زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

فلنا دعويان :

الأولى : عدم قيام الأمارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية.

الثانية : قيامها مقام القطع المأخوذ فيه على وجه الطريقية.

أما الدعوى الأولى : فلقصور أدلة حجيتها في مقام الإثبات عن ذلك ، إذ غاية ما يدل عليه دليل الحجية هو تتميم الكشف ، وإلغاء احتمال الخلاف ، وترتيب آثار الواقع على مؤداها ، وبعبارة أخرى ترتيب آثار القطع من حيث الطريقية والكاشفية.

واما الآثار المترتبة على القطع مع قطع النظر عن كاشفيته وطريقيته بل بما هو صفة خاصة نفسانية كبقية الصفات فلا نظر لدليلها إليها أصلاً.

وبذلك يظهر ان ما أفاده المحقق الخراساني (١) ، من ان دليل التنزيل لو كان كافيا لتنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي والموضوع على وجه الطريقية لكان دليلا على قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية من غير فرق ، غير تام.

واما الدعوى الثانية فيشهد بها إطلاق دليل الأمارة فانه كما يدل على ترتيب اثر القطع العقلي على الأمارة كذلك يدل على ترتيب أثره الشرعي.

توضيح ذلك ان المجعول في باب الأمارات ، هو الطريقية والكاشفية التامة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٣.

٦١

بإلغاء احتمال الخلاف ، ويعبر عن ذلك بتتميم الكشف ، فمفاد دليل الأمارة جعلها قطعا ، فان شئت فعبر عنه بتنزيل الأمارة منزلة القطع ، ومرجعه إلى التوسعة في القطع موضوعا وجعل فرد تعبدي له.

وعليه فكما انه يدل على ترتيب اثر القطع العقلي أي اثر المقطوع على الأمارة والمؤدى باعتبار انه بعد تتميم كشف الأمارة يصير المؤدى منكشفا تعبدا ، فيلزم ترتيب أثره ، كذلك يدل على ترتيب اثر القطع الشرعي أي الحكم المأخوذ في موضوعه القطع.

كما انه على ما اختاره المحقق الخراساني (ره) (١) ، من ان المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية يكون مقتضى إطلاق الدليل ذلك.

وما أفاده (٢) في وجه عدم القيام بما توضيحه :

ان تنزيل شيء منزلة شيء آخر ، يستدعى لحاظ المنزل ، والمنزل عليه ، ولحاظ الأمارة والقطع في تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي المحض لا بد وان يكون آليا ، إذ الأثر مترتب على الواقع المنكشف بالقطع لا على نفس القطع ، فيكون النظر في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الأمارة ، ولحاظ الأمارة والقطع في تنزيل المارة منزلة القطع الموضوعي يكون استقلاليا ، إذ الأثر مترتب على نفس القطع

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٥ باب الاستصحاب حيث قال : «بناء على ما هو التحقيق من أن قضية حجية الأمارة ليست إلا تنجز التكاليف مع الإصابة والعذر مع المخالفة» وكان (قدِّس سره) قد أشار إلى بناءه هذا في غير مورد.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٦٤ بتصرف.

٦٢

فيكون النظر إليه حقيقة.

وحيث ان الجمع بين التنزيلين في دليل واحد ، مستلزم للجمع بين اللحاظين المتنافيين ، أي اللحاظ الآلي والاستقلالي المتعلقين بملحوظ واحد في آن واحد ، وهو غير ممكن ، فلا بد وان يكون التنزيل بلحاظ أحدهما.

وحيث ان المستفاد من أدلة حجية الأمارات بحسب المتفاهم العرفي هو لحاظ القطع طريقيا فيتعين الأخذ به ما لم تقم قرينة على التنزيل من حيث الموضوعية.

