زبدة الأصول - ج ٦

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-40-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٤٤١

حكم الشك في الاخلال العمدي

الأمر الثاني عشر : إذا شك في صحة العمل السابق وفساده من جهة احتمال الاخلال العمدي ، فهل تجرى فيه قاعدة الفراغ ، أم لا؟

وجهان بل قولان :

مقتضى إطلاق الأدلة جريانها فيه ، إلا ان التعليل بالاذكرية يوجب اختصاص الأدلة بصورة احتمال الترك عن غفلة.

ودعوى ان في قوله (ع) " هو حين يتوضأ أذكر" ، كبرى كلية مطوية وهي ان الأذكر لا يترك ويكون القياس بصغراه وكبراه تعبدا بعدم الترك العمدي والسهوي جميعا.

مندفعة : بأنه يمكن ان يكون عدم الترك العمدي مفروغا عنه فاراد (ع) بذلك سد احتمال الترك السهوي.

والغريب ان المحقق النائيني (ره) (١) مع التزامه بكون الاذكرية المذكورة علة للحكم من قبيل حكمة التشريع لا العلة ، التزم بعدم جريان القاعدة في مورد احتمال الترك العمدي مستندا إلى التعليل في بعض النصوص بالاذكرية.

فان قلت ان المستفاد من مجموع الأدلة بعد ضم بعضها إلى بعض هو التعبد بما يقتضيه طبع كل احد قصد إتيان فعل مركب وكان في مقام الامتثال ،

__________________

(١) كما في أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٨١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٣٩.

١٢١

وهو كما يقتضي عدم الترك السهوي ، كذلك يقتضي عدم الترك العمدي فتجرى القاعدة عند احتمال الترك العمدي كما تجرى عند احتمال الترك السهوي.

قلت ان هذا ، ان كان استدلالا بالنصوص : فيرد عليه ما تقدم آنفا.

وان كان استدلالا ببناء العقلاء.

فيرد عليه : انه لم يثبت بنائهم على ذلك فتأمل.

وان كان استدلالا بظهور حال المسلم.

فيرد عليه انه لا دليل على حجيته في المقام.

فالأظهر عدم جريان القاعدة في المقام ، إلا انه بناءً على ما ستعرف في المقام الثاني من جريان أصالة الصحة في عمل الشخص نفسه تجري تلك في المقام ويحكم بالصحة.

هذا تمام الكلام فيما يرجع إلى قاعدة الفراغ والتجاوز.

* * *

١٢٢

أصالة الصحة

من تلكم القواعد أصالة الصحة.

وتنقيح القول فيها إنما يكون ببيان أمور :

الأمر الأول : في بيان مدركها ، وقد استدل لها بالأدلة الأربعة.

فمن الكتاب بجملة من الآيات :

منها : قوله تعالى (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)(١) بناءً على تفسيره بما عن الكافي من قوله (ع): " لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو" (٢).

وتقريب الاستدلال به ان المراد من القول الظن والاعتقاد ، وحيث ان الاعتقاد من الأمور غير الاختيارية فلا محالة يكون متعلق التكليف ترتيب الآثار ، فيكون مفاده حينئذ انه يجب ان يعامل مع الناس في أفعالهم معاملة الأفعال الصحيحة.

ودعوى ان الاعتقاد قد يحصل بمقدمات اختيارية.

مندفعة بأنه حيث يكون غالبا بغير الاختيار فلا يصح جعله متعلقا للتكليف بنحو الإطلاق.

__________________

(١) الآية ٨٣ من سورة البقرة.

(٢) الكافي ج ٢ ص ١٦٤ باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم ح ٩ / الوسائل باب ٢١ من أبواب فعل المعروف من كتاب الأمر بالمعروف ح ٢١٧١٠.

١٢٣

وفيه : أولا انه حيث يكون صدر الآية الشريفة إخبارا عما جعل على بني إسرائيل فيحتمل ان يكون المراد قلنا لهم قولوا الخ وقد قيل في معناه ذلك فتدبر.

