زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

على أصالة الإباحة ، وإنما يدعى ظهوره في كونه واردا في مقام بيان ان حكم الأشياء بعناوينها الاولية هي الإباحة وانها تستمر إلى ان يعرف خلافها ، فيدل على الإباحة الواقعية واستصحابها.

وكيف كان فلا بد من البحث في كل واحد منها.

اما موثق مسعدة فالكلام فيه يقع في جهتين :

الأولى : انه هل يدل على اباحة المشكوك حرمته أم لا؟.

الثانية : انه على فرض دلالته هل يختص بالشبهات الموضوعية أم يشمل الشبهات الحكمية.

اما الجهة الأولى : فالاحتمالات المتصورة في قوله كل شيء حلال ، اربعة :

الأول : ارادة الحلية الظاهرية ، فيكون الخبر على هذا في مقام جعل أصالة الإباحة ، ويكون على هذا ذكر الامثلة في ذيلها المستندة حلية تلك الامور إلى ادلة اخر ، مثل اليد ، والاستصحاب من باب التنظير لا التمثيل.

الثاني : ارادة الحلية المستندة إلى دليل آخر غير أصالة الإباحة ويكون الامثلة حينئذ تمثيلا لا تنظيرا للحلية المحكوم بها.

الثالث : ارادة الحلية الثابتة في موارد الشك مطلقا ، من غير فرق بين

__________________

ما حكم على الموضوع واقعا من الطهارة والحلية ظاهرا ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه لا لتحديد الموضوع كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في طهارته أو حليته».

٣٦١

أصالة الإباحة ، والحلية الثابتة باليد وما شاكل.

الرابع : ارادة معناها اللغوى وهو الارسال وهذا أيضاً ينطبق على الحلية الثابتة باصالة الإباحة والمستفادة من الدليل.

وبعبارة أخرى : يكون قوله (ع) كل شيء حلال حاكيا عن الإنشاءات المتعددة الثابتة بعناوين مختلفة ، ودلالة الموثق على أصالة الحل مبتنية على كون الاحتمال الثاني خلاف الظاهر كما لا يخفى.

أقول : اما الاحتمال الأول ، فهو مناف لظهور قوله وذلك مثل الثوب الخ فانه ظاهر في كونه تمثيلا لا تنظيرا.

واما الاحتمال الثاني فعن الأستاذ الأعظم (١) تعينه من جهة الغاية المذكورة في ذيله إذ انحصار رافع الحلية ، في الاستبانة الظاهرة في العلم الوجدانى وفي البينة ، كاشف عن ان الحلية فيها اريد بها المستندة إلى اليد والاستصحاب ، لا مطلق الحلية المرتفعة بغيرهما فان الحلية المستندة اليهما لا ترتفع إلا بالعلم والبينة ، وما في بعض الأخبار من اعتبار خبر الواحد بتحقق الرضاع ، أو النسب يكون معارضا بما يدل على عدم اعتباره ، واما الاقرار فهو وان كان رافعا للحلية إلا انه خلاف المفروض في الموثق وعليه فهو اجنبي عن المقام.

وفيه : ان المراد بالبينة هو معناها اللغوي ، أي ما يتبين به الشيء وهو مطلق الدليل. فالمراد حينئذ ان الأشياء كلها على الإباحة حتى تستبين وتستكشف انت حرمتها أو تظهر حرمتها من الخارج بلا تفحص واستكشاف وقد مر

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ج ٣ ٢٥٢.

٣٦٢

توضيح ذلك في مبحث حجية الخبر الواحد.

أضف إلى ذلك ان الاستبانة لو كانت بمعنى العلم الوجداني يكون دليل ما ثبت حجيته حاكما على الموثق وموسعا للاستبانة ويكون ذكر البينة بالخصوص من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

وقد يقال بتعين هذا الاحتمال من جهة أن حمله على الاحتمال الثالث أو الرابع مستلزم لحمل قوله كل شيء حلال على الحكاية عن إنشائات متعددة ، لا على مقام الجعل والتشريع.

