زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

فقال : زرارة بلى هي حق ، فقال : الطيار أليس قد ورد انه يخرج سهم المحق؟

قال : بلى ، قال : فتعال حتى ادّعي أنا وأنت شيئا ثم تساهم عليه وتنظر هكذا هو؟

فقال : زرارة إنما جاء الحديث بأنه ليس من قوم فوضوا أمرهم إلى الله ثم اقترعوا إلا خرج سهم المحق ، فاما على التجارب فلم يوضع على التجارب.

فقال الطيار : أرأيت ان كانا جميعا مدعيين ادعيا ما ليس لهما من اين يخرج سهم أحدهما؟

فقال زرارة إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح الحديث (١).

ومورد الاستدلال به نقلهما الحديث عن المعصوم (ع) لافهمهما كي يقال انه ليس حجة.

وبالجملة المتتبع في النصوص والمتدبر فيها يراها متفقة على ان القرعة من الأمارات بالمعنى الذي ذكرناه.

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٣٨ باب البينتين يتقابلان أو يترجح بعضها على بعض وحكم القرعة ح ١٥ / الوسائل ج ٢٧ ص ٢٥٧ كتاب القضاء ، باب ١٣ من أبواب كيفية الحكم .. ح ٣٣٧١٣.

٢٤١

القرعة ليست وظيفة شخص خاص

الأمر الثاني : في بيان ان القرعة هل يجوز لكل احد اعمالها؟ ، أم هي وظيفة شخص خاص؟

المشهور بين الأصحاب هو الأول ، بل في عوائد النراقي (قدِّس سره) (١) دعوى الإجماع عليه ، وهو مقتضى بناء العقلاء.

واما العمومات فظاهرها ورودها في مقام بيان موردها ولا إطلاق لها من جهات اخر لاحظ قوله (ع) في خبر محمد بن حكيم كل مجهول ففيه القرعة ، فلا يستفاد منها شيء منهما

إلا ان مقتضى جملة من النصوص عدم اعتبار مقرع خاص ، ففي مرسل الصدوق المتقدم" ما يقارع قوم فوضوا امرهم إلى الله إلا ما خرج سهم المحق".

وقريب منه ، ما في صحيح الجميل المتضمن لمباحثة الطيار وزرارة ، وما في خبر عباس بن الهلال عن الإمام الرضا (ع) فان ظاهرها العموم لكل قوم.

وفي صحيح الفضيل عن أبي عبد الله (ع) عن مولود ليس له ما للرجال

__________________

(١) عوائد الايام ص ٢٢٨ ، المبحث الثاني : في بيان أن القرعة هل تجوز لكل أحد أو هو وظيفة شخص خاص ... ثم اعتبر ان القول بأنها خاصة مخالفة للاجماع ولا أقل فإنها مخالفة للشهرة العظيمة القديمة والجديدة.

٢٤٢

ولا ما للنساء قال (ع) يقرع الإمام ، أو المقرع الحديث (١).

فان عطف المقرع على الإمام ظاهر أو صريح في ذلك ، وفي خبر أبي بصير المتقدم المتضمن لقصة الشاب الذي خرج أبوه مع قوم ثم جاءوا يشهدون بموته اجعلوا بهذه السهام فايكم اخرج خاتمي فهو صادق ، حيث امر القوم بإجالة السهام والاخراج.

ويؤيده قول الطيار في صحيح جميل المتقدم ـ ثم تساهم عليه ـ وجواب زرارة بما أجاب ولم يقل بان المساهمة وظيفة الإمام.

وبازاء ما ذكر روايتان :

احداهما : مرسلة حماد المتقدمة عن أحدهما (ع) القرعة لا تكون إلا للإمام.

ثانيتهما : رواية يونس في رجل كان له عدة مماليك فقال ايكم علمني آية في كتاب الله فهو حر فعلمه واحد منهم ثم مات المولى ولم يدر أيهم الذي علمه الآية هل يستخرج بالقرعة قال (ع) نعم ولا يجوز ان يستخرجه احد إلا الإمام فان له كلاما وقت القرعة ودعاء لا يعلمه سواه ولا يقتدر عليه غيره (٢).

