زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

شرب المائع بلا اختيار ، ألا ترى ان من قتل شخصا باعتقاد انه زيد فبان انه عمر : فانه لا شبهة في انه قتل إنسانا اختيارا.

وفيه : انه مع الإغماض عن كون نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة أب واحد إلى الأبناء ، وعليه فكل فرد من أفراد المائع له حصة من الطبيعي والحصة التي تكون في ضمن الخمر وان تعلقت إرادة الشارب بها إلا أنها لم توجد ولا واقع لها والحصة المتحققة لم تتعلق الإرادة بها حتى يكون صدورها اختياريا.

انه لو سلم كون نسبته إليها نسبة الأب الواحد إلى الأبناء ، إلا ان الطبيعي في ضمن الخاص إنما يتعلق به الإرادة بالعرض وإلا فهي متعلقة بالخاص ، وكل ما بالعرض لا بد وان ينتهي إلى ما بالذات ، وحيث ان الخصوصية التي أريدت ، ونسبت الإرادة إلى الطبيعي الموجود بالعرض لم توجد ، والخصوصية الأخرى ، لم تتعلق بها الإرادة كي تنسب إلى الطبيعي بتبعه ، والمفروض ان الجامع لم يتعلق به الإرادة رأسا ، وبما هو فلا محالة ، لا يكون الجامع اختياريا.

والحق في الجواب ان شرب المائع الشخصي المشار إليه بالإشارة الحسيّة ليس بقصر القاصر ، ولا بالطبع ، بل يتحقق مستندا إلى الإرادة.

نعم ، تعلق الإرادة به كان لأجل اعتقاد انه شرب الخمر ، وتخلفه إنما يكون من باب تخلف الداعي ، ولا يوجب كون الشرب المتحقق خارجا عن الاختيار.

ثم ان في المقام وجها خامسا لعدم القبح ، وهو انه لو التزم بقبح الفعل المتجري به ، لزم انقلاب الواقع عما هو عليه ، أو اجتماع الحسن والقبح في مورد واحد ، إذا كان الفعل المتجري به في الواقع من الأفعال الحسنة وكل منهما

٤١

محال.

وفيه : أولا ، ان الفعل بما له من العنوان الواقعي المجهول للفاعل لا يكون حسنا ولذا لو تركه كان معذورا ، ألا ترى انه لو ضرب اليتيم للتشفي وترتب عليه التأديب ، لا يكون الضرب حسنا بوجه ، بل هو قبيح محض.

وثانيا : انه لو سلم كونه حسنا لا يلزم اجتماع الضدين بل يقع التزاحم بينهما ويقدم الأقوى ، ومع التساوي ، يحكم بأنه لا حسن فيه ولا قبح ، وعلى أي تقدير هذا الوجه ، لا يمنع من كون التجرِّي بنفسه من العناوين القبيحة.

ثم ان المحقق النائيني (ره) (١) بعد ما التزم بعدم قبح الفعل مستندا إلى الوجه الأول من الوجوه التي استند إليها المحقق الخراساني قال نعم ، لا بأس بدعوى القبح الفاعلي بان يكون صدور هذا الفعل من مثل هذا الفاعل قبيحا وان لم يكن الفعل قبيحا.

وفيه : مضافا إلى ما عرفت آنفا من ان القبح إنما هو لعنوان التجرِّي ، والهتك ، والظلم المنطبق ، على الفعل المضاف : انه لو سلم عدم قبح الفعل واغمض عما ذكر لما كان ، وجه للالتزام بالقبح الفاعلي إذا إضافة الفعل إلى الشخص ، ـ وبعبارة أخرى ـ إيجاده ، عين وجوده حقيقة لما حقق في محله من ، اتحاد الإيجاد والوجود ، فلا معنى للقول بعدم قبح الوجود ، وقبح الإيجاد.

وبهذا يظهر عدم صحة ما ذكره المحقق العراقي (ره) (٢) في مقام الجواب

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٤٢.

(٢) مقالات الأصول ج ٢ ص ٣٩.

٤٢

عنه ، من ان لازم مبغوضية إضافة الفعل مبغوضية نفس الفعل ، لكونه مقدمة للإضافة المذكورة.

نعم ، لو كان الفعل غير الإضافة المذكورة كان هذا الجواب متينا جدا.