وفيه : ان هذا لازم على كل حال فان المجعول في باب اليد غير المجعول في باب الاستصحاب ، فلا يمكن جعلهما بدليل واحد ، فيدور الأمر بين الاحتمالين الاخيرين وعلى التقديرين يدل على المطلوب.

إلا ان الاظهر هو الاخير اخذا بالعموم ، فيدل الخبر على جعل الإباحة والحلية ، وانه لا يعتنى باحتمال الحرمة في جميع موارد الشك فيها لمكان جعل الحلية الظاهرية فيها بعناوين مختلفة.

عدم اختصاص الموثق بالشبهة الموضوعية

واما الجهة الثانية : فقد استدل لاختصاص الموثق بالشبهة الموضوعية بوجوه :

٣٦٣

احدها : ما أفاده اكثر المحققين (١) وهو ان الامثلة المذكورة فيه من قبيل الشبهة الموضوعية ، وهذه قرينة أو صالحة للقرينية على الاختصاص بالشبهات الموضوعية.

وان شئت قلت : ان الإمام (ع) طبق الكبرى الكلية على الشبهة الموضوعية بقوله (ع) وذلك الخ ، وهذا قرينة الاختصاص أو صالح لتلك.

وفيه : ان جعل هذا قرينة لعدم كون المجعول في الصدر أصالة الحل ، متين ، وقد بيناه ، واما بناء على كون الصدر ظاهرا في كونه حاكيا عن إنشائات متعددة فلا يكون التمثيل منافيا له ، بل يكون حينئذ تمثيلا لبعض أفراد الكبرى الكلية ، ولا محذور في ذلك ، ولا يكون ذلك قرينة ولا صالحا للقرينية ، مع ، انه لو تم هذا الوجه لزم حمل الصدر على غير أصالة الحل لا الحلية في الشبهات الموضوعية.

الثاني : ما أفاده المحققون المشار إليهم آنفا ـ وهو ـ ان حصر الغاية في الاستبانة التي هي بمعنى العلم الوجداني ، وقيام البينة يدل على ان المراد بلفظ الأشياء في الموثق ما يكون من قبيل المذكورات في الخبر من الشبهات الموضوعية المحكومة بالحل ، بحكم الاستصحاب واليد ، فان الرافع في امثال ذلك هو العلم والبينة ، واما الرافع لها في الشبهات الحكمية ، فهو قد يكون غيرهما من استصحاب الحرمة وخبر الواحد.

__________________

(١) كآية الله الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٢٤٩ / ومصباح الأصول ج ٢ ص ٢٧٤ / نهاية الأفكار ج ٣ ص ٢٣٤ / وما يظهر من بحر الفوائد ج ٢ ص ٥٣ ـ ٥٤.

٣٦٤

وفيه : ما عرفت من حجية خبر الواحد في الموضوعات أيضاً ، وعرفت هناك ان المراد بالاستنابة ما هو الظاهر بنفسه ، والمراد بالبينة ما يظهر بالحجة والبرهان فراجع ما ذكرناه ، وعليه فلا مورد لهذا الوجه أصلاً.

الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) والاستاذ الأعظم (٢) وهو : ان قوله" بعينه" يشهد بذلك لان العناوين الكلية كشرب التتن ، اما ان تكون معلومة الحرمة ، أولا تكون ، وعلى الأول فهي معلومة بعينها ، وعلى الثاني فهي غير معلومة ، واما العلم بكونها محرمة لا بعينها فهو لا يتحقق إلا في مورد العلم الإجمالي ، مع كون الشبهة محصورة وظاهر انه لا يحكم فيه بالحلية.

واما الشبهات الموضوعية فالشك فيها غالبا يلازم العلم بالحرام لا بعينه مثلا من شك في حرمة المائع خارجي لاحتمال كونه خمرا ، فذلك يلازم غالبا العلم بوجود الخمر خارجا المحتمل انطباقه على ما في الخارج من المائع المحتمل كونه خمرا ـ وعليه ـ فيكون الحرام معلوما لا بعينه ، ولكن يكون اطرافه غير محصورة ، ولا يكون هذا العلم موجبا للتنجز ، فيجوز ان يقال ما هو محل الابتلاء من اطرافه لا يعلم انه حرام بعينه ، فهذه الكلمة ، قرينة لاختصاص الخبر ببعض موارد الشبهات الموضوعية ، ويثبت في البقية ، بعدم الفصل ، فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية.