ولكن يرد عليهما ـ مضافا ، إلى ان الأول مرسل ، والثاني : غير مستند إلى

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٣٥٦ باب ميراث الخنثى ومن يشكل أمره ح ٧ / الوسائل ج ٢٦ ص ٢٩١ ـ كتاب الميراث ـ الباب ٤ من أبواب ميراث الخنثى ... ح ٣٣٠٢٣.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٩٧ باب النوادر ح ١٤ / الوسائل ج ٢٣ ص ٦٠ باب ٣٤ من كتاب العتق ح ٢٩١٠٦.

٢٤٣

المعصوم ولعله من قول يونس ، ومضافا إلى إعراض الأصحاب عنهما ـ انهما لمعارضتهما مع النصوص المتقدمة لا بدَّ من طرحهما لان جملة من المرجحات فيها كما لا يخفى.

وقد جمع المحدث الكاشاني (ره) (١) بين الطائفتين ، بحمل ما دل على الاختصاص بالإمام ، على ما إذا كان الأمر فيما يقرع عليه متعينا في الواقع كما في قضية تعليم الآية ، وحمل ما دل على العموم على ما إذا لم يكن متعينا واريد التعيين بالقرعة.

وفيه : انه جمع تبرعي لا شاهد له ، اضف إليه ان الوقائع في كثير من العمومات ، بل ما صرح فيه بمباشرة غير الإمام ، من القسم الأول راجع الأخبار.

وللمحقق النراقي (٢) في المقام كلام ، وحاصله : انه من المحتمل ان يكون المراد من روايات الاختصاص ان اختيار القرعة بيد الإمام ، فتصدى اعمالها من إذن له عاما أو خاصا ، وان للقرعة نوع اختصاص به كمنصب القضاء ، وبه تخرج الروايتان عن الشذوذ ، لان اكثر الفقهاء قائلون باختصاص القرعة بالإمام أو نائبه الخاص أو العام ، ولا ينافيهما أيضاً النصوص الأخر لظهور اختصاص الوالي والمقرع بمن عينه الإمام ، لتولية الأمر ونصبه للقرعة وكذا ما امر فيه الإمام بالقرعة واجالة السهام.

__________________

(١) حكاه عنه في الوافي المحقق النراقي في عوائد الايام ص ٢٢٩.

(٢) عوائد الايام ص ٢٢٨ (حجرية).

٢٤٤

ثم قال (قدِّس سره) (١) انه لو قطع النظر عن ذلك وحملنا الروايتين على ارادة مباشرة امام الأصل بنفسه فيكونان أعمّين مما ذكر مطلقا ، لان مقتضاهما عدم كون القرعة ، وعدم جوازها لأحد إلا الإمام ، ومقتضى ما ذكر جوازها لمن ولاه مطلقا أو على القرعة ، أو أذن له بخصوصه أيضاً فيجب تخصيصهما بذلك ، ولا ينافيه قوله في رواية يونس ان له كلاما ودعاء لا يعلمه غيره ولا يقتدر عليه غيره ليختص به أو بمن علمه ، ولذا ذكر الدعاء للمقرع أيضاً في روايته وذكر الدعاء في روايات اخر أيضاً ، ثم بعد تخصيص الروايتين بالإمام أو المأذون منه وخروجهما عن حيز الشذوذ يجب تخصيص العمومات أو المطلقات بذلك أيضاً.

ولذلك كله يبنى على ان القرعة إنما هي وظيفة الإمام أو نائبه الخاص أو العام إلا ما خرج بالدليل.

وفيه : ان الاحتمال المذكور خلاف ظاهر الروايتين بل صريحهما لاحظ قوله في خبر يونس ، ولا يجوز ان يستخرجه احد إلا الإمام ، سيما مع قوله في ذيله ، ولا يقتدر عليه ، أي على الدعاء لا على انشائه ، غيره.