وثانيا : ان حسن الظن والاعتقاد إنما يكون من آثار صفاء النفس وتزكيتها ، فيمكن ان يكون المراد الأمر بالسبب وهو اختياري.

وثالثا : انه لو سلم انه عدول من الأخبار إلى الخطاب ، وسلم عدم صحة تعلق التكليف بالظن والاعتقاد وبسببهما ، لا يصح الاستدلال به أيضاً ، إذ فسرت الآية الشريفة بتفسير آخر ، فعن جابر عن سيدنا أبي جعفر (ع) في قوله تعالى (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) قال : قولوا للناس احسن ما تحبون ان يقال لكم (١).

ورابعا : انه لو سلم هذا التفسير فغاية ما يدل عليه مطلوبية مواجهة الناس بقول حسن لين جميل وخلق كريم ولا ربط له بترتيب آثار الصحة ، ويؤيد ذلك ما عن المجمع (٢) عن الإمام الصادق (ع) ان الآية وان كانت عامة

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ١٦٥ باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم ح ١٠ وفيه بدل «لكم» «فيكم» / الوسائل باب ٢١ من أبواب فعل المعروف من كتاب الأمر بالمعروف ح ٢١٧١١.

(٢) مجمع البيان في تفسير الآية ٨٣ من سورة البقرة ج ١ ص ١٤٩ الا أنه بعد ذكر الرواية قال : «الاكثرون انها ليست بمنسوخة لأنه يمكن قتالهم مع حسن القول في دعاتهم إلى الايمان».

١٢٤

للمؤمن والكافر إلا انها منسوخة بآية السيف وبقوله قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية.

ومنها : قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(١).

وتقريب الاستدلال به ان ما امر بالاجتناب عنه إنما هو ظن السوء لا مطلق الظن إذ ظن الخير ليس إثما قطعا وعليه فحيث مر عدم قابلية نفس الظن للخطاب فلا مناص عن ارادة الاجتناب عن ترتيب آثار السوء ، وحيث انه لا واسطة بين السوء والحسن والصحة والفساد ، فيكون المراد لزوم ترتيب آثار الحسن والصحة.

وفيه ، أولا : ما تقدم من قابلية الظن لتعلق الخطاب به باعتبار سببه ومنشئه.

وثانيا ان سوء الظن الذي امرنا بالاجتناب عنه لعله أريد به عقد القلب وحكمه عليه بالسوء من غير يقين الذي هو فعل من أفعال النفس.

وثالثا : ان نفي الواسطة بين الحسن والسوء ، والصحة والفساد ، لا يلازم نفي الواسطة بين حرمة ترتيب آثار السوء ، ووجوب ترتيب آثار الحسن.

ومنها : قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)(٢).

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة الحجرات.

(٢) الآية ١ من سورة المائدة.

١٢٥

وتقريب الاستدلال به وجهان :

الأول ان المستفاد منه اقتضاء كل عقد للصحة وترتيب الأثر ، وقد جعل الشارع الأقدس بعض الأمور كعدم إذن المرتهن مانعا عنه ولا يشترط العلم بانتفائه لتأثير المقتضى فمع الشك يجب ترتيب آثار الصحة.

الثاني : ان مقتضى عمومه إمضاء كل عقد وصحته وقد خصص هذا العموم وقيد بقيود وشرائط فإذا شك في مصداق الخاص يتمسك بالعموم.

وفيهما : نظر ، اما الأول : فلعدم حجية قاعدة المقتضي والمانع.

واما الثاني : فلان الأظهر عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية كما حقق في محله مع ان هذا الوجه أخص من المدعى لاختصاصه بالعقود.

واما السنة فقد استدل لها بجملة من النصوص :

منها ما في الكافي وهو خبر الحسين بن المختار عن الإمام الصادق (ع) عن الإمام على (ع) ضع امر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يعنيك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا (١).

وفيه : أولا انه ضعيف السند لكونه مرسلا.