وبالجملة : لا بد من الالتزام : إما بعدم القبح ، كما عن المحقق الخراساني.

أو القبح الفعلي كما حققناه في الجواب عن استدلال المحقق الخراساني على مختاره.

واما الالتزام بالقبح الفاعلي فلا وجه له أصلاً.

حرمة الفعل المتجري به وعدمها

واما المقام الثالث : فقد مرَّ ان الكلام فيه في جهتين :

الجهة الأولى : في حرمته بنفس الملاك للحرام الواقعي ، بان يقال ان إطلاق الأدلة الأولية شامل لموارد التجرِّي ، وان متعلق التكليف في الخطابات الأولية إنما هو إرادة الفعل الخارجي المحرز كونه ذلك الفعل من دون دخل لمصادفته ومخالفته ، ويكون الموضوعات هي الوجودات العلمية ، لا الموجودات الواقعية فمعنى لا تشرب الخمر لا تشرب ما قطعت بكونه خمرا.

ويستدل له بما هو مركب من مقدمات :

الأولى ان متعلق التكليف لا بد وان يكون مقدورا للمكلف فما هو خارج عن تحت قدرته لا محالة يكون مفروض الوجود ولا يتعلق به الحكم ، وعليه

٤٣

فموضوعات الأحكام ومتعلقاتها خارجة عن حيز التكليف ، فلو ورد لا تشرب الخمر ، تكون خمرية الخمر خارجة عن حيز الخطاب ومفروضة الوجود في هذا الخطاب.

الثانية : ان المحرك للإرادة والاختيار ، إنما هو القطع والانكشاف من دون دخل للمصادفة للواقع وعدمها فيه أصلاً ، ألا ترى ان القاطع بوجود الأسد يفر وان لم يكن هناك أسد ، ووجود الأسد ، لا يوجب الحركة نحو الفرار ما لم يقطع به.

فما ، أفاده المحقق النائيني (ره) (١) من ان المحرك هو العلم بالموجود الخارجي بما انه طريق إليه. وبعبارة أخرى : الموجود الخارجي لكن لا مطلقا بل بعد الانكشاف غير تام.

الثالثة : ان متعلق الإرادة التشريعية هي الإرادة التكوينية ، إذ الغرض مترتب على الفعل الاختياري ، لا الاضطراري ، فالفعل في نفسه من حيث هو لا غرض فيه بل الغرض مترتب على اختيار الفعل.

إذا عرفت هذه الأمور تعرف ان متعلق التكليف إنما هو اختيار ما تعلق القطع بانطباق الموضوع ، أو المتعلق عليه فعلا أو تركا ، صادف الواقع قطعه أم خالفه.

وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) (٢) بان المقدمة الثالثة ، غير تامة : إذ الإرادة

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٥ (وجوابه).

(٢) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٣٩.

٤٤

تكون مغفولا عنها حين الفعل ولا يلتفت الفاعل إليها ، فلا تصلح لان يتعلق بها التكليف.

وفيه : ان الإرادة ملتفت إليها واختيارية بنفسها.

والحق في الجواب بمنع تلك المقدمة بان يقال ان التكليف لا بد ، وان يتعلق بما فيه المفسدة أو المصلحة ، ولأجل ذلك متعلق للغرض ، ولا ريب ان ما فيه المصلحة أو المفسدة إنما هو الفعل غاية الأمر إما لا مصلحة أو لا مفسدة في الفعل غير الصادر عن الاختيار ، أو انه من جهة عدم إمكان التكليف بما لا يطاق ، يكون المتعلق هو الفعل الصادر عن الاختيار ، لا الاختيار نفسه ، وعليه فإذا اختار شرب الخمر ولم يشربه لما أوجد المنهي عنه.

فالحق ان الموضوعات هي الأشياء بوجوداتها الواقعية.

واما الكلام في الجهة الثانية وهو انه قد يدعى حرمة الفعل المتجري به بملاك الجرأة على المولى : واستدل له بان تعلق القطع بحرمة فعل ، أو بموضوع معلوم الحرمة كالخمر ، يوجب قبح ذلك الفعل ، والقطع بحسن عمل يوجب حسنه ، فبضميمة قاعدة الملازمة ، يحكم بحرمته في الأول ، ووجوبه في الثاني.

