زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

وثانيا : انه إنما هو فيما كانت الحرمة والوجوب محرزتين ، لا في مثل المقام مما دار الأمر بينهما.

وثالثا : انه بهذه الكلية لا تتم قطعا.

ورابعا : انه لا يدل على التعيين.

الوجه الثالث : ان إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ، لان مقصود الحرمة يتأتى بالترك سواء كان مع قصد ، أم غفلة بخلاف فعل الواجب.

وفيه : ان هذا لا يوجب أهمية الحرمة وتعين تقديمها.

الوجه الرابع : الاستقراء فانه في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام غلب الشارع لجانب الحرمة ، ومثل له بأيام الاستظهار حيث ان الشارع الأقدس قدم جانب الحرمة وحكم بترك الصلاة ـ وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس والأمر بترك الوضوء.

وفيه : أولا مجرد تقديم الحرمة في هذين الموردين لا يوجب الغلبة والاستقراء.

وثانيا : ان وجوب الصلاة والوضوء تعبدي لا توصلي فهما خارجان عما هو محل البحث.

وثالثا : ان الاستظهار ليس على الوجوب عند المشهور كما أفاده الشيخ

٤٨١

الأعظم (١) ولو قيل بالوجوب فلعله يكون لاستصحاب بقاء الحيض وحرمة العبادة في ذات العادة ، وأما غير ذات العادة الوقتية التي تترك الصلاة بمجرد الرؤية فهو للاطلاقات وقاعدة الإمكان.

وأما الإناءان المشتبهان فليس من مصاديق الباب لان الوضوء بالنجس حرمته تشريعية لا ذاتية وإنما منع من التطهير به مع الاشتباه للنص (٢).

الوجه الخامس : ظاهر ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة ، المتقدم فان الظاهر من التوقف ترك الدخول في الشبهة.

وفيه أولا : ان ظاهر تلك الأخبار ، الاختصاص بالشبهة التحريمية المحضة ، ويظهر ذلك من ملاحظة ما فيها من التعليل.

وثانيا : ان تلك النصوص ، أما ان تشمل مورد احتمال الوجوب ، فلا بد من ان يكون المراد بالتوقف اعم من ما ذكر ـ وأما ان لا تشمل فلا تشمل دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

وأما القول الرابع : وهو جريان أصالة الحل وعدم جريان البراءة العقلية.

فقد استدل في الكفاية (٣) للأول : بشمول مثل (كل شيء لك حلال حتى

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ١٨٦ بتصرف يسير.

(٢) راجع الروايات وعددها ١٥ رواية في وسائل الشيعة ج ١ من صفحة ١٥٠ الى ١٥٧.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٥٥.

٤٨٢

تعرف انه حرام) (١) له المتقدم ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا ، وذكر في وجه عدم المانع بان موافقة الأحكام التزاما لا تجب ، ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا ، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا.

ثم قال وقياسه بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل.

وظاهر العبارة كما هو صريح الشيخ الأعظم (٢) ان القياس بالخبرين ونقده لتتميم البحث عن عدم وجوب الالتزام بأحد الحكمين ، بنحو التخيير كي يمنع عن إجراء البراءة شرعا ، لا لإثبات التخيير شرعا كما أفيد وسيأتي تقريبه.

وتقريب القياس ، أما ان الخبرين لا خصوصية لهما إلا إحداث احتمال الحكمين واقعا وهو موجود في دوران الأمر بين المحذورين.

وأما ان الملاك للتخيير ، هو رعاية الحكم الظاهري الأصولي وهي الحجية ورعاية الحكم الواقعي أولى.

ولم يجب عن الأول ، لوضوح فساده.

وأجاب عن الثاني : (٣) بان الخبر ان كان حجة من باب السببية فالتخيير

__________________

(١) ورد الرواية بعبارات مختلفة وأقربها الى المذكور في المتن قوله (ع) (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه ..) وسائل الشيعة ج ١٧ ص ٨٩ ح ٢٢٠٥٣.

