زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

يساعده الوجدان ، ويشهد به قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)(١)

حيث انه يدل على انهم مع كونهم عالمين بنبوة نبينا (ص) ، لم يكونوا منقادين له قلبا ولا مقرين بها باطنا.

إذا عرفت الأمرين فيقع الكلام في الجهتين :

أما الجهة الأولى : فيمكن ان يستدل لعدم وجوب الموافقة الالتزامية بان التكليف إذا تعلق بفعل خارجي غاية ما يستكشف منه وجود مصلحة لازمة الاستيفاء في الفعل ويعلم منه ان الغرض من التكليف جعل ما يمكن ان يكون داعيا إلى العمل الخارجي لأجل تحصيل تلك المصلحة الملزمة ، فالعقل الحاكم في باب الامتثال إنما يحكم بلزوم إتيان ما فيه المصلحة خاصة وهو الفعل الخارجي ، فلا يقتضي التكليف الالتزام قلبا ، ولعله إلى هذا نظر صاحب الكفاية ، حيث قال لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك.

وكيف كان هذا الوجه لا يثبت عدم الوجوب حتى يعارض ما استدل به للوجوب لو تمت دلالته.

فالعمدة التعرض لأدلة الوجوب فان لم يتم شيء منها يكون المرجع ما ذكرناه.

فقد استدل له بوجوه :

منها : انه من مراتب شكر المنعم الذي هو واجب عقلا.

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

٨١

وفيه انه لا دليل على وجوب شكر المنعم بكل ما يصدق عليه الشكر.

ومنها : أدلة حرمة التشريع بدعوى انه لو علم الوجوب ولم يستند إليه تعالى بل استند الإباحة إليه يكون محرما ولاوجه لحرمته سوى وجوب الالتزام بالحكم المعلوم.

وفيه : ان التشريع هو استناد ما لم يعلم انه من الدين إليه تعالى ، وقد دل الدليل على حرمة ذلك ، واما لو علم التكليف ولم يستند إليه تعالى لا هو ، ولا غيره ، فهو ليس من التشريع فلو ثبت وجوب الموافقة الالتزامية يكون عدم الاستناد موجبا للعقاب ، وإلا فلا.

ومنها : أدلة وجوب قصد القربة في العبادات فانه لا يكون إلا مع التصديق بأنه مأمور به فالالتزام يكون من لوازم وجوب الإتيان بالعبادة بداعي الأمر ، فيكون واجبا : بما دل على وجوب العبادة.

وفيه ، أولا : انه أخص من المدعى.

وثانيا : ان مورد الكلام كما عرفت ثبوت اقتضائين لكل تكليف ، وفي التعبديات ، الالتزام ، والعمل الخارجي ، لا يكونان إلا أمرا واحدا ، والأمر يقتضيهما باقتضاء واحد ، وكون الالتزام في مورد محققا لمقتضى التكليف ومتعلقه لا يوجب كونه بنفسه مطلوبا آخر.

وثالثا : انه قد يؤتى بالعبادة من دون التزام أصلاً كما لو علم بمحبوبية شيء ولم يعلم وجوبه واستحبابه فانه يأتي به بداعي الأمر بلا قصد لخصوص الوجوب أو الاستحباب فتدبر.

٨٢

ومنها : استقلال العقل بقبح عدم الالتزام بما جاء به النبي (ص) من الأحكام لكشفه عن نقص العبد وانحطاط درجته لديه بخلاف ما لو التزم به فانه لكشفه عن كمال العبد وقربه إلى ربه يكون حسنا.

وفيه : ان وصول هذا إلى حد اللزوم غير ثابت ويحتاج إلى دليل مثبت له.

ومنها : ما دل على وجوب تصديق النبي فيما جاء به من الأحكام.

وفيه ، أولا : ان مقتضى هذا الوجه تصديقه في الأحكام وغيرها بل في الأخبار أيضاً ، ولا يختص بالتكاليف اللزومية.

وثانيا : انه إنما يقتضي تصديقه فيما ثبت كونه من النبي (ص) بأي نحو ثبت ، إجماليا كان ، أم تفصيليا ولا يقتضي وجوب الالتزام بكل حكم تفصيلا وان لم يثبت ذلك كذلك.