فهنا دعويان :

الأولى : ان القطع بقبح فعل أو حسنه من الوجوه المقبحة أو المحسنة.

الثانية : ان قبح الفعل يستتبع حرمة شرعية ، وحسنه يستتبع وجوبا شرعيا.

أما الدعوى الأولى فقد مر الكلام فيها في المقام الثاني وعرفت أنها تامة ، والكلام في المقام في خصوص الدعوى الثانية.

٤٥

فقد أورد عليها المحقق النائيني (ره) (١) بما حاصله ان الخطاب المدّعى استكشافه بقاعدة الملازمة ، ان كان مختصا بالمتجري ومن خالف قطعه للواقع ، فمضافا إلى انه تخصيص بلا وجه بعد اشتراك القبح الفاعلي بين صورة المصادفة للواقع ، والمخالفة له ، يكون غير ممكن ، لان الالتفات إلى الموضوع مما لا بد منه والمتجري لا يعقل ان يلتفت إلى انه متجر لأنه بالالتفات يخرج عن كونه متجريا ، فتوجيه الخطاب على وجه يختص بالمتجري لا يمكن.

وان كان الخطاب على وجه يعم صورة المصادفة والمخالفة ، بان ينهى عن هتك المولى مثلا ، فهو أيضاً لا يمكن لاستلزامه اجتماع المثلين دائما في نظر القاطع ، وان لم يلزم ذلك في الواقع لان النسبة بين حرمة الخمر الواقعي ، ومعلوم الخمرية ، هي العموم من وجه ، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان : إذ القاطع يرى قطعه مصادفا للواقع فدائما يجتمع في نظره حكمان ، وكل من هذين الحكمين لا يصلح ان يكون داعيا ومحركا لارادة العبد بحيال ذاته ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد ، وفي مثل أكرم العالم واكرم الهاشمي مما تكون النسبة بينهما عموما من وجه كل من الحكمين يصلح للباعثية ولو في مورد الافتراق ، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكد ، فلا مانع من تشريع هذين الحكمين.

بخلاف المقام فانه لو فرض ان للخمر حكم ولمعلوم الخمرية أيضاً حكم ، فبمجرد العلم بخمرية شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض انه رتب

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٤٤ ـ ٤٥.

٤٦

على ذات الخمر فيكون هو المحرك الباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المرتب على معلوم الخمرية ، لا يصلح لان يكون باعثا ، ويلزم لغويته وليس له مورد آخر ، يمكن استقلاله في الباعثية وذلك واضح بعد ما كان العالم لا يحتمل المخالفة.

وأضاف الأستاذ الأعظم (١) إلى ذلك ، ان الحكم ان كان مترتبا على ما يشمل التجرِّي ، والمعصية ، كان جعل هذا الحكم مستلزما للتسلسل ، إذ التجرِّي أو العصيان قبيح عقلا على الفرض ، وقبحهما يستتبع الحرمة الشرعية ، وعصيان هذه الحرمة ، أو التجرِّي فيها أيضاً ، قبيح عقلا ، والقبح العقلي مستلزم للحرمة الشرعية وهكذا إلى ما لا نهاية له.

ولكن يرد على المحقق النائيني (ره) انه في مورد الاجتماع ، إما ان يكون جعل التكليف الثاني صحيحا لترتب الأثر عليه ، أو لا يكون كذلك فان كان صحيحا فلا يفرق فيه ، بين ان يتعلق التكليف به خاصا ، أو بما يعمه ، وان لم يكن صحيحا فلا يصح ، ولو بان يتعلق بعنوان اعم منه.

وبعبارة أخرى : بما ان المانع عن التكليف الثاني المتعلق بعنوان الاجتماع حينئذ ، مانع ثبوتي ، وهو عدم إمكان داعويته ، فلا يصح ولو بان يتعلق بعنوان اعم ، إذ إمكان داعويته ، في مورد الافتراق ، لا يصحح التكليف في مورد الاجتماع كما لا يخفى.

والحق انه في الموارد التي نلتزم فيها بالتأكد ، لا فرق بين ان يكون النسبة

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٢٧ / دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٤.