(٢) نهاية الدراية ج ٢ ص ٥٦١ (أن هذا مقتضى كلام الشيخ الأنصاري في الرسائل).

(٣) كفاية الأصول ص ٣٥٥.

٤٨٣

بينهما من باب التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وان كان حجة من باب الطريقية فالتخيير إنما يكون من جهة وجود مناط الطريقية في أحدهما تعيينا أو تخييرا وأين ذلك من المقام الذي لا يكون المطلوب إلا الأخذ بخصوص ما صدر واقعا وهو حاصل.

واستدل للثاني (١) بقوله ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب ، بلا بيان فانه لا قصور فيه هاهنا وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة انتهى.

ويرد على ما أفاده في الدعوى الأولى مضافا إلى ما يصرح به في مبحث الاستصحاب (٢) ، من عدم دلالة مثل الخبر المشار إليه على أصالة الإباحة ، وان صدره متضمن لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية وذيله لبيان الاستصحاب.

ومضافا إلى اختصاص أصالة الإباحة بما إذا كان طرف الحرمة الإباحة والحل لاختصاص دليلها به ، ولا يشمل دوران الأمر بين المحذورين.

ومضافا إلى اختصاصها بالشبهة الموضوعية كما مر.

ان الحكم الظاهري إنما يصح جعله ما لم يقطع بخلافه ومعه لا معنى لجعله لفرض اخذ الشك في موضوعه ، وفي المقام حيث انه يقطع بالإلزام وعدم إباحة هذا الفعل فلا مورد لجريان أصالة الحل ، مع ان الدليل أخص من المدعى لاختصاص هذه الأدلة بالشبهات الموضوعية.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٥٦.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٩٨.

٤٨٤

وعلى الجملة فرق بين اصل البراءة الجاري في كل من الاحتمالين مستقلا ، وبين أصالة الإباحة التي هي اصل واحد يرخص في الفعل والترك ، فمفادها ينافى المعلوم بالإجمال.

وأما دعواه الثانية وهو عدم جريان البراءة العقلية ، فهو تام.

فالأظهر عدم جريانها لتمامية البيان للعلم بالإلزام ، وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية ، والمخالفة القطعية.

وبعبارة أخرى : إن تنجز التكليف متوقف على أمرين :

أحدهما : وصول التكليف. ثانيهما : التمكن من الموافقة والمخالفة.

وفي المقام عدم التنجيز إنما يكون للثاني لا للأول ، فلا ربط للقاعدة بالمقام.

والظاهر ان هذا هو مراد المحقق الخراساني (ره) فلا يرد عليه ما أفاده بعض المحققين (١) ، من ان ما تم بيانه ووصل إنما هو جنس الإلزام ، ولا يترتب عليه الأثر فلا يحكم العقل بتنجزه.

وأما خصوص الوجوب أو الحرمة فحيث انه مشكوك فيه ولم يتم البيان بالنسبة إليه ولم يصل فالعقاب عليه عقاب بلا بيان.

وأما ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) في وجه عدم الجريان من ان القطع

__________________

(١) آية الله السيد الخوئي كما ذكر في محاضرات في أصول الفقه ج ٢ ص ١٩٦.

(٢) فوائد الأصول ج ٣ ص ٤٤٨.

٤٨٥

بالمؤمن حاصل في المقام ، لان وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجيز والتأثير فلا مورد للقاعدة.

فيرد عليه : ان القطع بعدم العقاب إنما هو لأجل القاعدة ، وإلا فمع قطع النظر عنها لا قطع بعدم العقاب ، على الترك ، أو الفعل معينا.

واما القول الخامس : فقد استدل له بوجهين :

الوجه الأول : قياس المورد بالخبرين المتعارضين المشتمل أحدهما على الأمر والآخر على النهي ، بدعوى ان مناط الحكم بالتخيير هناك هو إحداث الخبرين احتمال الحكمين واقعا والترديد بينهما إذ لا شأن للخبرين بناءً على الطريقية المحضة إلا احداث الاحتمال وهو موجود فيما نحن فيه.

