زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

دل الخبر الضعيف عليه من كونه نفسيا أو قيدا لمركب ، وعليه فيثبت باخبار التسامح قيدية ما تضمنه الخبر الضعيف غاية الأمر بالعنوان الثانوي.

الحادي عشر : إذا دل خبر ضعيف على استحباب عمل ودل خبر ضعيف آخر على حرمته أو كراهته ، فان بنينا على عدم شمول النصوص للخبر الضعيف الدال على مرجوحية فعل لا اشكال في ثبوت الاستحباب في الفرض لان ما دل على المرجوحية حينئذ كالعدم.

وما أفاده المحقق النائيني (١) من انصراف النصوص إلى مورد ورد فيه الثواب خاصا ولا يشمل المقام ، غير ظاهر الوجه.

وان بنينا على شمولها له وثبوت استحباب الترك بها.

فعن الشهيدين والشيخ (٢) وقوع التزاحم بين ما دل على استحباب الفعل وما دل على استحباب الترك فيكون المقام من قبيل صوم يوم عاشوراء الذي يكون فعله وتركه مستحبين.

ولكن الأظهر ان ما أفادوه وان تم فيما إذا كان الفعل عباديا فان الفعل والترك حينئذ من الضدين الذين لهما ثالث فيمكن الالتزام باستحبابهما بنحو الترتب ، ولكنه لا يتم فيما إذا كان الفعل كالترك غير عبادي فانه لا يعقل استحباب النقيضين بنحو الترتب في مقام الثبوت فلا محالة يقع التعارض بينهما ولا بد من إعمال قواعد ذلك الباب.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ٢ ص ٢١٣ من التنبيه الرابع ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٧٠.

(٢) مطارح الانظار ص ١٣٧ ـ ١٣٨.

٤٦١

ثمرة هذا البحث

الثاني عشر : في بيان ثمرة هذا البحث وذكر الشيخ في بيان الثمرة موردين :

الأول : جواز المسح ببلة المسترسل من اللحية لو دل خبر ضعيف على استحباب غسله في الوضوء ، بناء على ثبوت الاستحباب الشرعي بالخبر الضعيف ، وعدم جواز المسح بها بناء على عدم ثبوته لعدم كونه من اجزاء الوضوء حينئذ.

وأورد على ذلك بوجهين :

١ ـ ما أفاده المحقق الخراساني في التعليقة (١) قال ان المسح لا بد من ان يكون من بلل الوضوء ولا يصح ببلل ما ليس منه ولو كان مستحبا فيه انتهى.

وحاصله ان المسح لا يصح ببلة غير ما ثبت جزئيته للوضوء وغسل المسترسل لو ثبت استحبابه فهو مستحب مستقل لا جزء للوضوء.

وفيه : ان الظاهر من اخبار المسألة استحباب الشيء على النحو الذي دل عليه الخبر الضعيف ، من كونه مطلوبا مستقلا ، أو جزءا للمركب ، فإذا دل الخبر على استحباب غسل المسترسل بالامر الضمنى وجزءا للوضوء كان مفاد اخبار من بلغ ثبوته كذلك ، وان شئت فقل انه يثبت بالاخبار استحباب الشيء بعنوان بلوغ الثواب به ، ومنه يستكشف أمر به ، والأمر بالجزء ظاهر في الجزئية

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند الطبعة الجديدة ص ٢٢٧.

٤٦٢

كما هو الشأن في جميع الموارد.

٢ ـ انه لم يدل دليل على جواز المسح برطوبة كل جزء من أجزاء الوضوء ، بل دل على المسح برطوبة الوجه والمسترسل من اللحية الخارج عن حد الوجه ، ولعل هذا مراد الشيخ الأعظم (ره) (١) حيث قال ويحتمل قويا المنع من اخذ البلل حتى بناء على كونه مستحبا شرعيا ، وتمام الكلام في ذلك في الفقه.

الثاني : لو دل خبر ضعيف على استحباب الوضوء لغاية من الغايات ، إذ بناء على ثبوت الاستحباب يكون ذلك الوضوء مستحبا ورافعا للحدث ، وبناء على عدمه لا يكون رافعا.

والإيراد عليه بأنه ليس كل وضوء مستحب رافعا ، فان وضوء الجنب للنوم مستحب غير رافع ، وكذا لاعادة الجماع.