واما ما أفاده ثانيا (٢) من انه على فرض تسليم ظهور الروايتين في ارادة مباشرة إمام الأصل يكونان أعمّين من ما ذكر مطلقا.

فيرد عليه انهما على ذلك التقدير يدلان على الاختصاص به (ع) فهما

__________________

(١) عوائد الايام ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٢) المصدر السابق.

٢٤٥

يعارضان مع ما دل على عدم الاختصاص ، والتوجيه بما أفاده لتدخل في العام والخاص ليس جمعا عرفيا ، مع انه قد عرفت ان جملة من النصوص ظاهرة في جواز تصدى اعمالها لكل احد لا خصوص المأذون من قبله فالأظهر عدم الاختصاص به (ع) ، ولا به وبنوا به.

حول لزوم القرعة وجوازها

الأمر الثالث : قد عرفت من مطاوي ما ذكرناه ان للقرعة موردين :

١ ـ ماله واقع معين.

٢ ـ ما ليس له ذلك ، فهل اعمالها في الموردين لازمة ، ويتعين بناء الأمر عليها ، أم يجوز العدول عنها إلى غيرها وتكون جائزة ، أم فرق بين الموردين ، أم هناك تفصيل آخر وجوه :

وملخص القول فيه انه في المورد الأول : قد يكون التعيين واجبا ، كما إذا وجب رفع التنازع أو دفع الضرر أو ما شابه ولم يكن طريق آخر إليه وجب الاقراع لتوقف الواجب عليه ، وإلا فلا يجب لعدم الدليل عليه والأصل عدمه.

وفي المورد الثاني : قد يجب التعيين كما في ما لو اعتق عبيده في مرض موته ولا مال سواهم ، وبنينا على ان منجزات المريض من الثلث ، فانه ينعتق حينئذ مع عدم إذن الورثة ثلثهم فلا بدَّ من تعيين الثلث بالقرعة ولا طريق غيرها ، فان ترجيح عبد على غيره بلا مرجح ، وإيكاله إلى اختيار الوصي مثلا بلا وجه.

وان لم يجب التعيين ، كتقدم احد المتعلمين في العلم ، أو تقديم إحدى

٢٤٦

المتمتعتين في الليلة فلا تجب القرعة أيضاً.

ثم انه بعد اعمالها ، هل هي لازمة لا يجوز التخلف عنها أو جائزة.

لا اشكال في ان ما كان من القسم الأول تكون لازمة لا يجوز التخلف عن مقتضاها ، لما في النصوص المتقدمة من ان الحق يستخرج بالقرعة ، وأنها سهم الله ، وسهم الله لا يخطئ ، وما شاكل من التعبيرات ، فانه لا يجوز التخطي عما هو الحق.

واما ما كان من القسم الثاني ، فقد يتوهم عدم لزومه نظرا إلى استصحاب عدم التعيين.

ولكن بعد تعيين الحق فيما عينه القرعة مقتضى استصحاب بقاء حق المحكوم له لزومه أيضاً ولا يخفى وجهه.

بيان النسبة بين القرعة والاستصحاب

الأمر الرابع : في بيان النسبة بين القرعة والاستصحاب.

ونخبة القول فيه ، انه ان قلنا بعموم دليل القرعة لكل مجهول ، تكون النسبة بينهما عموما مطلقا ، فانه عام لكل مجهول ودليل الاستصحاب مختص بما كان له حالة سابقة فيخصص دليلها بدليله.

فان قيل انها على فرض اماريتها تكون حاكمة على الاستصحاب.

اجبنا عنه بان اماريتها غير أمارية سائر الأمارات فانه في سائر الموارد تكون الأمارة ثابتة مع عدم فعل من احد ، وفي القرعة ما لم يقرع لا تكون الأمارة

٢٤٧

متحققة ، وعليه فإذا قدم دليل الاستصحاب وتكون للاخصية لا يبقى لاعمالها مورد ، ومعه لا تجرى حتى تعارض الاستصحاب وتكون حاكمة عليه.