وان شئت قلت ان مفاد ما دل على حجية الخبر جعله علما تعبدا وتتميم كشفه ، فإذا ثبت في العلم التعبدي ثبت في الوجداني بطريق أولى.

ويرده ان هناك : أما ان نقول بالتخيير في المسألة الفرعية ، أو نقول بالتخيير في المسألة الأصولية.

والأول غير صحيح في المقام لعدم إمكان الموافقة والمخالفة القطعيتين ولابدية الاحتمالية والتخيير العقلي ، فجعله من قبيل طلب الحاصل ، بل من أردأ انحائه فانه تحصيل تعبدي للحاصل وجدانا.

وعلى الجملة جعل حكم لا اثر عملي له لغو ، وصدوره من الحكيم محال.

والثاني لا مورد له في المقام لأن ملاك الطريقية موجود هناك في كل منهما ، وفيما نحن فيه غير موجود.

٤٨٦

وان شئت قلت : ان حجية كل منهما في ذلك المورد جعلية فيمكن جعل الحجية لهما تخييرا وفي المقام حجية العلم ذاتية غير قابلة للجعل ، مع ان هناك فردين من العلم وفي المقام فرد واحد.

أضف إليه ان التخيير هناك لدليل خاص غير معلوم الملاك فلا وجه للتعدي إلى المقام.

الوجه الثاني : انه يجب الالتزام بالحكم الواقعي ، بعنوانه فان كان الثابت في الواقع هو الوجوب ، كان اللازم هو الالتزام به بخصوصه ، وان كان هو الحرمة كان اللازم الالتزام بها كذلك ، وحيث انه لا يمكن الموافقة القطعية في المقام ، كان المتعين هو الموافقة الاحتمالية ، وهو الالتزام بالوجوب أو الحرمة.

وفيه : ما تقدم في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع من عدم وجوب الموافقة الالتزامية أولا. وعدم وجوبها في موارد العلم الإجمالي ثانيا للتشريع.

مع انه سيأتي في مبحث الاشتغال انه إذا لم تجب الموافقة القطعية لم تجب الاحتمالية.

فتحصل مما ذكرناه ان الأظهر جريان البراءة الشرعية بالنسبة إلى كل من الوجوب والحرمة.

وهل تجري الأصول التنزيلية ، أم لا؟

الأظهر ذلك بناء على جريانها في اعدام الأحكام.

٤٨٧

وما ذكره الشيخ الأعظم (١) وتبعه المحقق النائيني (٢) ، من مانعية العلم الإجمالي بالحرمة أو الوجوب ، سيجيء دفعه في مبحث الاستصحاب وتعرف انه إذا لم يلزم المخالفة العملية من جريانها في أطراف العلم الإجمالي لا مانع من جريانها وسيجيء تفصيل القول فيه في مبحث الاستصحاب.

فالمتحصّل ان الحق هو جريان الأصول الشرعية التنزيلية وغيرها في موارد دوران الأمر بين المحذورين سوى أصالة الحل وعدم جريان البراءة العقلية.

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

ثم انه لو احتمل أهمية أحد الحكمين ، فهل يحكم بالتعيين كما اختاره المحقق الخراساني (٣) ، أم لا؟ وجهان.

أقول : بناء على ما اخترناه من جريان الأصول الشرعية النافية للحكم في موارد دوران الأمرين المحذورين ، لا بد من البناء على التخيير ، لإطلاق الأدلة.

فان كلا من الحكمين المجهولين مورد لأصالة البراءة واستصحاب عدمه سواء كان أحدهما على تقدير ثبوته في الواقع أهم من الآخر ، أم لم يكن ، وكذلك بناء على ما اختاره المحقق الخراساني من جريان أصالة الحل في المقام ،

__________________

(١) حاشية الاستصحاب ص ٩٠.

(٢) فوائد الأصول ج ٤ ص ٨٤.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٥٦.

