زبدة الأصول - ج ٤

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني

زبدة الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: وفا
الطبعة: ٣
ISBN: 964-8812-37-3
ISBN الدورة:
964-8812-39-X

الصفحات: ٥١٠

ظاهرا ، فيكون المرفوع هو الوجوب الشرطي ، المترتب عليه عدم جواز الاتيان بالفاقد للشرط بداعي الأمر.

عنوان الخطأ والنسيان من العناوين المرفوعة

الموضع الثالث : في سائر جملات الحديث.

وحيث انها على اقسام ثلاثة ولكل منها آثار خاصة كما ستعرف فالكلام يقع في موارد.

الأول : في الخطأ والنسيان وقبل الشروع في البحث فيهما ينبغى ان يعلم ان النسيان عبارة عن الذهول وانمحاء صورة الشيء عن صفحة الذهن في مقابل الحفظ ، ولازم ذلك ترك الفعل ، واما اتيان شيء آخر مكان المنسى ، فهو لا يستند إلى النسيان ، إذ لا يعقل ان يكون ذهول شيء عن الذهن وانعدامه علة باعثة لايجاد شيء آخر كيف ومن مبادى وجود الشيء حضوره عند النفس ، بل وجود شيء آخر مكانه مستند إلى ارادته بما لها من المبادئ ، مثلا لو نسى خمرية المائع ، وتخيل انه ماء فشربه ، نسيان الخمرية لا يصير علة لشربه ، بل العلة له ارادة شرب الماء.

فعلى هذا يختص النسيان بالواجبات بان يتعلق النسيان بها فيتركها ، ولا مورد له في المحرمات إذ ارتكاب المحرم لا يمكن بسبب النسيان.

واما الخطأ فهو عبارة عن إيجاد شيء مع عدم تعلق القصد به بان يكون

٣٤١

القصد متعلقا بايجاد شيء ويقع شيء آخر وهو على قسمين شبه العمد والخطاء المحض ، والاول عبارة عما لو أتى بفعل وقصد عنوانا وتحقق شيء آخر ، كما لو ضرب زيدا بقصد التأديب فمات ، ولم يكن يحتمل ان يموت ، والثاني عبارة عما لو قصد فعلا ولم يتحقق ذلك ، ووقع فعل آخر كما لو قصد رمي صيد فأصاب انسانا وقتله ، وكلا القسمين يختصان بالمحرمات ولا مورد لهما في الواجبات إلا في التكليف الضمني بايجاد المانع خطأً.

ثم ان المنّة في رفعهما مع ان ترك الواجب وفعل الحرام في موردهما خارجان عن سوء اختيار المكلف ، ولا مقتضى للوضع ، إنما هو من جهة مقدورية المقدمة وهي التحفظ ، وعلى ما ذكرناه.

ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) ، فيما لو نسي الصلاة في تمام الوقت من انه لو نسيها بما انه لم يصدر منه امر وجودي قابل للرفع فلا يشمله الحديث.

يرد عليه مضافا إلى ما سنذكره ، ان النسيان تعلق بالصلاة فتركها فالمنسي هو الصلاة فيرتفع وجوبها.

وكيف كان فالكلام في المورد الأول ، وهو الخطأ والنسيان يقع في مقامين.

أحدهما : في الأحكام التكليفية.

ثانيهما : في الأحكام الوضعية.

اما المقام الأول : فالكلام يقع تارة في التكاليف الاستقلالية.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ١٧٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

٣٤٢

واخرى في التكاليف الضمنية.

اما التكاليف الاستقلالية ، فحيث ان متعلق التكليف في المحرمات بحسب الغالب الطبيعة السارية ، وفي الواجبات صرف وجود الطبيعة ، وعرفت ان النسيان مختص بالواجبات والخطأ بالمحرمات.

فالكلام في موضعين :

اما في المحرمات فسقوط التكليف بعروض الخطأ على فرد كما لو شرب الخمر خطأ ، لا اشكال ولا كلام فيه.

واما في الواجبات فلو عرض النسيان على فرد من الواجب كما لو نسي الاتيان بالصلاة في ساعة من الوقت لا يكون ذلك الفرد مشمولا للحديث ولا يرتفع الحكم المتعلق بالصلاة في المثال إذ ما تعلق به التكليف وهو طبيعي الصلاة الواقعة ما بين المبدأ والمنتهى لم يطرأ عليه النسيان ، وما طرأ عليه النسيان وهو الفرد لا يكون متعلق التكليف.