وثانيا : ان الحسن والقبح غير الصحة والفساد : إذ ربما يكون العقد الصادر المردد بين الصحيح والفاسد صادرا لا على وجه قبيح ، بل هو كذلك غالبا ،

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٦٢ باب التهمة وسوء الظن ح ٣ / الوسائل ج ١٢ ص ٣٠٢ باب ١٦١ من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج ح ١٦٣٦١.

١٢٦

وعليه فالخبر أجنبي عما هو محل الكلام.

وثالثا : انه لو سلم تلازم الحسن لترتيب الأثر ، إلا ان الظاهر بقرينة قوله : " ولا تظنن الخ" ولا اقل من المحتمل ان المراد البناء على الحسن بمعنى عقد القلب عليه ، وحكمه عليه بذلك لا بالسوء ، ولا ربط له بترتيب الأثر خارجا.

ومنها : خبر محمد بن الفضل عن الإمام الصادق (ع) يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال وقال لم اقله فصدقه وكذبهم (١).

وفيه : ان الظاهر ورود الخبر في مقام بيان حكم أخلاقي ويكون مختصا بموارد عدم ترتب الأثر الشرعي على ما شهد به القسامة ، وإلا لما كان وجه لتقديم قول الواحد على قول الخمسين.

وبعبارة أخرى : المراد من التصديق ليس هو التصديق العملي ، بل المراد التصديق في مقام المعاشرة والمعاملة بينك وبينه.

وبما ذكرناه ظهر ما في الاستدلال ، بالمستفيضة المتضمنة ان المؤمن لا يتهم أخاه وانه إذا اتهم أخاه إنماث الإيمان في قلبه كانمياث الملح في الماء وان من اتهم أخاه فلا حرمة بينهما (٢).

__________________

(١) الكافي ج ٨ ص ٤٧ باب محاسبة حديث محاسبة النفس ح ١٢٥ / الوسائل ج ١٢ ص ٢٩٥ باب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ح ١٦٣٤٣.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٣٦١ باب التهمة وسوء الظن ح ١ / الوسائل ج ١٢ ص ٣٠٢ باب ١٦١ من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج ح ١٦٣٥٩.

١٢٧

واما العقل فقد قيل انه مستقل حاكم بأنه لو لم يبن على هذا الأصل لزم اختلال نظام المعاد والمعاش.

وفيه : ان لزوم اختلال النظام من عدم جريانها في غير موارد ، وجود اليد ، وسوق المسلمين ، وغير موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ، محل نظر بل منع.

وبما ذكرناه ظهر ما في استدلال الشيخ الأعظم (ره) (١) ، بفحوى قوله (ع) في موثق حفص بعد الحكم بان اليد حجة على الملكية وجواز الشهادة بالملكية مستندا إلى اليد (انه لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) (٢) بل بدلالته بظاهر اللفظ حيث ان الظاهر ان كل ما لولاه لزم الاختلال فهو حق ، لان الاختلال باطل والمستلزم للباطل باطل فنقيضه حق ، وهو اعتبار أصالة الصحة : إذ قد عرفت عدم لزوم الاختلال من عدم اعتبارها.

كما انه ظهر عدم صحة الاستدلال لها بما ورد من نفي الحرج (٣) وتوسعة الدين ، مع انه يرد على الاستدلال به ان دليل نفي الحرج لا يصلح لاثبات حجية أصالة الصحة لا سيما في غير موارد الحرج الشخصي.

__________________

(١) فرائد الاصول ج ٢ ص ٧٠٧.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٨٧ ح ١ / الوسائل ج ٢٧ ص ٢٩٢ باب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى (كتاب القضاء) ح ٣٣٧٨٠.

(٣) عمدة ادلة نفي الحرج هي الآية المباركة (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧٨ من سورة الحج. اضافة إلى العشرات من الروايات في الابواب المختلفة من الفقه التي طبقت فيها هذه الآية على رفع التكاليف الحرجيّة.

١٢٨

واما الاجماع فقد قيل : انه مستفاد من تتبع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة.

ولكن يرد عليه انه ليس إجماعا تعبديا لاحتمال استناد المجمعين إلى ما تقدم ، مع انه يرد عليه ما ذكره المحقق النراقي في عوائده (١) ، من انا لم نقف من غير بعضهم التصريح بكلية حمل جميع أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحة والصدق ، وكلام الاكثرين غير طائفة من المتأخرين خال عن ذكر هذه القاعدة.