وعلى القول الآخر الذي اخترناه على فرض سقوط العام عن حجيته في العموم ، فلا تماس بينهما ، كي يتعارضان ، لان مورد القرعة هو ما لم تكن الوظيفة معلومة ولم يكن طريق إلى حل العقدة ، كان في باب القضاء أو غيره ، وعليه فمع جريان الاستصحاب لا مورد لها ، فيكون تقدمه على القرعة بالتخصص كما أفاده الشيخ الأعظم.

ولكن المحقق الخراساني (١) أفاد في وجه تقديم الاستصحاب ما يظهر منه اختياره ورود الاستصحاب عليها ، من جهة ان موضوع القرعة هو المجهول بقول مطلق لا في الجملة ، ومع جريان الاستصحاب يكون المورد بعنوان كونه على يقين منه سابقا معلوم الحكم.

وفيه : ان موضوع الاستصحاب أيضاً الشك بقول مطلق ، ومع اعمال القرعة يصير معلوم الحكم بذلك العنوان ، فكل منهما يصلح لان يكون رافعا لموضوع الآخر وهذا هو معنى التعارض.

وقد يقال كما عن المحقق النائيني (ره) (٢) انه لا مورد لنا يجري فيه الاستصحاب ، والقرعة حتى يلاحظ النسبة بينهما ، لان القرعة مختصة بموارد

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٣٣.

(٢) فوائد الأصول ج ٤ ص ٦٨٠ قوله : «وعلى كل حال : قد عرفت أن المورد الذي يجري فيه الاستصحاب لا تجري فيه القرعة وبالعكس ..».

٢٤٨

اشتباه موضوع التكليف ، وتردده بين أمور متباينة ، وفي تلك الموارد لا يجري الاستصحاب : للعلم الإجمالي ، ولا مورد لها في الشبهات البدوية التي هي مجرى الاستصحاب ، لأنه ليس فيها إلا احتمالان في موضوع واحد.

وفيه : مع الإغماض عما أفاده في مفاد أدلة القرعة ، انه لا يختص أدلة الاستصحاب بموارد الشبهات البدوية ، بل إنما يجري في المقرونة بالعلم الإجمالي ما لم يسقط بالتعارض ـ مثلا ـ في الحادثين المعلوم تاريخ أحدهما المجهول تاريخ الآخر كما في عقد الوكيلين المرأة ، لرجلين ، وجهل تاريخ أحدهما : فانه على مبناه يجري الاستصحاب في خصوص مجهول التاريخ فيقع التعارض بينه وبين القرعة وكم له نظير في الفقه.

بل موارد العلم الإجمالي بين الشخصين في باب الحقوق والأموال كلها يجري فيها الاستصحاب ، ولا يسقط بالتعارض بالاستصحاب في الآخر ، فيقع التعارض بينه وبين القرعة.

فالصحيح ما ذكرناه.

هذا تمام الكلام في المهم من مباحث القرعة.

والحمد لله أولا وآخرا.

* * *

٢٤٩

خاتمة

مقاصد علم الأصول

في

التعادل والترجيه

وفيه موارد :

٢٥٠

خاتمة في التعادل والترجيح

والأوْلى كما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) تبديل العنوان ، بالتعارض ، فان التعادل والترجيح من الاوصاف والحالات اللاحقة للدليلين المتعارضين ، فجعل العنوان المقسم انسب.

وكيف كان فلا اشكال في ان مسألة التعادل والترجيح من اهم المسائل الأصولية ، وليست من المسائل الفقهية ، ولا من المبادئ ، لوقوعها في طريق استنباط الأحكام الشرعية ، بل عليها يدور رحى الاستنباط ، فلا وجه لتطويل الكلام في ذلك.

بل الأولى صرف عنان الكلام إلى ما هو اهم من ذلك في مباحث :

المبحث الأول : في تعريف التعارض ، وبيان الفرق بينه وبين التزاحم ، وبيان ما يعتبر في التعارض ، وفي تعارض العامين من وجه ، فالكلام في موارد :

تعريف التعارض

المورد الأول : المشهور بين الأصحاب في تعريف التعارض ، انه عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض ، أو التضاد.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٦٩٩ (خاتمة في التعادل والترجيح).