مندفع : بان ما ذكر من موارد النقض فإنما هو في فرض عدم إمكان رفع الحدث بالوضوء لأنه الأكبر ، واما إذا كان الحدث اصغر فلا اشكال في ارتفاعه بالوضوء المستحب.

ولكن الذي يرد على ذلك ان الوضوء مستحب نفسي فلو توضأ للغاية المفروضة بما انه يقصد الوضوء ، لا محالة يكون وضوؤه رافعا للحدث ، وان لم يثبت الاستحباب باخبار الباب.

فتحصل انه لا ثمرة لهذا البحث إلا من ناحية فتوى الفقيه باستحباب

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٨٥.

٤٦٣

العمل ، وإتيان المقلد به بقصد الأمر على القول بثبوت الاستحباب ، ولا يجوز شيء منهما على القول الآخر.

جريان البراءة في الشبهة التحريمية الموضوعية

التنبيه الرابع : اتفق الاصوليون والاخباريون ، على ان مقتضى الاصل في الشبهة الموضوعية التحريمية هو الإباحة ، وعدم وجوب الاجتناب عنها ، ويشهد به مضافا إلى إطلاق ادلة البراءة خصوص جملة من الأخبار على ما تقدم.

وقد يتوهم عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيها ، وانها تختص بالشبهات الحكمية : لان مورد القاعدة ما إذا لم يبين الشارع الحكم أصلاً ، وفي الشبهة الموضوعية بيّن الشارع الحكم ، مثلا لو شك في كون المائع خمرا أو ماء ، فقد بين الشارع حكم الخمر وإنما الشك يكون في امتثال ذلك التكليف فيجب حينئذ الاجتناب عن كل ما يحتمل خمريته من باب المقدمة العلمية ، فالعقل لا يقبح العقاب إذا صادف الحرام الواقعي.

وبعبارة أخرى : ان مورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنما هو ما إذا لم يرد بيان من الشارع وفي الشبهة الموضوعية البيان الذي وظيفة الشارع تحقق ووصل إلى المكلف ، لان وظيفته بيان الأحكام الكلية ، والشك في الحكم ليس لأجل الشك في البيان من جهة الشك في صدق الصغرى ، وبيان الصغريات ليس وظيفة الشارع فلا مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل المرجع قاعدة الاشتغال ، إذ العلم باشتغال الذمة بالكبرى الكلية المجعولة يقتضي العلم

٤٦٤

بالبراءة اليقينية ، والفراغ اليقيني ، وذلك لا يحصل إلا باجتناب المشكوكات أيضاً.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (١) بالنقض بالشبهات الحكمية ، وان ما ذكر من التوهم جار فيها أيضاً لان العمومات الدالة على حرمة الخبائث والفواحش وما نهاكم عنه فانتهوا تدل على حرمة أمور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها.

ويرد عليه ان منشأ الإشكال لو كان هو ما أفاده من ان الترك في الشبهة الموضوعية مقدمة علمية للامتثال صح ما أفاده ، ولكن قد عرفت ان منشأ الإشكال شيء آخر ، وهو ان بيان المصاديق ليس وظيفة المولى ، وعليه فالشبهة المصداقية في مورد النقض بما ان رفع الشبهة فيها وبيان الحكم وظيفة المولى ، فمع الشك يجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان وهذا بخلاف الشبهة المصداقية في موارد الشبهات الموضوعية كما تقدم.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (ره) (٢) بما حاصله ان النهي الذي هو طلب للترك ، يتصور على وجهين :

الأول : طلب ترك الطبيعة السارية بان يكون الملاك في كل ترك ، ويكون الحكم انحلاليا ، وفي مثل ذلك تعلق التكليف بالأفراد المعلومة معلوم ، وتعلقه بالمشكوك فيه ، غير معلوم ، فيجرى فيه البراءة.

الثاني : طلب ترك الطبيعة بنحو يكون المطلوب شيئا واحدا ، وهو ترك

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٦٩.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

٤٦٥

جميع الأفراد ، وخلو صفحة الوجود عنها وفي مثله لا بد من الاحتياط ولا تجري البراءة عن الفرد ، لفرض ان المطلوب شيء واحد واللازم احراز الترك ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه.

