زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

الله المروى في الوسائل (١) المتضمن لقضية الأعجمي الذي حج واحرم في ثيابه الذي أفتى أصحاب ابن حنيفة عليه بفساد الحج ولزوم البدنة" أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه .." ، حيث انه يدل على عدم العقوبة ونفي البأس على ارتكاب المحرم عن جهل.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (ره) (٢) بان الظاهر من الرواية هو اعتقاد الصواب والغفلة عن الواقع فلا يعم صورة التردد في كون فعله صوابا أو خطأً.

ولعل نظره الشريف إلى ان الباء في قوله بجهالة ظاهر في السببية للارتكاب ، فيختص بالجاهل المركب والغافل ، ثم أيده بان تعميم الجهالة بصورة التردد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك غير المقصر وسياقه آب عن التخصيص.

وأورد عليه بان الجاهل البسيط أيضاً إذا فعل فعلا يكون فعله ناشئا من جهله ، غاية الأمر بواسطة ما يحكم به عقله بقبح العقاب بلا بيان ، ودعوى ظهور الباء في السببية بلا واسطة كما ترى.

ولكن : ما أورده المورد وان كان متينا إلا انه من جهة ظهور الجهالة في الجهل بمطلق الوظيفة الفعلية ، لا يمكن الاستدلال به في المقام ، لورود أخبار الاحتياط على تقدير تمامية دلالتها على وجوبه عليه.

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٧٢ باب ٧ صفة الإحرام ح ٤٧ / الوسائل ج ١٢ ص ٤٨٨ باب ٤٥ من أبواب تروك الإحرام ح ١٦٨٦١.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٣١٧.

٣٨١

وأما ما أفاده الشيخ (ره) من التأييد.

فيرده ان التخصيص مما لا بد منه للزوم إخراج الجاهل المقصر ، وان كان معتقدا للخلاف.

وقد استدل للبراءة بروايات اخر ضعيفة السند أو قاصرة الدلالة وفيما تقدم غنى وكفاية.

الاستدلال للبراءة بالإجماع

الثالث : من الوجوه التي استدل بها للبراءة ، الإجماع ، وتقريبه بوجوه :

الأول : دعوى اتفاق الكل على عدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل.

الثاني : دعوى الاتفاق على ان الحكم الشرعي في مورد التكليف الذي لم يصل بنفسه ولا بطريقه هو الترخيص.

الثالث : دعوى الاتفاق على ان الحكم الظاهري المجعول في مورد الجهل بالواقع هو الإباحة.

وفي الكل إشكال :

أما الأول فلأنه إجماع على أمر عقلي فليس تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم.

وأما الثاني : فلان الإخباريين يدعون وصول التكليف في مورد الجهل مطلقا أو في خصوص الشبهة التحريمية بطريقه.

٣٨٢

وأما الثالث : فلان الإخباريين ذاهبون إلى ان الحكم المجعول هو التوقف والاحتياط ، مع انه لو تم فحيث ان مدرك المجمعين معلوم فلا يكون إجماعا تعبديا.

الاستدلال بحكم العقل

الرابع : من أدلة البراءة هو حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان :

وتنقيح القول فيه بالبحث في جهات :

الأولى : في تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدمها.

الثانية : في ملاحظتها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

الثالثة : في لحاظها مع أدلة وجوب الاحتياط.

اما الجهة الأولى : فلا ريب في ان وظيفة المولى جعل الأحكام وجعلها في معرض الوصول إلى المكلفين ، وبذلك يتم وظيفته.