فالأولى : ان يستدل لها ، ببناء العقلاء على ذلك ، والسيرة المستمرة غير المختصة بالمسلمين بل من كل ذي دين ، بضميمة عدم الردع ، وهذا هو العمدة في المقام.

أصالة الصحة ليست من الأمارات

الامر الثاني : في بيان انها من الأمارات ، أو الأصول التعبدية وفيه وجهان :

وقد قيل في تقريب وجود ملاك الطريقية فيها ، ان احتمال الفساد : اما ان يكون لأجل احتمال تعمد الاخلال بقيد من قيود الصحة. أو يكون لأجل احتمال الغفلة عنه. أو يكون لاحتمال الجهل به.

اما احتمال الغفلة فهو مناف لظهور الحال في عدم تعلق الغفلة حال العمل.

__________________

(١) عوائد الأيام ص ٧٨.

١٢٩

واما احتمال الترك العمدي ، فهو مناف لظهور حال المسلم فان الظاهر من تصديه لفعل وتعلق إرادته بإتيانه عدم الإخلال بقيد عمدا.

واما احتمال الجهل بالحكم فهو أيضاً مناف لظهور حال المسلم المتصدي للفعل.

ولكن الإنصاف انه مع احتمال الفساد من جهة احتمال جهل العامل بالحكم عن قصور لا عن تقصير من جهة أداء اجتهاده إلى خلاف الواقع ، لا ملاك للطريقية والمرآتية بل المعروف جريانها في موارد العلم بالجهل ، وعدم ملاك الطريقية في تلك الموارد واضح.

فالأظهر عدم وجود ملاك الطريقية فيها ، وعليه فمع عدم وجود ملاكها لا يعقل الحكم بعنوان تتميم الكشف وامضاء الطريقية ، مع انه على فرض وجود ملاكها فيها ، لا دليل على الطريقية في مقام الإثبات : إذ بناء العقلاء كما يمكن ان يكون من جهة الطريقية يمكن ان يكون لمصلحة أخرى كحفظ نظام المعاشرة ونحوه.

ودعوى انه لا يعقل التعبد في بناء العقلاء ، سيأتي الجواب عنها في قاعدة اليد فانتظر ، فالأظهر كونها من الأصول التعبدية.

ثم انه رتب الشيخ الأعظم (ره) (١) على ذلك ، انه لا يثبت بأصالة الصحة إلا الآثار الشرعية المترتبة عليها ، اما ما يتوقف عليه الصحة أو يلازمها مطلقا ، أو ما يلزمها فلا تثبت بها ، وقال ، فلو شك في ان الشراء الصادر من الغير كان

__________________

(١) فرائد الأصول ص ٧٢٨.

١٣٠

بما لا يملك كالخمر والخنزير ، أو بعين من أعيان ماله فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع لأصالة عدمه.

ومحصل ذلك : ان أصالة الصحة في العقد إنما تثبت انتقال المبيع المعين المعلوم إلى المشترى لأنه من آثار صحة العقد ، ولا تثبت انتقال ما يملك من أمواله الذي هو طرف للعلم بكونه ثمنا أو ما لا يملك وان كانت صحة العقد ملازمة لذلك واقعا.

والحق : أن ما ذكره (ره) من عدم إثبات اللوازم والملزومات والملازمات بها بناءً على كونها من الأصول حق لا ريب فيه.

إلا انا نقول انها لا تثبت بها حتى بناءً على الأمارية ، لما حققناه في محله من هذا الكتاب واشرنا إليه في أول قاعدة الفراغ والتجاوز ، من عدم الدليل على حجية الأمارات في مثبتاتها ، وإنما تكون كذلك مع وجود قيدين فيها : أحدهما : كون ذلك الشيء كاشفا عن اللوازم والملزومات والملازمات ككشفه عن ذلك المؤدى نفسه نظير الخبر الحاكي. ثانيهما : ثبوت الإطلاق لدليل اعتباره من جميع الجهات ومع فقدهما أو أحدهما لا يكون ذلك حجة في المثبتات.

