا ، دخلها في جعل الشارع الحجية للخبر الراجح تعيينا ، وقد مر في مبحث الاستصحاب في الأحكام الوضعية عدم جريان الاستصحاب في امثال هذه الأمور ، لعدم كونها مجعولة شرعا ، وعدم ترتب اثر شرعي عليها لان ترتب الجعل عليها ترتب عقلي نحو ترتب المقتضي على المقتضي ، لا ترتب شرعي.

الثاني : ان المفروض حجية كل منهما شانا ، وإنما الشك في الحجية الفعلية ، وعدم حجية المرجوح بهذا معنى مسبب عن الشك ، في مانعية المزية

٢٩٨

فتجري أصالة عدمها ويترتب عليها الحجية الفعلية.

وفيه : ان معنى مانعية الزيادة مانعيتها عن الجعل إذ لا يعقل المنع عن الفعلية من دون ان يؤخذ في مقام الجعل عدمها دخيلا ، لما تقدم من عدم معقولية دخل شيء في مقام الفعلية من دون ان يؤخذ في مقام الجعل.

فيرد عليه ما اوردناه على سابقه.

فالاظهر ان الأصل هو التعيين لما مر في آخر مباحث الاشتغال من انه الأصل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية : للقطع بحجية ما يحتمل تعيينه اما تعينيا أو تخييرا ، والشك في حجية الآخر ، وقد مر في أول مباحث الظن ان الشك في الحجية ملازم للقطع بعدم الحجية.

واما المورد الثاني : فالاصل يقتضي التخيير لما تقدم من ان التخيير الذي التزمنا به ، إنما هو بمعنى حجية كل منهما مقيدا بعدم العمل بالآخر.

وعليه فمقتضى أصالة العموم لدليل الحجية ، حجية المرجوح عند عدم العمل بالراجح ، ولا يعتنى بالاحتمال في مقابل أصالة العموم ، بل هي تتبع ما لم يدل دليل أقوى على خلافها ، واصالة عدم الحجية ، عند الشك لا يرجع إليها ، مع أصالة العموم المقتضية للحجية.

الترجيح بالأحدثية

المبحث الرابع : في بيان ما يستفاد من الأخبار في تعارض الخبرين :

وملخص القول في المقام ، ان نصوص الباب على طوائف :

٢٩٩

الأولى : ما توهم دلالته على لزوم لاخذ بالاحدث.

الثانية : ما دل على الاخذ بما يكون من الخبرين موافقا للاحتياط.

الثالثة : ما دل على التوقف.

الرابعة : ما دل على التخيير.

الخامسة : ما دل على الترجيح بمزايا مخصوصة.

اما الأولى : فالروايات التي استدل بها للترجيح بالاحدثية ولزوم الاخذ بالاحدث ثلاث :

إحداها : رواية المعلى بن خنيس قال قلت لابي عبد الله (ع) إذا جاء حديث عن اولكم وحديث عن آخركم بايهما نأخذ فقال (ع) خذوا به حتى يبلغكم عن الحى وان بلغكم عن الحى فخذوا بقوله ثم قال أبو عبد الله انا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم (١).

الثانية : رواية الكنانى عنه (ع) قال لي أبو عبد الله أرأيت لو حدثتك بحديث أو افتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فاخبرتك بخلاف ما كنت اخبرتك أو افتيتك بايهما كنت تأخذ قلت باحدثهما وأدع الآخر فقال (ع) قد اصبت يا أبا عمرو ، أبي الله إلا ان يعبد سرا والله لئن فعلتم ذلك انه

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٦٧ باب اختلاف الحديث ح ٩ / الوسائل ج ٢٧ ص ١٠٩ باب ٩ من أبواب صفات القاضى ح ٣٣٣٤١.

٣٠٠