غير تام : لان المجعول في باب الأمارات حيث يكون على مسلكه هو المنجزية والمعذرية ، فلا يكون النظر في شيء من الموردين إلى الواقع ، بل في القطع الطريقي المحض أيضاً يكون التنزيل بلحاظ اثر القطع نفسه ، فلا محالة تكون اللحاظ استقلاليا ، فلا يلزم من التنزيل منزلة القطع الطريقي والموضوعي على نحو الطريقية ، الجمع بين اللحاظين المتنافيين ، بل يلزم لحاظ واحد استقلالي وتنزيل واحد وهو تنزيل الأمارة منزلة القطع : إذ لا يكون هناك تنزيل المؤدى منزلة الواقع فلا يكون هناك إلا تنزيل واحد.

نعم على القول بأنه في باب الأمارات يكون المجعول هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع يشكل قيامها مقام المأخوذ في الموضوع لان دليل الاعتبار لا يثبت العلم بالواقع ولو بالعناية والتعبد فلا وجه لقيامها مقامه.

ودعوى : انه بعد ورود دليل الاعتبار يحصل العلم الوجداني بالواقع التعبدي ، وهذا يكفي في ترتيب آثار العلم الموضوعي.

٦٣

مندفعة بان موضوع الحكم العلم بالواقع الحقيقي وتعميمه إلى ما يشمل القطع بالواقع التعبدي يحتاج إلى دليل مفقود ، فعلى القول بجعل المؤدى يشكل الحكم بالقيام ، ولكن على المسلكين الآخرين لا إشكال فيه ، وسيأتي الكلام في بيان ما هو الحق في أول مبحث الظن فانتظر.

قيام الأصول مقام القطع

واما المقام الثاني : وهو قيام الأصول مقام القطع ، فقيام الأصل المحرز ، مقام القطع الطريقي المحض واضح ، حيث ان حكم الشارع بالبناء على وفق الحالة السابقة يستلزم المنجزية والمعذرية ويوجب ارتفاع موضوع قبح العقاب بلا بيان.

واما القطع الموضوعي ، فان كان مأخوذا في الموضوع بما هو صفة خاصة ، أو بما انه طريق ، لا يقوم مقامه إذ المجعول في الأصل المحرز ليس هو الطريقية ، واما ان كان مأخوذا فيه بما انه مقتض للجري العملي يقوم مقام القطع.

واما سائر الأصول العملية فغير الاحتياط الشرعي منها لا معنى لقيامها مقام القطع.

أما البراءة العقلية ، فلأنها عبارة أخرى عن المعذرية ، لا شيء نزل مقام القطع في ذلك.

واما الاحتياط العقلي فالمنجز في مورده هو العلم الإجمالي ، وإنما الاحتياط في كيفية الإطاعة ، لا انه منجز للحكم.

٦٤

واما البراءة الشرعية فهي ترخيص في الشيء بلحاظ عدم إحراز الواقع ، لا إحراز عدم الواقع.

واما الاحتياط الشرعي ، فلا وجه لترك التكلم فيه من جهة منع الصغرى كما في الكفاية (١) ، إذا هو ثابت في الموارد الثلاثة على المشهور ، مع ان عدم ثبوته عند الأصوليين لا يمنع من ذلك بعد كونه ثابتا عند الإخباريين رضوان الله تعالى عليهم.

فالحق ان يقال ، ان المجعول فيه ان كان هو التنجيز كما اختاره المحقق الخراساني فهو يقوم مقام القطع كما تقدم. ولكنه غير تام.

وان كان المجعول على ما هو الصحيح هو الحكم الذي لا مصلحة فيه سوى التحفظ على الواقع ، حيث ان المولى لما كان له غرض لم يكن راضيا بتركه حتى في صورة الجهل ، وكان يرى عدم داعوية التكليف في ظرف الجهل والاحتمال جعل هذا الوجوب تحفظا لذلك الغرض ، وليس المجعول هو الحكم على تقدير المصادفة إذ بهذا النحو من الحكم لا يحفظ الواقع ، فلا بد وان يجعل الحكم على جميع التقادير ، فلا وجه ، لقيامه مقام القطع لعدم جعل الطريقية والكاشفية.

ثم ان المحقق الخراساني (ره) بعد اختياره عدم قيام الأمارات والأصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع قال : (٢) وما ذكرنا في الحاشية في وجه تصحيح لحاظ

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٢٦٥ بتصرف.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٦٦.