__________________

(١) من اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعية كما في أجود التقريرات ج ٢ ص ١٨٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٢١.

(٢) مصباح الأصول ج ٢ ص ٢٧٣.

٣٦٥

وفيه : ان القيد إنما يكون مذكورا في الغاية ، ولا يكون شاهدا على ان ما قبل الغاية مقيد بكونه لا بعينه ، بل يلائم مع العلم بالحرمة لا بعينه ، وعدم العلم بالحرمة كما في الشبهة الحكمية.

فالحق ان الخبر يدل على أصالة الإباحة في الشبهات الحكمية والموضوعية جميعا.

واما غير الموثق من الأخبار الأخر فدلالتها على أصالة الحل واضحة ، إنما الكلام في انه هل يختص تلك الأخبار بالشبهة الموضوعية كما عليه الشيخ الأعظم (١) وغيره من اساطين الفن ، أم تعم الشبهة الحكمية كما ذهب إليه شارح الوافية (٢) : نظرا إلى ان الظاهر منها ان كل شيء فيه الحلال والحرام عندك بمعنى انك تقسمه إلى هذين ، وتحكم عليه باحدهما لا على التعيين ، ولا تدرى المعين منهما فهو لك حلال ، وشمول ذلك لمثل شرب التتن وغيره مما اشتبه حكمه واضح.

وقد استدل للاختصاص بالشبهة الموضوعية بوجهين :

١ ـ ان كلمة بعينه الموجودة فيها تشهد بذلك بالتقريب المتقدم.

والجواب عنه ما مر.

٢ ـ ما أفاده الشيخ الأعظم (٣) ، وهو ان المراد من قوله (ع) فيها (فيه

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٢) كما حكاه عنه في بحر الفوائد ج ٢ ص ٢٢ (الثاني ..) وغيره.

(٣) المصدر السابق.

٣٦٦

حلال وحرام) كونه منقسما اليهما ووجود القسمين فيه بالفعل ، لا مرددا بينهما إذ لا تقسيم مع الترديد أصلاً لا ذهنا ولا خارجا ، وذلك لا يتصور إلا في الشبهة الموضوعية ، كالمائع المشكوك كونه خمرا أو خلا : إذ لا قسمة فعلية في الشبهة الحكمية ، كما لو شك في حلية شرب التتن فان فيه احتمال الحرمة والحلية لا وجود القسمين فيه.

وأورد عليه بوجهين :

أحدهما : ما أفاده المحقق العراقي (١) وهو ان التقسيم الفعلي يتصور في الشبهة الحكمية مثلا اللحم فيه حلال ، وهو لحم الغنم ، وفيه حرام ، وهو لحم الارنب وفيه مشكوك فيه ، وهو لحم الحمار الوحشى مثلا ، فإذا عم الحديث هذه الشبهة وحكم بالحلية فيها ، تثبت الحلية في سائر الموارد بضميمة عدم القول بالفصل.

وفيه : ان الشيخ يدعى ظهور الأخبار في كون وجود القسمين بالفعل ، منشئا للشك في حلية المشكوك فيه ، وهذا يختص بالشبهة الموضوعية ، فانه إذا شك في كون شيء ماء أو خمرا ، لا محالة يشك في حليته ، وحرمته ، ومنشا الشك حرمة الخمر ، وحلية الماء ، إذ لو كانا حلالين ، أو حرامين ، لما كان هناك شك في الحلية والحرمة ، وهذا بخلاف الشبهة الحكمية ، فان منشأ الشك فيها ليس وجود القسمين فعلا ، بل فقدان النص ، أو اجماله ، كان القسمان حلالين ، أم حرامين ، أم مختلفين.

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٢٣٣.

٣٦٧

ثانيهما : ما أفاده المحقق النائيني (١) ، وهو ان لفظ الشيء ، هو الموجود الشخصي الخارجي لا المفهوم الكلي ، وحيث انه لا يعقل انقسامه إلى الحلال ، والحرام ، كان ذلك قرينة على ان المراد من التقسيم هو الترديد فلا يكون اشتماله على التقسيم قرينة على اختصاصه بالشبهات الموضوعية.