ويرد عليه أمران :

١ ـ ان النهي ليس عبارة عن طلب الترك بل عبارة عن الزجر عن الفعل ، إذ الطلب ناشئ عن المصلحة في المطلوب كان هو الفعل أو الترك ، وهو الأمر ، والنهي إنما يكون ناشئا عن المفسدة في المنهي عنه وهو زجر عن الفعل.

٢ ـ انه لو سلم كون النهي هو طلب الترك كما تجرى البراءة في الصورة الأولى كذلك تجري في الثانية وذلك يبتني على بيان مقدمة.

وهي انه كما يكون وجود الطبيعي بوجود أفراده لا أمرا متحصلا عنها كذلك يكون عدم الطبيعي بإعدام أفراده لا أمرا متحصلا عنها ، وعليه فإذا كان المطلوب عدم الطبيعة بالنحو الثاني كان المطلوب هو اعدام أفراده ، وحيث انها متعددة وكل عدم مطلوب بطلب ضمني ، فعلى القول بجريان البراءة في الشك في الأقل والأكثر تجري البراءة عن مطلوبية عدم ما شك في فرديته للعلم بمطلوبية سائر الاعدام ، والشك في مطلوبيته والبراءة تقتضي عدم مطلوبيته.

وأجاب المحقق النائيني (ره) (١) عن الاشكال ، بما حاصله : ان النهي المتعلق بطبيعةٍ متعلقة بموضوع خارجي ، كلا تشرب الخمر ، تتصور على نحوين :

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٢ ص ٣٩٥ / اجود التقريرات ج ١ ص ٣٢٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٢١ ـ ١٢٢.

٤٦٦

أحدهما : السالبة المحصلة بان يكون كل فرد من أفراد الخمر فيه مفسدة مستقلة موجبة للزجر عنه ، وفي مثله تجرى البراءة في الشبهة الموضوعية إذ العقاب ، إنما يترتب فيما إذا علم بوجود ذلك الموضوع في الخارج ، وما لم يعلم لا يصح العقاب على مخالفة ذلك التكليف ، لان تنجز التكليف في هذه الموارد ، إنما يكون بالعلم بالكبرى ، والعلم بالصغرى معا ومجرد العلم بالكبرى لا يجدي ، إذ العقاب إنما يترتب على العلم بالتكليف الفعلي ، وعليه فلا محالة ينحل التكليف المجعول بالنحو الكلي إلى أحكام عديدة مجعولة على نحو القضية الحقيقية ، فمع الشك في صدق الموضوع يشك في فعلية الحكم ومعه يرجع إلى البراءة.

ثانيهما : الموجبة المعدولة المحمول ، كان يقال كن لا شارب الخمر ، وفي مثله لا تجرى البراءة ، إذ متعلق هذا التكليف هو كون المكلف واجدا لوصف اللاشاربية ، فلو شك في خمرية شيء يشك لا محالة في حصول هذا الوصف مع عدم تركه فيرجع الشك إلى الشك في الامتثال.

ويرد عليه : أولا : ان التكليف الفعلي إذا لم يكن معلوما إنما يقبح العقل العقاب على مخالفته إذا كان ذلك عن قصور من ناحية المولى في مقام الجعل أو الايصال ، واما إذا فرضنا ان المولى عمل بوظيفته وبين الحكم وجعله في معرض الوصول إلى المكلف ووصل ، وكان منشأ الشك اشتباه الامور الخارجية فلا يقبح من المولى العقاب على مخالفته إذ ليس بيان المصاديق وتعيين الجزئيات وظيفة المولى ولا يقبح منه ترك هذا البيان فإذا تم من قبله البيان انقطع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

٤٦٧

وثانيا : يرد عليه ما أوردناه على المحقق الخراساني ، فان عدم الطبيعة إذا كان عين اعدام أفراده ، كان معنى ، كن لا شارب الخمر ، كن متصفا باعدام أفراد تلك الطبيعة ، فكل عدم لا محالة يكون محكوما بحكم ضمنى ، وعليه فلو شك في خمرية شيء لا محالة يكون من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطين والمرجع في ذلك المورد هو البراءة كما سيأتي.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان الاظهر عدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية.