٦٥

واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع وان دليل الاعتبار إنما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدى منزلة الواقع وإنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما وتنزيل القطع بالواقع تنزيلا وتعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة لا يخلو من تكلف بل تعسف انتهى.

ولكن الوجه الذي ذكره في الحاشية ، لا يتم ، لا لما في الكفاية ، بل لان الدلالة الملازمية ، ان أريد بها دلالة الاقتضاء ، فهي إنما يكون فيما إذا كان الدليل مختصا بمورد خاص ولم يكن له اثر سوى هذا الأثر المترتب عليه ، وعلى الجزء الآخر فمن باب عدم لزوم اللغوية يستكشف التعبد بالجزء الآخر أيضاً إذا لم يكن وجدانيا ، واما إذا كان الدليل مطلقا أو عاما شاملا لغير هذا المورد فمن الأول يختص بما إذا كان له اثر فعلى ، ففيما كان الأثر مترتبا على الجزءين ، لا يشمل الدليل أحدهما وحده فلا يلزم اللغوية.

توضيح ذلك انه ربما يترتب الأثر على الموضوع غير المركب ، وبعبارة أخرى : يكون الموضوع شيئا واحدا نحو لا تشرب الخمر ، وفي مثل ذلك إذا أحرز الموضوع وجدانا أو تعبدا يترتب عليه الحكم والأثر بلا توقف على شيء ، وربما يترتب الأثر على الموضوع المركب كما في موضوع عدم تنجس الماء حيث انه مركب من المائية والكريّة.

وعليه ، فإذا قامت الأمارة على كلا جزئي الموضوع فلا كلام وان قامت على أحدهما ولم يكن الجزء الآخر محرزا بالوجدان ، فلا يمكن التمسك بإطلاق دليلها لمثل هذه الأمارة ثم إثبات الجزء الآخر بالملازمة ، إذ شموله لها إنما يكون متوقفا على ترتب الأثر عليها ، والمفروض ان الأثر لا يكون مترتبا عليها مع

٦٦

فرض عدم ثبوت الجزء الآخر ولا يلزم من عدم شمول الدليل لها محذور فلا محالة لا يشملها ، والمقام من هذا القبيل ، لعدم اختصاص دليل حجية الأمارة ، والاستصحاب بالمورد الذي يكون القطع مأخوذا في الموضوع.

نعم لو ورد دليل خاص على حجية خصوص هذه الأمارة كما ورد خبر حفص في جواز الشهادة مستندة إلى اليد لدل على ثبوت الجزء الآخر وهو العلم بالمشهود به بدلالة الاقتضاء صونا لكلام الحكيم عن اللغوية.

وان أريد بها الدلالة الالتزامية المصطلحة.

فيرد عليه أنها تتوقف على التلازم البين بين المدلولين ، وبديهي عدم التلازم بين جعل المؤدى منزلة الواقع وجعل القطع به منزلة القطع بالواقع.

وبعبارة أخرى : كون هذا المائع خمرا في الواقع مثلا لا يستلزم كون العلم المتعلق به هو العلم بكونه خمرا ، كما ان العلم بكونه خمرا لا يستلزم كونه خمرا في الواقع فلا مورد للدلالة الالتزامية.

وأضف إلى ذلك ان أساس هذا التوجيه إنما هو كون المجعول في باب الأمارات والأصول هو المؤدى.

وهذا مضافا إلى منافاته لما التزم به في الكفاية (١) من ان المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية.

فاسد من اصله لاستلزامه التصويب الباطل وعدم دلالة الدليل عليه في

__________________

(١) وقد مرت الإشارة إلى ذلك ، راجع الكفاية باب الاستصحاب ص ٤٠٥.

٦٧

مقام الإثبات كما سيأتي تمام الكلام في ذلك في أول مبحث الظن.

اخذ القطع بحكم في موضوع نفس الحكم

الموضع الخامس : قال المحقق الخراساني في الكفاية (١) الأمر الرابع لا يكاد يمكن ان يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ولا ضده للزوم اجتماع الضدين نعم يصح اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده انتهى.