وثالثا : ان معنى تصديق النبي تصديقه ان ما يأتي به من الأحكام من قبل الله تعالى ، وهذا يجتمع مع عدم الالتزام بما أوجبه الله تعالى.

فتحصل انه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزامية فالأظهر عدم وجوبها.

واما الجهة الثانية : فان ثبت وجوب الموافقة الالتزامية ، فان كان مقتضى الدليل وجوب الموافقة الالتزامية بأحكام الله تعالى على النحو الثابت للمكلف ، فهو لا يمنع من جريان الأصول : إذ الثابت إنما هو وجوب أحد الفعلين فيلتزم به كذلك ، وإجراء الأصول والحكم ظاهرا ، بإباحة كل واحد بعينه ، لا ينافى ذلك فانه يلتزم بإباحة كل منهما ظاهرا ووجوب أحدهما واقعا ، وان كان مقتضى الدليل هو الالتزام بكل حكم بشخصه ، وعدم كفاية

٨٣

الالتزام الإجمالي ، لزم سقوط وجوبها مع العلم الإجمالي : لعدم القدرة عليه ، والبناء على كونه مخيرا في الالتزام بأحدهما باطل ، لاستلزامه التشريع المحرم ، كما انه يلزم ذلك لو بنى على الالتزام بكل منهما بعينه كي يتحقق الالتزام الواجب كسائر موارد تردد المكلف به فيها ، أو على الالتزام بأحدهما بالخصوص.

فالمتحصّل مما ذكرناه انه لا مانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، وموارد دوران الأمر بين المحذورين من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية.

ثم ان الشيخ الأعظم (١) أفاد في دفع محذور عدم الالتزام به ، بل الالتزام بخلافه : بان الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي ، فيرتفع موضوع لزوم الالتزام.

وأورد عليه في الكفاية (٢) بأنه مستلزم للدور ، وحاصل ما أفاده ان جريان الأصول يتوقف على عدم المانع عنه ، ومن جملة الموانع الإذن في المخالفة الالتزامية الذي ، هو لازم التعبد بعدم الحكم المعلوم بالإجمال ، لان ذلك قبيح فيكون مانعا ، وعدم هذا المانع يتوقف على نفى الحكم الواقعي ، كي لا يكون مقتضيا للموافقة الالتزامية ونفى الحكم الواقعي موقوف على جريان الأصل ، فصحة جريان الأصول تتوقف على نفسها وكذلك عدم الحكم.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣١.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٦٨ (الأمر الخامس).

٨٤

ويرد عليه ان جريان الأصل ، لا يتوقف على نفى الحكم ، بل هو مفاد الأصل ، ولا يلزم من نفى الحكم بالأصل الإذن في المخالفة الالتزامية المحرمة : لعدم حرمتها مع نفى الحكم : لان الدليل المثبت لهذا التكليف أي وجوب الموافقة الالتزامية كسائر أدلة الأحكام لا نظر له إلى موضوعه ، وهو الحكم ، فهو لا يصح ان يكون مانعا عن الأصل النافي للموضوع.

قطع القطاع

الموضع السابع : حكي عن الشيخ الكبير (١) عدم اعتبار قطع القطاع.

والمراد من القطاع ليس من يحصل له القطع كثيرا لكونه عالما بالملازمات في غالب الأشياء بالفراسة الفطرية أو الاكتساب ، بل المراد به من يحصل له القطع من الأسباب غير العادية بحيث لو اطلع غيره عليها لا يحصل له القطع منها ، في مقابل الوسواسي الذي لا يحصل له القطع من الأسباب العادية.

وعلى هذا فان كان مراد الشيخ من قطع القطاع القطع الطريقي المحض فإشكاله واضح ، لما مر من ان حجية القطع ذاتية لا تنالها يد الجعل إثباتا ونفيا.

وان أراد منه القطع الموضوعي ، فقد وافقه جماعة :

__________________

(١) وهو المحقق الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ره) حيث قال في كتابه كشف الغطاء ج ١ ص ٦٤ : «وكذا من خرج عن العادة في قطعة وظنه فإنه يلغو اعتبارهما في حقه» ونقل الحكاية عنه غير واحد من الأعلام منهم الشيخ الأعظم في الفرائد ج ١ ص ٢٢ / والمحقق النائيني في فرائده ج ٣ ص ٦٤.