وأما لزوم الامتثال فليس ذلك موكولا إليه ، بل إنما هو بحكم العقل والمراد به دركه حسن العقاب على مخالفة التكليف ، ومن الواضح ان ذلك إنما هو في مورد وصول التكليف. وأما إذا لم يصل سواء لم يبينه أصلاً ، أو بينه ولم يجعله في مظان وجوده ، أو جعله ولكن خفي عنّا بواسطة إخفاء الظالمين ، فلا يحكم العقل بقبح المخالفة ولا يدرك حسن العقاب عليها ، بل يحكم بقبحه ، اما في مورد عدم البيان فواضح ، وأما في مورد البيان وعدم الوصول : فلان حكم

٣٨٣

العقل بقبح المخالفة إنما يكون من جهة دركه قبح الظلم ، حيث ان مخالفة المولى ظلم عليه وخروج عن رسم العبودية وذي الرقية ، ومن الواضح ان ذلك إنما يكون في مورد الوصول ، وإلا ، فلا تكون المخالفة ظلما ولا يكون مجرى لهذا الحكم من العقل.

وأما ما أفاده الأستاذ الأعظم (١) في وجه هذا الحكم من ان ما يكون محركا للعبد أو زاجرا له إنما هو الوجود العلمي لا الوجود الواقعي فالتكليف ما لم يصل إلى المكلف لا يمكنه التحرك منه ومعه كان العقاب على مخالفته عقابا بلا مقتض كما إذا لم يكن حكم من المولى أصلاً.

فيرد عليه ، ان الوجود الواقعي وان لم يكن محركا إلا انه كما يكون وجوده العلمي محركا كذلك يمكن ان يكون وجوده الاحتمالي محركا ، فمع فرض الشك واحتمال التكليف يمكن ان يتحرك العبد بالاحتياط.

وأما الجهة الثانية : فالمعروف بينهم ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.

إذ مع حكم العقل بقبح العقاب لا يبقى احتمال الضرر ليجب دفعه.

وأشكل عليه بإمكان العكس بان تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا للتكليف ورافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبعبارة أخرى : ان موضوع كل منهما مع قطع النظر عن الأخرى ، موجود

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٢٥٨.

٣٨٤

في مورد التكليف المحتمل لمساوقة احتمال التكليف لاحتمال الضرر ، وكل منهما تصلح رافعة لموضوع الأخرى : إذ كما يقال قبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب كذلك يمكن ان يقال وجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي ، فالعقاب ليس بلا بيان.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (١) بان الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية ، وان لم يكن تكليف في الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها وان لم يكن تكليف في الواقع لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده ، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكور ، بل قاعدة القبح واردة عليها لأنها فرع احتمال الضرر ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان انتهى.

وأورد عليه بإيرادين :

أحدهما : ما عن جماعة (٢) بان أمر وجوب دفع الضرر المحتمل لا ينحصر ، بالدوران بين ان يكون نفسيا ، أو إرشاديا على ما يختاره الشيخ بل هناك قسم ثالث وهو الوجوب الطريقي أي ما جعل تحفظا على الملاك الواقعي ، نظير وجوب الاحتياط المجعول في الموارد الثلاثة على ما هو المعروف ، ويترتب عليه

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٣٥.

(٢) الظاهر أن هذا الإيراد للمحقق الآخوند في الكفاية ص ٣٤٥ عند قوله : «ولا يصغى إلى ما قيل .. الخ» ويؤيد ذلك أن آية الله الخوئي (قدِّس سره) نسبه إليه كما في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٢٥٩.

٣٨٥

تنجيز الواقع ولعل وجوب دفع الضرر المحتمل من هذا القبيل.

وفيه : ان الوجوب الطريقي هو الذي يترتب عليه احتمال العقاب على مخالفة الواقع ويكون منشئا له كما في وجوب الاحتياط الشرعي في الموارد الثلاثة ، ووجوب دفع الضرر المحتمل لا يتصور فيه ذلك ، فان احتمال العقاب مأخوذ في موضوعه ، وفي الرتبة السابقة عليه ، فلا يعقل ترتبه عليه ، وإلا لزم الدور ، فلا يكون وجوب طريقيا قطعا ، فيدور الأمر بين القسمين الذي افادهما الشيخ فما أفاده مطلب برهاني لا ادعاء صرف كما قيل.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان هذا الحكم من العقل إرشاد محض لا يمكن ان يستتبع حكما مولويا شرعيا فكيف يمكن ان يكون العقاب على مخالفته وان لم يكن في مورده تكليف واقعي ، وكيف صار هذا الحكم العقلي من القواعد الظاهرية مع ان مخالفة الأحكام الظاهرية لا تستتبع استحقاق العقاب مع عدم مصادفتها للواقع.