٢٥١

وبذلك عرفه الشيخ الأعظم (١) ، والمحققون المتأخرون عنه منهم المحقق النائيني (٢).

وخالفهم المحقق الخراساني قال في الكفاية (٣) التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا انتهى.

وملخص القول في المقام ، انه لا اشكال ولا كلام في ان الدالين بما هما دالان لا تنافي بينهما ، وإنما التنافي بينهما عرضى باعتبار التنافي بين المدلولين.

واما المدلولان ، فالتنافي بينهما أيضاً ، ليس ذاتيا ، فان المدلول المنشأ أي الحكم امر اعتباري ، والاعتبار خفيف المئونة ، لا تنافي بين فردين منه.

بل التنافي بينهما إنما يكون من ناحية مبدأهما من المصلحة والمفسدة ـ والارادة والكراهة ـ أو منتهاهما من اقتضائهما ، الفعل أو الترك كما مر تحقيق ذلك في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، ولكن تنافي المبدأين أو المنتهيين واسطة لثبوت التنافي بين الحكمين المدلولين بالنسبة إلى المولى الحكيم ، وهو واسطة في عروض التنافي على الدالين ، وعلى ذلك فدعوى ان التنافي بين المدلولين حقيقي ، دون التنافي بين الدالين ، في محلها.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٥٠ (خاتمة في التعادل والترجيح) وفي بعض النسخ والتراجيح.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٧٠٠ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٥٠١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٧٣.

(٣) كفاية الأصول ص ٤٣٧.

٢٥٢

ثم ان التعارض ان كان بمعنى التنافي ، تعين تعريفه بما عن المشهور ، ولكن الظاهر انه اخص منه فانه من باب العرض بمعنى الاظهار ، ومنه عرض المتاع للبيع ، فيكون التعارض بمعنى اظهار كل من المتعارضين نفسه في مقابل الآخر ، ولذا لو قام خبر عدل على وجوب شيء ، وخبر فاسق على عدم وجوبه ، لا يكون من باب التعارض فان خبر الفاسق غير الحجة لا يظهر نفسه ، في مقابل خبر العادل ، وعليه : فالتعارض هو تنافي الدليلين في مقام الدلالة فالحق مع المحقق الخراساني.

المورد الثاني : التعارض بين الدليلين قد يكون لعدم إمكان اجتماع مدلوليهما ، كما إذا دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه ، وقد يكون لأجل العلم الخارجي بعدم ثبوت مدلوليها ، كما لو دل خبر على وجوب صلاة الجمعة والآخر على وجوب الظهر ، فانه لا تنافي بين المدلولين إلا بواسطة العلم بعدم وجوبهما معا في يوم الجمعة وبواسطة هذا العلم يقع التعارض بين الدليلين وكل منهما بمدلوله الالتزامي ينفي الآخر ، ويظهر نفسه في مقابل الآخر.

المورد الثالث : قد ذكر المحقق النائيني (ره) (١) شرطين آخرين لصدق عنوان التعارض.

أحدهما : كون كل من الدليلين حجة في نفسه فلو كان أحدهما حجة دون الآخر واشتبه الحجة باللاحجة لم يكن ذلك من باب التعارض.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٧٠٢ ـ ٧٠٣ بتصرف.

٢٥٣

وهذا متين فان التعارض كما مر اظهار كل منهما نفسه في مقابل الآخر ، فإذا كان في الواقع أحدهما حجة دون الآخر لم يكن إلا شيئا واحدا ، لا اثنان كي يظهر كل منهما نفسه وهذا واضح.