٨٥

منهم الشيخ الأعظم (١) ، والمحقق الخراساني (٢) نظرا إلى ان أمره سعة وضيقا بيد المولى ، فله ان يأخذ في موضوع حكمه قسما خاصا من القطع ، وهو الحاصل من الأسباب المتعارفة العادية.

ولكنه يندفع بان القطاع ، وان كان يمكن التفاته إلى ان نوع قطعه يحصل من سبب لا ينبغي حصوله منه إلا ان شخص القطع الحاصل من السبب الخاص ، لا يمكن ان يلتفت إلى حصوله مما لا ينبغي حصوله منه ، وإلا انقلب قطعه. وبعبارة أخرى : في كل قطع شخصي حين حصوله يرى انه حاصل من سبب ينبغي حصوله منه.

وعليه فلا فائدة في اختصاص الدليل ، فلا مناص عن البناء على الإطلاق ، فالأظهر عدم إمكان منع القطاع عن العمل بقطعه مطلقا ، من غير فرق بين الآثار العقلية ، والشرعية.

القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة

الموضع الثامن : المنسوب إلى جملة من الإخباريين ، عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٢٢.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٦٩ عند قوله : «نعم ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا ...».

٨٦

وأنكر المحقق الخراساني (ره) (١) هذه النسبة ، وأفاد انهم في مقام منع الصغرى : فان بعضهم كالسيد الصدر ، في مقام منع الملازمة بين حكم العقل والشرع ، وبعضهم كالمحدث الاسترآبادي في مقام بيان ان المقدمات العقلية لا تفيد إلا الظن ، فلا يجوز الاعتماد عليها.

ولكن الشيخ الأعظم (٢) نقل في الرسائل كلمات جماعة منهم غير العلمين المذكورين ، وهي صريحة في منع الكبرى.

وكيف كان فتنقيح القول بالبحث في مقامين :

الأول : في الصغرى وانه ، هل يحصل القطع بالحكم الشرعي من غير الكتاب والسنة أم لا؟

الثاني : في انه ، هل يصح المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غيرهما ، أم لا؟ ولنقدم الكلام في المقام الثاني.

وقد ذكروا في توجيه كلام الإخباريين الظاهر في صحة المنع ، وجوها.

الأول : ما يظهر من الشيخ الأعظم (ره) (٣) وصرح به المحقق العراقي (ره) (٤)

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٧٠ بتصرف.

(٢) راجع فرائد الأصول ج ١ من ص ١٥ إلى ص ١٩ حيث نقل مقاطع من كلام المحدث الاسترآبادي ، والذي استحسنه المحدث الجزائري ، كما نقل كلام للمحدث صاحب الحدائق ، والسيد الصدر في شرح الوافية.

(٣) فرائد الأصول ج ١ ص ٢٠ قوله : «إلا أن يدعى ... ان كل حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم ولو بالواسطة فهو غير واجب الإطاعة ..» وبالتأمل في كلماته لم يظهر بوضوح

٨٧

وهو انه يمكن ان يردع الشارع عن القطع الحاصل من غيرهما بان يقول : ان القطع الحاصل عن تقصير المكلف في مقدمات حصول قطعه ، لا يكون معذورا عند مخالفته للواقع.

وفيه : انه كما لا يعقل الردع عن منجزية القطع كذلك ، لا يعقل الردع عن معذريته عند المخالفة ، لأنهما من لوازم القطع التي لا تنفك عنه ، وقد مر في أول الكتاب انه لا يمكن النهي عن العمل بالقطع في كلا أثريه.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) ، وحاصله انه حيث لا يمكن اخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم لاستلزامه الدور ، لا يمكن الإطلاق لان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فإذا امتنع أحدهما امتنع الآخر ، وحيث ان الإهمال النفس الآمري غير معقول فلا بد : إما من نتيجة الإطلاق. أو نتيجة التقييد ، إذ الملاك المقتضي لتشريع الحكم ان كان محفوظا في كلا الحالين ، لا بد من الإطلاق ، وإلا فمن التقييد ، وحيث لا يمكن ان يكون الجعل

__________________

التزامه بجواز ردع الشارع عن القطع ، نعم في بحث قطع القطاع ص ٢٢ ـ ٢٣ التزم بعدم اعتبار القطع الموضوعي في الجملة ، وعدم صحة الردع عن القطع الطريقي إلا من باب الإرشاد وفي موارد خاصة كالمتعلقة بحفظ النفوس والأعراض والأموال في الجملة دون غيرها ، ولعله إلى هذا أشار المصنف حفظه المولى من الاستظهار في كلامه فراجع.

