زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

الإطلاق أو العموم ، في دليل المحكوم ، فرع تحقق الشك في المراد ، فإذا ثبت تعبدا بالدليل ان الحكم الضررى مثلا غير مجعول في الشريعة يرتفع الشك تعبدا ، فلا يبقى مورد للتمسك بالإطلاق أو العموم.

وبما ذكرناه ظهر أمور :

١ ـ ان ما قيل في ضابط الحكومة من كون احد الدليلين بمدلوله اللفظي مفسرا لمدلول الآخر ، وشارحا له بحيث يكون مصدرا بإحدى اداة التفسير أو ما يلحق به كقرينية تفسير قرينة المجاز لذي القرينة.

في غير محله لعدم اختصاص دليل تقديم الحاكم بهذا المورد ، اضف إليه انه يلزم منه خروج غالب الموارد عنها.

٢ ـ عدم تمامية ما أفاده الشيخ الأعظم (١) في مقام بيان الضابط ، ان يكون احد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبينا لمقدار مدلوله مسوقا لبيان حاله متفرعا عليه.

إذ لاوجه لاختصاص الحكومة بذلك ، بل إذا كان احد الدليلين مفيدا فائدة مستقلة ولكنه يصلح لان يكون بيانا لكمية موضوع الدليل الآخر كان من الحكومة.

٣ ـ عدم تمامية ما أفاده المحقق الخراساني (ره) من اختصاصها بموارد

__________________

(١) فرائد الأصول ص ٧٥٠ ـ ٧٥١.

٢٦١

التعرض لعقد الوضع كما لا يخفى.

ثم انه صرح صاحب الكفاية (١) بأنه لا يعتبر في الحاكم ان يكون مؤخرا عن المحكوم.

وما أفاده بناءً على ما اخترناه تبعا له من عدم اعتبار كون الحاكم مسوقا لبيان كمية موضوع المحكوم بل لو كان مفيدا فائدة مستقلة ، ولكنه كان بنحو يصلح لذلك تكون الحكومة ثابتة.

تام : إذ مع فرض عدم مجيء المحكوم إلى الابد يصح جعل مثل هذا الحكم.

واما بناءً على ما أفاده الشيخ الأعظم من ان الحاكم هو ما سيق لبيان كمية ما أريد من المحكوم.

فلا بدَّ وان يكون مؤخرا عنه ومتفرعا عليه وإلا يلزم اللغوية كما لا يخفى.

التوفيق العرفي

واما الجهة الثانية : ففي الكفاية (٢) أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما بالتصرف في أحدهما إلى آخر ما أفاده.

محصل ما ذكره في التوفيق العرفي وكونه جمعا عرفيا ، انه إذا عرض الدليلين

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٣٩ بتصرف.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٣٧.

٢٦٢

على العرف يحملون ما تضمن للاحكام بعناوينها الأولية ، على بيان الأحكام الاقتضائية ، وما تضمن للحكم بالعنوان الثانوي على بيان المانع ، فمع انطباق العنوان الثانوي لا يصير الحكم فعليا لوجود المانع ، ومع عدمه لوجود المقتضى وعدم المانع يصير فعليا.

وفيه : انه ان أريد من الحكم الاقتضائي مقتضى الحكم ، فمضافا إلى انه خلاف الظاهر : إذ الظاهر من الدليل كونه في مقام بيان الحكم لا كونه جملة خبرية ، ان لازمه عدم لزوم امتثال الحكم في غير مورد الضرر مثلا أيضاً : لان وجود الملاك بنفسه لا يوجب لزوم الامتثال إذ حينئذ يحتمل عدم التكليف لوجود المانع.

وان أريد به حمله على الفعلية الناقصة.

فيرد عليه ان فعلية الحكم وعدمها اجنبيتان عن المولى بالمرة بل تدوران مدار تحقق الموضوع بجميع قيوده ، وعدمه ، فمع التحقق لا يعقل عدم فعلية الحكم ومع عدمه لا يعقل الفعلية.

وعليه ، فان لم يؤخذ العنوان الثانوي مانعا في مقام الجعل ، لا يعقل دخل عدمه في الفعلية.