وفيه : ان الظاهر ان مراد الشيخ ، انه حيث لا يمكن ان يكون هذا الحكم طريقيا منجزا للواقع ، فلو تمت القاعدة لا بد وان يكون وجوبه نفسيا موجبا للعقاب على مخالفته ، والتعبير عن ذلك بالقاعدة الظاهرية إنما هو من جهة اخذ الاحتمال في موضوع هذا الوجوب النفسي.

فالمتحصّل ان ما أفاده الشيخ الأعظم متين جدا لا يرد عليه شيء.

وأجاب القوم عن اصل الإشكال بأجوبة أخر :

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ٣٦٩.

٣٨٦

احدها : ما أفاده المحقق الخراساني (١) وهو : ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل إذ لا يبقى معها احتمال الضرر.

ويرد عليه انه يمكن ان يعكس إذ كل من القاعدتين لا تتكفل بيان موضوعها ، وكل منهما صالحة لرفع موضوع الأخرى.

ثانيها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) وحاصله : ان قاعدة وجوب الدفع لا تصلح للبيانية ، لعدم كونها رافعة للشك ، وتمام الموضوع لقاعدة قبح العقاب هو نفس الشك في التكليف ، فموضوع قاعدة القبح يكون باقيا ، وهذا بخلاف العكس فان قاعدة القبح توجب رفع موضوع تلك القاعدة وهو احتمال الضرر.

وفيه : ان موضوع قاعدة قبح العقاب ، عدم البيان ، وهو كما يرتفع بجعل الطريق ، ورفع الشك ، يرتفع بجعل الحكم الطريقي الموجب لتنجز الواقع وصحة المؤاخذة عليه ، كما في موارد جعل وجوب الاحتياط كباب الأنفس.

ثالثها : ما أفاده المحقق العراقي (ره) (٣) وحاصله : ان بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل دورية لأنها تتوقف على احتمال الضرر ، توقف الحكم على موضوعه ، وهو يتوقف على عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان الرافعة لموضوعها ، وهو يتوقف على بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل فبيانيتها دورية.

__________________

(١) كفاية الأصول ٣٤٣.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٣٦٨.

(٣) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٢٣٦ بتصرف.

٣٨٧

وفيه : انه يمكن ان يعكس إذ جريان قاعدة قبح العقاب يتوقف على عدم البيان توقف الحكم على موضوعه ، وهو يتوقف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر ، وهو يتوقف على عدم احتمال الضرر ، المتوقف على جريان قاعدة القبح.

فالصحيح ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) هذا كله لو أريد بالضرر العقاب.

وان أريد به الضرر الدنيوي :

فيدفعه ان احتمال التكليف لا يكون ملازما لاحتمال الضرر.

مع ان دفع المقطوع منه غير لازم فضلا عن محتمله ، ولذا ترى تحمل العقلاء المضار الدنيوية للمنافع.

مضافا : إلى اتفاق الفريقين الذين هما من العقلاء ، على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، مع احتمال الضرر الدنيوي.

وان أريد به المفسدة.

فيدفعه انه لا دليل على وجوب دفع المحتمل منها ، ولذا ترى جريان البراءة في الشبهة الموضوعية مع وجود هذا الاحتمال.

وأما الجهة الثالثة : فالظاهر انه لو تمت أدلة وجوب الاحتياط تكون واردة على القاعدة ، وسيجيء الكلام فيه مفصلا.

٣٨٨

الاستدلال على البراءة بالاستصحاب

ثم انه ربما يستدل على البراءة بالاستصحاب ، وتقريبه على نحوين :

التقريب الأول : استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر وعدم استحقاق العقاب على الفعل أو الترك.