(١) راجع نهاية الأفكار ج ٣ ص ٤٣ (الجهة السادسة) عند قوله : «نعم يمكن أن يفرق بين القطع الناشئ عن تقصير المكلف في مقدمات حصول قطعه ..».

(٢) فوائد الأصول للنائيني راجع ج ٣ من أواخر ص ١١ إلى ص ١٣.

٨٨

الأولى متكفلا لبيان ذلك فلا بد من جعل آخر ، ليستفاد منه نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد ، فإذا دل دليل على اختصاص حكم بخصوص العالم كما في ، الجهر والاخفات ، والقصر والإتمام ، نلتزم به.

وإذا صح اخذ العلم بالحكم شرطا في ثبوت الحكم ، صح اخذ العلم بالحكم من وجه وسبب خاص مانعا عن ثبوت الحكم ، بحيث لا يحكم مع العلم به من ذلك السبب كما في باب القياس حيث قام الدليل على انه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من طريق القياس كما في رواية أبان (١) في مسألة دية الأصابع.

وفيه : مضافا إلى ما تقدم في مبحث اخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، من ان المانع إنما هو في مقام الثبوت ، لا في مقام الإثبات كي يرتفع بتعدد الدليل.

ومضافا إلى ما مر في مبحث التعبدي والتوصلي من ان استحالة التقييد لا تستلزم استحالة الإطلاق ، بل لازمها ضرورية الإطلاق أو التقييد بضده ، وحيث ان التقييد بالجاهل أيضاً محال فيكون الإطلاق ضروريا.

ان لازم ما أفاده التصرف في ناحية المعلوم ، وانه لا يحصل العلم بالحكم من غير الكتاب والسنة ، مع ان صريح كلمات جماعة منهم عدم العبرة بالعلم بالحكم من غير هما.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٢٩٩ ح ٩ / الفقيه ج ٤ ص ١١٨ ح ٥٢٣٩ / الوسائل ج ٢٩ ص ٣٥٢ باب ٤٤ من ابواب ديات الأعضاء ح ٣٥٧٦٢.

٨٩

واما مسألة الجهر والاخفات ، والقصر والتمام فليس الأمر فيهما ما أفاده من اختصاص الحكم بالعلم ، بل المستفاد من الأدلة إجزاء أحدهما عن الآخر ، وإجزاء التمام عن القصر عند الجهل بالحكم على ما فصلناه في محله.

الثالث : ان حكم العقل بوجوب اتباع القطع حكم تعليقي على عدم ردع الشارع عن خلافه.

وفيه : ما تقدم في أول الكتاب من ان حكمه تنجيزي لا تعليقي.

الرابع : انه في العبادات التي يعتبر قصد القربة المنوط بالجزم بالأمر الشرعي ، للشارع ان يقيد القربة المعتبرة في المأمور به بالقرب الناشئ عن خصوص الجزم الناشئ عن الأدلة السمعية لا مطلقا.

وفيه : ان هذا وان كان ممكنا ، إلا انه لا دليل على هذا التقييد أولا ، وهو أخص من المدعى ثانيا : لاختصاصه بالعبادات.

فتحصل انه لا يصح النهي عن العمل بالقطع الحاصل عن غير الكتاب والسنة.

واما المقام الأول : فملخص القول فيه ان الحكم العقلي على أقسام :

الأول : ان يدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل.

الثاني : ان يدرك حسن فعل أو قبحه بمعنى ان يدرك استحقاق فاعله المدح أو الذم.

الثالث : ان يدرك أمرا خارجيا كاستحالة اجتماع النقيضين ، ولكن بضميمة حكم شرعي إليه يستكشف حكما شرعيا في مورده.

٩٠

أما القسم الأول : فالحق مع المنكرين للملازمة بحسب الغالب ، وذلك لعدم إحاطة عقول البشر بملاكات الأحكام ومناطاتها : إذ لعل المصلحة المدركة مزاحمة بمفسدة في موردها ، ولاجلها لا يصلح لمنشئية جعل الوجوب ، أو ان هناك مانعا آخر ، عن جعل الوجوب.