واما البراءة الشرعية فالظاهر شمولها ، وتفصيل القول في ذلك يقتضي ان يقال ان التكليف التحريمي المتعلق بالشيء الناشئ عن المفسدة في المتعلق ، يتصور على وجوه أربعة :

الأول : ان يكون في كل وجود مفسدة ، غير ما يكون في الأفراد الأخر فلا محالة يكون كل فرد متعلقا لنهي مستقل فالافراد المعلومة تعلق النهي بها معلوم ، وما شك في فرديته يشك في تعلق النهي به فتجرى فيه البراءة.

الثاني : ان يكون مفسدة واحدة في مجموع الوجودات بحيث يكون الجميع متعلقا لنهى واحد شخصي ، وفي هذا الفرض يجوز ارتكاب جملة من الأفراد المعلومة أيضاً ، فضلا عما شك في فرديته ، إذ المفروض ان المفسدة إنما تكون في مجموع الوجودات لا في كل واحد منها ، وهل يجوز ارتكاب الأفراد المعلومة وترك الفرد المشكوك فيه ، أم لا يجوز؟ وجهان :

أقواهما الأول ، إذ لو ارتكب المجموع من الأفراد المعلومة ، والفرد المشكوك فيه يعلم بارتكاب الحرام ، اما لانها الحرام ، أو لاشتمالها عليه ، واما الأفراد

٤٦٨

المعلومة خاصة فلا محالة يشك في حرمتها ومقتضى أصالة البراءة هو عدم الحرمة.

وإلى هذا نظر الشيخ الأعظم (١) حيث قال في آخر مبحث الأقل والأكثر ان حال الأقل والأكثر في المحرمات بعكس الأقل والأكثر في الواجبات أي انه في الواجبات تعلق التكليف بالاقل معلوم وفي المحرمات تعلقه بالاكثر معلوم ففي الأولى تجرى البراءة عن الأكثر ، وفي الثانية عن الأقل.

الثالث : ان يكون متعلق النهي هو صرف وجود الطبيعة المنطبق على أول الوجودات بحيث لو عصى واوجد فردا واحدا ، لا يكون سائر الأفراد مبغوضة ، وهذا يتصور فيما إذا كان المتعلق اختياريا لا تعلق له بموضوع خارجي كالتكلم ، ولا يتصور فيما كان له تعلق به.

اما الأول : فلانه يتصور فيما إذا كان ما فيه المفسدة أول الوجودات ، ولا يبعد ان يكون النهي عن بعض أنواع المفطرات في بعض اقسام الصوم من هذا القبيل ، ومثاله العرفي ما لو نام المولى ونهى عن التكلم من جهة ان أول وجوده يوقظه من النوم ولا مفسدة بعد ذلك في سائر الأفراد ، وفي مثل ذلك يكون متعلق النهي صرف وجود الطبيعة المنهي عنها.

فدعوى عدم معقولية ذلك من جهة ان الحكم التحريمي لا ينشأ إلا عن مفسدة في متعلقه ، فتلك المفسدة ، ان كانت في الطبيعة السارية فلا بد من تعلق الحكم بكل وجود بنحو الاستغراق ، وان كانت في مجموع الوجودات ، فلا

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٧٨ بتصرف.

٤٦٩

مناص عن تعلق حكم شخصي بالمجموع كما عن بعض المحققين (١).

ممنوعة كما عرفت ، وفي هذا الفرض لو اراد المكلف ارتكاب المشكوك فيه ، لا محالة يشك في صدق أول الوجودات عليه ليكون حراما فيرجع فيه إلى البراءة.

واما الثاني : مثل النهي عن إكرام الفاسق ، فلان ما فيه المفسدة ، اما ان يكون ، هو جميع الوجودات أو مجموعها ، أو وجود واحد ، وعلى الأولين كيفية ورود الحكم معلومة ، وعلى الأخير لا بدَّ وان ينهى عن جميع الوجودات لئلا توجد الطبيعة في الخارج ، فان الانزجار عن الطبيعة لا يكون إلا بالانزجار عن كل فرد ، وترك جميع الأفراد فتدبر حتى لا تشتبه عليك الأمر ، وتعرف الفرق بين القسمين ، وفي هذا الفرض ان شك في وجود الموضوع يكون المرجع هو أصالة البراءة.