نعم لو طرأ النسيان على الطبيعة كما لو نسي الصلاة في تمام الوقت كان التكليف ساقطا.

واشكل المحقق النائيني (١) في ذلك بان شأن حديث الرفع إنما هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود لأنه يكون وضعا لا رفعا ، فلو نسي الصلاة فبما انه لم يصدر منه امر وجودي قابل للرفع فلا يشمله

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٣٥٣ ، وقد مر ذلك.

٣٤٣

الحديث.

وفيه : ما تقدم من ان لسان الحديث ليس هو التنزيل وإلا كان وضعا لا رفعا ، من غير فرق فيه بين تنزيل المعدوم منزلة الموجود أو العكس ، بل شأن الحديث إنما هو رفع الحكم ، وهو قابل لتعلقه بالفعل كما في الصلاة المنسية.

واما التكاليف الضمنية ، فالكلام تارة في نسيان جزء أو شرط في فرد ، واخرى في نسيانه في المأمور به وهو الطبيعة ما بين المبدأ والمنتهى ، وثالثة في إيجاد المانع.

اما الأول فلو نسي فترك جزءا أو شرطا في فرد ، فقد عرفت ان الحديث لا يشمله لان متعلق التكليف هو الطبيعة ومتعلق النسيان هو الفرد مع ان المعتبر هو تعلق النسيان بما هو متعلق التكليف.

وقد يقال ان هذا يتم في غير الصلاة ، ولا يتم فيها بناء على حرمة ابطالها ووجوب الاتمام ، إذ معنى وجوب الاتمام تعين الطبيعة المأمور بها في الفرد ، وعليه فيكون الفرد مامورا به فلو نسى جزءا منه يكون متعلق النسيان عين متعلق التكليف.

ويرد عليه انه لاوجه لارجاع الامرين إلى امر واحد ، بل الأمر بالطبيعة ، والامر باتمام الفرد على تقدير الشروع في الصلاة أمران مستقلان ، لكل منهما إطاعة مستقلة وعصيان كذلك ، وكل منهما ناش عن مصلحة خاصة غير مربوطة بما في متعلق الآخر من المصلحة.

نعم يرتفع بالحديث حرمة الابطال من ناحية ترك المنسى ، وهذا نظير ما

٣٤٤

إذا وقع احد الأفراد متعلقا للنذر ، ونسى اتيان الجزء في ذلك الفرد ، فانه يرتفع الوجوب المدلول للأمر النذرى دون وجوب الصلاة.

واما الثاني : كما لو كان نسيان الجزء أو الشرط مستوعبا للوقت ، فالظاهر شمول الحديث له ، غاية الامر ان الجزء وكذا الشرط ، بما انه ليس متعلقا لحكم مستقل بل هو متعلق حكم ضمنى ورفع ذلك إنما يكون برفع الأمر بالمركب والكل كما ان وضعه إنما يكون بوضعه ولا يعقل الرفع بدونه ويرتفع به التكليف المتعلق بالمركب المشتمل على المنسى.

واما الفاقد للمنسى فثبوت التكليف متعلقا به يحتاج إلى دليل ، والحديث لا يدل عليه لعدم كونه في مقام الوضع.

وعن المحقق النائيني (١) الاشكال في شمول الحديث للمورد بأنه لا محل لورود الرفع على الجزء المنسى ـ كالسورة في الصلاة ـ لان شان الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود لأنه إنما يكون وضعا لا رفعا ، وفي مورد نسيان الجزء لخلو صفحة الوجود عن الجزء لا محل لورود الرفع ، أضف إليه انه لا يترتب اثر شرعي على المنسى حتى يرتفع بالحديث ، لان جزئية الجزء لا تكون منسية وإلا كان ذلك من نسيان الحكم لا نسيان الموضوع فلا تكون مرفوعة بالحديث.

ويرد على ما أفاده أولا ما تقدم من ان شان الحديث ليس هو التنزيل وإلا كان ذلك وضعا ، بل يرفع حكم ما تعلق به النسيان.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ١٧٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٠٥ بتصرف.