ثانيهما : ان يمتنع اجتماع مدلوليهما ثبوتا في عالم التشريع والجعل ، سواء أكان التكاذب بينهما ابتداء كما إذا تنافى مدلوليهما ذاتا ، أو كان التكاذب لامر خارج ، كما في الخبرين الدال أحدهما على وجوب الجمعة ، والآخر على وجوب الظهر ، فانه من جهة العلم بعدم وجوب احداهما يقع التكاذب بينهما ، فكل منهما بمدلوله الالتزامي ينفى ما يثبته الآخر ، واما لو علم بعدم تشريع مؤدى احد الدليلين ، مع إمكان جعلهما ثبوتا ولم يكن أحدهما مربوطا بالآخر ، كما إذا كان مؤدى أحدهما وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، ومؤدى الآخر وجوب دية الحر في قتل العبد المدبر ، وعلم بعدم ثبوت أحدهما ، فهو ليس من باب التعارض لعدم امتناع اجتماع مدلوليهما ثبوتا في عالم الجعل والتشريع ، بل هو من باب اشتباه الحجة باللاحجة.

وفيه : ان محل البحث ما لو كان كل منهما واجدا لشرائط الحجية في نفسه ، والعلم بمخالفة مضمون أحدهما للواقع بعد فرض احتمال اصابة كل منهما في نفسه لا يوجب عدم حجية أحدهما : فلا محالة يقع التعارض بينهما ، بمعنى ان كلا منهما بضميمة العلم المزبور ينفى بدلالته الالتزامية ما يثبته الآخر.

وبالجملة لم يظهر لي الفرق بين هذا المورد والمورد الذي يكونان مربوطين والتنافي بينهما كان لامر خارج ، كما في مثال الجمعة والظهر : فانه في ذلك المورد

٢٥٤

ان كان مفاد كل من الدليلين ان الصلاة الواحدة الواجبة في يوم الجمعة ، ما تضمنه من الظهر أو الجمعة كان التنافي بينهما ذاتيا ، واما ان كان مفاد كل منهما وجوب ما تضمنه بلا نظر له إلى الآخر كان ذلك مثل هذا المورد بلا تفاوت بينهما.

الفرق بين التعارض والتزاحم

المورد الرابع : في الفرق بين التعارض والتزاحم ، فقد اختار المحقق الخراساني (١) ان التزاحم إنما يكون فيما إذا ثبت الملاكان للحكمين المتنافيين ، ولو في مورد واحد ومحل فارد كالصلاة في الدار المغصوبة بناءً على انطباق العنوانين على مورد واحد.

واما التعارض فهو إنما يكون فيما أحرز ان المناط في أحدهما دون الآخر ، وطريق إحراز ذلك موكول إلى محله.

وفيه : ان ثبوت الملاكين في محل واحد غير معقول ، إذ لا محالة يقع الكسر والانكسار بينهما ، فاما ان يغلب أحدهما فهو الملاك دون المغلوب ، وإلا فلا يصلح شيء منهما لأن يكون منشأ الحكم وملاكه.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٤٠ ، وكان قد أشار إلى ذلك ايضا في بحث (اجتماع الامر والنهي) ص ١٥٥ وايضا ص ١٧٤ (الامر الثاني).

٢٥٥

والمحقق النائيني (ره) (١) افاد في مقام الفرق بينهما ـ بما حاصله ـ ان التعارض إنما يكون في مرحلة الجعل والتشريع بحيث يمتنع تشريع الحكمين ثبوتا ، واما التزاحم فعدم إمكان اجتماع الحكمين في مورده ، ليس في مقام الجعل والتشريع ، بل في ذلك المقام بينهما كمال الملاءمة ، وإنما يكون المزاحمة في مقام الفعلية بعد تحقق الموضوع خارجا من جهة عدم القدرة على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، فيقع التزاحم بينهما لتحقق القدرة على امتثال أحدهما ، فيصلح كل منهما لان يكون تعجيزا مولويا عن الآخر ، ورافعا لموضوعه.

وفيه : انه كما يكون عدم ثبوت الملاكين موجبا لامتناع جعل الحكمين للمولى الحكيم فيقع التنافي بين الحكمين في مقام الجعل ، كذلك يكون عدم القدرة على امتثال الحكمين موجبا لعدم إمكان جعلهما معا بناءً على شرطية القدرة للتكليف ، لاقتضاء جعلهما المحال ، وما يقتضي المحال محال فالتنافي بين المتزاحمين أيضاً يكون في مقام الجعل والتشريع لا في مقام الفعلية.