وفيه : ان لفظ الشيء من الالفاظ التي تطلق ، على جميع الامور ، كليا كان ذلك الأمر ، أم شخصيا ، بل وان كان ممتنعا كشريك الباري.

مع انه لو سلم ارادة الموجود الخارجي منه نلتزم بالاستخدام في الضمير في قوله : فيه حلال وحرام ، والقرينة على هذا الاستخدام نفس التقسيم ، كما اشار إليه الشيخ (٢) ، فالاظهر اختصاصها بالشبهة الموضوعية.

الاستدلال بحديث الناس في سعة

ومن ما استدلوا به على البراءة قوله (ص) ان الناس في سعة ما لم يعلموا هكذا روى في عوالي اللآلي (٣) وقد حكى عنه في المستدرك (٤) وفي جامع الأحاديث ج ١ ص ٣٢٦.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ١٨٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٢٣.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٣٠.

(٣) عوالي اللآلي ج ١ ص ٤٢٤ ح ١٠٩.

(٤) مستدرك الوسائل ج ١٨ ص ٢٠ باب

٣٦٨

وأما خبر السفرة المروي في الوسائل (١) وهو خبر السكوني عن الإمام الصادق عن أمير المؤمنين (ع) في السفرة التي وجدت في الطريق وفيها لحم وخبز وبيض وجبن وسكين ـ يقوم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء فان جاء طالبها غرموا له الثمن قيل يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي فقال (ع) هم في سعة حتى يعلموا.

وقريب منه ما في المستدرك (٢) في ذلك الباب عن الجعفريات والدعائم الذي توهم موافقته معنى مع هذا الخبر ، فهو أجنبي عن المقام فانه يدل على امارية ارض المسلمين لحلية اللحم المطروح فيها.

والظاهر حجية الخبر نفسه فانه في عوالي اللآلي نسب الخبر إلى النبي (ص) جزما.

وتقريب الاستدلال به انه يدل على ان الناس في سعة من ناحية الحكم المجهول ومن الواضح ان الاحتياط لو وجب لما كانوا في سعة أصلاً.

وأورد عليه الشيخ بان الإخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل.

__________________

(١) وسائل الشيعة وقد ذكره في عدّة موارد ج ٣ ص ٤٩٣ ح ٤٢٧٠ وج ٢٤ ص ٩٠ ح ٣٠٠٧٧ وج ٢٥ ص ٤٦٨ ح ٣٢٣٧٢.

(٢) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٥٨٨ ح ٢٨١٠ وأيضا ح ١٩٤٥٤ وح ٢٠٩٧٦ / الجعفريات ص ٢٧ باب السفرة تؤخذ لقطة.

٣٦٩

وأجاب عنه المحقق الخراساني (ره) (١) بأنه لو كان وجوب الاحتياط نفسيا تم ما أفيد ، ولكن بما ان الاحتياط على تقدير وجوبه واجب طريقي لأجل ان لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا فلا يتم فانه وان علم وجوب الاحتياط إلا انه لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد فكيف يقع في ضيق الاحتياط من اجله.

وأفاد الأستاذ الأعظم (٢) ان ما أفاده الشيخ يتم على تقدير كون كلمة ما مصدرية زمانية ، إذ المعنى ان الناس في سعة ما داموا لم يعلموا ، فإذا علموا بوجوب الاحتياط فليسوا في سعة ، واما إذا كانت موصولة فلا يتم فانه يكون مفاده حينئذ ان الناس في سعة من الحكم المجهول ويكون حينئذ معارضا لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها.

والحق ان يقال ان الضمير المستتر في لا يعلمون ، يرجع إلى الحكم ، ويكون مفاد الحديث ان الناس في سعة ما دام لا يعلمون الحكم الواقعي ، لا في سعة من الحكم الذي لا يعلمونه ولا يعلمون الوظيفة عند عدم العلم به ، ليكون مفاد الحديث مفاد قبح العقاب بلا بيان ، من غير فرق بين ان تكون كلمة ما مصدرية زمانية أو موصولة مضافا إليها كلمة السعة ، ومن غير فرق بين كون وجوب الاحتياط طريقيا أم نفسيا.