٣٤٥

ويرد على ما أفاده ثانيا ان النسيان وان لم يتعلق بالجزئية بل تعلق بإتيان الجزء ، ولكن معنى رفع الجزء رفع حكمه ، ولا يعتبر في شمول الحديث تعلق ما فيه من العناوين في الحديث بالحكم ، بل بعضها كالاضطرار والاكراه لا يعقل تعلقه به كما لا يخفى.

فالمتحصّل شمول الحديث للجزء والشرط إذا تعلق النسيان بهما وكان النسيان مستوعبا للوقت ، ويترتب عليه رفع الأمر بالمركب والكل ، ولا يثبت به الأمر بالفاقد للمنسى لعدم كونه في مقام الوضع.

وما أفاده المحقق صاحب الدرر (ره) (١) من ان الحديث إنما يرفع الجزئية والشرطية والامر بسائر الاجزاء يكون باقيا قد عرفت ما فيه.

وحاصله ان الجزئية ، والشرطية إنما تنتزعان ، من الأمر الضمني المتعلق بالقيد أو التقيد ، وحيث ان ذلك الأمر لا ثبوت له استقلالا ، بل بتبع ثبوت الأمر بالكل ، فحدوثه وبقائه تابعان لحدوث ذلك وبقائه فلا محالة يكون المرفوع هو الأمر بالمركب ، وتعلق الأمر ببقية الاجزاء والشرائط يحتاج إلى دليل آخر ، والحديث لا يكون متكفلا لبيانه.

نعم ، في خصوص الصلاة دل الدليل على ذلك.

فان قيل ان وجوب القضاء في خارج الوقت من آثار الاخلال بالواجب أو ببعض ما اعتبر فيه ، فلو اخل بجزء أو شرط نسيانا يكون ذلك الأثر أيضاً مرفوعا بالحديث وليس معنى الصحة إلا ذلك.

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ١٠٥ ـ ١٠٦.

٣٤٦

اجبنا عنه بان وجوب القضاء من آثار فوت الواجب في الوقت ، وهو لا يرتفع بالحديث ، فالحكم بعدم وجوب القضاء لا يمكن إلا بواسطة الحكم بصحة المأتي به الفاقد للمنسي المتوقف على اثبات الأمر به ، وقد عرفت ان الحديث لا يثبت ذلك.

ودعوى ان لازم ما ذكر من جهة انه يجري في جملة ما لا يعلمون ، جميع ما أفيد انه لو كانت جزئية شيء مجهولة ، وأجرينا الحديث فيها ، سقوط الأمر بالكل ولم يلتزم به احد.

مندفعة : بان النسيان أو الخطأ يوجب الرفع واقعا فيجري فيه ما ذكرناه ، واما في مورد الجهل فالامر المتعلق بالمجموع باق على حاله وإنما يرفع وجوب الاحتياط ، وحيث ان التكليف بسائر الاجزاء معلوم ، وبهذا الجزء مشكوك فيه فبالنسبة إلى هذا الجزء يرفع التكليف ظاهرا ، وبالنسبة إلى غيره يكون التكليف باقيا فلا وجه لرفعه ظاهرا كما لاوجه له واقعا وتفصيل ذلك في مبحث الاشتغال ، في الأقل والأكثر الارتباطيين.

واما الثالث : فعن المحقق النائيني (١) بعد الاشكال في شمول الحديث للجزء أو الشرط المنسي انه يشمل المانع ، وانه في صورة إيجاد المانع خطأً يصح التمسك بحديث الرفع.

وهذا منه (قدِّس سره) مبني على ان يكون لسان الحديث نفي الموضوع ورفع انطباقه على فرده ، نظير لا شك لكثير الشك إلا ان المبنى ضعيف كما تقدم.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٣٥٦.

٣٤٧

وحاصله : انه لو اريد نفي ذات الفعل ليكون معناه ان الفعل الخطأ كالعدم فالتكلم الصادر خطأً ، ليس بكلام شرعا ، فهو خلاف ظاهر الدليل ، وان اريد به نفى الفعل المعنون بهذا العنوان فهذا لا يتصور له معنى ، إلا عدم كونه متعلقا للحكم الشرعي فضعف هذا واضح.