وقد مر ان تقدم الأدلة النافية للعسر والحرج ، والضرر ، والاكراه ، والاضطرار مما يتكفل لاحكام الموضوعات بعناوينها ، الثانوية على الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأولية ليس من باب التوفيق ، بل انه إنما يكون للحكومة.

٢٦٣

ثم انه رتب على ذلك تقدم الأمارات على الأصول الشرعية.

وقد عرفت في آخر مبحث الاستصحاب ان تقدمها عليها إنما يكون للحكومة.

بيان وجه عدم التعارض بين العام والخاص

واما الجهة الثالثة : فلا اشكال في انه لا تعارض بين الدليلين إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، إنما الكلام في المقام في خصوص ما مثلوا لذلك ، بالعام والخاص.

وملخص القول فيه يستدعي قبل بيان وجه عدم التعارض بينهما وتقديم الخاص على العام تقديم مقدمات :

الأولى : ان الظهور والدلالة على اقسام :

منها : الدلالة التصورية وهي الانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى ولو كان اللافظ تلفظ به من غير شعور واختيار ، وهذه الدلالة لا تستند إلى الوضع بل منشأها الانس الحاصل من كثرة الاستعمال.

ومنها : الدلالة التصديقية فيما قال : وهي دلالة اللفظ على ان المتكلم اراد به تفهيم المعنى ، وهذه الدلالة مستندة إلى الوضع ، لما مر في مبحث الوضع من ان حقيقته تعهد الواضع بأنه متى اراد تفهيم معنى خاص تكلم بلفظ مخصوص.

ومنها : الدلالة التصديقية فيما اراد ، وهي دلالة اللفظ على ان المراد

٢٦٤

الجدى للمتكلم مطابق مع المراد الاستعمالي.

وبعبارة أخرى : ان الداعي للارادة الاستعمالية هو الجد لا غيره ، وهذه الدلالة أيضاً اجنبية عن الوضع ، بل هي مستندة إلى بناء العقلاء على ان ما يصدر من الفاعل المختار من قول أو فعل يصدر بداع الجد لا بغيره من الدواعي ، وهذه الدلالة تتوقف على عدم وجود القرينة المتصلة والمنفصلة ، بخلاف الثانية فانها تتوقف على عدم وجود القرينة المتصلة خاصة.

الثانية : انه لا ريب في تقديم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة ، والضابط لتشخيص القرينة وتمييزها عن غيرها إنما هو بفرض الكلامين متصلين صادرين عن متكلم واحد في مجلس واحد ، فإذا رأى العرف أحدهما ، شارحا للآخر من حيث تعيين المراد ، بحسب المتفاهم العرفي كان ذلك قرينة ، وإلا فلا.

الثالثة : ان محل الكلام هو ما إذا لم يكن العام نصا في العموم ، وإلا فيقع التعارض بينه وبين الخاص ولم يقل احد بتقديم الخاص في هذا المورد.

إذا عرفت ذلك فنقول انه قد يكون الخاص قطعي السند والدلالة ، وقد يكون ظني السند والدلالة ، وقد يكون ظنى السند قطعي الدلالة ، وقد يكون بالعكس ، فهذه اربعة اقسام لا بدَّ من البحث في كل قسم منها.

اما القسم الأول فبعد الاتفاق على تقديم الخاص ، اختلفوا في وجهه فقد

٢٦٥

ذهب الشيخ الأعظم (ره) (١) إلى ان تقدم الخاص ، إنما يكون للورود.

والمحقق النائيني (٢) ، والاستاذ (٣) ، اختارا ان تقدمه يكون بالتخصص ، لان موضوع أصالة العموم هو الشك في المراد وهو يرتفع وجدانا بالعلم بصدور الخاص وكونه مرادا.

وحيث ان حقيقة الورود عبارة عن خروج الشيء عن موضوع احد الدليلين بمئونة التعبد ، أي ورود الدليل من الشارع ، ولو كان قطعي الصدور والدلالة ، في مقابل التخصص الذي هو عبارة عن خروجه عن موضوعه بالوجدان ، مع قطع النظر عن الشارع ، كخروج زيد الجاهل عن العلماء المأخوذ موضوعا لوجوب الاكرام.