٤٧

بين العنوانين عموما من وجه ، أو تكون عموما مطلقا ، فانه في المورد الثاني أيضاً يصح جعل التكليف الثاني ، ولا يكون لغوا ، إذ يمكن ان يكون العبد ممن لا ينبعث عن التكليف الواحد ، وينبعث لو تعدد ، لازدياد العقاب على المخالفة ، والثواب على الموافقة ، فعلى هذا للمستدل ان يقول انه وان كان في نظر القاطع ، مورد النهي عن الهتك ملازما دائما ، لمورد يكون متعلقا لتكليف آخر ، إلا انه يكفي لجعل الحكم عليه تأكد داعي العبد ولا يكون جعله لغوا.

أضف إلى ذلك انه لو كانت النسبة بين الموضوع الواقعي كالخمر ، وما علم كونه محرما ، هي العموم من وجه ، كما اعترف به من جهة ان العلم ربما يخالف الواقع ، والواقع ربما لا يتعلق به العلم ، لا تكون النسبة في نظر العالم هي العموم المطلق ، إذ العالم وان لم يحتمل مخالفة قطعه الفعلي للواقع ، إلا انه يحتمل مخالفة بعض أفراد قطعه له بل ربما يحصل له العلم بذلك كما لا يخفى وعليه فلا محذور في جعلهما حتى على مسلكه.

واما ما أفاده الأستاذ ففيه انه لا يوجد من المولى إلا نهي واحد متعلق بطبيعة الهتك ، وهو يشمل الأفراد المحققة به ، ولا بأس بانحلال النهي الواحد إلى نواهي غير متناهية لانتهائها إلى إيجاد واحد ، مضافا إلى انقطاعها بانقضاء زمان الامتثال وبترك فعل واحد ، وهو ما نهى عنه أولا ، مع انه ليس هناك إلا هتك واحد ولا يوجب مخالفة المتعدد من التكاليف التي في مورد واحد ، أزيد من هتك واحد وجرأة واحدة.

فالحق في الجواب عن قاعدة الملازمة ، ان يقال بعد بيان مقدمات :

الأولى : انه لا بد وان يكون للتكليف سواء كان في مورده تكليف آخر أم

٤٨

لم يكن وسواء كان دليله المثبت له حكم العقل ، أم كان هو الكتاب السنة اثر ، وإلا يكون جعله لغوا وصدوره من الحكيم محال.

الثانية : ان التكليف المولوي يتأتى فيما يكون موجبا للثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة أو ازديادهما ، والتمكن من التقرب إلى المولى بالموافقة أو فيما يكون موجبا للتنجز والعذر كالتكاليف الواردة في مقام جعل الأمارات والأصول العملية.

الثالثة : ان العناوين القبيحة قسمان ، الأول ما لا يكون له في نفسه ارتباط خاص بالمولى ، كالظلم على الغير ، الثاني ما يكون بنفسه مرتبطا به ، كهتك حرمة المولى ، والظلم عليه ، ففي القسم الأول لو لم يتعلق به النهي المولوي ، لاوجه لعقاب المولى عليه من حيث انه مولى ، ولا يوجب بنفسه بعدا عنه ، ولا يكون تركه موجبا للقرب إليه ، واما في القسم الثاني فجميع هذه الآثار تترتب عليه فيصح عقوبته عليه ، ويكون فعله مبعدا عنه ، وتركه مقربا إليه ، بل هو الملاك لترتب هذه الآثار على التكليف ، وإلا فهو بنفسه مع قطع النظر عن هذا الحكم العقلي لا يترتب عليه شيء من هذه الآثار.

إذا عرفت هذه المقدمات يتبين انه لا يصح التكليف المولوي بعنوان هتك المولى ، لان الآثار التي يمكن ان يترتب على الحكم الشرعي الذي يكون بدون ترتبها لغوا لا يصدر من الحكيم ، كلها مرتبة على نفس الموضوع ، فتعلق التكليف به يكون لغوا وبلا اثر ، وصدوره من الحكيم محال.

ولنا في الجواب عن هذا الدليل وجه آخر ، وهو ان حكم العقل عبارة عن إدراكه لا غير كما مر غير مرة.

٤٩

وعليه فتارة يدرك العقل ما هو في سلسلة علل الأحكام من المصالح والمفاسد.