٤٨٨

وبه يظهر ان محل كلامه في المقام مع الغض عما أفاده من إجراء أصالة الحل.

وأما بناء على كون الحكم فيه هو التخيير العقلي ، ففي الكفاية موافقا لغيره قال : " ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله ، بتعينه (١) كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين" (٢) انتهى.

وأورد عليه بإيرادين :

أحدهما : ما عن الشيخ الأعظم (ره) (٣) وهو ان الحاكم هو العقل فلا يعقل تردده بين التعيين والتخيير بل هو إما مستقل بالتعيين أو بالتخيير فلا يكون المقام داخلا في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وفيه : انه يمكن ان يقال ان العقل مستقل بالتعيين عند الأهمية لقبح التساوي بين الراجح والمرجوح ، ومستقل بالتخيير عند التساوي لقبح الترجيح بلا مرجح ، وان لم يحرز أحدهما ولم يدرك الأهمية.

فلا محالة يتردد العقل بين التعيين والتخيير ، ولكن لا بما هو حاكم بتلك الكبريين ، بل بما انه لم يدرك الملاك للحكم الشرعي الواقعي ، وهذا لا محذور فيه.

__________________

(١) في عبارة كفاية الأصول طبعة أهل البيت وردت (بتعيينه) نقلا عن النسخة المحفوظة بخط المؤلف في مكتبة مجلس الشورى. ووردت (بتبعيته) نقلا عن النسخة المطبوعة في زمن المؤلف والتي عليها تصحيحات نجله بعد أن درّسها المؤلف عدّة مرات.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٥٦.

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ١٨٨.

٤٨٩

ثانيهما : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه وان اخترنا في باب التزاحم ان الأصل هو التعيين ، إلا ان الأصل في المقام هو التخيير ، وذلك لأنه في باب التزاحم ، تارة يكون لكل من دليلي الحكمين إطلاق ، وأخرى لا يكون لشيء منهما ذلك.

أما في الصورة الأولى فحيث ان التزاحم إنما ينشأ من إطلاق كل من الخطابين لحال الإتيان بمتعلق الآخر مع عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، فلا بد من سقوط أحد الاطلاقين ، فان كانا متساويين سقط الاطلاقان ، لبطلان الترجيح بلا مرجح ، فيقيد كل منهما بعدم الإتيان بالآخر ، وهذا معنى التخيير.

وإذا كان أحدهما أهم سقط إطلاق الآخر وبقى إطلاقه.

ولو احتمل الأهمية فحيث ان سقوط إطلاق غيره معلوم على كل حال ، ويشك في سقوط إطلاق محتمل الأهمية ، وكلما شك في سقوط إطلاق يؤخذ به ، وعليه فيحكم بالتعيين.

وأما في الصورة الثانية ، فلان ثبوت كل من الحكمين كاشف عن اشتمال متعلقه على الملاك الملزم.

وعليه فان كانا متساويين ، جاز بحكم العقل تفويت كل منهما باستيفاء الآخر ، ولو كان أحدهما أهم لم يجز تفويته خاصة ، ولو احتمل الأهمية فيشك في جواز تفويت ملاكه باستيفاء الآخر مع القطع بجواز تفويت الآخر باستيفائه ،

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٣٣ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٢٠. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٨١.

٤٩٠

فلا مناص حينئذ من الأخذ به وتفويت ملاك غيره ، فيحكم بالتعيين.

وشيء من هذين الوجهين لا يجري في المقام لان الحكم المجعول واحد ، فليس هناك اطلاقان ، ولا ملاكان ، بل الثابت إنما هو أحدهما ونسبة العلم الإجمالي إلى كل منهما على حد سواء ، فالحكم باللاحرجية العقلية باق على حاله.

نعم لو كان احد التكليفين المحتملين مما يكون احتماله موجبا للاحتياط والشارع حكم به يجب الاحتياط لكنه من جهة الحكم الشرعي لا من جهة حكم العقل.