الرابع : ان يكون النهي المتعلق بالأفراد الخارجية ، باعتبار ان المطلوب هو الأمر البسيط المتحصل من مجموع التروك ، كما لو فرضنا ان المطلوب بالأصالة في النهي عن الصلاة في ما لا يؤكل لحمه هو وقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل لحمه ، وفي هذا الفرض بما ان الشك يكون في المحصل ، يكون مورد القاعدة الاشتغال دون البراءة ، إلا ان يكون ذلك العنوان موجودا سابقا فانه حينئذ لو أتى بالمشكوك فيه يشك في ارتفاعه فيستصحب بقائه ، فلا يكون إتيانه غير جائز ، إذ المفروض تعلق التكليف بالعنوان المتحصل دون المحصل وحيث انه

__________________

(١) كما هو ظاهر هداية المسترشدين ص ١١٨.

٤٧٠

محرز بالأصل فلا وجه لعدم جواز المشكوك فيه.

فان قيل : لا يجري هذا الأصل لعدم كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم ، إذ المترتب عليه فراغ الذمة ، وهذا إنما هو في مترتبة الامتثال.

اجبنا عنه : بأنه لا يعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب حكما أو موضوعا ذا حكم ، بل المعتبر كونه مما يكون امر وضعه ورفعه بيد الشارع أو موضوعا لذلك ، ولذا يجري الاستصحاب في عدم الحكم ، ولا ريب في ان التعبد بتحقق الامتثال مع الشك فيه من هذا القبيل كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز ، ففي المقام يجري الاستصحاب ويحكم بتحقق الامتثال وفراغ الذمة ولو مع الإتيان بالمشكوك فيه.

وهذه الفروض الأربعة تتصور في التكليف الوجوبى كان متعلقا بالفعل أو الترك ، إذ قد يكون المصلحة في كل فرد من أفراد الطبيعة فتعلق التكليف بها على نحو الطبيعة السارية ويتعدد التكليف بتعدد افرادها ، وقد يكون المصلحة في مجموع الأفراد ويتعلق تكليف واحد بها ، وقد تكون المصلحة في صرف وجود الطبيعة ، وقد تكون في الأمر المتحصل من الأفعال الخارجية.

ففي الفرضين الاولين تجري البراءة في الشبهة الموضوعية ، ويظهر وجهه مما مر.

ولا تجرى البراءة في الفرضين الأخيرين إذ الشك حينئذ يكون في الامتثال وهو مورد لقاعدة الاشتغال ، اما في الثاني منهما فلما مر ، واما في الأول كما لو وجب اكرام عالم ، فاكرم من شك في عالميته فواضح.

٤٧١

ومما ذكرناه يظهر ما في كلام المحقق الخراساني (١) حيث انه قال في آخر هذا التنبيه والفرد المشتبه وان كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه إلا ان قضية لزوم احراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه انتهى.

فانه ان كان مورد كلامه فرض تعلق التكليف بمجموع التروك فقد عرفت انه مورد البراءة لا الاشتغال وان كان فرض تعلقه بعنوان بسيط مترتب على التروك ، فقد مر انه مورد لقاعدة الاشتغال ، دون البراءة لعدم كون الترك بنفسه موردا للحكم كي يشك في حكم المشكوك فرديته فتجرى البراءة ، فلا يتصور صورة تكون موردا للبراءة والاشتغال معا.

ثم لا يخفى ان ما ذكرناه لا فرق فيه بين التكاليف النفسية والضمنية ، وعليه فهذه المسألة احد أركان الوجه لجواز الصلاة في اللباس المشكوك فيه وقد أشبعنا الكلام في تلك المسألة في رسالة مستقلة من أراد الاطلاع فليراجعها.

التنبيه الخامس بعد ما عرفت من حسن الاحتياط عقلا مطلقا يقع الكلام في أمور لا بأس بتفصيل القول فيها.

الأول : ان حسن الاحتياط عقلا واضح معناه إذ العقل يرى حسن الفعل الذي يتحقق به الانقياد للمولى ويمدح فاعله ، واما معنى حسنه شرعا ، فليس هو كونه ممدوحا عليه عنده بما هو رئيس العقلاء وارشد إليه ، بل معناه ثبوت مصلحة وغرض شرعي فيه المستتبع لجعل حكم مولوي شرعي ، فمن ينكر

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٥٤.