وأخرى يدرك ما هو في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية ، كحسن الإطاعة وقبح المعصية إذ هذا الحكم من العقل فرع ثبوت الحكم الشرعي ، والذي يكون مورد قاعدة الملازمة إنما هو القسم الأول والمقام من قبيل الثاني فلنا دعويان.

الأولى : ان قاعدة الملازمة تتم في الأول ، دون الثاني ، والوجه فيه ان العقل إذا أدرك مصلحة ملزمة غير مزاحمة بمفسدة في عمل من الأعمال ، أو مفسدة ملزمة غير مزاحمة بالمصلحة في فعل من الأفعال ، يعلم قطعا بجعل ، الوجوب الشرعي في الأول والحرمة في الثاني ، بناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، وان الشارع إلا قدس جعل لكل عمل حكما اما لزوميا أو غير لزومي ، وهذا القسم من الحكم العقلي نادر ان وجد.

واما إذا كان المدرك العقلاني من القسم الثاني فلا مورد لقاعدة الملازمة.

الدعوى الثانية ان المقام من قبيل الثاني وهو واضح لا سترة عليه.

تنبيهات

الأول : انه قد استدل لحرمة الفعل المتجرى ، به بوجهين آخرين :

أحدهما الإجماع.

الثاني الأخبار.

٥٠

أما الأول : فقد ادعى جماعة (١) الإجماع على ان ظان ضيق الوقت إذا أخر صلاته عصى وان انكشف بقاء الوقت.

وتعبيرهم بظن الضيق إنما هو لبيان أدنى فردي الرجحان ، وأيضا ادعى الإجماع على ان سلوك طريق الضرر مظنونه أو مقطوعه معصية ، ولو انكشف الخلاف ، فلو فاتت الصلاة في السفر الكذائي ، لا بد من القضاء تماما ولو بعد انكشاف عدم الضرر.

ولكن يرده مضافا إلى ما مر من ان محل الكلام في التجرِّي ، هو القطع الطريقي المحض فلو تم الإجماع يكون الظن أو القطع بنفسه موضوع الحكم فيكون أجنبيا عن المقام.

مع انه يمكن منع الإجماع على العصيان حتى في صورة كشف الخلاف ، لان وظيفة المفتى ليس إلا تعيين الوظيفة حين العمل وهو حين حصول الظن والخوف فيحكم بحرمة التأخير ، وان المكلف لو أخر يكون عاصيا ، ولا يجوز السفر مع الخوف ويعد سفره معصية ، واما انه لو تجرى وانكشف الخلاف ، فهل هو عاص ، أم لا فليس وظيفة المفتي بيانه.

واما الأخبار فقد دلت الأخبار على أن العقاب على نية المعصية ، وبازائها روايات تدل على عدم العقاب عليها ، فقد جمع بينهما ، بحمل الأولى على نية المعصية مع الجري على طبق ما نوى ، وحمل الثانية على النية المجردة ، ومن الحكم

__________________

(١) نقل هذه الدعوى عدّة من الأعلام عن جماعة منهم الشيخ الأعظم في فرائد الأصول ج ١ ص ٨ كما مرّ.

٥١

بترتب العقاب يستكشف الحرمة.

ويرد عليه ان الجمع المذكور تبرعي لا شاهد له ، ولعل الأولى حمل ما دل على نفي العقاب على العفو ، وعدم فعلية العقاب ، وما دل على ثبوته على الاستحقاق ، نظير ما ورد في العفو عن الظهار ، وعن الصغائر إذا اجتنب الكبائر فتأمل.

مع انه من ترتب العقاب في أمثال المقام مما يكون الموضوع له ارتباط خاص بالمولى الذي يكون العقاب من آثار نفس الموضوع لا يستكشف الحرمة كما هو واضح ، هذا كله مضافا إلى ان عنوان الهتك والتجري غير قابل لتعلق النهي المولوي به ، فلو تم الإجماع والأخبار لا بد من تأويلهما.

أضف إلى ذلك ان الروايات الدالة على ترتب العقاب ما بين ما هو ضعيف السند وما هو قاصر الدلالة ، راجع الوسائل أبواب مقدمات العبادات (١).

التنبيه الثاني : هل المتجري يكون فاسقا ، أم لا؟ أم يفصل بين التجرِّي في الكبائر ، وبين التجرِّي في الصغائر ، والأول يوجب الفسق دون الثاني.