ولكن الأظهر هو الحكم بالتعيين على هذا المسلك ، إذ بعد فرض عدم جريان الأصول الشرعية ، والعقلية في أطراف هذا العلم ، وإحرازه عدم العقاب ، على مخالفة ما علم عدم أهميته ، يشك في انه ، هل يعاقب على مخالفة محتمل الأهمية ، أم لا؟ وحيث لا مؤمن من هذه الجهة ، فلا محالة يكون المرجع ، قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

وان شئت فقل ، انه بما ان الحاكم بالتخيير واللاحرجية ، هو العقل ، من باب الاضطرار والإلجاء ، فمع احتمال أهمية أحدهما ، لا يستقل العقل بالتخيير.

لو كان أحدهما تعبديا مع وحدة الواقعة

الموضع الثاني : ما لو كان أحدهما أو كلاهما تعبديا ، مع وحدة الواقعة ،

٤٩١

كما إذا دار أمر المرأة بين الطهر والحيض ، مع عدم إحراز أحدهما ، والبناء على حرمة العبادة على الحائض ذاتا وان لم يقصد القربة ، فانه حينئذ يدور أمر الصلاة عليها بين الوجوب والحرمة ، ووجوبها على تقدير ثبوته تعبدي ، وفي مثل ذلك وان لم يمكن الموافقة القطعية ، إلا انه يمكن المخالفة القطعية بإتيان الصلاة بلا قصد القربة فإنها لو كانت حائضا فقد أتت بالمحرم ولو كانت طاهرا فقد تركت الواجب.

والحق عدم جريان البراءة في هذه الصورة في شيء من الطرفين.

للعلم الإجمالي ومنجزيته بناء على ما سيأتي تحقيقه في مبحث الاشتغال من ان العلم الإجمالي له أثران : الأول : الموافقة القطعية ، الثاني : المخالفة القطيعة ، وقد يترتبا عليه معا ، وقد يترتب عليه أحدهما دون الآخر ، وقد لا يترتب عليه شيء منهما.

وفي الصور الثلاث الأُول يكون العلم منجزا وموجبا لتساقط الأصول في أطرافه.

وعليه فإذا أمكن المخالفة القطعية خاصة كما في المقام لم تجر الأصل ، ووجب الاجتناب عن تلك ، فيتعين عليها ترك الصلاة رأسا ، أو الإتيان بها بقصد القربة بالنحو المشروع عليها.

ولا يخفى ان المحقق الخراساني (١) في مبحث الاضطرار يصرح : بأنه لو

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٠. المتن والهامش.

٤٩٢

اضطر إلى أحد أطراف العلم الإجمالي لا بعينه لا يكون هذا العلم منجزا ، ولا محذور في مخالفته القطعية ، وهذا لا يلائم مع ما ذكره في المقام من تنجز العلم الإجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية.

ولكن حيث انه ستعرف ان المختار عندنا تنجزه بالإضافة إليها في تلك المسألة فهو منجز في المقام.

دوران الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنية

ثم ان الشيخ الأعظم (ره) (١) أفاد : انه إذا دار الأمر بين كون شيء شرطا أو مانعا ، أو بين كونه جزءا وكونه زيادة مبطلة يكون من هذا الباب.

واختار التخيير فيه على حذو ما تقدم من دوران الأمر بين المحذورين في التكاليف الاستقلالية ، ومثل له بالجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة حيث ، قيل بوجوبه ، وقيل بوجوب الاخفات وابطال الجهر وبالجهر بالبسملة في الركعتين الاخيرتين ، وبتدارك الحمد عند الشك فيه بعد الدخول في السورة ، ويضاف إليها ما لو شك بعد النهوض للقيام في الإتيان بالسجدة الثانية إذ لو كان النهوض إلى القيام من الغير المترتب لا بد من البناء على تحقق السجدة فالإتيان بها زيادة مبطلة ، ولو كان مقدمة للجزء كان الإتيان بها واجبا ومعتبرا في صحتها.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٠٠.