أضف إليه ان وجوب الاحتياط على تقدير ثبوته طريقي ، وان الظاهر كون كلمة ما موصولة : إذ ما المصدرية الزمانية على ما يظهر من موارد استعمالها

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٤٢.

(٢) مصباح الأصول ج ٢ ص ٢٧٨.

٣٧٠

تدخل على فعل الماضي ، ولا تدخل على فعل المضارع فتأمل : فانه على ما صرح به في شرح الصمدية ، انها تدخل على المضارع المصدر بلم كما في الحديث لكون الفعل حينئذ ماضيا معنى.

وعلى الجملة فالحديث على جميع التقادير يدل على كون الناس في سعة من ناحية الحكم الذي لا يعلمونه ، فيكون معارضا لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها.

الاستدلال برواية الإطلاق

ومن ما استدلوا به على البراءة قوله (ع) : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، رواه الصدوق في الفقيه (١) انه قال الصادق (ع) : كل شيء ... الخ.

راجع الوسائل باب ١٩ من القنوت (٢) وهو مضافا إلى كونه معتبرا من جهة ان الصدوق نسبه إلى المعصوم جزما.

وقد اعتمد عليه في اماليه (٣) حيث جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الامامية.

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها.

(٢) الوسائل ج ٦ ص ٢٨٩ ح ٧٩٩٧ وأيضا رواه في ج ٢٧ ص ١٧٣ ح ٣٣٥٣٠.

(٣) كما حكا عنه ذلك الشيخ الأعظم في فرائد الأصول ج ١ ص ٣٢٧.

٣٧١

وصرح في الفقيه في مبحث جواز القنوت بالفارسي بأنه معتبر (١) قال : لو لا العمومات الدالة على جوازه لكنت أفتي بالجواز لهذه الرواية فهو معتبر سندا.

وقريب منه خبران آخران مرويان في المستدرك في ذلك الباب من القضاء أحدهما ما عن أمالي الطوسي (٢) وهو قوله الأشياء مطلقة حتى يرد فيها نهى أو أمر ـ والآخر عن عوالي اللآلي (٣) وهو قوله كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص.

قال الشيخ الأعظم (٤) ان دلالته على المطلوب أوضح من الكل وظاهره عدم وجوب الاحتياط لان الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو لا من حيث كونه مجهول الحكم.

ولعل نظره الشريف في الاوضحية إلى اختصاصه بالشبهة التحريمية التي هي محل الخلاف بين الأصوليين والأخباريين ـ ويكون اخص من أخبار الاحتياط فلا شك في تقدمه عليها.

__________________

(١) راجع الفقيه ج ١ ص ٣١٦ ـ ٣١٧ وبعد استدلاله على جواز القنوت بالفارسية بعموم رواية قال : «ولو لم يرد هذا الخبر لكنت أجيزه بالخبر الذي روي عن الصادق أنه قال : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي».

(٢) أمالي للطوسي ص ٦٦٩ ح ١٤٠٥ مجلس ٣٦ (يوم الجمعة ...).

(٣) عوالي اللآلي ج ٢ ص ١١١.

(٤) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٢٧ وقد أورد هذا القول عقيب الحديث الذي رواه الصدوق في الفقيه والأمالي.

٣٧٢

وكيف كان فقد أورد على الاستدلال بالحديث في الحدائق (١) والوسائل (٢).

تارة : بأنه خبر واحد لا يعتمد عليه في الأصول.

وأخرى : بأنه موافق للعامة فيحمل على التقية.

وثالثة : بحمله على الشبهة الوجوبية بان يكون المراد حتى يرد فيه نهى عن تركه.

ورابعة : بالحمل على الشبهة الموضوعية.

وخامسة : بان المراد ان كل شيء من الخطابات الشرعية يتعين حمله على إطلاقه أو عمومه حتى يرد فيه نهى يخص بعض الأفراد ويخرجه من الإطلاق ، ولعل نظرهما إلى ان دلالته على ان الأصل في كلام الشارع الحمل على انه في مقام البيان لا الإجمال والإهمال.