وأورد عليه بإيرادات :

الأول : ان المستصحب لا بد وان يكون أثرا شرعيا أو موضوعا لأثر شرعي ، وعدم التكليف ليس له اثر شرعي ، ولا بنفسه اثر فانه أزلي ، وعدم العقاب من لوازمه العقلية فلا ينالهما يد الوضع والرفع.

وقد وجه المحقق الخراساني (١) كلام الشيخ الأعظم (ره) بذلك.

وفيه : انه لم يدل دليل على اعتبار كون المستصحب مجعولا شرعيا أو موضوعا له ، بل المعتبر كون المستصحب قابلا للتعبد به ، وعدم التكليف ، وان كان أزلا غير قابل للوضع والرفع ، إلا انه بقاء بيد الشارع.

الثاني : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (٢) وهو ان المتحقق في السابق عدم

__________________

(١) تعرض المحقق الخرساني للمستصحب في الأمر العاشر من تنبيهات الاستصحاب ومع أنه أعتبر ان المستصحب لا بدّ أن يكون حكم شرعي أو ذا حكم شرعي وعدم التكليف ليس كذلك إلا أنه صحح استصحاب عدم التكليف بقوله : «إلا أنه حكم مجعول فيما لا يزال ..» راجع ص ٤١٨.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٣٧ بتصرف.

٣٨٩

المنع ، واستصحابه لا يفيد لأنه لا يقطع معه بعدم العقاب ، فيحتاج إلى ضم قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومعها لا حاجة إلى الاستصحاب ـ نعم ـ لو كان الاستصحاب حجة في مثبتاته ، أو كان من الأمارات صح التمسك به ، إذ على الأول كان يثبت به الإباحة والترخيص ، ومعه يقطع بعدم العقاب ، وعلى الثاني كان يظن بعدم العقاب ، وهو في حكم القطع بالتعبد ، ولكن المبنيين فاسدان ، فهذا الاستصحاب لا يفيد.

وفيه : انه ان كان مراده ان استصحاب عدم المنع لكونه غير مجعول شرعي ولا له اثر شرعي لا يجري.

فهو يرجع إلى الوجه الأول وجوابه ما تقدم.

وان كان مراده ان عدم العقاب ليس أثرا شرعيا لعدم المنع فلا يترتب عليه.

فيرد عليه ان الآثار العقلية المترتبة على الأمر الشرعي ، يترتب باستصحابه ، ولذا التزم (قدِّس سره) بترتب عدم العقاب على الإباحة المستصحبة.

وان كان مراده ان عدم العقاب ليس لازما لعدم المنع بل للإذن والترخيص.

فيرد عليه ان العقاب من لوازم الحرمة ، وعدمه من لوازم عدمها فاستصحابه يكفي لترتبه ، مع ان عدم المنع قبل البلوغ بعد قابليته لتوجه الخطاب إليه إنما يكون بحكم الشارع الثابت بحديث رفع القلم ونحوه ، وحيث : ان هذا الحديث وأمثاله من الأمارات فيثبت به الإذن والترخيص ، فيستصحب

٣٩٠

نفس ذلك الترخيص الشرعي.

الثالث : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان المتيقن هو اللاحرجية العقلية ، أي العدم المحمولي غير المنتسب إلى الشارع ، والعدم بعد البلوغ لو كان فهو عدم نعتي أي المنتسب إلى الشارع ، واستصحاب العدم المحمولي لإثبات العدم النعتي من الأصل المثبت الذي لا نقول به.

وفيه : ان عدم التكليف في الصبي غير المميز ، لا يكون منتسبا إلى الشارع ، إلا انه في المميز منتسب إليه وهو قابل لتعلق التكليف به وقد رفعه الشارع امتنانا وعليه فالمتيقن أيضاً عدم نعتي ، مع ان استناد العدم إلى الشارع ، إنما يكون بنفس دليل الاستصحاب ، وقد ذكرنا في محله ان الاصل المثبت إنما هو في لوازم المستصحب ، لا لوازم الاستصحاب ، وبالجملة لوازم الاستصحاب تكون مترتبة وليس ذلك من الأصل المثبت.