وعليه فلا يمكن استكشاف الحكم الشرعي ، ولكن إذا فرضنا في مورد العلم بثبوت الحكم الشرعي فيه ، قد مر انه ليس للشارع النهي عن العمل به.

واما القسم الثاني : فإدراك الحسن والقبح ، إنما يكون لدرك المصلحة والمفسدة ، أو لامر الشارع ونهيه ولا ثالث ، وعلى الأول يدخل في القسم الأول ، وعلى الثاني لا يصلح لمنشئية جعل الوجوب والحرمة لكونه في طولهما وقد تقدم تفصيل القول في ذلك فراجع.

واما القسم الثالث : فاستكشاف الحكم الشرعي فيه لا ينكر مثلا يستكشف وجوب المقدمة من حكم العقل بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته ، بضميمة وجوب ذي المقدمة.

بقى في المقام أمران :

الأمر الأول : انه قد يتوهم ان جملة من النصوص الكثيرة تدل على المنع عن العمل بالأحكام الشرعية ما لم يتوسط تبليغ الحجة إياها.

ولكنه فاسد ، فإنها ما بين طوائف :

الأولى : ما تدل على المنع عن العمل بالقياس والاستحسانات والاعتبارات الوهمية كما عليه العامة.

٩١

الثانية : ما يدل على اعتبار الولاية في صحة العبادات.

الثالثة : ما يدل بظاهرها على اعتبار تبليغ الحجة في وجوب امتثال الأحكام.

أما الطائفتان الأوليتان ، فهما أجنبيتان عن المقام كما هو واضح.

واما الأخيرة فالجواب عنها : انه إذا استكشف الحكم الشرعي من حكم عقلي لا محالة يستكشف تبليغ الحجة إياها لقوله (ص) ما من شيء يقربكم إلى الجنة (١) الخ ، مع انه إذا استكشف الحكم الشرعي من دليل عقلي ، تكون الحجة الباطنية ، واسطة في ثبوت الحكم ، مع انه لو سلم ظهور الأخبار في ذلك لا بد من رفع اليد عن ظاهرها بواسطة البراهين القطعية القوية التي لا يمكن إثبات أساس الدين بأقوى منها.

الفروع التي توهم فيها المنع عن العمل بالمقطع

الأمر الثاني : في الفروع التي توهم فيها ، المنع عن العمل بالقطع بالحكم.

والجواب الإجمالي في جميع تلك الفروع ان الحكم الذي نريد إثباته ويكون مخالفا للعلم ويلزم منه المخالفة العملية ، ان كان حكما ظاهريا ، لا يثبت لأنه يكون في فرض الجهل بالواقع وان كان حكما واقعيا ، فهو يوجب التخصيص

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٤ ص ١٤٥ باب ٧ (ما جمع من مفردات الرسول (ص) ح ٣٤. وايضا ورد في خطبة الغدير الذي نقلها صاحب الاحتجاج.

٩٢

في ذلك الدليل ، نظير الدليل الدال على ثبوت حق المارة ، فانه لا يصح ان يقال ان هذا الحكم مخالف لما علم من حرمة أكل مال الغير بغير رضاه ، فانه يختص بغير هذا المورد ، واما الجواب التفصيلي فهو يتوقف على بيان كل واحد منها.

الأول : ما لو اودع شخص درهمين عند شخص ، واودع الآخر عنده ، درهما واحدا ، فتلف أحد الدراهم عند الودعي : فانهم حكموا بأنه لصاحب الدرهمين درهم ونصف ولصاحب الدرهم نصف درهم ، فلو انتقل النصفان منهما إلى ثالث بهبة ، ونحوها واشترى بمجموعهما ثوبا ، فانه يعلم تفصيلا بعدم دخول الثوب بتمامه في ملكه لان بعض الثمن ملك الغير قطعا فلا يجوز الصلاة فيه ولا لبسه ولم يلتزم الأصحاب بذلك.

وأجيب عنه بأجوبة : منها : ان الخبر (١) الذي يكون مستند هذه الفتوى ضعيف السند ذكره الشهيد (ره) (٢)

وفيه انه بعد إفتاء الأصحاب بمضمونه لا مجال للمناقشة فيه سندا.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٥ ح ٣٢٧٤ / الوسائل ج ١٨ ص ٤٥٢ الباب ١٢ أبواب كتاب الصلح ح ٢٤٠٢٥ ، إلا ان بدل الدرهم الدينار.