مع انه يرد عليه ما اورده (قدِّس سره) على شمول الحديث للاجزاء والشرائط من ان الجزئية أو الشرطية غير منسية فلا وجه لرفعها بالحديث (١) : فانه يجري هذا الكلام بعينه في المانع إذ لم يتعلق العنوان بالمانعية ، بل اوجد المانع خطأ.

ودعوى انه يمكن القول بعدم ابطال المانع المأتي به خطأً للعمل ، بدعوى ان ما تحقق ليس بفعل لحديث الرفع فلا يكون مبطلا.

قلت قد عرفت في بعض المقدمات ان لسان الحديث ليس نفى الموضوع وعدم انطباقه على الفرد بل لسانه رفع الحكم خاصة ، وفي الاتيان بالمانع خطأً ليس هناك شيء قابل للرفع سوى التكليف الضمني المتعلق بعدمه وقد مر ان رفع ذلك إنما يكون برفع الحكم المتعلق بالكل ، فالمرفوع إنما هو التكليف المتعلق بالمجموع ، واما ثبوته متعلقا بباقي الاجزاء فيحتاج إلى دليل آخر.

فظهر من مجموع ما ذكرناه انه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط لنسيان أو اكراه أو ما شاكل بحديث الرفع ولذلك لم ينقل عن فقيه من الفقهاء التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة وغيرها من سائر المركبات بل افتاء القوم في الصلاة بالفرق بين كون المنسي من الاركان ومن

__________________

(١) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

٣٤٨

غيرها بالالتزام بالصحة في خصوص الثاني أقوى شاهد على ان مستندهم ليس هو حديث الرفع بل هو حديث (لا تعاد الصلاة) (١) إذ لو كان المدرك هو حديث الرفع لم يكن فرق بين الاركان وغيرها.

هذا كله في الأحكام التكليفية.

واما الأحكام الوضعية كالعقود والايقاعات ، فلا مجال لجريان حديث رفع الخطأ والنسيان فيها : وذلك فيما إذا تعلق النسيان بعنوان المعاملة واضح : لما عرفت في ما تقدم من ان حديث الرفع إنما يجري في الامور التي لا يعتبر في تحققها عنوان العمد والقصد وفي العقود والايقاعات يعتبر ذلك.

مع ان ما يمكن رفعه في الوضعيات ليس إلا امضاء الشارع ، والحكم بلزوم الوفاء ، وعليه فما تحقق ، في الخارج اما لا يترتب عليه ذلك فلا اثر كي يرفعه الحديث ، واما يترتب عليه فالحديث ان رفعه كان خلاف المقصود ، وان اريد اثبات الامضاء له به ، فيرده انه غير مربوط بلسان الحديث فان لسانه الرفع لا الوضع.

وبهذا يظهر عدم شمول الحديث لما إذا تعلق النسيان بجزء من المعاملة أو شرط منها.

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٣٣٩ ح ٩٩١ / الوسائل ج ٧ ص ٢٣٤ باب ١ من قواطع الصلاة ح ٩٢٠٤.

٣٤٩

الاكراه والاضطرار

المورد الثاني : في الاكراه والاضطرار وما لا يطاق ، وقبل الدخول في البحث لا بد من بيان حقيقة كل من هذه الثلاثة :

اما الاكراه فهو عبارة عن حمل الغير على ما يكرهه ، ويعتبر في صدقه أمور :

منها : ان يكون بحمل الغير فلو فعل فعلا لترضية خاطر الغير من غير حمله عليه لا يصدق الاكراه ، كما انه لو حمله حيوان لا يصدق الاكراه.

منها : ان يكون حمل الغير مقترنا بالوعيد ، ولو بالالتزام فلو حمله الغير مع وعده بالنفع لا يصدق الاكراه.

منها : ان يكون الضرر المتوعد به مما لا يكون مستحقا عليه فلو حمله عليه ووعده على ما يستحقه من القصاص ، أو طلب الدين لا يكون مكرها عليه.

منها : ان يكون الحمل متعلقا بالفعل نفسه فلو حمله على اعطاء مال وتوقف ذلك على بيع داره لا يكون بيع الدار مكرها عليه.

منها : ان يكون الضرر المتوعد به مما يحتمل ترتبه.

واما الاضطرار فهو عبارة عن الالجاء على فعل أو ترك بحيث يكون مخالفته مشقة وضررا عليه من غير حمل الغير عليه.