الرابع : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) أيضاً ، وحاصله : ان الاستصحاب إنما يجري لترتيب اثر واقع المستصحب ، وأما الأثر المترتب على نفس الشك في الواقع فلا يجري الاستصحاب ، لترتبه ، فانه بمجرد الشك يترتب ذلك الأثر فإجراء الاستصحاب لترتبه ، من قبيل تحصيل الحاصل ، بل من أردأ أنحائه ، فانه تحصيل تعبدي للحاصل وجدانا ، والمقام نظير ما لو فسرنا التشريع ، بإدخال ما

__________________

(١) كما حكاه عنه آية لله الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٢٦٩ وهو ظاهر كلامه في أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٢٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٢) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٠٦.

٣٩١

لم يعلم انه من الدين في الدين ، فلو شك في مشروعية شيء يترتب عليه حرمة استناده إليه تعالى ، فإجراء استصحاب عدم المشروعية لاثبات حرمة الاستناد لغو وتحصيل للحاصل ، والمقام من هذا القبيل فان الشك فيه بنفسه موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فاستصحاب عدم المنع الذي أثره المرغوب عدم العقاب لا يجري.

وفيه : انه من جهة كون الأثر غير مختص بالشك بل مترتب عليه وعلى الواقع ، فالاستصحاب يجري وحيث انه اصل محرز ، يوجب رفع موضوع قاعدة القبح ، ويترتب حينئذ عليه عدم العقاب ، وليس من قبيل تحصيل الحاصل ، وهذا نظير استصحاب الطهارة ، وقاعدتها ، فان القاعدة بمجرد الشك تجرى ، ومع ذلك لا تكون مانعة عن جريان استصحابها ، والسر فيه ما ذكرنا.

الخامس : وهو الحق ، وملخصه انه يعتبر في الاستصحاب ، وحدة القضية المتيقنة ، والمشكوك فيها ، فيعتبر وحدة الموضوع ، وفي المقام لا يجري الاستصحاب لتبدل الموضوع فان الموضوع في القضية المتيقنة عنوان الصبي وقد تبدل.

توضيح ذلك انه لا شبهة في ان العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام بنظر العرف تنقسم إلى قسمين :

أحدهما : ما يكون مقوما لموضوع الحكم كالعدالة بالإضافة إلى جواز الاقتداء والاجتهاد بالنسبة إلى جواز التقليد.

ثانيهما : ما لا يكون مقوما له بل يكون علة لعروض الحكم على المعنون كالتغير المأخوذ في موضوع نجاسة الماء.

٣٩٢

وفي القسم الأول بانعدام العنوان يرتفع الموضوع بنظر العرف ، ويكون المشكوك ثبوت الحكم له غير ما تيقن ثبوته له ، وهما متعددان بنظر العرف فلا يجري الاستصحاب.

والمقام من هذا القبيل ، فان عنوان الصبي والمجنون ونحوهما في نظر العرف من العناوين المقومة للموضوع فلا يجري الاستصحاب.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا كونهما من قبيل القسم الثاني ، لكن إنما يكون الاستصحاب جاريا في هذا القسم ، إذا لم يحرز كون القيد علة للحدوث والبقاء ، وشك في انه هل يكفي حدوث القيد في ثبوت الحكم حدوثا وبقاء أم لا؟ وأما مع الإحراز فلا يجري الأصل والمقام كذلك فان الذي يستفاد من الأدلة ان الصباوة والجنون من القيود التي يدور ارتفاع القلم مدارها حدوثا وبقاء فلا يجري الاستصحاب.

التقريب الثاني : استصحاب عدم جعل الشارع هذا الحكم الإلزامي.