٤٩٣

والحق عدم تمامية ما أفاده (قدِّس سره) ، لان الحكم بالتخيير في التكاليف الاستقلالية إنما كان من جهة عدم تنجز الحكم اللزومي المردد بين الوجوب والحرمة : لاستحالة الموافقة والمخالفة القطعيتين.

وهذا بخلاف الحكم اللزومي المعلوم في المقام ، فانه يمكن موافقته القطعية كما يمكن مخالفته القطعية ، فيكون العلم منجزا.

توضيح ذلك انه في دوران الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنية تتصور صورتان :

إحداهما : ما يتمكن المكلف من الامتثال العلمي التفصيلي ، ولو برفع اليد عن ما هو مشتغل به.

ثانيهما : ما يتمكن فيه المكلف من الامتثال الإجمالي ، أما بتكرار الجزء أو بتكرار اصل العمل ، كما في دوران أمر القراءة بين الجهر والاخفات.

أما في الصورة الأولى فلا ينبغي التوقف في وجوب إحراز الامتثال لفرض التمكن منه وعدم المانع عنه ، ولا يجوز له الاكتفاء بأحد الاحتمالين لأنه لا يحرز الامتثال به ، ومعلوم ان الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية ، فله ان يرفع اليد عن ما بيده من الصلاة وإعادتها أو إتمامها على أحد الاحتمالين ثم إعادتها.

ودعوى ان الأمر دائر بين المحذورين من جهة حرمة قطع الصلاة ـ بدعوى ان الأمر يدور بين الإتمام مع الاحتمال ، والإبطال ، وتحصيل الامتثال التفصيلي ، فكما يمكن ان يكون وجوب الامتثال التفصيلي موجبا لتعذر إتمام العمل ، يمكن

٤٩٤

ان يكون حرمة الابطال موجبة لتعذر الامتثال التفصيلي فيسقط ويكتفى بالامتثال الاحتمالي ـ مندفعة :

أولا : بان حرمة قطع الصلاة من جهة اختصاص مدركها بالإجماع على ما حققناه في الجزء الخامس من كتابنا فقه الصادق (١) يختص بما يجوز للمكلف الاقتصار عليه في مقام الامتثال ، وأما الصلاة المحكوم بوجوب إعادتها فلا دليل على حرمة قطعها.

وثانيا : بأن كلا من فعل السجدة وتركها في المثال محتمل الحرمة من هذه الناحية ، فانه لو كانت السجدة مأتيا بها يحرم إتيانها فانه يوجب بطلان الصلاة ، وإلا يكون تركه كذلك ، وحيث ان المكلف لا يتمكن من الموافقة القطعية من جهة حرمة قطع الصلاة فيتخير المكلف ، وهذا لا ربط له بالأمر بالصلاة.

وبعبارة أخرى : ان في المقام علمين إجماليين :

أحدهما : العلم الإجمالي بلزوم العمل المردد بين ما يؤتى فيه بالجزء المشكوك فيه ، وما يكون فاقدا له.

ثانيهما : العلم بوجوب الجزء المشكوك فيه لعدم الإتيان به وحرمته من ناحية حرمة قطع الصلاة للإتيان به ، فتكون زيادة مبطلة.

والعلم الثاني وان لم يمكن موافقته القطعية ولا المخالفة كذلك فيكون

__________________

(١) حسب الطبعة الثالثة : ص ١٣٨.

٤٩٥

المكلف مخيرا ، ولكن العلم الأول يقتضي إعادة الصلاة تحصيلا للفراغ اليقيني.

أضف إلى ذلك كله انه لو التزمنا بثبوت الإطلاق لما دل على حرمة قطع الصلاة بنحو يشمل مثل ما بيده من الصلاة ، وبنينا على ان العلم الإجمالي الذي لا يجب موافقته القطعية : لعدم امكانها ، لو أمكن مخالفته القطعية حرمت ، لا بد في المقام من إتمام الصلاة مع احد الاحتمالين ثم إعادتها ، وبذلك يمتثل كلا التكليفين بالمقدار الممكن.