وتنقيح القول بالبحث في موارد :

الأول : في اخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه.

الثاني : في أخذه في موضوع ضده.

الثالث : في أخذه في موضوع مثله.

الرابع : في اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه ، أو مثله ، أو ضده.

أما المورد الأول : فعن العلامة وغيره الاستدلال لامتناعه ، بما في الكفاية (٢) من لزوم الدور.

ولكن يرد عليه ان الحكم وان كان متوقفا على العلم لفرض أخذه في

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٦.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٦٦ ـ ٢٦٧

٦٨

موضوعه ، إلا ان العلم لا يتوقف على شخص هذا الحكم بل على ماهية الحكم لاستحالة تقوم العلم بما هو خارج عن افق النفس ، وليس العلم إلا وجود الماهية في النفس ، والوجود لا يقبل وجودا آخر.

فالحق ان يستدل لامتناعه بوجهين آخرين.

أحدهما : لزوم الخلف في نظر المكلف ، حيث انه يرى علمه كاشفا عن الواقع ، والواقع منكشفا لديه ، فيفرض قبل تعلق العلم حكما ، ويرى علمه متعلقا به ، فلو كان التكليف متأخرا عن العلم لزم الخلف في نظر المكلف ، وان لم يكن العلم في الواقع متوقفا على المعلوم بالعرض.

ثانيهما : ما ذكره بعض المحققين ، وهو ان فرض تعلق الوجوب مثلا بالعلم به فرض مدخلية العلم في المتعلق ، وعدم كون المتعلق طبيعي فعل المكلف كالصلاة ، وفرض العلم بوجوب الصلاة فرض تعلقه بطبيعيِّها وهما لا يجتمعان.

ثم ان المحقق النائيني (١) التزم بإمكان اخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه بنتيجة التقييد ـ بدعوى ـ ان العلم بالحكم لما كان من الانقسامات الثانوية للحكم فلا يمكن ان يكون الدليل المتكفل لبيان الحكم مطلقا بالاضافة إليه ولا مقيدا بل يحتاج إلى متمم الجعل وذلك المتمم ربما يوجب الإطلاق ، وربما يوجب التقييد ، كما في مورد الجهر والاخفات ، والقصر والإتمام ، حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في الموردين بالعالم.

__________________

(١) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ١١ ـ ١٢.

٦٩

وفيه : انه في مثل العلم والجهل كون المتمم بنحو الإطلاق ، بمعنى عدم مدخيلة العلم والجهل ممكن ، واما كونه بنحو التقييد ، بمعنى مدخلية نفس العلم ، فهو غير ممكن : إذ الخلف الذي ذكرناه يكون مانعا ثبوتيا ولا يفرق فيه بين ان يكون الدليل المتكفل لبيانه واحدا أم متعددا كما لا يخفى ، نعم كونه بنحو التقييد بمعنى ملازمة العلم لعنوان ومدخلية ذلك العنوان فيه أمر ممكن ، وعلى هذا يحمل ، ما دل على اختصاص حكم في مورد بالعالم به.

اخذ القطع بحكم في موضوع ضده

واما المورد الثاني : وهو اخذ القطع بحكم في موضوع ضده ، كما إذا ورد الدليل على حرمة صوم يوم لو قطع بوجوبه.

فقد يقال انه لا يلزم منه اجتماع الضدين : لان من شرائطه وحدة الموضوع ، وفي المثال يكون الوجوب متعلقا بالصوم والحرمة متعلقة به بما هو مقطوع الوجوب فيكون الموضوع للحكمين متعددا بحسب الجعل.

ومع ذلك يكون ذلك ممتنعا أيضاً لعدم إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال لعدم إمكان الانبعاث نحو عمل والانزجار عنه في آن واحد ، ومع عدم إمكان امتثالهما معا ، لا يصح تعلق الجعل بهما من المولى الحكيم لهذه الجهة.

ولكن التحقيق لزوم اجتماع الضدين ، لان الحرمة في المثال ، وان تعلقت بالصوم بما هو مقطوع الوجوب إلا ان الوجوب متعلق به مطلقا يشمل ما لو تعلق القطع بوجوبه ، فيلزم اجتماع الضدين في فرض العلم بالوجوب.