(٢) شرح اللمعة الدمشقية ج ٤ ص ١٨٣ قال : «هذا هو المشهور بين الأصحاب ، ورواه السكوني عن الصادق (ع) ، ويشكل هنا مع ضعف المستند بأن التالف لا يحتمل كونه لهما ، بل من أحدهما خاصة ، لامتناع الإشاعة هنا فكيف يقسم الدرهم بينهما مع أنه مختص بأحدهما قطعا» ، ثم قال : «والذي يقتضيه النظر وتشهد له الأصول الشرعية القول بالقرعة في أحد الدرهمين ، ومال إليه المصنف في الدروس ، لكنه لم يجسر على مخالفة الأصحاب».

٩٣

ومنها : ان الامتزاج موجب للشركة ويوجب صيرورة كل جزء من الدراهم بينهما أثلاثا ، فما سرق يكون من مالهما ، لا من أحدهما حتى يلزم المحذور المذكور.

وفيه : ان الامتزاج في مثل المقام لا يوجب الشركة كما هو محرر في محله ، مع ان لازم ذلك إعطاء درهم وثلث لصاحب الدرهمين وثلثي الدرهم ، لصاحب الدرهم الواحد كما نسب إلى العلامة (ره) (١) الالتزام بذلك.

ومنها : انه لا يكون الحكم في نفسه تاما.

وفيه انه لاوجه له سوى ضعف سند المدرك الذي عرفت ما فيه.

ومنها : ان الدرهمين الباقيين أحدهما لصاحب الدرهم قطعا فيعطى له ، والباقي يحتمل ان يكون له ، ويحتمل ان يكون لصاحب الدرهم الواحد ، فيكون مالا مرددا بينهما لا بينة لاحدهما على كونه له ، ولا يحلف على ذلك.

فمقتضى قاعدة العدل والإنصاف التي هي من القواعد العقلائية التي أمضاها الشارع ، ويكون مبناها على تقديم الموافقة القطعية في الجملة والمخالفة القطعية كذلك على الموافقة والمخالفة الاحتماليتين في باب الأموال ، هو تنصيفه بينهما.

وفيه : لازم هذا الوجه هو جوار التصرف لكل منهما فيما أعطى له جوازا

__________________

(١) نسبه المصنف في فقه الصادق ج ٢٠ ص ٢٠٢ إلى العلامة الحلي في بعض كتبه ، ولم نقف عليه نعم في التذكرة ج ٢ ص ١٩٥ التزم بمقتضى الرواية في الدرهم والدينار ، وبالنسبة في غيرهما من موارد الامتزاج الرافع للتميز كما في الحنطة والشعير.

٩٤

ظاهريا وعليه فلو اجتمعا عند ثالث ، واشترى به ثوبا ، فهو يعلم تفصيلا بعدم انتقال الثوب بتمامه إليه والحكم الظاهري لا يكون حجة مع العلم التفصيلي بالخلاف ، ولازم ذلك عدم جواز التصرف فيه.

ودعوى : انه بعد كون كل من النصفين مما يجوز تصرف من تحت يده فيه ، لو انتقلا إلى ثالث يجوز تصرفه فيهما واقعا لان جواز تصرف ذي اليد في المال ولو ظاهرا موضوع لجواز تصرف من انتقل إليه ذلك المال واقعا ، فلا يحصل العلم لثالث بعدم جواز تصرفه في أحدهما واقعا.

مندفعة : بان قاعدة اليد أيضاً من الأمارات ولا يكون متكفلة لبيان حكم واقعي ولا توجب تبدل الواقع.

ومنها : القول بكون ذلك من باب الصلح القهري فبالتعبد الشرعي (٢) ، من باب الولاية ، يدخل كل من النصفين في ملك واحد منهما ، فكل يملك النصف واقعا فلا يحصل العلم المزبور لو اجتمعا عند ثالث.