وبعبارة أخرى : ان كانت القدرة شرطا للتكليف فالتنافي بينهما يكون في مقام الجعل ، وإلا ، فلا تنافي بينهما حتى في مقام الفعلية ، لان عدم فعلية الحكم مع تحقق موضوعه خارجا يشبه بعدم وجود المعلول ، مع وجود علته.

فالصحيح ان يقال ان التزاحم وان كان يشترك مع التعارض ، في عدم إمكان جعل الحكمين ، وان التمانع بينهما يكون في الجعل والتشريع ، إلا ان عدم الامكان في باب التعارض إنما يكون من جهة المبدأ وعدم إمكان اجتماع

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٧٠٣ ـ ٧٠٤ بتصرف

٢٥٦

المصلحة والمفسدة الغالبتين ، أو عدم ثبوتهما ، وفي باب التزاحم يكون من جهة المنتهى وعدم إمكان امتثالهما.

ثم ان تفصيل القول في بيان حقيقة التزاحم وما يرجع إليه من المباحث ومرجحات بابه وما شاكل موكول إلى محله في مبحث الضد وقد استوفينا البحث في ذلك ، وإنما المقصود هنا الإشارة الاجمالية إلى حقيقته ، وما به يمتاز عن التعارض الذي هو محل البحث.

ضابط الحكومة ، ووجه تقديم الحاكم

المورد الخامس : يعتبر في التعارض ان لا يكون احد الدليلين حاكما على الآخر ، ولا يكون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، واضاف المحقق الخراساني اليهما ، ان لا يكون بينهما التوفيق العرفي (١).

فالكلام في جهات :

١ ـ ما إذا كان بين الدليلين حكومة بان كان أحدهما حاكما على الآخر.

٢ ـ ما إذا كان بينهما التوفيق العرفي ذكره المحقق الخراساني (ره).

٣ ـ ما إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر فإنه يقدم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة ولا يلاحظ النسبة بينهما.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٣٨ ـ ٤٣٩ بتصرف.

٢٥٧

اما الجهة الأولى : ففي الكفاية (١) بعد تعريف التعارض بأنه تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب مقام الإثبات والدلالة.

وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلوليهما إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة انتهى.

ويرد على ما أفاده انه ـ بناءً على المختار في تعريف التعارض من انه عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين أيضاً ـ لا تعارض بين الحاكم والمحكوم : إذ المحكي والواقع غير مدلول الدليل بهذا العنوان ، فالتنافي بين المحكيين والواقعيين وان كان ثابتا في الحاكم والمحكوم ، إلا انه بين المدلولين العنوانيين لا تنافي مثلا إذا لوحظ قوله" لا شك لكثير الشك" ، مع أدلة الشكوك : فتارة يلاحظ اللب والواقع. وأخرى يلاحظ المدلول العنوانى بما هو كذلك.

فعلى الأول يكون التنافي ثابتا إذ ليس مفاد الأول بحسب الواقع إلا رفع الحكم الثابت بعموم أدلة الشكوك. وعلى الثاني بما ان لسانه نفي الموضوع فلا تنافي بينه وبين ما تضمن إثبات حكم على تقدير وجود الموضوع ، فعلى التعريفين لا تعارض بين الحاكم والمحكوم.

واما ضابط الحكومة فحيث انها ليست مدلول دليل لفظي ، فلا وجه للنزاع في مفهومها سعة وضيقا ، بحسب المتفاهم العرفي ، بل لا بدَّ من الرجوع إلى دليل تقديم الحاكم وملاحظة مقدار ما يقتضيه ذلك الدليل ، سعة وضيقا وانتزاع جامع لتلكم الموارد ، وجعله ضابطا لها.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٣٧ كما مر.

٢٥٨

وعلى ذلك ، فتنقيح القول في المقام إنما هو بالبحث أولا في بيان الضابط المذكور ثم في وجه التقديم.

اما الأول : فضابطها ، ان يكون احد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر ، أو صالحا لذلك.