٧٠

اخذ القطع بالحكم في موضوع حكم مثله

واما المورد الثالث : وهو اخذ القطع بالحكم في موضوع مثله.

فقد استدل لامتناعه باستلزامه اجتماع المثلين (١) :

وفيه : ان القطع بالحكم ان لم يوجب حدوث مصلحة أخرى سوى المصلحة الموجودة في المتعلق المقتضية لجعل الحكم الأول ، فعدم إمكان جعل الحكم الثاني إنما يكون مستندا إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع.

وان أوجب حدوث المصلحة :

فان بنينا على عدم إمكان الجعل الثاني من جهة عدم ترتب الغرض عليه ، ولزوم لغويته ، كان عدم إمكان الجعل مستندا إلى لزوم اللغوية لا إلى اجتماع المثلين.

وان بنينا على إمكانه وعدم لزوم اللغوية كما سنبينه فاجتماع المثلين ، لا يكون مانعا لأنه يلتزم بالتأكد كسائر موارد التأكد.

والحق في المقام ان جعل الحكم الثاني ، لا يكون لغوا إذ النسبة بين متعلقي الحكمين ، وان كانت عموما مطلقا بما انه يترتب على الحكم الثاني اثر زائد وهو ازدياد العقاب والبعد بالمخالفة ، وازدياد الثواب والقرب بالموافقة ، ومن الممكن ان لا ينبعث العبد من تكليف واحد وينبعث من تكليفين بملاحظة ما

__________________

(١) كما في كفاية الأصول ص ٢٦٧.

٧١

ذكر فلا يكون جعل الحكم الثاني لغوا غاية الأمر لا بد من الالتزام بالتأكد في صورة الاجتماع.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقق النائيني (ره) (١) حيث التزم بأنه لو كان بين العنوانين عموما من وجه ، صح جعل كلا الحكمين ، لان كلا من الحكمين يصلح لان ينبعث العبد منه ولو في مورد الافتراق ، ففي صورة الاجتماع يلتزم بالتأكد ، فلا مانع من تشريع الحكمين بخلاف ما لو كان بينهما عموم مطلق إذ جعل التكليف الثاني الذي هو أخص موردا من الأول يكون لغوا لعدم قابليته ، لان ينبعث عنه العبد ولو في مورد ، ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ، وحيث ان القاطع بالحكم يرى قطعه مطابقا للواقع ففي نظره ، تكون النسبة عموما مطلقا فلا يصحح الجعل لذلك.

مع انه يرد عليه (قدِّس سره) انه لو فرضنا استحالة جعل الحكم لما يكون متعلقا لتكليف آخر ، لأجل عدم إمكان داعويته ، لا بد من الالتزام بعدم الإمكان حتى فيما كانت النسبة بين الموردين عموم من وجه إذ التكليف الثاني بما انه في بعض موارد متعلقه لا يصلح للداعوية وانبعاث العبد عنه جعله بنحو الإطلاق ، بنحو يشمله أيضاً لغو ولا يصح بل لا بد من تقييده بمورد الافتراق ، وإمكان داعويته في مورد لا يصحح التكليف لمورد لا يصلح لذلك فتدبر.

ولا يتوهم ، ان لازم ما اخترناه إمكان تعلق الأمر المولوي بالإطاعة.

فانه يدفعه ما ذكرناه في محله من انه لهذا العنوان خصوصية لا يعقل تعلق

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٣ ص ٤٥.

٧٢

الأمر المولوي به.

اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه

واما المورد الرابع : وهو اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه ، فقد التزم المحقق الخراساني (ره) بإمكانه (١).

ولكن سيأتي إنشاء الله تعالى في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، ان هذا أمر غير معقول ، إذ كل ما اخذ في الموضوع في مقام الجعل لو تحقق يصير الحكم فعليا بلا توقف على شيء آخر ولو لم يتحقق لا يصير فعليا وإلا لزم الخلف ، فعدم دخل القطع في الإنشاء ، وعدم أخذه في الموضوع في مقام الجعل ، ودخله فيه في مقام الفعلية مما لا يجتمعان.