فالحق ان تقدمه عليه انما يكون بالورود. لأن ما يدل عليه الخاص القطعي السند والدلالة خروجه عن تحت العام ، إنما يكون بواسطة ما ورد من الشارع وليس تكوينيا ، فما اختاره الشيخ (ره) هو الاظهر.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٥١ ـ ٧٥٢ قوله : «فإن كان المخصص مثلا دليلا علميا كان واردا ...».

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٧١٩ فإنه بعد اختيار التخصيص ترقى في ذلك ليقول : «ان مؤدى الخاص يكون خارجا عن مفاد أصالة الظهور بالتخصص لا بالورود» / أجود التقريرات ج ٢ ص ٥٠٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٨٦ قوله : «بل التحقيق ان الخاص القطعي من الجهتين ...».

(٣) دراسات في علم الأصول ج ٤ ص ٣٤٣.

٢٦٦

اما إذا كان الخاص ظنى السند وقطعي الدلالة فقد افاد الشيخ الأعظم (ره) (١) ان تقدمه على العام على تقدير ان تكون حجية أصالة الظهور ، لأجل أصالة عدم القرينة ، إنما يكون بالحكومة ، واحتمل الورود وتأمل فيه.

واستدل للحكومة بان الرافع لموضوع أصالة العموم والظهور ، هو ثبوت القرينة ، فان كان الخاص ظنيا فكونه مثبتا للقرينة إنما يكون بالتعبد ، لا بالوجدان ، فلا محالة يكون ارتفاعه تعبديا ، وعلى تقدير ان يكون حجة لأجل افادته للظن النوعي ، فالخاص وارد عليه : لان بناء العقلاء على حجية الظهور وكاشفيته عن المراد إنما يكون مقيدا بعدم وجود ظن معتبر وحجة على خلافه ، فإذا ورد الخاص الذي هو حجة وظن معتبر يرتفع موضوع أصالة الظهور وجدانا.

وأورد عليه بايرادين :

أحدهما : ما عن المحقق الخراساني (٢) والمحقق صاحب الدرر (٣) من انه لا يعقل الحكومة في اللبيات.

وفيه : انه ان كان ذلك لأجل ان الموضوع في اللبيات محرز كمية وكيفية بالجزم واليقين ، فلا يمكن ان ينالها يد التصرف بأي نحو كان كما صرح به المحقق الخراساني.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٥٢.

(٢) في حاشيته على الفرائد (درر الفوائد للآخوند) الجديدة ص ٤٣٢.

(٣) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ٢٦٤ ، وفي طبعة مؤسسة النشر الاسلامي ص ٦٣٩.

٢٦٧

فيرد عليه : ان ما ذكر يتم في الأحكام العقلية ، واما في البناءات العقلائية فبما انها إنما تكون موضوعاتها الكليات ، فيمكن ان يتصرف الشارع ، أو العقلاء ببناء آخر على شيء يكون ذلك موجبا لخروج ذلك الشيء عن ذلك الموضوع فتدبر.

وان كان لأجل ان الحكومة إنما تكون عبارة عن كون احد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا للدليل الآخر ولذلك لا تجرى في اللبيات.

فيرد عليه ما تقدم في ضابط الحكومة ومر انها اعم من ذلك.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) ، من انه بناءً على ان حجية الظهور من جهة افادة الظن النوعي أيضاً يكون التقدم بالحكومة لا بالورود ، لان موضوع أصالة العموم ظهور اللفظ في المعنى العام مع الشك في المراد ، ولا ريب ان ورود الخاص بنفسه لا يوجب ارتفاع الموضوع ، بل إنما يكون رافعا لموضوع أصالة العموم بتوسط إثباته للمؤدى المخالف ، وحيث ان ثبوته تعبدي فلا محالة يكون حاكما عليها لا واردا.