٤٧٢

استحباب الاحتياط شرعا ويحمل أوامر الاحتياط على الإرشاد ليس له القول بحسنه شرعا ، ولكن حيث عرفت في التنبيه السابق ، إمكان كون الأمر بالاحتياط مولويا نفسيا ، وانه الظاهر منه ، فيكون حسنا شرعا أيضاً.

الثاني : قد يقال ان الاحتياط إنما هو فيما لم يكن هناك إمارة على عدم الأمر ، وعدم المطلوبية شرعا ، لان موضوع حسنه الشبهة واحتمال الأمر ، والأمارة رافعة لذلك ، ومعها لا مورد للاحتياط وهذا بخلاف أصالة الإباحة التي هي حكم في موضوع الشبهة.

ولكن يدفعه : ان ادلة الاحتياط لا تنحصر فيما اخذ في موضوعها الشبهة ، بل العقل مستقل بحسنه بمجرد احتمال الأمر وجدانا ، لأجل كون الفعل انقيادا للمولى وجملة من الأدلة الشرعية لم يؤخذ في موضوعها الشبهة فالحق حسن الاحتياط مطلقا.

الثالث : ان الاحتياط إنما يكون حسنا ما لم يخل بالنظام ، وإلا فلا حسن فيه لا عقلا ولا شرعا ، فان ما يخل بالنظام قبيح عقلا بل موجب للإخلال بالغرض شرعا ، ومعه لا حسن فيه لا شرعا ولا عقلا.

الرابع : انه إذا كان الاحتياط مخلا بالنظام لا بد من التبعيض ، اما بالاحتياط إلى ان يوجب الاختلال فيتركه ، وأما بان يحتاط في الأمور مع رعاية الأهم فالأهم ، مثلا يحتاط في حقوق الناس دون حقوق الله تعالى ، وأما بان يحتاط في الموارد التي كان ثبوت التكليف فيها مظنونا أو مشكوكا فيه ، ولا يحتاط فيما كان هناك احتمال موهوم ، وأما بان يحتاط في الموارد التي لم يقم إمارة على عدم التكليف ، وأما بغير ذلك ، والكل حسن.

٤٧٣

الفصل الثاني : أصالة التخيير

دوران الأمر بين المحذورين

وقبل الدخول في هذا المبحث لا بد من التنبيه على أمور :

الأمر الأول : ان مورد النزاع ما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته ولم يحتمل غيرهما ، وإلا فلو احتمل الإباحة مثلا لا شك في جريان البراءة بالنسبة إلى كليهما ويحكم بالإباحة ظاهرا ، بل جريان البراءة حينئذ أولى من جريانها في الشبهة التحريمية المحضة أو الوجوبية كذلك : لعدم جريان أدلة الاحتياط فيه لعدم إمكانه.

الأمر الثاني : ان محل البحث ما لو لم يكن أحد الحكمين بخصوصه مسبوقا بالوجود ، وموردا للاستصحاب ، إذ عليه يجري الاستصحاب فيه ، وفي عدم الحكم الآخر ، وبه ينحل العلم الإجمالي.

الأمر الثالث : إن هذا البحث إنما يختص بالشبهة الموضوعية ، كما لو ترددت المرأة الواحدة في وقت واحد ، بين ان تكون محلوفا على وطئها أو على الترك ، وأما في الشبهة الحكمية فلم اظفر بمورد يكون الأمر دائرا بين الوجوب والحرمة.

ثم انه في دوران الأمر بين المحذورين لا بد من البحث في مواضع :

الأول : دوران الأمر بينهما في التوصليات مع وحدة الواقعة فبالطبع لا

٤٧٤

يمكن الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية ، وهذا هو أساس البحث ومحل النزاع وفيه اختلفت الأقوال.

الثاني : دوران الأمر بين المحذورين في التعبديات بمعنى ان يكون أحد الحكمين أو كلاهما تعبديا مع وحدة الواقعة ، فقهرا لا يمكن المخالفة القطعية ويمكن الموافقة القطعية ،

الثالث : دوران الأمر بين المحذورين مع تعدد الواقعة.

أما الموضع الأول : وهو دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة فالأقوال فيه خمسة (١).

القول الأول : جريان البراءة الشرعية ، والأصول التنزيلية.

القول الثاني : الحكم بالتخيير بينهما عقلا من دون الالتزام بحكم ظاهري شرعا اختاره المحقق النائيني (٢).