وان شئت قلت ان ما ذكره (ره) يبتني على ما أسسه (ره) (٢) من ان للحكم مراتب أربعا : من الاقتضاء ، والإنشاء ، والفعلية ، والتنجز.

واما بناء على المسلك الحق من ان له مرتبتين (٣) مرتبة الجعل ومرتبة الفعلية فلا يتم : وذلك لان المراد من اخذ العلم بمرتبة من الحكم ، ليس هو

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٧.

(٢) عبّر عن تلك المراتب في موارد متعددة ، منها ما في فوائد الأصول للآخوند ص ١٤٨.

(٣) كما هو مختار عدّة من الأعلام منهم آية الله الخوئي (قدِّس سره) في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٦٤.

٧٣

اخذ العلم بجعل الحكم لغير القاطع فانه ليس محل الكلام ، بل المراد اخذ العلم بجعل الحكم لنفس القاطع وهو يلازم العلم بالفعلية مثلا كون قوله تعالى : (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) جعلا لشخص القاطع يتوقف على صيرورته مستطيعا ومعه يصير فعليا فيعود محذور الدور أو الخلف.

اخذ الظن في موضوع الحكم

هذا كله في اخذ القطع بالحكم في الموضوع.

واما الظن فملخص القول فيه :

انه تارة يؤخذ في الموضوع على وجه الطريقية.

وأخرى يؤخذ فيه على وجه الصفتية.

وعلى التقديرين ، ربما يكون جزءا للموضوع ، وربما يكون تمامه ، وعلى التقادير قد يكون الظن معتبرا بجعل الشارع ، وقد يكون غير معتبر.

والكلام في إمكان اخذ الظن بالحكم في موضوع نفسه هو الكلام في اخذ القطع به فيه دليلا ومختارا نقضا وإبراما.

واما اخذ الظن بالحكم في موضوع حكم يخالفه كما إذا قال المولى إذا

__________________

(١) الآية ٩٧ من سورة آل عمران.

٧٤

ظننت بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال يجب عليك التصدق ، فان كان الظن تمام الموضوع ، ترتب عليه وجوب التصدق كان الظن معتبرا أو غير معتبر ، وان كان جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو الواقع ، فان كان الظن معتبرا ترتب عليه الحكم أيضاً فان أحد جزئي الموضوع ، وهو الظن محرز بالوجدان ، والجزء الآخر وهو الواقع محرز بالتعبد الشرعي ، وان كان الظن غير معتبر ، فان قام إمارة أخرى معتبرة ، أو اصل معتبر على الواقع ترتب الحكم أيضاً ، وإلا فلا.

واما اخذ الظن بحكم في موضوع حكم يماثله ، فان كان الظن معتبرا.

فان قلنا بان اخذ القطع بالحكم في موضوع حكم يماثله ممكن ، ولا يلزم اجتماع المثلين ، ويلتزم بالتأكد ، فلا إشكال في جواز اخذ الظن فيه.

وان قلنا بعدم إمكانه ، فالظاهر إمكان اخذ الظن فيه أيضاً لان المانع المتوهم في القطع وهو كون النسبة بين العنوانين عموما مطلقا في نظر القاطع لأنه لا يحتمل مخالفة قطعه للواقع وان كان فاسدا ، لا يجري في الظن ، لان النسبة بين ثبوت الواقع والظن به عموم من وجه ، ولو في نظر الظان ، إذ الظن المعتبر وان كان علما تعبدا ، إلا انه يحتمل مخالفته للواقع وجدانا ، ففي مورد الاجتماع يلتزم بالتأكد كما هو الشأن في جميع موارد اجتماع العامين من وجه المحكومين بحكمين متماثلين.

واختار المحقق النائيني (ره) (١) عدم الإمكان واستدل له بوجهين :

١ ـ ان إحراز الشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء بحيث يكون من

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٣٤.

٧٥

العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك في الشيء غير ما هو عليه من الملاك.