وفيه : ان بناء العقلاء على حجية الظهور من جهة الكاشفية والمرآتية ، إنما هو بمعنى ان المقتضي لهذا البناء هو الكاشفية والمرآتية ، وليس ذلك بناءً كليا غير مقيد بشيء سوى الشك في المراد ، بل إنما يكون مقيدا بعدم وجود دليل معتبرا قوى على الخلاف ، وعلى ذلك فمع ورود الخاص يرتفع موضوع أصالة

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٥١٠ ـ ٥١١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٨٩ / وقواه في فوائده ج ٤ ص ٧٢٣.

٢٦٨

الظهور وجدانا ، فيكون تقدم النص بالورود لا بالحكومة.

نعم يرد على الشيخ (قدِّس سره) ان لازم ذلك الورود حتى بناءً على كون حجية أصالة الظهور لأجل أصالة عدم القرينة إذ المراد منها ليس استصحاب عدمها ، بل بناء العقلاء على عدمها عند احتمالها.

وعليه فهذا البناء كالبناء على حجية أصالة الظهور ابتداء إنما يكون مع عدم دليل معتبر على وجود القرينة فمع ورود النص يرتفع موضوعها وجدانا لا تعبدا.

فالمتحصّل ان الاقوى كون تقدم النص مطلقا إنما يكون بالورود لا بالحكومة.

واما إذا كان الخاص ظني الدلالة سواء أكان قطعي السند أو ظنيه ، فقد اختار الشيخ الأعظم (١) انه يعمل بأقوى الظهورين ، ظهور العام في العموم ، وظهور الخاص في التخصيص.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) من انه يخصص العام به ولو كان ظهوره اضعف من ظهور العام ، لحكومة أصالة الظهور ، في طرف الخاص على أصالة الظهور ، في طرف العام ، لكون الخاص بمنزلة القرينة على التصرف في العام ، كما يتضح ذلك بفرض وقوعهما في مجلس واحد من متكلم واحد ، إذ لا يشك العرف في كون الخاص قرينة على العام ، وهو لم يلتزم بذلك في شيء من

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٥٢.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٧٢٠.

٢٦٩

المسائل الفقهية.

وفيه : انه ان ثبت قرينيته يكون ما ذكر تاما ، ولكن ذلك أول الكلام.

وما ذكر من فرض وقوعهما في مجلس واحد من متكلم واحد ، متين ، إلا انه لا يكون الخاص مطلقا قرينة على التصرف في العام ، وعدم التزامه بذلك في المسائل الفقهية لعله يكون من جهة كون جميع الموارد في الفقه ، الخاص نصا في عدم العموم ، ولذا ترى انه (قدِّس سره) ، صرح قبل ذلك بأسطر ، بانا لا نجد من انفسنا موردا يقدم العام من حيث هو على الخاص.

فالاقوى ما ذكره الشيخ ما لم يكن الخاص نصا في عدم ثبوت حكم العام لما يكون متكفلا لبيان حكمه فتدبر فانه دقيق.

لا يقال انه على هذا لم يبق فرق بين التخصيص واخويه (الحكومة والورود).

فانه يقال : ان الحكومة أو الورود في هذا المقام إنما هو بالاضافة إلى أصالة الظهور لا في مدلول العام ، وما يقابل التخصيص إنما هو فيما إذا كان ذلك بالنسبة إلى مدلول الدليل فتدبر حتى لا تشتبه.

وما ذكرناه من ان الحكومة نافية للتخصيص ، إنما هو في الحكومة في المدلول ، واما الحكومة في أصالة العموم فهي ملائمة معه.

حكم التعارض بين العامين من وجه

المورد السادس : إذا تعارض عامان من وجه كما في قولنا : اكرم العلماء ،

٢٧٠

ولا تكرم الفساق ، فان كان بينهما جمع عرفي كالحكومة وما شاكل ، فلا كلام ولا تصل النوبة إلى اعمال قواعد التعارض ، فهل كون دلالة أحدهما بالعموم ، والآخر بالإطلاق من هذا القبيل أم لا؟

وجهان : سيأتي تفصيل القول فيه بعد ذكر اخبار الترجيح فانتظر.