وفي أصالة الصحة كلا الركنين مختلان كما لا يخفى فلا يثبت بها اللوازم والملزومات والملازمات ، حتى بناءً على أماريتها.

واما ما ذكره من المثال ، فمن حيث عدم تعين المبيع بأصالة الصحة لا كلام فيه ، ولكن ليس للورثة التصرف في مجموع المال للعلم الإجمالي بعدم كون المجموع ملكا للمورث.

١٣١

ثم انه نقل الشيخ الأعظم (ره) (١) انتصارا لما اختاره من عدم حجية أصالة الصحة في مثبتاتها ما ذكره العلامة (ره) (٢) من الفرعين :

أحدهما : ما لو قال آجرتك كل شهر بدرهم ، وقال المستأجر بل سنة بدينار قال ففي تقديم قول المستأجر نظر فان قدمنا قول المالك فالأقوى صحة العقد في الشهر الأول :

وجه دلالة ذلك على ان مبناه عدم حجيتها في مثبتاتها.

ما ذكره المحقق الثاني (ره) في جامع المقاصد (٣) من ان وجه النظر : ان المستأجر لما كان يدعي صحة الإجارة لان بناء العلامة على بطلان إجارة كل شهر بدرهم فيكون قوله موافقا لأصالة الصحة ، وحيث انه لا يثبت بها وقوع الإجارة على السنة لعدم كونه من اللوازم الشرعية المترتبة على صحة العقد ، فصار ذلك منشأً لتوقف العلامة في تقديم قول المستأجر.

ثم ان المحقق الثاني ذكر وجها لإفتاء العلامة بالصحة في الشهر الأول ، وحيث انه غير مربوط بهذه المسألة فلا نتعرض له هنا.

ثانيهما : ما ذكره بقوله وكذا الإشكال في تقديم قول المستأجر لو ادعى اجرة مدة معلومة أو عوضا معينا وأنكر المالك التعيين فيهما ، والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى ، وجه دلالته على ذلك انه تارة يدَّعي المستأجر أجرة

__________________

(١) فرائد الأصول ص ٧٢٨ (الخامس).

(٢) قواعد الاحكام ج ٢ ص ٣١٠ ، مؤسسة النشر الاسلامي ١٤١٣ ه‍. ق.

(٣) جامع المقاصد ج ٧ ص ٣٠٨.

١٣٢

تساوي أجرة المثل ، فيقدم قوله على قول المالك لموافقته لأصالة الصحة. وأخرى يدَّعي أجرة انقص منها ، وحيث انه يدعى دعوى أخرى وهي عدم استحقاق المالك أجرة المثل وهي لا تثبت بأصالة الصحة فلا تقدم دعواه فتدبر.

المراد بالصحة هي الصحة الواقعية

الأمر الثالث : هل المحمول عليه هي الصحة الواقعية ، أم الصحة عند العامل وقبل الشروع في بيان ذلك لا بدَّ من التنبيه على امر.

وهو ان في المقام نزاعين :

أحدهما : انه ، هل يعتبر في الحمل على الصحة علم الفاعل بها ، فلا يحمل على الصحة مع العلم بجهله ، أو الجهل بحاله ، أم يعتبر عدم العلم بكونه جاهلا ، أم لا يعتبر شيء منهما ، فلو علم بأنه جاهل بصحيح الفعل وفاسده ، يحمل عليها كان الجهل عن قصور أم تقصير ، غاية الأمر في الجهل القصوري يعتبر تصادق اعتقاديهما بالصحة في فعل.

ثانيهما : في ان المحمول عليه ، هل هي الصحة الواقعية أو الفاعلية ، ولا يبعد ان يكون خلاف صاحب المدارك (١) في النزاع الأول.