القول الثالث : تقديم جانب الحرمة

القول الرابع : الحكم بالتخيير بينهما عقلا ، والإباحة شرعا لأصالة الحل ، دون البراءة العقلية ، اختاره المحقق الخراساني (ره) (٣).

القول الخامس : الحكم بالتخيير بينهما شرعا.

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٢٨ / دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٢٧.

(٢) فوائد الأصول ج ٣ ص ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٥٥.

٤٧٥

والمختار عندنا هو الأول : لعموم أدلة البراءة الشرعية ، والاصل التنزيلي ، وعدم المانع عن شمولها.

أما عموم الأدلة فلأن الأصل تنزيليا كان أم غيره إنما يجري في خصوص كل من الوجوب والحرمة.

نظرا إلى ان كلا منهما مشكوك فيه ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يجري الأصل فيهما معا.

وعليه فتشمل الأدلة كلا منهما ويحكم بعدم الوجوب وعدم الحرمة في الظاهر ، ولا ينافى ذلك مع العلم بأحدهما واقعا بعد الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

واما عدم المانع فيظهر بعد بيان ما استدل به للأقوال الأخر وما يرد عليه.

وأما القول الثاني ، وهو الحكم بالتخيير بينهما عقلا ، من دون التزام بحكم ظاهري شرعا ، وانه لا يجري فيه الأصول التنزيلية وغير التنزيلية وانه ليس هناك إلا اللاحرجية العقلية ، الذي اختاره المحقق النائيني (١).

فقد استدل له بوجوه :

الوجه الأول : ان الرجوع إلى الأصول بإجرائها في الطرفين ينافيه العلم الإجمالي بمخالفة أحد الاصلين للواقع ، وإجراء الأصل في أحد الطرفين ترجيح

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٣ ص ٤٤٥ / ونسبه إليه السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٢٨ وفي ص ٣٨٢ أيضا.

٤٧٦

بلا مرجح ، فلا يجري فيهما.

وفيه : ان العلم الإجمالي المشار إليه لعدم ترتب الأثر عليه لا يمنع عن جريانها.

الوجه الثاني : ان الأصول إنما تجرى في الشك الساذج ، لا الشك المقرون بالعلم الإجمالي بالالزام كما في المقام.

وفيه : انه ستعرف في مبحث الاشتغال ، ان المانع عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، هو لزوم الترخيص في المعصية وذلك يختص بما إذا لزم من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفة عملية لحكم لزومي ، وإلا فلا مانع عن جريانها ، والمقام من قبيل الثاني لعدم التمكن من المخالفة ، والموافقة القطعيتين ، والموافقة الاحتمالية لا بد منها.

فان قيل انه يلزم من جريانها في الأطراف المخالفة الالتزامية.

اجبنا عنه بان الموافقة الالتزامية غير واجبة أولا ، ولا منافاة بين الالتزام بإلزام واقعا والترخيص ظاهرا ثانيا.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (١) ، وهو انه يعتبر في جريان الأصول العملية ترتب اثر عملي عليها ، وإلا فلا تجرى ، وفي المقام لا يترتب عليها ذلك ، لعدم إمكان الموافقة والمخالفة القطعيتين ، ولابدية الاحتمالية.

وفيه : ان الأصل إنما يجري بالنسبة إلى كل منهما بخصوصه لا فيهما معا ،

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٣ ص ١٢٨.

٤٧٧

لان الأصول تكون انحلالية تتعدد بتعدد الموضوع ، وموضوعها في المقام متعدد ، وهو الوجوب بخصوصه ، والحرمة بخصوصها لمشكوكية كل منهما ، ويترتب على كل واحد من الاصلين اثر عملي ، إذ الأصل الجاري بالنسبة إلى الوجوب يرخص في الترك ويثبت به انه لا إلزام من المولى بالنسبة إلى الفعل ، كما ان الأصل الجاري بالنسبة إلى الحرمة يرخص في الفعل خاصة فكل منهما يترتب عليه اثر عملي.

الوجه الرابع : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) أيضاً ، وهو ان مفاد هذه الأصول رفع التكليف في مورد يمكن الوضع بجعل وجوب الاحتياط ، وحيث ان الوضع في المقام غير ممكن ، لعدم التمكن من الاحتياط ، فيكون رفعه أيضاً كذلك.