وان لم يكن بينهما جمع عرفي :

فقد يقال : انه ان كانت دلالة كل منهما على حكم المجمع ، بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، يسقط الاطلاقان ، إذ الإطلاق إنما يكون متوقفا على إجراء مقدمات الحكمة ، وحيث ان جريانها فيهما لا يمكن ، وفي أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، فلا تجري في شيء منهما ، ففي المجمع لا يرجع إلى شيء منهما بل إنما يرجع إلى الأصول.

ولكن يرد عليه ان مقدمات الحكمة تجري في كل منهما في صورة الانفصال ، فان من مقدمات الحكمة عدم البيان متصلا ، لا عدمه ولو منفصلا ، فمقدمات الحكمة جارية فيهما ، غاية الأمر يعلم بعدم مطابقة المراد الجدي لكلا الاطلاقين ، وهذا لا يمنع عن إجراء مقدمات الحكمة ، فعلى هذا حكم هذه الصورة حكم ما إذا كانت دلالة كل منهما بالوضع.

وستعرف ان حكم ما إذا كانت دلالة أحدهما بالوضع ودلالة الآخر بالإطلاق أيضاً حكم هذه الصورة.

ثم ان المشهور بين الأصحاب بل المتسالم عليه بينهم ، انه في العامين من وجه يحكم بالتساقط في مورد الاجتماع ، والرجوع إلى العام الفوق لو كان ، وإلا

٢٧١

فإلى الأصل.

أقول : بناءً على المختار من ان الأصل في المتعارضين هو التخيير لا التساقط كما سيمر عليك ، يكون مقتضى القاعدة هو التخيير.

وإنما الكلام في المقام في شمول الأخبار العلاجية لهما وعدمه ، وفيه مسالك.

أحدها : انها لا تشمل العامين من وجه ولعله المشهور.

الثاني : انها تشملهما إلا انه لا يجوز الرجوع إلى المرجحات الصدورية ، بل يجب الرجوع إلى المرجحات الجهتية والمضمونية اختاره المحقق النائيني (ره) (١).

الثالث : انها تشملهما وتجري فيهما جميع المرجحات وهو المختار.

يشهد للاخير ما سنذكره.

واستدل للاول : بان الأخبار العلاجية سؤالا وجوابا ظاهرة في اخذ احد الخبرين رأسا وترك الآخر كذلك ، لاحظ قوله : " يأتي عنكم خبران متعارضان أو مختلفان بايهما آخذ" (٢) ، وقوله (ع): " خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر" (٣).

وعلى الجملة الناظر في الأخبار العلاجية يرى ان مورد السؤال والجواب ومحطهما الخبران المختلفان بجميع المضمون فلا تشمل العامين من وجه.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٧٩٢ ـ ٧٩٣ (الامر الخامس).

(٢) مستدرك الوسائل ج ١٧ ص ٣٠٣ باب وجوب الجمع بين الاحاديث المختلفة ... ح ٢١٤١٣.

(٣) المصدر السابق.

٢٧٢

والجواب عنه يظهر مما سنذكره في بيان المختار.

واستدل المحقق النائيني (ره) (١) لما ذهب إليه : بأنه ان أريد من الرجوع إلى المرجح السندي طرح الفاقد مطلقا فهو بلا وجه لعدم المعارض له في مادة الافتراق ، والمفروض حجيته مع قطع النظر عن المعارض ، فطرحه في غير مادة الاجتماع طرح للحجة بلا وجه ، وان أريد منه طرحه في خصوص مادة الاجتماع ، فهو غير جائز ، لان الخبر الواحد لا يتبعض في مدلوله من حيث السند ، إذ لا يمكن ان يكون الخبر صادرا في بعض مدلوله وغير صادر في بعضه الآخر.

وفيه : ان المستبعد هو التعبد بصدور خبر ، وعدم صدوره ، واما التعبد بان الخبر صدر بنحو لا يشمل مورد الاجتماع ـ مثلا ـ إذا ورد ـ اكرم العلماء ـ ولا تكرم الفساق ، يتعبد الشارع بان الخبر الأول ، لم يكن حين ما صدر هكذا بل كان مع قيد (غير الفاسق) أو (العدول) ولم ينقله بعض المحدثين أو اسقطه المخالفون ، وما شاكل فلا نستبعده ، ومفاد الأخبار العلاجية لو شملت العامين من وجه يكون من هذا القبيل وسيجيء توضيحه.