٢ ـ ان الحكم الثاني لا يكون محركا لإرادة العبد لان الانبعاث إنما يتحقق بنفس إحراز الحكم الواقعي المجعول على الواقع فلا معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز.

ولكن يرد على ما أفيد أولا ، انه إشكال يسرى إلى جميع أقسام القطع والظن المأخوذة في الموضوع.

والكلام في هذا البحث بعد الفراغ عن الإمكان من الجهات الأخر.

ويرد على ما أفيد ثانيا ما تقدم من انه يمكن ان لا ينبعث العبد من حكم واحد وينبعث من الحكم المؤكد الموجب لازدياد الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة وما شاكل من الآثار المخرجة للثاني عن اللغوية.

مع انه (قدِّس سره) التزم بإمكان الجعل الثاني ، إذا كانت النسبة بين العنوانين عموما من وجه ، وقد مر ان النسبة بين العنوانين في المورد عموم من وجه.

وان كان الظن غير معتبر فقد ذهب المحقق الخراساني (١) إلى إمكان أخذه في موضوع الحكم المماثل ، واستند في ذلك إلى ما أفاده في وجه إمكان اخذ الظن بحكم في موضوع حكم ضده وستقف عليه وما يمكن ان يورد عليه.

واما المحقق النائيني فقد اختار إمكانه (٢) ، وملخص ما أفاده في وجه ذلك ان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٧.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٣٦.

٧٦

لازم اخذ الظن غير المعتبر لحاظه على وجه الصفتية إذ أخذه على وجه الطريقية ، يستدعي اعتباره ، وهو قد يؤخذ تمام الموضوع ، وقد يؤخذ جزؤه ، ولا إشكال في كلا القسمين :

أما في الأول : فلان النسبة تكون حينئذ العموم من وجه ، وفي مورد الاجتماع يكون الحكم آكد.

واما في الثاني : فربما يتوهم لغوية الحكم المماثل من جهة ان الحكم الأولى المجعول للواقع كالخمر محفوظ في حال الظن فجعل الحكم على الخمر المظنون لغو لا اثر له.

لكنه يندفع بأنه يكفي في الأثر تأكد الحرمة في صورة تعلق الظن بالخمر ، وتكون مثلا واجدة لعشرة درجات من المفسدة ، بخلاف ما إذا لم يتعلق بها الظن ، فإنها تكون واجدة لخمس درجات ، وربما لا يقدم الشخص على ما يكون مفسدته عشر درجات مع إقدامه على ما يكون خمس درجات ، وهذا المقدار من الأثر يكفي.

ويتوجه عليه : ان ما أفاده في المقام وان كان متينا جدا ، إلا انه ينافى ما ذكره في الظن المعتبر وما ذكر في غير موضع من ، انه إذا كانت النسبة بين العنوانين عموما مطلقا ، لا يصح جعل الحكم الثاني للزوم اللغوية ، ولذلك اختار عدم جواز أخذ القطع بحكم في موضوع حكم يماثله.

فان قلت انه يمكن ان يكون نظره إلى الفرق بين موارد تنجز حكم العام كما في القطع وسائر الموارد وبين المقام الذي يكون الحكم غير منجز ، لفرض عدم اعتبار الظن ، لان الحكم الأول لا يكون محركا فيصح جعل الثاني حينئذ.

٧٧

قلت ان هذا وان كان مطلبا دقيقا إلا انه في المقام لا يمكن الالتزام به لأنه بما ان الظن في موضوع الحكم الثاني ، اخذ جزء الموضوع وجزئه الآخر هو الواقع فحينئذ ان لم يعلم الواقع ولم يقم ظن معتبر على الواقع لا يكون الحكم الثاني باعثا أو زاجرا لعدم العلم به وان علم به ينقلب الموضوع فلا حكم ، فلا محالة لا بد ، وان يفرض في فرض تعلق الظن به قيام إمارة معتبرة على ان المظنون هو الواقع ، ليكون أحد الجزءين ثابتا بالوجدان والآخر ثابتا بالتعبد حتى يكون الحكم الثاني صالحا للداعوية وفي هذا الفرض في المرتبة المتقدمة على هذا الحكم ، الحكم الأولى المترتب على العنوان العام لفرض قيام الأمارة يصير فعليا ومنجزا ويكون صالحا للداعوية ، وبالجملة في المورد الذي يكون الحكم الثاني صالحا للداعوية يكون الحكم الأول أيضاً كذلك فتدبر فانه دقيق.