ولكن الخبر الواحد لا يعتمد عليه في أصول العقائد ، لا في أصول الفقه ، وموافقة العامة من مرجحات إحدى الروايتين الحجتين على الأخرى عند فقد جملة من المرجحات لا من مميزات الحجة عن اللاحجة ، والحمل على الشبهة الوجوبية خلاف الظاهر سيما وان ترك الواجب ليس منهيا عنه ، والحمل على الشبهة الموضوعية يحتاج إلى قرينة ، وإرادة الخطاب من الشيء لا يلائم مع قوله حتى يرد فيه نهى أي في ذلك الشيء إذ النهي لا يرد في الخطاب.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ج ١ ص ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١٧٤ في تعليقه على الحديث رقم ٣٣٥٣٠.

٣٧٣

ثم ان المحقق الخراساني والمحقق النائيني لم يسلما دلالة الخبر على البراءة وذكر كل منهما وجها لذلك غير ما ذكره الآخر.

أما المحقق الخراساني (١) فأفاد ان دلالته تتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه بالنهي عنه وان صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد مع انه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره انتهى.

وأما المحقق النائيني (ره) (٢) فأفاد ان مفاد هذه الرواية هو اللاحرجية العقلية الأصلية قبل ورود الشرع والشريعة فهي أجنبية عن محل الكلام وهو إثبات الإباحة الظاهرية لما شك في حرمته بعد ورود الشرع وقد حكم فيه بحرمة أشياء وحلية غيرها.

ولكن : الحق مع الشيخ (قدِّس سره) وان شيئا مما أفاداه لا يتم وقبل بيان ما ذكره المحققان وتوضيحه وبيان ما يرد عليهما ، لا بد من تقديم مقدمة.

وهي ان الإباحة لها أقسام ومعان :

احدها : اللاحرجية الأصلية في قبال الحظر العقلي من جهة كونه عبدا مملوكا ، ـ وبعبارة أخرى ـ الإباحة المالكية.

ثانيها : الإباحة الواقعية الشرعية الناشئة عن لا اقتضائية الفعل لخلوه عن المصلحة والمفسدة أو عن تساويهما.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٤٢.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ١٨٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣١٧.

٣٧٤

ثالثها : الإباحة الشرعية الظاهرية الثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحلية الناشئة عما يقتضي التسهيل على المكلف بجعله مرخصا فيه.

ومبنى الاستدلال به في المقام على دلالته على الإباحة بالمعنى الثالث ، والمحقق النائيني (ره) يدعى دلالته على الإباحة بالمعنى الأول ، والمحقق الخراساني يدعى دلالته على الإباحة بالمعنى الثاني.

اما المحقق النائيني (١) ، فقد قال ان المراد بالإطلاق معناه اللغوي فيكون مفاد الحديث ان الأشياء بعناوينها الأولية مرسلة حتى يرد من الشارع نهى فيكون أجنبيا عن المقام.

وفيه : مضافا إلى ان حمل ما صدر من الشارع من الحكم على عدم كونه مولويا بل على كونه عقليا أو إرشاديا خلاف الظاهر جدا ، ان بيان اللاحرجية الأصلية الثابتة قبل ورود الشرع وبيان الحلال والحرام ، وورود حكم من الشارع في كل مورد ، إباحة أو غيرها ، لغو لا يترتب عليه اثر فلا يصدر من الإمام (ع)

واما المحقق الخراساني (٢) فقد أورد على الشيخ (ره) بأنه لو كان الورود بمعنى الوصول كان الاستدلال تاما ولكن حيث يحتمل ان يكون المراد منه الصدور لصدقه عليه فلا يثبت به حينئذ إلا ما ادعيناه.

وفيه : ان المراد بالإطلاق ليس هو الإرسال وعدم التقييد الواقعي ، كان المراد بالورود هو الوصول أو الصدور.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

٣٧٥

أما على الأول فلأنه يلزم اختصاص الأحكام بالعالمين والتصويب الباطل.