الفرع الثاني : لو اختلف المتبايعان في تعيين المبيع مع الاتفاق على الثمن ، أو في تعيين الثمن مع الاتفاق ، على المثمن مع عدم البينة فانهم ذكروا (١) انه لو حلف أحدهما فيحكم له وان تحالفا يحكم بالانفساخ ، ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى ملك مالكهما فلو انتقل ما اتفقا على كونه أحد العوضين أو انتقل ، كل من ما وقع الاختلاف فيه إلى ثالث واشترى بها شيئا فهو يعلم بعدم

__________________

(١) كما ذهب إليه الشيخ الأعظم في فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٠٨.

(٢) كما في مصباح الأصول ج ٢ ص ٦٣ (الفرع الثاني).

٩٥

انتقاله إليه وعدم جواز تصرفه فيه مع انهم أفتوا بالجواز.

وفيه : أولا ان اصل الحكم غير مسلم إذ لم يذكروا له مدركا سوى النبوي : (المتبايعان إذا اختلفا تحالفا وترادا) (١).

وان مقتضى حلف كل منهما على نفي قول الآخر سقوط دعواه فيكون كان لم يقع عقد بينهما.

ولكن يرد على النبوي مضافا إلى ، ضعف السند ، وعدم الانجبار بالعمل ، إذ لعل المشهور استندوا إلى وجه آخر : انه يلزم من العمل به تخصيص الأكثر لعمومه لجميع صور الاختلاف كما لا يخفى.

واما الوجه الثاني. فيرد عليه أولا : ان الحلف لا يوجب فسخ العقد وإنما يكون هذه القواعد قواعد ظاهرية محكمة في صورة الشك والجهل لامع العلم.

وثانيا : ان حلف كل منهما على نفي قول الآخر إنما هو في التعيين ، وإلا فهما متفقان على وقوع عقد بينهما فالساقط بالحلف هو التعيين ، لا اصل العقد الذي هو معلوم ومتفق عليه.

وثالثا : انه لو سلم الحكم بالانفساخ فان قلنا بأنه بالتحالف ينفسخ البيع

__________________

(١) وقع اختلاف في ألفاظ الحديث وفي أغلب المصادر التي ذكرته : «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما على الآخر تحالفا ، وفي بعضها أو ترادا» ذكره البيهقي في سننه ج ٥ ص ٣٣٣ / ومالك في الموطأ ج ٣ باب الاختلاف في البيع بين البائع والمشتري / المبسوط للسرخسي ج ١٣ ص ٢٩ ـ ٣٠ باب الاختلاف في البيع / نيل الاوطار للشوكاني ج ٥ ص ٣٤٠ أبواب أحكام العيوب ، باب ما جاء في اختلاف المتبايعان.

٩٦

واقعا ، ويرجع كل من العوضين إلى مالكه فلا كلام ، وإلا فنلتزم بعدم جواز تصرف الثالث فيهما.

الفرع الثالث : لو علم شخص إجمالا بجنابته أو جنابة صاحبه صح له ان يأتم به في الصلاة ، مع انه يعلم ببطلان صلاته لجنابته أو جنابة أمامه.

وفيه : أولا : ان المشهور بين الأصحاب عدم جواز الاقتداء في الفرض وإنما أفتى جماعة منهم بالجواز ، متمسكا بأنها جنابة اسقط الشارع حكمها ، وبصحة صلاة كل منهما شرعا ، ولا دليل على اعتبار ما زاد على ذلك : وبانا نمنع حصول الحدث إلا مع تحقق الإنزال من شخص بعينه ، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في الجزء الثاني من فقه الصادق (١) وبينا فساد هذه الوجوه ، وان الأقوى هو عدم الجواز.

وثانيا : انه لو سلم جواز الاقتداء يمكن ان يقال ان جواز الاقتداء واقعا يتوقف على إحراز الإمام صحة صلاته ، ولو ظاهرا وان أحرز المأموم فسادها ، وعليه فلا يحصل العلم المزبور كما لا يخفى.

الفرع الرابع : لو اختلفا في ان تمليك العين الخارجية كان بالهبة ، أو بالبيع ، ولم يكن لاحدهما بينة ، وتحالفا قالوا ، يرد العين إلى مالكها الأول مع العلم التفصيلي بخروجها عن ملكه.

وفيه : أولا انه إذا كان أحد الاحتماليين كونه هبة جائزة لا يلزم من الرد العلم المزبور ، بل يعلم بكونه ملكا له ، أما على فرض كونه هبة جائزة فلكون

__________________

(١) فقه الصادق ج ١ من الطبعة الثالثة ص ٣٩٠ ـ ٣٩١.