واما ما ما لا يطاق فهو مع الاضطرار متعاكسان دائما فكل فعل مضطر إليه يكون تركه مما لا يطاق وكل ترك مضطر إليه يكون فعله مما لا يطاق.

٣٥٠

إذا عرفت ذلك فالكلام يقع : تارة في الأحكام التكليفية. واخرى في الأحكام الوضعية.

اما الأحكام التكليفية فالكلام فيها قد يكون في الاستقلالية منها ، وقد يكون في الضمنية.

اما التكاليف الاستقلالية ، فان كان متعلق احد هذه العناوين موافقا لمتعلق التكليف ، كما لو اكره على الصلاة ، أو كان شرب الخمر مما لا يطاق واضطر إلى تركه فلا يشمله الحديث لان الظاهر منه كونه في مقام بيان ان مخالفة التكليف مع طرو احد هذه العناوين لا بأس بها.

أضف إليه ان رفعه مناف للامتنان والحديث يختص بما في رفعه منَّة كما مر.

واما ان كان مخالفا له ، فان تعلق بما هو متعلق لحكم تحريمي كما لو اكره على شرب الخمر أو اضطر إليه سقط التكليف المتعلق به وان تعلق بما هو متعلق لحكم وجوبي فان لم يكن ذلك مستوعبا للوقت كما لو اضطر إلى ترك الصلاة في ساعة من الوقت ، أو اكره عليه فالحديث لا يشمله ، فان ما تعلق به التكليف غير ما تعلق به الاكراه أو الاضطرار ، فان التكليف متعلق بالطبيعي والعنوان متعلق بالفرد والفرد غير متعلق للتكليف.

وان كان مستوعبا للوقت فالظاهر هو الفرق بين الاكراه والاضطرار.

فانه لو اكره على ترك الصلاة ، فالحديث لا يشمله لان التكليف متعلق بالفعل والاكراه تعلق بالترك.

نعم ، على القول بان الأمر بالشىء يقتضي النهي عن ضده العام يصير ترك

٣٥١

الصلاة حراما ، فيرتفع الحرمة بالحديث ويثبت عدم الأمر بالصلاة ، لكنه خلاف التحقيق.

واما لو اضطر إلى ترك الصلاة فمن حيث الاضطرار وان كان يجري فيه ذلك لكن الاضطرار ملازم لكون الصلاة مما لا يطاق ، فيشملها هذه الجملة من الحديث ، وتدل على سقوط وجوب الصلاة ، ولا يبعد دعوى دلالة بعض الروايات على ان مخالفة التكليف عن اضطرار لا بأس بها ، كما لا مانع من التمسك بحديث لا ضرر على رفع الوجوب كما هو واضح.

وبذلك يظهر الحال فيما إذا تعلق احد هذين العنوانين بترك جزء أو شرط من المأمور به.

وان تعلق بالمانع فحكمه حكم ما إذا تعلق النسيان به الذي عرفت آنفا.

واما في الوضعيات فلو اكره على معاملة يكون نفوذها مرفوعا بالحديث فلا تكون صحيحة ، واما لو اضطر إليها كما لو اضطر إلى بيع داره فلا يشمله الحديث لعدم كون رفع الصحة والنفوذ موافقا للامتنان.

واما لو اكره على ترك معاملة فلا يمكن الحكم بترتب اثر المعاملة وتحققها ، فان المكره ، عليه غير ما رتب الأثر عليه فلا يشمله الحديث.

واما لو اضطر إليه فحيث ان فعل المعاملة يصير مما لا يطاق فقد يتوهم شمول الحديث له لكنه غير تام فان في رفعه خلاف الامتنان.

وبما ذكرناه يظهر انه لو اكره على إيجاد معاملة فاقدة للجزء أو الشرط كايجاد النكاح بالفارسي ـ على القول باعتبار العربية ـ لما امكن الحكم بصحة

٣٥٢

هذا النكاح لان ما وقع لا حكم له ، وما له حكم لم يتعلق الاكراه به.

فان قلت انه يرتفع شرطية العربية لانها حكم شرعي يمكن القول بارتفاعه.