__________________

(١) لما يظهر من كلامه في مدارك الاحكام ج ٧ ص ٣١٥ في معرض حديثه عن اختلاف الزوجين في العقد لو ادعى احدهما وقوعه في الاحرام وأنكر الآخر ، قال المحقق : «القول

١٣٣

وكيف كان فالأظهر عدم اعتبار علم الفاعل بها إذ الغالب في موارد الحاجة إلى هذا الأصل إنما هي صورة الجهل بحال الفاعل : فان محل الابتلاء إنما هي أفعال العوام من الرجال والنساء الذين لا يعرفون أحكام المعاملات والعبادات ، مع قيام السيرة على حمل أفعالهم على الصحة من دون ان يفتشوا عن حال معاملاتهم.

واما اعتبار عدم العلم بالجهل في خصوص ما هو محل الجريان فغير بعيد : إذ القدر المتيقن من الأدلة غير هذا المورد.

ودعوى ان ابتلاء عموم الناس إنما هو بأفعال أهالي الصحارى والبراري والأسواق الذين لا يعرفون الأحكام مع استقرار السيرة على إمضاء أعمالهم مع احتمال المطابقة.

يمكن دفعها بان عدم معرفة هؤلاء بعمدة الأحكام ان كان منشأً للجهل بعلمهم في خصوص ما هو محل الحاجة ، فجريان القاعدة وان كان مما لا كلام فيه ، إلا انه أجنبي عن الفرض ، واما لو علم بجهلهم في خصوصه ، فالسيرة على الحمل عليها غير ثابتة ولكن ذلك يحتاج إلى تأمل زائد ، فان دعوى قيام السيرة على العموم مع جهل الغالب بالأحكام قريبة جدا.

واما النزاع الثاني : فان كان مدرك الحمل على الصحة هو ما عن

__________________

قول من يدعي الاحلال ترجحا لجانب الصحة» ، وفي معرض مناقشة صاحب المدارك له قال : «أما مع اعترافهما بالجهل فلا وجه للحمل على الصحة ..».

١٣٤

العلامة (١) وجماعة من المتأخرين عنه ، وهو ظهور حال المسلم ، فيتعين الحمل على الصحة عند العامل فان الظاهر من حاله عدم فعل ما لا يراه صحيحا وان أتى بالعمل على وجه يراه صحيحا.

واما ان كان المدرك هو حكم العقل ، أو بناء العقلاء والسيرة المستمرة ، أو الإجماع ، فالمحمول عليه هي الصحة الواقعية.

أصالة الصحة تجري في عمل نفسه

الأمر الرابع : هل يكون مجرى هذا الأصل هو خصوص عمل الغير ، أم يعم عمل نفسه وجهان : أقواهما الثاني : لثبوت السيرة ، وبناء العقلاء على اجرائها في عمل نفس الحامل.

واستدل للأول بوجهين :

الأول ما عن المحقق النائيني (ره) (٢) من دعوى العلم بأنه لم يجعل الشارع الأقدس للشك في عمل الشخص نفسه قاعدتين ، وحيث ان قاعدة الفراغ

__________________

(١) راجع تذكرة الفقهاء (ط. حجرية) ج ٢ ص ٤٨٣ كتاب الوصية في مسألة ما لو اوصى بما يقع اسمه على المحلل والمحرم ولم ينص على أحدهما قال العلامة : «صرف إلى المحلل» إلى ان قال : «ولأن الظاهر من حال المسلم صحة تصرفاته فيحمل مطلقة عليها عملا بالظاهر».

(٢) فوائد الأصول ص ٦٥٣ (المبحث السابع).

١٣٥

مجعولة فيه فلا تكون أصالة الصحة مجعولة.

وفيه : ان دعوى العلم بعدم جعل قاعدتين في مورد واحد بالجعل التأسيسي الاستقلالي في محلها.

واما دعوى عدم جعل قاعدتين بالجعل الامضائي ، أحدهما ببيان لفظي وهو دليل قاعدة الفراغ ، ثانيهما بعدم الردع.

فممنوعة إذ لا محذور فيه ، ودعوى العلم بعدم جعلهما هكذا ، غير مسموعة.