توضيحه : انه لا ريب في ان الأحكام الشرعية تكون تدريجية في جعلها ، فهذا الحكم المشكوك فيه لم يكن مجعولا في زمان قطعا فيشك في ذلك فيجرى استصحاب عدم الجعل ما لم يتيقن به.

وأورد عليه بإيرادات :

الأول : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان المتيقن هو ، العدم غير المنتسب

__________________

(١) قد مرّ تخريجه راجع المصدر السابق.

٣٩٣

إلى الشارع ، أي العدم المحمولي الثابت قبل الشرع والشريعة ، والعدم المشكوك فيه هو العدم النعتي المنتسب إلى الشارع ، واستصحاب العدم المحمولي لاثبات العدم النعتي من الأصل المثبت الذي لا نقول به.

وفيه : ما عرفت من ان جعل الأحكام كان تدريجيا ، فأول البعثة لم يكن هذا الحكم المشكوك فيه مجعولا قطعا فالمتيقن هو العدم النعتي.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) أيضاً ، وهو ان الباعث أو الزاجر إنما هو التكليف الفعلي لا الإنشائي ، فلا بد من إثبات عدم ذلك ، واستصحاب عدم الجعل لاثبات عدم المجعول من أوضح أنحاء الأصول المثبتة.

وفيه : مضافا إلى النقض باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل الذي اتفق الكل على جريانه ، فلو كان نفى الحكم باستصحاب عدم الجعل مثبتا كان إثباته باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ أيضاً مثبتا.

انه لا تعدد للاعتبار والمعتبر والإنشاء والمنشأ كما في الإيجاد والوجود ، وإنما لا يجب امتثال الأحكام قبل وجود الموضوع من جهة تعلقه به في ظرف وجوده على نحو القضية الحقيقية ، فمع عدم الموضوع لا حكم في حق المكلف من الأول ، وإلا فمن جهة عدم الوجود للحكم إلا بالاعتبار يكون لا محالة متحققا من حين الاعتبار ، فلا مانع من استصحابه ، أو عدمه فتدبر فانه دقيق.

الثالث : معارضة استصحاب عدم جعل الحكم الإلزامي مع استصحاب

__________________

(١) كما حكاه عنه آية الله الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٢٦٩ وهو ظاهر كلامه في مبحث دوران الأمر بين الأقل والأكثر في فوائد الأصول ج ٤ ص ١٦٨ وما قبلها.

٣٩٤

عدم جعل الترخيص للعلم بتحقق أحدهما.

وفيه : انه لا مانع من اجرائهما معا ، بعد فرض عدم لزوم المخالفة العملية من جريانهما معا ، وفي المقام إشكالات أخر تقدم بعضها مع الجواب عنه في التقريب الأول ، وبعضها واضح الدفع.

فالأظهر جريانه وثبوت البراءة به.

نعم لا يثبت به الإباحة فلو كان هناك اثر مترتب على الإباحة لما كان يترتب على الاستصحاب ولزم الرجوع إلى أصالة الإباحة.

وقد يتوهم اختصاص هذا الوجه بالشبهات الحكمية ، من جهة انه في الشبهة الموضوعية يكون الجعل معلوما فلا يجري استصحاب عدم الجعل.

ويندفع بأنه من جهة ان جعل الأحكام إنما يكون على نحو القضية الحقيقية دون الخارجية فكل موضوع خارجي من أفراد الموضوع يكون مخصوصا بحكم خاص فعند الشك ، لا مانع من استصحاب عدم جعل الحكم لهذا الموضوع الشخصي الخارجي.

الاستدلال بالآيات للزوم الاحتياط

وقد استدل للزوم الاحتياط ، بالكتاب ، والسنة ، والعقل.

أما الكتاب ، فبطوائف من الآيات :

الأولى : ما دل على حرمة القول بغير علم ، كقوله تعالى : (وَأَن تَقُولُواْ عَلَى

٣٩٥

اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(١) إذ القول بالترخيص في محتمل التحريم قول بغير علم.