قلت قد عرفت ان الشرطية منتزعة من حكم آخر وفي رفعها لا بد من رفع منشأ انتزاعها وهو في المقام حكم الشارع بنفوذ النكاح إذا وجد عربيا ، ومن البديهى انه غير مرتفع في الفرض ، لعدم تعلق الاكراه به وإنما هو متعلق بتركه وتعلقه بترك موضوع الحكم لا اثر له كما عرفت.

فان قلت ان المترتب على النكاح بالفارسي إنما هو البطلان وهو يرتفع بالحديث.

قلت ان البطلان ليس حكما شرعيا ، وإنما هو ينتزع من عدم انطباق موضوع الحكم على الموجود الخارجي ، وعدم تحقق الزوجية إنما يكون من آثار عدم تحقق موضوعها لا تحقق غيره فلا يكون من آثار ما وقع ليرتفع بالحديث.

الحسد والطيرة و...

المورد الثالث : في الثلاثة الأخيرة المذكورة في الحديث ، الحسد ، والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق.

وملخص القول فيها ان المرفوع فيها إنما هو نفس الحكم المترتب عليه لو لا الرفع.

٣٥٣

توضيح ذلك ان الحسد عبارة عن صفة رذيلة في النفس موجبة لكراهة كون غيره من الاخوان متنعما ، وحب زوال النعمة عنهم ، أو مقتضاها وأثره ، وهذا من حيث انه يمكن رفعه بالمجاهدات وعدم التفتيش في أمور الناس والتدبر فيما يترتب عليه من المفاسد الدينية والدنيوية وما يصل إلى المحسود من المنافع قابل لتعلق التكليف بتحريمه أو وجوب رفعه ، فقد رفعه الشارع الاقدس ما لم يظهر باللسان أو اليد ولم يتبع.

ويؤيد ذلك النصوص الكثيرة الواردة في الحسد (١).

واما الطيرة وهي التشام بالطير أو غيره وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم ، فقد رفعها الشارع واخبر ، انه ليس لها التأثير في جلب النفع أو دفع الضرر ، وان هذا المعنى بنفسه وان كان فيه مقتضى وضع الحرمة لكونه موجبا للشرك واختياري ، إلا ان الشارع إلا قدس رفع الحرمة عنه ، ما لم يعمل على طبقه ، ويمكن ان يكون المراد برفعه ان الشارع الاقدس لم يمض ما كان عليه بناء العرف من الالتزام بالصد عن المقاصد عند التطير.

واما الوسوسة في التفكر في الخلق ، فيمكن ان يكون المراد بها وسوسة الشيطان عند التفكر في مبدأ الخلق ، وانه من خلق الخالق ونحوه ، وعلى أي تقدير فقد رفع الشارع حرمتها وحكمها ، وتمام الكلام في كل واحد من هذه الثلاثة موكول إلى محل آخر.

__________________

(١) راجع الكافي ج ٢ ص ٣٠٦ باب الحسد / الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٥ باب تحريم الحسد ووجوب اجتنابه دون الغبطة.

٣٥٤

الاستدلال للبراءة بحديث الحجب

ومما استدلوا به للبراءة من السنة حديث الحجب الذي رواه الصدوق (١) في كتاب التوحيد في باب التعريف والبيان والحجة والهداية والكليني (قدِّس سره) في الكافي (٢) في باب حجج الله على خلقه ، وهو مذكور في الوسائل باب ١٢ من ابواب صفات القاضي (٣) ، وهو خبر ابي الحسن زكريا بن يحيى عن ابي عبد الله (ع) قال : " ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ، وفي الكافي اسقط كلمة علمه".

وتقريب الاستدلال به ان حرمة ما يشك في حرمته كشرب التتن علمها محجوب عن العباد فتكون موضوعة عنهم.

وأورد على الاستدلال به بايرادات :

١ ـ ان المراد من كلمة ما ان كان هو الفعل فالحديث مختص بالشبهة الموضوعية ، وان كان هو الحكم يختص بالشبهة الحكمية أو يعم كلتا الشبهتين على ما تقدم ، وحيث ان ارادتهما معا مستلزمة لاستعمال اللفظ في اكثر من معنى ، ولا قرينة على تعيين احداهما فيصير الحديث مجملا لا يصح الاستدلال به.