الثاني : ان تعدد الجعل يستلزم تعدد المجعول ، وحيث ان المجعول في عمل الشخص نفسه لا يكون متعددا فلا محالة يكون الجعل أيضاً واحدا.

وفيه : ان ذلك أيضاً يتم في الجعل التأسيسي ولا يتم في الجعل الامضائى.

المراد من الصحة

الأمر الخامس : المراد من الصحة هو انطباق المأتي به الخارجي لما هو موضوع للأثر الشرعي أي الاعتبارات الشرعية في المعاملات ، ولما هو متعلق التكليف في العبادات ، وعلى ذلك تحمل في جميع الموارد.

غاية الأمر في باب العبادات لا تُتَصور الصحة التأهلية والصحة الفعلية ، وفي باب المعاملات تُتَصوران :

إذ لو كان موضوع الاعتبار الشرعي موجودا بتمامه ولم يترقب لصحته حصول شيء آخر ، فالصحة فعلية أي ذلك الاعتبار الشرعي يترتب عليه. وان

١٣٦

كان جزؤه موجودا وكان الجزء الآخر دخيلا في ترتب ذلك الاعتبار ولم يكن دخيلا في تمامية ذلك الجزء كالايجاب وحده إذ القبول ليس دخيلا في صحة الإيجاب وتماميته ، وإنما يكون دخيلا في ترتب الاعتبار الشرعي ، وهو اعتبار الملكية فالصحة تأهلية بمعنى ان الإيجاب لو تعقبه القبول لترتب عليهما النقل والانتقال ودليل هذا الأصل يشمل كلا الموردين.

وقد تعرض الشيخ الأعظم (ره) (١) لذلك في رسائله دفعا لتوهم ، انه إذا تحقق الإيجاب وشك في تعقبه بالقبول تجري أصالة الصحة فيه ويحكم بترتب النقل والانتقال عليه وتعقبه بالقبول.

ومحصل الدفع ان الصحة الفعلية اثر الإيجاب والقبول جميعا غير المحرز تحققهما والايجاب وحده ليس اثره إلا الصحة التأهلية والعلم بتحققه صحيحا لا يستلزم القبول فضلا عن التعبد به.

وربما يتوهم التنافي بين ما ذكره الشيخ (ره) الأعظم في هذا الأمر من ان التعبد بصحة الإيجاب لا يستلزم التعبد بالقبول ، وبين ما أفاده في الأمر الثاني بقوله (٢) ، واما ما ذكره (أي المحقق الثاني) من ان الظاهر إنما يتم مع الاستكمال المذكور لا مطلقا فهو إنما يتم إذا كان الشك من جهة بلوغ الفاعل ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ تستلزم صحة فعله صحة فعل هذا الفاعل الخ.

ولكن يمكن دفعه بوجهين :

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٢٥ ـ ٧٢٦

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٢٤ ـ ٧٢٥

١٣٧

الأول : ان ما ذكره في رد المحقق الثاني ليس بلحاظ أصالة الصحة بل بلحاظ ظهور حال المسلم حيث ان ظاهر حاله عدم المعاملة مع غير البالغ فاقدامه هذا أمارة لبلوغه ، وما أفاده في المقام إنما هو بلحاظ أصالة الصحة وانه لا يثبت بها تحقق القبول.

الثاني : ان صحة الإيجاب نفسه ، ربما تتوقف على صحة القبول ، وربما لا تتوقف عليها ولا على وجوده ، وفي الأول مقتضى صحة الإيجاب صحة القبول أيضاً ، وفي الثاني لا تثبت ذلك ، وفي صورة الشك في بلوغ القابل صحة الإيجاب بما انها متوقفة على صحة القبول فتثبت بها صحتها ، وفي صورة الشك في صدور القبول ممن له شأنية ذلك بما انه لا تتوقف صحة الإيجاب على تحقق القبول لا يثبت بأصالة الصحة تحققه.

ثم انه ذكر الشيخ الأعظم (ره) (١) في المقام فروعا لمناسبتها مع المقام وتبعه بعض المحققين ونحن اقتفاءً لاثرهما نتعرض لها.