وحق القول في المقام ان يقال في جميع تلك الصور الثلاث :

انه تارة يكون العامان قطعيين ، وأخرى يكونان ظنيين ، وثالثة يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا.

اما الصورة الأولى : فحيث ان الأخبار العلاجية ظاهرة في ان موردها ما إذا

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٧٩٣.

٢٧٣

كان التعارض في السند بحيث يكذب كل من المتعارضين الآخر ، فلا محالة لا تشمل هذه الصورة ، واما ظهور كل منهما فيعارض ظهور الآخر فيجرى فيه ما سنذكره فيما تقتضيه القاعدة عند تعارض الدليلين ، وستعرف انها تقتضي التخيير ، فيحكم بالتخيير لأجل ذلك.

واما الصورة الثانية : فبعد التحفظ على أمرين :

١ ـ انه يمكن ثبوتا ان يكذب المخبر في بعض ما يخبر عنه ، أو يشتبه فيه ، أو يتصرف فيه بالغاء قيد أو زيادته مثلا إذا جاء بعض الحجاج ، يخبر بمجيء جميعهم.

٢ ـ ان من يخبر عن كلى ذي أفراد ينحل خبره إلى اخبار عديدة حسب ما له من الأفراد. مثلا : اذا قال" جاء الحجاج" يصح لنا ان نقول انه اخبر بمجيء زيد إذا كان منهم.

لا يقال لازم ذلك انه لو اخبر كذبا بمجيء الحجاج وهم الف حاج يكون ذلك الف كذب والف محرم مع انه ليس إلا واحدا.

فانه يجاب عنه بان الحكم الشرعي ربما يترتب على الدال ، كالكذب ، وربما يترتب على المدلول كالغيبة ، فما أفيد يتم في الثاني دون الأول.

نقول : ان العامين من وجه بالنسبة إلى مورد افتراق كل منهما لا معارض له ، فيشمله أدلة حجية الخبر ، وبالنسبة إلى مورد الاجتماع يقع التعارض بينهما ولا مانع من الرجوع إلى الأخبار العلاجية وطرح أحدهما في خصوص المجمع أو اعمال القاعدة فيه على ما سيأتي.

وان ابيت عن صدق الخبر على البعض ، لا ينبغي التأمل في ان المأخوذ في

٢٧٤

لسان الأخبار العلاجية ، وان كان هو الخبر إلا انه بمناسبة الحكم والموضوع يكون المراد منه مفاده ومؤداه ، ولا ريب في ان البعض مفاد الخبر ومؤداه.

واما الصورة الثالثة : فان كان القطعي ، قطعي السند والدلالة ، فلا اشكال في تقدمه على الظني ، للعلم بعدم مطابقته بما له من الظهور للواقع ، واما ان كان قطعي السند وظني الدلالة ، فلا يمكن الرجوع إلى الأخبار العلاجية لفرض مقطوعية سند أحدهما : كما لا يصح الرجوع إلى اخبار العرض على الكتاب والسنة على ما سيأتي في آخر هذا المبحث.

فلا بدَّ من اعمال قواعد ، التعارض بين دلالة القطعي ، ودلالة الظني أو سنده وستعرف انها تقتضي التخيير ، فيما امكن والتساقط فيما لا يمكن.

ما تقتضيه القاعدة عند تعارض الأدلة والامارات

المبحث الثاني : فيما تقتضيه القاعدة في الخبرين المتعارضين ، وانه التساقط كما هو المشهور ، أو التخيير كما هو المختار أو غيرهما ويقع الكلام في مقامين :

الأول : في تعارضهما على القول بالطريقية.

الثاني : في تعارضهما على القول بالسببية.

اما المقام الأول : فالكلام فيه في موردين :

أحدهما : بالنسبة إلى مؤداهما.

ثانيهما : في نفى الثالث.

٢٧٥

اما المورد الأول : فالاقوال فيه خمسة :

القول الاول (١) : حجيتهما معا : واستدل له بوجود المقتضي وعدم المانع.