وأما على الثاني فلأنه يلزم جعل احد الضدين غاية للضد الآخر ، وهو من الاستهجان بمكان لكونه ، من الواضحات ، فلا محالة يكون المراد عدم التقييد ظاهرا.

وحيث ان تقييد الحكم الظاهري بوجود الحكم الواقعي أو عدمه غير صحيح : إذ موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، والحكم الواقعي ليس غاية للشك ، بل العلم غاية له ، مع ان مفاده حينئذ ان كل شيء مباح ظاهرا ما لم يكن في الواقع حراما وهو كما ترى ، فلا محالة يكون المراد بالورود الوصول.

مع ان الحكم بالإباحة إنما يكون ناشئا عن لا اقتضائية الموضوع ، فلا يمكن ورود الحرمة في موردها لاستلزامها فرض اقتضائية الموضوع.

ودعوى : انه لا ينافى كون الفعل لا اقتضاء بذاته ، ومقتضيا لانطباق عنوان عليه.

مندفعة : بان النهي على هذا إنما يرد على ذلك العنوان ، لا انه يرد في مورد الإباحة ، مضافا إلى منافاة الخبر حينئذ لما دل على" ان حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة" (١).

هذا كله إذا أريد بالخبر ما هو ظاهره من كون الإباحة مغياة بورود النهي في موردها.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٥٨ باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

٣٧٦

وأما ان قيل انه أريد به تحديد الموضوع بان يراد ما لم يرد فيه نهى مباح وما ورد فيه النهي ليس بمباح ، بان يكون القيد بنحو المعرفية.

فيرد عليه مضافا إلى كونه خلاف الظاهر انه يكون حملا للخبر على ما هو بديهي ولا يناسب مقام الإمامة التصدي لبيانه.

ويرد على المحقق الخراساني مضافا إلى ذلك : ان الورود بحسب معناه اللغوي ليس مساوقا للصدور ، بل هو مفهوما مقارب للوصول ، فانه متعد بنفسه ، والصدور لازم يقال الحياض تردها الكلاب وفي الآية الكريمة (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)(١) وقد فسرت الآية في المجمع عن الإمام الصادق (ع) بالإشراف عليها (٢) ويقال ، وردني كتاب ، وإنما يتعدى" بعلى" فيما إذا أريد تفهيم الإشراف ، وربما يكون الوارد أمرا له محل في نفسه ، كالأمر والنهي فيقال ورد فيه أمر أو نهى ، فالموضوع محل الوارد ، والمورود هو المكلف ، وعليه فهو في نفسه ظاهر في الإباحة الشرعية الظاهرية مع قطع النظر عن البرهان المذكور ، إذ الإباحة الثابتة إلى حين وصول النهي ليست إلا الإباحة الظاهرية.

فان قيل انه من المحتمل ان يكون المراد من النهي مطلق النهي المتعلق بالشيء ، ولو من حيث كونه مجهول الحكم ، فيكون الخبر حينئذ مورودا لأدلة الاحتياط.

__________________

(١) الآية ٧١ من سورة مريم.

(٢) وقد ذكر هذا المعنى عن جملة من المفسرين

٣٧٧

قلنا ان الظاهر من قوله حتى يرد فيه نهى ، ورود النهي في الشيء بعنوانه ، لا بعنوان آخر منطبق عليه فتدبر.

وحيث انه مختص بالشبهة التحريمية ، فعلى فرض تمامية دلالة ادلة وجوب الاحتياط عليه ، يكون هذا الخبر اخص مطلق منها فيقدم عليها.

الاستدلال للبراءة بحديث الاحتجاج

ومما استدل به على البراءة ما رواه الكليني في الكافي بسند صحيح عن أبي عبد الله (ع) قال : " ان الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم" هكذا في احد النقلين وفي الآخر" ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم" (١) ودلالته على عدم المؤاخذة على الحكم الذي لم يعرف ولم يصل إلى المكلف واضحة.

قال الشيخ (٢) وفيه ان مدلوله كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار لا ينكره الإخباري.