__________________

(١) التوحيد للصدوق ص ٤١٣ باب ٦٤ التعريف والبيان والحجة والهداية ح ٩.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٦٤ باب حجج الله على خلقه ح ٣.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١٦٣ باب وجوب التوقف والاحتياط في القضاء أو الفتوى ... ح ٣٣٤٩٦.

٣٥٥

وفيه : ما تقدم في حديث الرفع من ان المراد به الجامع كما هو مقتضى الإطلاق ولا يرد محذور.

٢ ـ ما أفاده الشيخ الحر العاملي في الوسائل (١) وهو ان الحديث مختص بالشبهة الوجوبية ، مدعيا ان قوله (ع) موضوع عنهم قرينة ظاهرة في ذلك ـ وقيل ـ ان مراده ، ان الوضع عن الشيء مقابل لوضعه عليه ، وهو يناسب الوجوب إذ الواجب هو الفعل الثابت على المكلف فيناسب رفعه بخلاف الحرام فان المكلف مزجور عنه لا انه ثابت عليه.

وفيه : ان التكليف اللزومى بما انه ثقيل على المكلف يكون على المكلف ، ولذلك يتعدى الحرمة بحرف الاستعلاء كالوجوب ويقال يحرم عليه كما تشهد له الاستعمالات القرآنية حتى في المحرمات التكوينية لاحظ قوله تعالى : (.. قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)(٢).

٣ ـ ما في الوسائل (٣) أيضاً قال ان هذا الحديث لا ينافى وجوب الاحتياط لحصول العلم به بالنص المتواتر.

وفيه : ان هذا الحديث يدل على ان الحكم الواقعي المحجوب علمه عن العباد مرفوع في الظاهر وعرفت ان المراد من رفع الحكم الواقعي في الظاهر رفع وجوب الاحتياط ، فالحديث دال على عدم وجوب الاحتياط فيعارض مع

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١٦٣ ـ ١٦٤ في تعليقه على الحديث.

(٢) الآية ٥٠ من سورة الأعراف.

(٣) المصدر السابق.

٣٥٦

ادلة الاحتياط لو تمت دلالتها.

٤ ـ ما أفاده الشيخ الأعظم (١) ، وتبعه المحقق الخراساني (٢) وغيره من المتأخرين عنه بان الظاهر من الحديث بواسطة اسناد الحجب إلى الله سبحانه ارادة رفع الأحكام التي لم يبينها الله سبحانه لأجل التسهيل أو لأجل مانع عن البيان مع وجود المقتضي لها ، فيكون الخبر من قبيل قوله (ع) " اسكتوا عما سكت الله عنه" (٣) ، ولا يشمل الحكم الذي بينه ولم يصل الينا واخفاه الظالمون ، وعلى الجملة مفاد هذا الخبر ان الأحكام التي اقتضت المصلحة الالهية اخفاءها ليس للعباد التعرض لها.

ويرد عليه : ان الأحكام التي اخفاها الظالمون بما انه لله تعالى ان يظهرها فإذا لم يوصلها إلى العباد صح ان يقال ان الله تعالى حجبها.

أضف إلى ذلك ان الحكم لا واقعية له وراء الإبراز والانشاء فما لم يبينه الله تعالى وسكت عنه لا واقعية له كي يعقل ان يصير علمه محجوبا عن العباد : إذ ما من حكم إلا وبينه الله تعالى لنبيه وهو لوصيه ولا يعقل وجود الحكم مع عدم البيان رأسا ، فالمراد بما حجب علمه ليس إلا الأحكام المبينة غير الواصلة إلى العباد أي التي حجب علمها عن العباد لا انفسها وعليه فدلالة هذا الحديث على البراءة وعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية تامة.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٢٦.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٤١.

(٣) عوالي اللآلي ج ٣ ص ١٦٦ ح ٦١.

٣٥٧

إلا ان الذي يرد عليه انه ضعيف السند بزكريا بن يحيى الذي هو مجهول.

الاستدلال على البراءة بروايات الحل

ومما استدلوا به على البراءة ، أخبار الحل ، وهو أربعة ، أو ثلاثة :

الأول : ما رواه في الكافي (١) بسنده عن مسعدة بن صدقة ورواه عنه في الوسائل (٢) عن أبي عبد الله (ع) قال سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة أو المملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.