الثانية : ما دل على لزوم التقوى كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)(٢) بدعوى ان ترك محتمل التحريم من التقوى.

الثالثة : ما دل على حرمة إلقاء النفس في التهلكة كقوله تعالى : (وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٣).

الرابعة : ما دل على المنع عن متابعة ما لا يعلم ، كقوله عزوجل (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٤) بتقريب انه ظاهر في وجوب التوقف وعدم المضي.

الخامسة : ما يدل على التوقف ورد ما لم يعلم حكمه إلى الله تعالى كقوله تعالى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(٥).

ولكن الظاهر عدم صحة الاستدلال بشيء من الطوائف :

أما الأولى : فلان الحكم بالترخيص الواقعي وان كان قولا بغير علم ، إلا انا لا ندعيه ، والحكم بالترخيص الظاهري مستندا إلى الحجة كالقول بوجوب الاحتياط مستندا إليها ليس قولا بغير علم بل عن علم.

__________________

(١) الآية ٣٣ من سورة الأعراف.

(٢) الآية ١٠٢ من سورة آل عمران.

(٣) الآية ١٩٥ من سورة البقرة.

(٤) الآية ٣٦ من سورة الإسراء.

(٥) الآية ٥٩ من سورة النساء.

٣٩٦

واما الطائفة الثانية : فلان المراد بالتقوى ان كان هو الوقاية من عذاب الله ، فارتكاب محتمل التحريم مع الدليل على جوازه ، وعدم العقاب عليه ليس مشمولا للآية ، وان كان المراد به المرتبة العالية من التقوى الشاملة ، لترك المكروهات ، وفعل المندوبات ، والاحتياط بإتيان ما يحتمل وجوبه مع الدليل على عدمه كموارد جريان قاعدة الفراغ وشبهها ، فالأمر به لا محالة يكون غير إلزامي ، والالتزام بإبقائه على ظهوره وخروج هذه الموارد بالدليل الخاص ، كما ترى.

واما الطائفة الثالثة فلان المراد بالهلكة ان كان هو العقاب فأدلة البراءة توجب القطع بعدم العقاب فلا يكون مشمولا لهذه الآية الشريفة ، وان شئت قلت ان هذا النهي بعد ما لم يكن نفسيا ، لان فعل ما يترتب عليه العقاب لا يكون محرما بحرمة أخرى ، غير الحرمة المترتب عليها العقاب على مخالفتها ، ولا طريقيا إذ الحكم الطريقي إنما يكون لتنجيز الواقع ، ومع فرض تنجزه لفرض الهلكة في موضوعه ، وهو العقاب ، فلا يعقل ان يكون النهي موجبا له فلا محالة يكون إرشاديا فهو تابع لثبوت العقاب من دليل آخر ، وأدلة البراءة تنفيه ، وان كان المراد الهلكة الدنيوية فهي مقطوع العدم ، مع ان الشك من هذه الجهة من قبيل الشبهة الموضوعية لا يجب فيها الاحتياط بالاتفاق.

واما الطائفة الرابعة : فلان محتمل التحريم مع قيام الدليل على الترخيص فيه ظاهرا ليس مشمولا له لأنه وان لم يعلم التكليف الواقعي ، إلا ان الوظيفة الظاهرية معلومة.

واما الطائفة الخامسة : فلان الظاهر منها رد الحكم الواقعي إلى الله تعالى ،

٣٩٧

مع أنها لو شملت المقام تكون مختصة بما يمكن فيه رفع الشبهة ولا تشمل الشبهات بعد الفحص كما هو واضح.

الأخبار التي استدل بها للزوم الاحتياط

واما السنة ، فقد استدل الاخباريون للزوم الاحتياط في الشبهة البدوية التحريمية ، بطوائف منها :

الأولى : ما يدل على حرمة القول والإفتاء بغير العلم ، كخبر زرارة ، سألت أبا جعفر ما حجة الله على العباد قال ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون ، ونحوه غيره (٢).