ويتوجه عليه : ان وجوب الاحتياط ان كان نفسيا كان ما أفيد تاما ولكن لا قائل به ، ومن يرى وجوب الاحتياط ، يلتزم بان وجوبه طريقي بداعي تنجيز الحكم الواقعي المجهول فعلى فرض ثبوت وجوب الاحتياط لا معرفة بالحكم ، اما الحكم الواقعي فلعدم الطريق إليه ، لان وجوب الاحتياط وظيفة مجعولة في فرض الجهل بالحكم ، واما وجوب الاحتياط فلعدم كونه حكما حقيقيا.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٦٢ ح ١ وص ١٦٤ ح ٤.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٢٧.

٣٧٨

وقد يقال ان الظاهر من التعريف في الخبر ، هو التوحيد الفطري بالله وصفاته لا المعرفة بأحكام الله تعالى بقرينة انه فرع عليه في احد النقلين ، ثم أرسل رسولا وانزل عليهم الكتاب فأمر الخ ، فيكون وزانه وزان ما رواه المحدث الكاشاني في باب البيان والتعريف بإسناده عن اليماني عن أبي عبد الله" ان أمر الله عجيب إلا انه قد احتج عليكم بما عرفكم من نفسه" (١) الحديث يعنى ان صفات الله وأفعاله عجائب وغرائب لا يصل إلى كنهها ولا يدرك أسرارها إلا الاقلون ولكن سبحانه لا يريد منكم البلوغ إليها ولم يطلب من لم يبلغ إليها ان يعبده بحسبها بل بحسب ما بلغ إليه منها وعرفه الله تعالى من نفسه فحسب وإنما يحتج عليكم بمقدار معرفتكم التي عرفكم.

وفيه : ان ما بعد ذلك الذيل شاهد على ان المقصود هو المعرفة بالإحكام الفرعية لاحظ الخبر ، فالمراد منه انه حيث جرت سنة الله تعالى وعادته على الاحتجاج على العباد بما عرفهم فذلك منشأ إرسال الرسل وإنزال الكتب ، فهذا الخبر صحيح سندا ويدل على البراءة.

ودعوى انه لا يدل على عدم الاحتجاج بما لم يعرف إلا بالمفهوم ولا يقولون به في أمثال المقام ، لأنه من قبيل مفهوم الوصف واللقب.

مندفعة بأنه لوروده في مقام الامتنان والتحديد وبظهوره في ان الاحتجاج بما عرفه مناسب لمقام الألوهية ، يدل على المفهوم.

ومن الأخبار خبر عبد الأعلى بن أعين عن أبي عبد الله (ع) عمن لم

__________________

(١) راجع الكافي ج ١ ص ٨٦ باب أدنى المعرفة ، وفيه ان أمر الله «كله» عجيب .. الخ ح ٣.

٣٧٩

يعرف شيئا هل عليه شيء قال (ع) لا ، راجع أصول الكافي (١) ، ورواه الصدوق في التوحيد (٢).

وتقريب دلالته على البراءة ان الظاهر من الشيء الأول هو مطلق ما لا يعرفه من الأحكام.

وبعبارة أخرى : فرد واحد ، ومن الشيء الثاني الكلفة والعقوبة من قبل الحكم المجهول ، فيستفاد منه عدم وجوب الاحتياط.

وأورد عليه باحتمال ان يكون المراد منه العموم في النفي فيدل على عدم مؤاخذة من لم يعرف من الأحكام ولو واحدا منها وهو الجاهل القاصر الغافل عن الأحكام كاهل البوادي والسودان.

وفيه : أولا انه لو سلم كونه بنحو العموم في النفي يشمل الجاهل المطلق الملتفت مع كونه غير قادر على الفحص ويدل على انه لا يعاقب على المخالفة وبالالتزام على عدم وجوب الاحتياط وبعدم الفصل يتعدى إلى الجاهل بالبعض بعد الفحص.

وثانيا ان الظاهر منه إرادة فرد معين مفروض في الخارج فلا يفيد العموم في النفي.

ومن ما استدلوا به على البراءة خبر عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٦٤ باب حجج الله على خلقه ح ٢.

(٢) التوحيد ص ٣١٢ باب ٦٤ التعريف والبيان والحجة ح ٨.

٣٨٠