والحق يقتضي ان يقال انه ان فسرنا العدالة ، بملكة باعثة على فعل الواجبات وترك المحرمات مطلقا ، يكون المتجري فاسقا مطلقا ، لأنه به يستكشف عدم الملكة ، وانه لا رادع له عن المعصية ، كما انه ان فسرناها بملكة باعثة على

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ج ١ ص ١٣ (أبواب مقدمة العبادات) وفيها ٣١ بابا بعضها نافع في المقام لا سيما الأبواب ٥ ـ ١٢.

٥٢

عدم مخالفة المولى في الكبائر تعين التفصيل المزبور ، وان فسرناها بفعل الواجبات وترك المحرمات لم يكن المتجري فاسقا لأنه لم يرتكب الحرام.

التنبيه الثالث : أفاد صاحب الفصول (ره) (١) ان قبح التجرِّي لا يكون ذاتيا ، بل يختلف بالوجوه والاعتبار ولذلك تقع المزاحمة بين محبوبية الفعل في الواقع ، إذا قطع بحرمة ما هو واجب واقعا ، فربما يتساويان ، وربما يكون ملاك الوجوب أقوى ، فالتجري حينئذ مضافا إلى عدم قبحه يكون حسنا ، وربما يكون ملاك قبح التجرِّي أقوى فيكون قبيحا.

والحق ان يقال انه تارة يقع البحث فيما أفاده على القول بعدم حرمة الفعل المتجري به وكونه قبيحا فقط.

وأخرى يقع البحث على القول بحرمته.

أما على الأول فما يتوهم مزاحمته للقبح أمران :

الأول : حسن الفعل ان كان واجبا.

الثاني : وجوبه.

أما الأول : فهو لا يصلح للمزاحمة : لان العنوان الحسن ، أو القبيح ، ما لم يلتفت إليه ولم يقصد ، لا يوجب حسن الفعل أو قبحه ، وحيث ان المتجري لا يرى حسن الفعل فلا يقصد العنوان الحسن فلا يصلح ذلك لمنع تأثير ما يقتضي القبح وهو عنوان التجرِّي والهتك.

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٤٣١.

٥٣

واما الثاني : فلأنه لا منافاة بين الوجوب الواقعي وقبح الفعل لدخوله تحت عنوان قبيح ، والوجوب الواقعي لفرض عدم الالتفات لا يعقل ان يؤثر في رفع قبح الفعل.

واما على الثاني : فالظاهر تعارض الوجوب الواقعي والحرمة الثابتة بواسطة القطع بحرمته : لان متعلق الوجوب هو الفعل وهو أيضاً متعلق للحرمة لانطباق العنوان المتعلق للحرمة عليه ، فيلزم اجتماع الضدين فيدخل في باب التعارض ، ولبيان ما تقتضيه القاعدة في أمثال المقام محل آخر.

الموضع الثالث في القطع الموضوعي

قد مر ان القطع طريق بذاته من دون جعل جاعل ، وهو قد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه لا يماثله ولا يضاده.

وقد قسم الشيخ الأعظم (١) هذا القسم من القطع أي القطع الموضوعي إلى قسمين باعتبار ان القطع قد يكون مأخوذا في الموضوع بنحو الصفتية ، وقد يكون مأخوذا على وجه الطريقية.

فالحق : أن يقع الكلام في مقامين :

الأول : في بيان المراد من أخذ القطع في الموضوع على وجه الطريقية ، وأخذه فيه على وجه الموضوعية.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٦.

٥٤

الثاني : في أقسام القطع.

أما الأول : فقد يقال كما في الدرر (١) بأن المراد من أخذه على وجه الطريقية ملاحظته من حيث انه طريق معتبر ـ وبعبارة أخرى ـ ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة ، والمراد من أخذه في الموضوع على وجه الصفتية ، ملاحظته حيث انه كشف تام.

وفيه : ان الظاهر هو تقسيم القطع بما هو قطع وممتاز عن غيره إلى القسمين ، وأخذه فيه بما انه من مصاديق الطرق المعتبرة ، مع قطع النظر عن كشفه التام ، يكون قطع النظر عن حقيقته ، وأخذاً لغير القطع في الموضوع ، وهو خلف.