اما الأول : فلان موضوع الحجية هو الخبر الموثق الذي يحتمل اصابته شخصا ويغلب اصابته نوعا وهو موجود متحقق بقيوده في الفرض ، إذ الموضوع كل واحد مستقلا لا منضما إلى غيره.

واما الثاني : فلان العلم الإجمالي الذي توهم مانعيته يجامع مع احتمال اصابة كل واحد منهما الذي هو موضوع الحجية ، لا كل منهما منضما إلى الآخر كي ، يعلم بعدم الإصابة ، فلا يعقل ان يكون مانعا عنه ، وهذا بخلاف العلم التفصيلي كما هو واضح.

وأورد عليه بايرادين ، الأول : ما عن المحقق اليزدي (٢) والاصفهاني (٣) : بان المقتضي لأصل جعل الحجية ، هو المصلحة الواقعية ، وهي واحدة على الفرض ، واحتمال الإصابة شخصا وغلبة الإصابة نوعا بمنزلة الشرط لتاثير ذلك المقتضى الوحداني ، وتعدد الشرط لا يجدي في تعدد المقتضى بالفتح ، مع وحدة مقتضيه.

وفيه : ان الحجية لا تكون دائرة مدار وجود المصلحة الواقعية ، بل لا يعقل ذلك إذ عليه مع عدم إحراز وجودها لا تكون الحجية واصلة ومعلومة ، ومع

__________________

(١) وهو ظاهر اختيار الشيخ الأعظم راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٥٤.

(٢) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ٢٦٨ ، وفي طبعة مؤسسة النشر الاسلامي ص ٦٤٤.

(٣) نهاية الدراية ج ٣ ص ٣٣٢.

٢٧٦

الإحراز لا يكون حجة لوصول الواقع ، بل تدور مدار احتمال وجودها ، وان شئت قلت : ان المقتضى والملاك لجعل الحجية ، التحفظ على المصلحة الواقعية المتوقف على احتمال وجودها ، وحيث انه في كل خبر يحتمل ذلك فالمقتضى للجعل في كل منهما موجود.

الثاني : ما أفاده الأستاذ (١) : وهو ان لازم حجيتهما معا جعل العلمين بشيئين متنافيين أو متناقضين ، وهو محال ، إذ لازم جعل العلم بالوجوب مثلا ، العلم بعدم الحرمة ، ومع جعل العلم بها ، يلزم جعل العلم بها وعدم العلم بها وهو محال.

وفيه : ان جعل ما ليس بعلم علما جعل اعتباري فلا تمانع ولا تدافع بين العلمين المجعولين : لان الاعتبار خفيف المئونة.

نعم تقع المضادة بينهما بواسطة المنتهى أي لزوم حركة العبد على طبق ما ادت إليه الحجة وستعرف توضيحه.

فالصحيح في الإيراد عليه ان يقال ان التعبد بهما مع حجية ظهور كل منهما مستلزم لتنجيز الواقع مع العذر عنه ، فيما إذا كان أحدهما متضمنا للوجوب والآخر لعدمه ، ولتنجيز الحكمين المتنافيين ، فيما إذا تضمن أحدهما وجوب شيء والآخر حرمته ، ولازمه العقاب على كلا التقديرين ، سواء أفعل أم لم يفعل ، وهو كما ترى.

ومع إلغاء ظهورهما والحكم بالاجمال ، مستلزم للالتزام بجعل الحجية مع

__________________

(١) وهو ظاهر كلام آية الله السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٤ ص ٣٤٩.

٢٧٧

عدم ترتب اثر عليها ، وهو لغو وصدوره من الحكيم محال ومع الجمع والتاويل ، كما في مقطوعي الصدور على مسلك الشيخ الأعظم ، لاوجه له ، سوى ما اشتهر.

قاعدة الجمع مهما امكن أولى من الطرح

ان الجمع مهما امكن أولى من الطرح ـ وهو غير تام ـ مثل ما أفاده الشيخ في مقطوعي الصدور كما سيمر عليك.