اما بالتصرف في موضوعه سعة كقوله (ع) " الفقاع خمرة" (١) بالنسبة إلى دليل حرمة الخمر (٢) ، أو ضيقا ، كقوله (ع) " لا شك لكثير الشك" (٣) ، بالنسبة

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٤٢٣ باب الفقاع ح ٩ وفيه قوله (ع): «خُميرة استصغرها الناس» / التهذيب ج ٩ ص ١٥٢ ح ٢٧٥ / الوسائل ج ٢٥ ص ٣٦٥ ح ٣٢١٣٦.

(٢) كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الآية ٩٠ من سورة المائدة.* وهنا نجد أن الدليل الأول تعرض لموضع الخمر المعهود عند العرف ووسعه باعتباره أن الفقاع خمر وببركة هذا الدليل اصبح موضوع حرمة الخمر عند الشارع المقدس : الخمر المعروف والفقاع ، ولولاه لكانت الحرمة مختصة بالخمر المعهود عند العرف.

(٣) قد مرّ في حاشية سابقة أن هذا اللفظ لا يوجد له عين في لسان الروايات ، والظاهر أنه مصطلح فقهي كثر استعماله مأخوذ من ظاهر الروايات كرواية الكافي ج ٣ ص ٣٥٩ باب من شك في صلاته كلها .. ح ٨ حيث قال (ع): «إذا كثر عليك السهو فامضِ في صلاتك فإنه يوشك أن يدعك ، إنما هو من الشيطان» / والفقيه ج ١ ص ٣٣٩ باب أحكام السهو في الصلاة ح ٩٨٨ / وقريب منه ما في التهذيب ج ٢ ص ٣٤٣ ح ١١ باب أحكام السهو .. / وراجع الوسائل ج ٨ ص ٢٨٧ و ٢٨٩ باب عدم وجوب الاحتياط على من كثر سهوه .. ح ١٠٤٩٥ و ١٠٤٩٧ و ١٠٥٠٠.

٢٥٩

إلى أدلة الشكوك (١).

أو بالتصرف في متعلقة نفيا ، كقول ، الضيافة ليست من الاكرام ، بالنسبة إلى ما دل على مطلوبية اكرام العالم ، أو اثباتا مثل الطواف في البيت صلاة بالنسبة إلى أدلة وجوب الصلاة وما يعتبر فيها.

أو بالتصرف في محموله ، بان يلونه بلون ، ويدل على عدم ثبوت ذلك الحكم في بعض الحالات والموارد كدليل نفى الضرر فانه ناظر إلى أدلة الأحكام ويدل على انها مختصة بغير موارد الضرر.

واما الثاني : أي وجه التقديم ففيما إذا كان دليل الحاكم ناظرا إلى دليل المحكوم أو صالحا له بالتصرف في موضوعه أو متعلقه فواضح : إذ كل من الدليلين حينئذ متكفل لبيان شيء غير ما يكون الآخر متكفلا له ، فان دليل المحكوم لا يكون ناظرا إلى موضوعه ولا إلى متعلقه بل يثبت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، ودليل الحاكم ينفي الموضوع ، أو المتعلق ، أو يثبته.

واما إذا كان ناظرا إلى المحمول فوجهه ان التمسك باصالة الظهور من

__________________

(١) الأصل بحسب الأدلة أن لك شكٍ حكم يجب الاعتناء به والتعويل عليه ، فالشك في الركعتين الاولتين من كل صلاة مثلا الاعادة ، وكذلك الحكم في الشك في في المغرب ، وفي صلاة الجمعة ، واما حكم الشك في الثانية والثالثة ، أو في الثالثة والرابعة هو الاخذ بالاكثر وهكذا ... وهذه الاحكام في الأصل شاملة لكل شاك ولكل الموارد إلا أنه ببركة دليل لا شك لكثير الشك هو تضيق دائرة أحكام الشك بغير هذا المورد ، فلا يعتني من كثر شكه بتلك الاحكام لخروجه عن موردها ...

٢٦٠