وفي تقريرات المحقق الكاظمي (ره) (٢) في تقريب هذا الوجه ، ان جعل الوجوب والحرمة كليهما لا يعقل لا على نحو التعيين ، ولا على نحو التخيير فلا يمكن رفعهما.

وفيه : ان الممتنع جعلهما بجعل واحد ، واما جعل كل منهما بالخصوص الذي هو الموضوع للأصل كما عرفت آنفا ، فأمر معقول ، إذ للمولى ان يحكم بوجوب الاحتياط بترك الفعل فيما احتمل حرمته ، ولو كان المحتمل الآخر هو الوجوب ، كما ان له ان يلزم بإتيان الفعل فيما احتمل حرمته ، ولو كان المحتمل

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٣٢. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٠٠.

(٢) فوائد الأصول ج ٣ ص ٤٤٨.

٤٧٨

الآخر هو الحرمة ، فحيث ان له ذلك فله رفع كل منهما.

وبالجملة الذي لا يمكن هو وضع التكليفين معا ، وأما كل منهما بالخصوص فيمكن وضعه ، ولا يعتبر في صحة رفع التكليف عنهما أزيد من إمكان وضع كل منهما بالخصوص ، نظير ذلك ما لو أمر المولى عبده بعدم دخول دار كل أحد في أول طلوع الشمس ، وهذا التكليف معقول ممكن ، مع ان العبد لا يقدر على دخول دار كل أحد في أول طلوع الشمس ، وليس ذلك إلا من جهة انه حيث يكون العبد قادرا على دخول كل دار بالخصوص ، فللمولى ان يأمر بترك الجميع.

وبعبارة أخرى : انه لا يعتبر في رفع التكليف عن شيئين أو الأمر بتركهما ، إلا القدرة على كل واحد بالخصوص ولا يعتبر القدرة عليه حتى في حال انضمام الآخر ، وفي المقام حيث انه للمولى ان يضع كلا من التكليفين بالخصوص فله الرفع عن كل منهما.

الوجه الخامس : ما عن المحقق العراقي (ره) (١) وهو ان أدلة البراءة إنما تجرى فيما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار والتكوين ، ومع وجوده لا ينتهي الأمر إلى الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان ، وفي المقام العقل مستقل بالترخيص بمناط الاضطرار والتكوين.

وفيه : ان المكلف بالنسبة إلى كل تكليف بالخصوص الذي هو مورد الأصل ، لا يكون مضطرا في مخالفته ، وإنما الاضطرار بالنسبة إلى مخالفة أحدهما

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٢٩٣.

٤٧٩

بنحو التخيير ، والأصل إنما يجري بلحاظ الأول كما لا يخفى.

واما القول الثالث : فقد استدل له بوجوه :

الوجه الأول : ان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فحيث انه لو كان حراما ، ففي فعله المفسدة ، ولو كان واجبا لزم من تركه فوت المصلحة ، ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، إذ اهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتم ، فيتعين الترك وتقديم جانب الحرمة.

وفيه : ان العقل لا يحكم بذلك إذ ربما يكون الواجب أهم فيحكم العقل بتقديمه ، ولم يرد من الشارع ما يدل عليه من آية أو رواية ، مع ان هذا لو تم فإنما هو فيما إذا كانت مفسدة محرزة ومصلحة كذلك وتردد الأمر بينهما ، وأما في المقام الذي يجري البراءة كما هو الحق ، ويدفع الحرمة فكيف يمكن ان يحكم العقل بتقديم جانب الحرمة ، كيف ولو لم يحتمل إلا الحرمة وكان المحتمل الآخر هو الإباحة لجاز الفعل ومخالفة الحرمة على تقدير وجودها ، ولا يجوز ذلك فيما لو كان المحتمل الآخر هو الوجوب.

الوجه الثاني : المرسل المروي عن الإمام على أمير المؤمنين (ع) اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات (١).

وقوله (ع) : افضل من اكتساب الحسنات اجتناب السيئات (٢).

وفيه أولا : انه ضعيف السند.

__________________

(١) غرر الحكم ص ١٨٥ ح ٣٥١٤.

(٢) غرر الحكم ص ٢٧٣ ح ٥٩٦٧.

٤٨٠