أضف إلى ذلك ان الأمارات تكون حينئذ من مصاديق ما اخذ في موضوع الحكم ، ولا معنى للقول بأنها تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية على ما أفاده الشيخ (٢) الذي هو المقسم لهذا التقسيم فلا يصح حمل كلامه عليه.

وأيضا لازم ذلك ورود الأمارات على الأصول ، لا حكومتها عليها ، على ما هو صريح الشيخ (٣) ، فهذا المعنى ليس مراد الشيخ الأعظم قطعاً.

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ٨.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦.

(٣) صرح بحكومة الأمارات على الأصول في غير مورد منها : ج ٢ ص ٤٧٧ عند قوله : ولكن الإنصاف ان أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل .. ثم قال : كما أنها حاكمة على تلك

٥٥

وقد يقال كما في الكفاية (١) ان القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، ولذا كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره ، فقد يؤخذ في الموضوع بما هو صفة خاصة بإلغاء جهة كشفه ، وهذا معنى أخذه في الموضوع على وجه الصفتية ، وقد يؤخذ فيه بما هو كاشف عن متعلقه وحاك عنه ، وهذا معنى أخذه في الموضوع على وجه الطريقية.

وفيه انه بما ان حقيقة القطع عين الانكشاف فلا يعقل أخذه في الموضوع مع إلغاء جهة كشفه ، فان حفظ الشيء مع قطع النظر عما به هو محال.

وان شئت فقل ان ملاحظة القطع وأخذه في الموضوع ، مع قطع النظر عن جهة كشفه وإلغائها يكون قطع النظر عن حقيقته ، ومعنى كون القطع والعلم ظاهرا بنفسه ومظهرا لغيره ليس ان له حيثيتين وجهتين فان ظهوره بنفسه عين مظهريته لغيره ، بل معناه عدم احتياجه في الحضور إلى حضور آخر.

أضف إلى ذلك ان اخذ القطع في الموضوع مع إلغاء جهة كشفه عديم المورد في الشرعيات.

وحق القول في المقام ان المراد من أخذه في الموضوع على وجه الصفتية ، أخذه فيه بما انه مظهر لما تعلق به في النفس بلا نظر إلى مطابقته للخارج ،

__________________

الأصول الجارية في المسألة الفرعي .. وقد أشار إلى ذلك في مورد آخر ج ٢ ص ٤٩٥ / وفي مورد ثالث ج ٢ ص ٧٥١ ـ ٧٥٢ حيث قال : فإن كان المخصص مثلا دليلاً علميا كان واردا على الأصل .. إلى أن قال : وإن كان المخصص ظنياً كان حاكما على الاصل.

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٣.

٥٦

ومعنى أخذه في الموضوع على وجه الطريقية ، أخذه فيه بما انه حاك عما في الخارج ومتعلق به ، توضيح ذلك :

ان العلم يشارك الوجود في كونه ظاهرا بنفسه ومظهرا لغيره ، إلا انه يفارقه في ان الوجود إنما يكون مظهرا لماهية واحدة ولكن العلم مظهر لماهيتين ، لأنه :

أولا وبالذات مظهر لماهية في النفس وهي التي لا يعقل تحقق القطع بدونها لأنه من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، وتلك الماهية وان لم تكن معلومة بالذات إلا انه يعبر عنها بذلك مسامحة.

وثانيا وبالعرض يكون مظهرا لما في الخارج الذي يسمى بالمعلوم بالعرض ، وهو الذي لا يكون ملازما للقطع ، وقد لا يكون كما في ما إذا كان جهلا مركبا.

ولا باس بتسمية المتعلقين بالماهيتين ، ويقال ان للعلم ماهيتين.

فحينئذ قد يتعلق الفرض بأخذ القطع في الموضوع من جهة تعلقه بالماهية المعلومة بالذات ، ومثاله العرفي ، ما لو نذر الوسواسي الذي لا يحصل له القطع بشيء ، انه إذا قطع بشيء فعليه التصدق بدرهم ، فانه لا ريب في ان نظره إنما يكون إلى إزالة مرضه المتوقفة على حصول هذه الصفة في النفس ، ولا نظر له إلى جهة تعلقه بما في الخارج ، وهذا هو المراد من اخذ القطع في الموضوع على وجه الصفتية.