وتنقيح القول في هذه القاعدة يقتضي تقديم أمرين :

الأمر الأول : ان الجمع بين الدليلين :

تارة يكون عرفيا متداولا بحيث لا يكون الخبران متعارضين بحسب المتفاهم العرفي ، كما في العام والخاص ، والحاكم والمحكوم ، وما شاكل ، والضابط كون مفاد أحدهما قرينة عند العرف على مفاد الآخر ، وهذا الجمع قد مر الكلام فيه ، وعرفت انه متين.

وأخرى يكون جمعا تبرعيا محضا بحيث لا يكون مرضيا عند العرف لا بلحاظ مفاد الخبرين ولا بلحاظ الخارج ، وكان حمل الخبرين على ما حمل عليه كل منهما بلا مرجح ، ولا مزية أصلاً ، والظاهر خروج هذا المورد عن مورد القاعدة ، ولا يظن باحد ممن نسب إليه هذه القاعدة الالتزام به ، بل صريح كلام

٢٧٨

الاحسائي (١) المدعي للاجماع عليها خلاف ذلك لاحظ ما نقل عنه الشيخ (٢) في الرسائل.

وثالثة يكون الجمع بنحو لا يأبى عنه المتفاهم العرفي بالكلية ، كما لو كان لكل من الخبرين نص وظاهر ، فيحمل ظاهر كل منهما على نص الآخر ، مثلا ، إذا ورد ، لا تجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة ، وورد يجوز الجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة : فان الأول نص في طلب الترك وظاهر في الحرمة ، والثاني نص في الجواز المطلق وظاهر في الاباحة الخاصة ، فيرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الآخر فتكون النتيجة هي الكراهة.

وكما لو كان لكل من المتعارضين قدر متيقن في الارادة من الخارج ، كما إذا دل خبر على ولاية الفقيه على اموال الايتام ، وورد أيضاً لا ولاية للفقيه عليها ، فان المتيقن من الأول الفقيه العادل ومن الثاني العالم الفاسق الخائن ، فيجمع بينهما بحمل الأول على العادل ، والثاني على الفاسق والظاهر ان من يدعي اولوية الجمع من الطرح اراد هذا القسم.

وعليه فلا مورد لاستدلال الشيخ (ره) لبطلان القاعدة من الوجوه الاربعة.

١ ـ سؤال الرواة عن حكم المتعارضين من الأخبار فيما ورد في باب العلاج ، مع ما هو المركوز في اذهانهم من وجوب العمل بالدليل الشرعي مهما امكن فلو لم يفهموا عدم الامكان لم يكن معنى لعجزهم.

__________________

(١) عوالي اللآلي ج ٤ ص ١٣٦.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٥٣.

٢٧٩

٢ ـ الاجوبة التي في الأخبار فانه لم يقع فيها الجواب إلا بالطرح ترجيحا أو تخييرا ، وحملها على ما لو لم يمكن الجمع التبرعي حمل على فرد نادر جدا بل معدوم.

٣ ـ الإجماع العملي حتى من القائلين بالقاعدة ، وهذا هو الفقه فراجع هل ترى موردا من الموارد الجمع التبرعي التزم واحد منهم بالجمع ، دون الترجيح أو التخيير.

٤ ـ لزوم الهرج والمرج في الفقه واحداث فقه جديد لاحظ كثرة المتعارضات وفتاوى الأصحاب في مواردها.

فان هذه الوجوه الاربعة تتم إذا كان مورد كلام الأصحاب القائلين بالقاعدة هو الجمع التبرعي المحض لا الجمع الذي اشرنا إليه.

الأمر الثاني : ان المتعارضين قد يكونان قطعي الصدور ، وقد يكونان ظني السند ، وثالثة يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا.

اما الاخير فقد وردت روايات دالة على ان ما خالف الكتاب والسنة لا بدَّ من طرحه وليس بحجة فالظني غير حجة.

واما الأول : فقد التزم الشيخ الأعظم (ره) (١) فيه بلزوم التأويل والحكم بارادة المعنى المؤول ، بدعوى ان القطع بالصدور قرينة على ارادة خلاف الظاهر.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٧٨ قوله : «الخامس ان الروايتين الأخيرتين ظاهرتان في وجوب الجمع بين الأقوال الصادرة عن الأئمة صلوات الله عليهم ...».

٢٨٠