الثاني : ما رواه الكليني (٣) بسنده عن عبد الله بن سليمان ، قال : سألت أبا جعفر (ع) عن الجبن؟ إلى ان قال : سأخبرك عن الجبن وغيره كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.

الثالث : ما رواه البرقي بسنده عن معاوية بن عمار عن رجل قال : كنت عند ابى جعفر (ع) فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر (ع) : انه لطعام

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣١٣ باب النوادر ح ٤٠ / التهذيب ج ٧ ص ٢٢٦ ح ٩.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٧ ص ٨٩ باب ٤ من ابواب ما يكتسب به ح ٢٢٠٥٣.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٣٣٩ باب الجبن ح ١ / وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ١١٧ باب ٦١ من ابواب الاطعمة (باب جواز اكل الجبن ونحوه ..) ح ٣١٣٧٦.

٣٥٨

يعجبني وسأخبرك عن الجبن وغيره كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه (١).

ويحتمل اتحاده مع سابقه وان عبد الله بن سليمان رواه عن ابى جعفر ومعاوية رواه عن بعض أصحابنا ويكون المراد به عبد الله.

الرابع : ما رواه الصدوق (٢) بسنده عن عبد الله بن سنان والكليني (٣) بسند صحيح ، راجع الوسائل (٤) عن ابى عبد الله (ع) كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ، هذه هي الروايات الواردة في الباب.

وقد استدل الشيخ الأعظم (ره) (٥) بالخبر الثاني والرابع على البراءة في الشبهة الحكمية ولم يستدل بموثقة مسعدة ولعل نظره الشريف إلى اختصاص الموثقة بقرينة ما فيها من الامثلة بالشبهة الموضوعية.

__________________

(١) المحاسن ج ٢ ص ٤٩٦ باب الجبن ح ٦٠١ / وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ١١٩ باب ٦١ من ابواب الاطعمة (جواز اكل الجبن ..) ح ٣١٣٨٢.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٤١ باب الصيد والذبائح ح ٤٢٠٨.

(٣) المصدر السابق.

(٤) وسائل الشيعة ج ١٧ ص ٨٧ باب ٤ من ابواب ما يكتسب به ح ٢٢٠٥٠ وأيضا ج ٢٤ من الوسائل ص ٢٣٦ ح ٣٠٤٢٥.

(٥) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٢٨ وايضا ص ٣٣٠.

٣٥٩

والمحقق الخراساني (١) استدل بخصوص الموثقة ولم يستدل بالخبرين ولعل وجهه ظهور قوله (ع) فيهما (فيه حلال وحرام) في فعلية الانقسام إلى القسمين المختصة بالشبهات الموضوعية لأنه لا معنى لانقسام المجهول حرمته وحليته إلى القسمين المختلفين.

وقد يقال ان الظاهر من الكفاية أخذه من الشيخ الأعظم (ره) ، الاستدلال برواية أخرى غير ما تقدم حيث قال (٢) ومنها قوله (ع) كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه.

وعليه فيرده انه لا وجود لها في كتب الحديث ولكن الظاهر ان نظره الشريف إلى الموثقة (٣) وإنما اخطأ في نقل متن الحديث أو ان الناسخ اخطأ.

ثم ان المحقق الخراساني وان استدل بهذا الخبر في المقام على أصالة الحل ، لكنه في مبحث الاستصحاب (٤) عند بيان ادلته يذكر هذا الخبر وينكر دلالته

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٤١.

(٢) ان ما استدل به الآخوند في الكفاية ليس نص الحديث عينا بل هو بنفسه ما ذكره الشيخ الاعظم وبرواية اخرى ، راجع فرائد الأصول ج ١ ص ٣٣٠.

(٣) التي وردت في الكافي ج ٥ ص ٣١٣ باب النوادر ح ٤٠ / والتهذيب ج ٧ ص ٢٢٦ ح ٩ / ونقلها في الوسائل ج ١٧ ص ٨٩ باب ٤ من ابواب ما يكتسب به ح ٢٢٠٥٣ : عن ابي عبد الله قال (ع): «سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك .. الخ».

(٤) راجع كفاية الأصول ص ٣٩٨ بعد ان استعرض عدّة روايات منها الخبر قال : «وتقريب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب أن يقال إن الغاية فيها إنما هو لبيان استمرار

٣٦٠