واما أخذه في موضوع ضد ذلك الحكم ، فان كان الظن مما ثبت اعتباره بالخصوص.

فالحق عدم الجواز : لأنه حينئذ بضميمة دليل اعتبار الأمارة يكون محرزا للواقع فجعل حكم آخر له يوجب اجتماع الضدين حقيقة في صورة المصادفة للواقع ، وظنا مطلقا.

وان كان الظن غير معتبر فقد اختار المحقق الخراساني جوازه (١) ، من جهة ان المحذور المتوهم ليس إلا اجتماع الضدين ، وهو مندفع بان الحكم الواقعي الذي تعلق به الظن لا يكون فعليا من جميع الجهات ، بل العلم به دخيل في فعليته ،

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٧.

٧٨

وهذا النحو من الحكم لا ينافى مع الحكم المجعول للظن الذي يكون فعليا لما سيأتي من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

وفيه : انه ستعرف من ان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إنما يكون ، من جهة ان الحكم الظاهري سنخ حكم يجتمع مع الحكم الواقعي ، وفي المقام يكون كلا الحكمين واقعيين فلا يمكن اجتماعهما وحيث ان إطلاق الحكم الواقعي شامل لصورة مصادفة الظن وتعلقه به ، فيلزم عند المصادفة اجتماع الضدين وهو محال.

وان شئت قلت : انه عند اجتماع العنوانين ووجود مصلحة ملزمة في الفعل باعثة إلى جعل الوجوب ومفسدة حادثة بواسطة الظن به باعثة إلى جعل الحرمة يتزاحم الملاكان ، فان كان أحدهما أقوى يكون هو المؤثر دون الآخر ، ومع التساوي لا بد من الحكم بالإباحة.

فتحصل ان اخذ الظن بالحكم في موضوع ضد ذلك الحكم لا يمكن مطلقا.

حول وجوب موافقة القطع التزاما

الموضع السادس : قال في الكفاية (١) هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا يقتضي موافقته التزاما والتسليم له اعتقادا وانقيادا كما هو

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٨.

٧٩

اللازم في الأصول الدينية والأمور الاعتقادية انتهى.

وليعلم : ان هذا البحث إنما انعقد لبيان انه ، هل يكون من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية مانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إذا كانت الأصول جارية في أنفسها مع قطع النظر عن هذه الجهة ، أم لا؟

فالكلام يقع في جهتين :

الأولى ، انه هل تجب الموافقة الالتزامية أم لا؟

الثانية ، انه على فرض الوجوب هل يمنع ذلك عن جريان الأصول أم لا؟ وقبل التعرض للبحث في الجهتين لا بد من بيان أمرين :

أحدهما : ان محل البحث في الجهة الأولى انه هل يكون لكل تكليف متعلق بعمل المكلف ، اقتضاءان ، أحدهما الموافقة العملية ، وثانيهما الموافقة الالتزامية ، ويترتب على المخالفة عملا ، والتزاما عقابان ، وعلى الموافقة كذلك ثوابان ، وعند التفكيك ثواب وعقاب ، أم ليس له إلا اقتضاء واحد.

الأمر الثاني : في بيان حقيقة الالتزام ، وهي في غاية الخفاء بيانا وواضح مدركا ، والذي يمكن ان يقال : انه زائدا على الصورة الحاصلة للشيء عند النفس الذي هو القطع ، والعمل الخارجي ، للنفس شيء آخر نسبتها إليه نسبة التأثير والإيجاد ، ويكون هو فعلها ، ويعبر عنه بالعلم الفعلي وذلك الشيء عبارة عن الالتزام.

وهو من جهة كونه نحوا من الوجود لا يمكن بيان حقيقته ، إلا انه مما

٨٠