والجواب عن الاستدلال بها واضح ، لان القول بالحلية الواقعية وان كان قولا بغير علم إلا أنا لا نقول بها ، والقول بالحلية الظاهرية مستندا إلى أدلة البراءة قول عن علم.

الثانية : ما دل على وجوب التوقف فيما لا يعلم ورد حكمه إلى الإمام كخبر جابر عن الإمام الباقر (ع) إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا الحديث ونحوه غيره (١).

__________________

(٢) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١٢٠ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٣٣٣٧٠ وص ١٦٨ ح ٣٣٥١١.

(١) الكافي ٤٣ باب النهي عن القول بغير علم ح ٧ / وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ٢٣ ح ٣٣١٠٨ و ٣٣١٠٩.

٣٩٨

ولكنها مختصة بصورة إمكان إزالة الشبهة ولا تعم ما هو محل الكلام وهو الشبهة بعد الفحص.

الثالثة : ما دل على ان الوقوف عند الشبهة من الورع ، كقول الإمام علي (ع) لا ورع كالوقوف عند الشبهة (١) ، وخبر أبي شعيب عن الإمام الصادق (ع) أورع الناس من وقف عند الشبهة الحديث ونحوهما غيرهما (٢).

ولكن يرد على الاستدلال بها ما أوردناه على الاستدلال بالطائفة الثانية من الآيات من تعين حملها على الاستحباب وعدم اللزوم.

الرابعة : ما يدل على ان طلب ترك المشتبه إنما هو من جهة ان الإتيان به يهوّن فعل المعصية ، كمرسل الصدوق خطب أمير المؤمنين (ع) فقال ان الله حد حدودا فلا تعتدوها إلى ان قال فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له اترك (٣).

والاستدلال بها كما ترى.

الخامسة : ما تضمن النهي عن الاتكال على الاستنباطات العقلية الظنية في الاعتقاديات ، كخبر زرارة عن الإمام الصادق لو ان العباد إذا جهلوا

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١٦١ ح ٣٣٤٨٦.

(٢) وسائل الشيعة ج ٢٧ باب وجوب التوقف والاحتياط في القضاء والفتوى والعمل ... ص ١٦٢ و ١٦٥ ح ٣٣٤٩٢ و ٣٣٥٠١ وغيرهما.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ٧٥ باب نوادر الحدود ح ٥١٤٩ / الوسائل ج ٢٧ ص ١٧٥ ح ٣٣٥٣١.

٣٩٩

وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا (١).

والجواب عنها واضح.

الاستدلال بأخبار التوقف لوجوب الاحتياط

السادسة : ما تضمن الأمر بالوقوف عند الشبهة ، معللا بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وفي بعضها التعليل خاصة كموثق مسعد ابن زياد عن النبي (ع) انه قال لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة إلى ان قال فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (٢)

وقول الإمام الصادق (ع) في مقبولة ابن حنظلة بعد ذكر جملة من المرجحات إذا كان كذلك فارجئه حتى تلقى إمامك فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (٣).

وفي روايات الزهري والسكوني وعبد الأعلى ، الوقوف عند الشبهة خير

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٨٨ باب الكفر ح ١٩ / الوسائل ج ١ ص ٣٢ باب ثبوت الكفر والارتداد بجحود بعض الضروريات .. ح ٤٧ وج ٢٧ ص ١٥٨ ح ٣٣٤٧٤.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٧٤ باب من الزيادات في فقه النكاح ح ١١٢ / الوسائل ج ٢٠ ص ٢٥٨ باب وجوب الاحتياط في النكاح ح ٢٥٥٧٣ وج ٢٧ ص ١٥٩ ح ٣٣٤٧٨.

(٣) الكافي ج ١ ص ٦٧ باب اختلاف الحديث ح ١٠ / الفقيه ج ٣ ص ٨ ح ٣٢٣٣ / التهذيب ج ٦ ص ٣٠١ ح ٥٢ / الوسائل ج ٢٧ ص ١٠٦ ح ٣٣٣٣٤.

٤٠٠