وقد يتعلق الغرض بأخذه فيه من جهة تعلقه بالمعلوم بالعرض فيؤخذ في الموضوع بهذا اللحاظ وهذا معنى اخذ القطع في الموضوع على وجه الطريقية.

٥٧

أقسام القطع

واما المقام الثاني : وهو بيان أقسام القطع ، فالظاهر ان المأخوذ منه في الموضوع ينقسم إلى أربعة أقسام ، إذ المأخوذ على الصفتية ينقسم إلى قسمين ، لأنه :

إما ان يكون الموضوع هو هذه الصفة بلا دخل للواقع فيه ويؤخذ فيه كذلك ، فيكون القطع تمام الموضوع.

واما ان يكون الموضوع هذه الصفة مع كون الواقع أيضاً دخيلا فيه فيكون القطع جزء الموضوع.

وأما القطع المأخوذ على وجه الطريقية فلا يعقل فيه إلا قسم واحد ، إذ لا معنى لاخذه فيه بما انه تمام الموضوع بلا دخل للواقع ، إذ معنى أخذه كذلك عدم النظر إلى الواقع ، ومعنى أخذه على نحو الطريقية كون النظر إلى الواقع ، فلا يمكن الجمع بينهما.

وما أفاده المحقق الخراساني (١) من انه أيضاً ينقسم إلى قسمين. غير تام.

فهذه ثلاثة أقسام ، وهناك قسم رابع ، وهو أخذه في الموضوع بما انه يقتضي الجري العملي على وفقه ، توضيح ذلك انه للقطع جهات :

١ ـ كونه ظاهرا بنفسه ومظهرا لما في النفس.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٣ (الأمر الثالث).

٥٨

٢ ـ كونه مظهرا لما في الخارج.

٣ ـ كونه مقتضيا للجري العملي على وقفه لأنه الموجب والداعي لإرادة العمل ، مثلا العلم بوجود الأسد في الطريق يقتضي الفرار عنه واما نفس وجود الأسد ، فهو لا يقتضي ذلك كما لا يخفى.

فعلى هذا تارة يؤخذ القطع في الموضوع من الجهة الأولى ، وقد عرفت انقسامه إلى قسمين ، وأخرى يؤخذ فيه من الجهة الثانية ، وثالثة يؤخذ في الموضوع من الجهة ، الثالثة ، فأقسام القطع المأخوذ في الموضوع ، إنما يكون أربعة فإذا انضم إليها ما هو طريق محض يصير خمسة.

ثم ان المراد من القطع الموضوعي هو المأخوذ في الموضوع واقعا ويكون دخيلا في ترتب الحكم ، كالعلم المأخوذ في الركعتين الأوليتين من الصلوات الرباعية ، وركعات المغرب والصبح ، ولذلك لو شك بين الواحدة والاثنتين مثلا ، وأتم الصلاة رجاءً ثم انكشف انه كان آتيا بالركعتين كانت صلاته باطلة.

لا القطع المأخوذ في لسان الدليل فقط مع ثبوت عدم دخله في الموضوع كما في قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ)(١)

__________________

(١) الآية ١٨٧ من سورة البقرة.

٥٩

قيام الأمارات والأصول مقام القطع

الموضع الرابع : وقع الكلام في قيام الأمارات والأصول مقام القطع وملخص القول فيه بالبحث في مقامين :

الأول في قيام الأمارات مقام القطع.

الثاني في قيام الأصول مقامه.

أما المقام الأول : فلا ريب ولا كلام في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض ، إذ أثره إنما هو تنجز الواقع عند الإصابة والعذر عند المخالفة وهما مترتبان على الأمارات على جميع المسالك فيها كما هو واضح.

وإنما الخلاف في قيامها مقام القطع الموضوعي والأقوال فيه ثلاثة

الأول : قيامها مقامه مطلقا.

الثاني : عدم قيامها مقامه كذلك اختاره المحقق الخراساني (١).

الثالث : قيامها مقام القطع المأخوذ فيه على وجه الطريقية.

واما المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية فلا تقوم الأمارات مقامه ، اختاره الشيخ الأعظم (ره) (٢) وتبعه غيره من الأساطين (٣) ولعله الأظهر.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٢٦٣.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٦.

(٣) الظاهر أنه المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ٢ ص ١٤ وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٢٨.

٦٠