واما في الصورة الثانية : وهي ما يتمكن المكلف من الامتثال العلمي الإجمالي بتكرار الجزء أو بتكرار اصل العمل ، فلا وجه يتصور لجواز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي الذي هو لازم القول بالتخيير ، فيجب عليه إحراز الامتثال ولو بالإجمال لان اشتغال الذمة يقينا يقتضي الفراغ اليقيني ، هذا كله فيما إذا أمكن التكرار.

وإلا كما في ضيق الوقت ، فبالنسبة إلى إتيان الصلاة في الوقت وان كان التخيير مما لا بد منه لعدم التمكن من الامتثال القطعي ، ولكن بالنسبة إلى اصل الصلاة يمكن ان يقال انه يحصل له العلم الإجمالي ، بوجوب الإتيان بالصلاة على احد الاحتمالين في الوقت والإتيان بها مع الاحتمال الآخر خارج الوقت ، فعلى القول بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات هذا العلم يقتضي الموافقة القطعية بهذا النحو.

اللهم إلا ان يقال ان القضاء إنما يكون بأمر جديد ، وتابعا لصدق فوت الفريضة في الوقت ، فإذا لم يكن العلم الإجمالي بالجزئية أو المانعية في الصلاة في الوقت مقتضيا إلا للموافقة الاحتمالية ووجوب الأخذ بأحد المحتملين ، دون

٤٩٦

الآخر لعدم إمكان الموافقة القطعية ، فلا يحرز الفوت ، لا بالعلم ، ولا بالأمارة ، ولا بالأصل فلا يجب القضاء فتدبر فان في النفس شيئا.

دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مع تعدد الواقعة

الموضع الثالث : ما لو كانت الواقعة متعددة ، والكلام فيه :

تارة فيما إذا كان التعدد دفعيا.

وأخرى فيما إذا كان تدريجيا.

أما المورد الأول : فكما لو علم إجمالا بصدور حلفين منه أحدهما تعلق بفعل شيء والآخر تعلق بترك شيء آخر ، واشتبه الأمران في الخارج فيدور الأمر في كل منهما بين المحذورين.

فقد يقال بالتخيير من جهة ان كلا من الموضوعين ، يدور أمره بين المحذورين ، ولا يمكن المخالفة القطعية ، ولا الموافقة القطعية فيحكم بالتخيير ، فيجوز له فعل كل منهما وتركهما معا.

غاية الأمر لو فعلهما ، أو تركهما ، يحصل له العلم بالمخالفة في أحدهما.

والعلم اللاحق لا يكون مؤثرا بعد عدم تنجز التكليف حين العمل.

ولكن يرد عليه انه من العلم بصدور حلفين منه متعلق أحدهما بفعل شيء ، والآخر بترك شيء آخر ، يتولد علمان إجماليان : أحدهما : العلم بوجوب أحد الفعلين ، والآخر : العلم بحرمة أحدهما ، وكل من هذين العلمين يمكن

٤٩٧

موافقته القطعية ومخالفته كذلك ، فيكون منجزا.

ولكن المكلف لا يتمكن من الموافقة القطعية لكلا العلمين ، ومتمكن من المخالفة القطعية ، فيتزاحم العلمان من الجهة الأولى ويتساقطان من تلك الجهة ، وأما من الناحية الأولى فلا مانع من بقاء تنجيزهما.

وعليه ، فليس له فعلهما ، ولا تركهما ، بل يتعين عليه اختيار فعل أحدهما وترك الآخر.

أما المورد الثاني : فهو كما لو علم بتعلق الحلف بفعل شيء في زمان وترك ذلك الفعل في زمان آخر ، واشتبه الزمانان.

فهل يحكم بالتخيير في كل من الزمانين ويكون التخيير استمراريا.