٩٧

نفس إنكاره لها رجوعا ، واما على فرض كونه بيعا فلامتناع المشترى من أداء الثمن ، فيكون البائع بالخيار فأخذه العين رد للبيع ، فهو يرجع إلى ملكه على كل تقدير ، وان كان احد الاحتمالين كونه هبة لازمة فحيث ان أحد الاحتمالين كونه بيعا وله الخيار في فسخه يحتمل صيرورته ملكا له بالرد فلا يحصل العلم المزبور.

وثانيا : انا لا نسلم هذا الحكم من رأسه ، بل يقدم قول مدّعي الهبة لاصالة البراءة فالحلف وظيفته ، فلو حلف ينتقل المال إليه من دون عوض ، ولو نكل يحلف صاحبه ويحكم له.

وثالثا : لو سلمنا الانفساخ بالتحالف نقول ان التحالف يوجب الانفساخ القهري كان في الواقع بيعا أو هبة.

الفرع الخامس : لو اقر بعين لشخص ثم أقر بها لشخص آخر ، قالوا ـ يعطى نفس العين للأول ويغرم للثاني قيمة العين ، فيعلم اجمالا بعدم مالكية أحدهما لما تحت يده ـ فلو انتقل منهما العين وقيمته إلى ثالث واشترى بهما جارية يعلم تفصيلا بعدم انتقالها إليه فيحرم وطئها مع انهم لم يلتزموا به.

وفيه : ان جواز تصرف الثالث فيهما وفيما جعل عوضا لهما مما لم يدل عليه آية ولا رواية فلا نلتزم به.

الفرع السادس : لو تداعى رجلان عينا بحيث يعلم بصدق أحدهما وكذب الآخر.

قالوا : الحاكم يحكم بالتنصيف ، ولازم ذلك جواز شراء ثالث لنصفين ، مع

٩٨

انه يعلم تفصيلا بعدم انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي.

والجواب عن ذلك يظهر مما ذكرناه في الفرع الأول.

كما انه يظهر مما ذكرناه في هذه الفروع الحكم في سائر الفروع المذكورة في الرسائل.

الموضع التاسع في العلم الإجمالي

والبحث في العلم الإجمالي في مقامين :

الأول : في ثبوت التكليف وتنجزه به وعدمه.

المقام الثاني : في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي بعد الفراغ عن ثبوته مع إمكان الامتثال التفصيلي.

أما المقام الأول : فيقع البحث فيه في موردين.

المورد الأول : في ان العلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، فلا يجوز ترك المجموع من الأطراف في الشبهة الوجوبية ، وارتكاب المجموع في الشبهة التحريمية أم لا؟

المورد الثاني ، في تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية وعدمه بمعنى انه يجب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية والإتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية.

٩٩

والبحث في كل من الموردين مبتنٍ على أحد طرفي الترديد في المورد الآخر ، فان البحث عن وجوب الموافقة القطعية إنما هو بعد الفراغ عن حرمة المخالفة القطعية ، وإلا فمع القول بعدم حرمتها لا مورد للبحث في وجوب الموافقة القطعية ، كما ان البحث عن حرمة المخالفة القطعية إنما هو على القول بعدم وجوب الموافقة القطعية ، وإلا فمع القول بوجوبها ، لا يبقى مجال للبحث عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها ولهذه الجهة لا يكون البحث في أحد الموردين مغنيا عن البحث في الآخر.

ثم ان مسألة تنجز العلم الإجمالي للحكم معنونة هنا وفي باب البراءة والاشتغال.

وأفاد الشيخ الأعظم (ره) (١) ان المناسب في المقام هو البحث في المورد الأول ، والمناسب لبحث البراءة البحث في المورد الثاني.

إذ البحث في المورد الثاني عن جواز ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية وارتكاب البعض في التحريمية ، وليس في بعض الأطراف إلا احتمال التكليف كما هو الحال في الشبهة البدوية.

واما البحث في المورد الأول ، وهو جواز ارتكاب المجموع في التحريمية وتركها في الوجوبية فهو بحث عن مخالفة العلم الإجمالي لان ثبوت التكليف معلوم.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٢٧ (كفاية العلم الإجمالي في تنجز التكليف واعتباره كالتفصيلي).

١٠٠