منها : ما تقدمت الإشارة إليه وهو انه لو أحرز الإيجاب وشك في تحقق القبول إجراء أصالة الصحة في الإيجاب لا يستلزم تحققه.

ومنها : ما لو شك في صحة بيع الصرف من جهة الشك في تحقق القبض في المجلس وقال ان أصالة الصحة في العقد لا يترتب عليها النقل والانتقال ولا يثبت بها تحقق القبض.

وغاية ما قيل في وجه ذلك أمران :

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٧٢٥ ـ ٧٢٦ (الثالث).

١٣٨

الأول : ان الصحة الفعلية أي ترتب النقل والانتقال إنما تكون اثر الإيجاب والقبول والقبض في المجلس فيكون القبض احد اجزاء المؤثر ، وعليه فالعلم بصحة العقد لا يستلزم تحقق القبض فضلا عن الصحة الثابتة بالتعبد.

الثاني : ان مفاد أصالة الصحة صحة العقد حدوثا ، ولا نظر لها إلى البقاء ، والعقد من حيث الحدوث ليس له إلا الصحة التأهلية ـ وهي اما لا شك فيها ـ أو على فرض الشك أصالة الصحة الجارية في العقد حدوثا لا تفيد في إثبات تحقق القبض وترتب النقل والانتقال.

وفيهما نظر :

اما الأول : فلان الظاهر ان المؤثر هو العقد المركب من الإيجاب والقبول ، والقبض إنما يكون شرط التأثير وشرط الصحة بقاءً ، فلو انقضى المجلس وشك في تحقق القبض فلا محالة يشك في صحة العقد بقاءً فأصالة الصحة تثبت تحققه.

واما الثاني : فلأنها كما تجرى بلحاظ الحدوث تجرى بلحاظ البقاء ، والعقد بعد انقضاء المجلس ، صحته مشكوك فيها فمقتضى أصالة الصحة تحقق القبض.

ومنها : ما لو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي ، فانه لا يمكن إجراء أصالة الصحة في العقد لإحراز تحققها ، إذ العقد الصادر من غير المالك لا صحة له إلا تأهلية وهي لا تتوقف على الإجازة وعقد المالك موضوعا مشكوك التحقق.

ومنها : ما لو شك في صحة بيع الوقف ، من جهة الشك في عروض

١٣٩

المسوغ له ، فانه لا يمكن إجراء أصالة الصحة لاثبات عروض المسوغ.

واستدل له بان العقد لو خلي وطبعه مبني على الفساد بحيث يكون المصحح طارئا عليه وليس له صحة تأهلية مع عدمه.

وفيه : ان ذكر ذلك في وجه جريان أصالة الصحة أولى ، بل هو المتعين فان بيع الوقف إذا كان صحيحا في بعض الصور دون أخرى لا محالة تقتضي أصالة الصحة صحته ووقوعه على الوجه الصحيح.

ومنها : ما لو شك في صحة بيع الراهن من جهة الشك في إذن المرتهن أو اجازته فانه لا يثبت الاذن أو الاجازة باجراء أصالة الصحة في العقد ، واستدل له بوجوه.

الأول : ان صحة العقد تأهلية ، والاثر ، أي النقل والانتقال مترتب عليه مع الاذن أو الاجازة ، فلا تثبت الصحة الفعلية باجراء أصالة الصحة في العقد.

الثاني : ان امر عقد الراهن يدور بين الصحة الفعلية ، والصحة التأهلية فانه على تقدير الاذن أو الاجازة صحته فعلية وعلى تقدير عدمه صحته تأهلية ، واصالة الصحة إنما تجرى في مورد دوران الأمر بين الصحة والفساد ، ولا تجرى عند دوران الأمر بين الصحة الفعلية ، والتأهلية.

الثالث : وهو مختص بخصوص الشك في الاجازة ، وهو ان عقد الراهن حدوثا صحيح بالصحة التأهلية قطعا ، وغير صحيح بالصحة الفعلية جزما ، والشك إنما يكون بلحاظ البقاء ، ولا تجرى أصالة الصحة بلحاظه.

وفي كل نظر :

١٤٠