أم يحكم به في الأول ، وفي الزمان الثاني لا بد من اختيار خلاف ما اختاره في الزمان الأول؟ وجهان.

ذهب المحقق النائيني (ره) (١) إلى الأول بدعوى :

انه في الوقائع المتعددة كل واقعة برأسها يدور أمرها بين المحذورين ، ولا علم فيها بالملاك الملزم لا بالنسبة إلى الفعل ولا بالنسبة إلى الترك ، وليس هناك خطاب قابل للداعوية ، غاية الأمر إذا اختار في الزمان الثاني عين ما اختاره في الزمان الأول يحصل له العلم بالمخالفة وهذا لا اثر له.

وفيه : انه على القول بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات ، يجري في هذا

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٣٥. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٠٥.

٤٩٨

المورد ما ذكرناه في سابقه ، فانه يتولد حينئذ علمان إجماليان فيتعلق أحدهما بوجوب الفعل في أحد الزمانين ، والآخر بحرمته فيه ، وكل من العلمين له مقتضيان : الموافقة القطعية ، والمخالفة القطعية ، والتزاحم بينهما إنما يكون من الناحية الأولى ، ولا تزاحم بينهما من الناحية الثانية ، فلا بد من البناء على تنجيز كل منهما بالإضافة إلى المخالفة القطعية.

فيتعين عليه في الفرض في الزمان الثاني اختيار خلاف ما اختاره في الزمان الأول ، إذ لو اختار عينه يحصل له العلم بمخالفة أحد التكليفين.

والغريب ان المحقق النائيني (ره) (١) ، مع ذهابه إلى تنجيز العلم الإجمالي ، في التدريجيات ، اختار في المقام ان التخيير استمراري لا بدوي.

نعم ما أفاده تام ، على مسلك من يرى عدم تنجيز العلم الإجمالي فيها كما عرفت.

حكم ما لو احتمل أهمية أحد الالزامين

ولو احتمل أهمية أحد التكليفين ، في الوقائع المتعددة.

فهل يكون كالمسألة السابقة ، فلا يحكم بالتعيين ، ليوافقه قطعا ، ويخالف التكليف الآخر كذلك ، من جهة ان التكليف في كل من الواقعين غير معلوم ،

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٣٥. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٠٥.

٤٩٩

وكذلك الملاك؟

أو يكون على خلاف تلك المسألة ويحكم بالتعيين؟ وجهان بل قولان :

وقد اختلفت كلمات المحقق النائيني (١).

ففي المقام يبنى على أصالة التخيير (٢) ، وفي مسألة دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته (٣) ، اختار تقدم محتمل الأهمية.

ومحصل ما أفاده في وجه تقديم محتمل الأهمية : ان المقام من صغريات باب التزاحم ، واحتمال الأهمية من مرجحات ذلك ، وذكر في وجه كونه من صغريات ذلك الباب ان لكل حكم اثرين ومقتضيين : الأول ، امتثاله ، الثاني : إحراز امتثاله ، والعقل مستقل بهما ، فكما انه إذا لم يتمكن من امتثال الحكمين معا يكون من ذلك الباب ، كذلك إذا لم يتمكن من ترتيب الأثر الثاني ، بالنسبة إلى الحكمين ، أو لم يتمكن من ترتيب الأثر الأول لاحد الحكمين مع ترتيب الأثر الثاني للآخر ، يكون من باب التزاحم ، لان حقيقته هو التنافي بين مقتضيات الأحكام وآثارها ، والمقام كذلك : فان المكلف لا يتمكن من امتثال كل من الحكمين ، وامتثال الآخر وإحرازه ، فيقع التزاحم بين الحكمين.

وفيه : أولا : النقض ، بان لازم ما أفاده من الدخول في باب التزاحم هو الحكم بالتخيير بين الموافقة القطعية لاحدهما والمخالفة القطعية للآخر ، وبين

__________________

(١) كما نسب إليه ذلك تلميذه السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٤٠.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٣٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٠٥.

(٣) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٣٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٠٨.

٥٠٠